الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

المبحث الأول

أهداف سورة «المؤمنون» (١)

سورة «المؤمنون» سورة مكية ، آياتها ١١٨ آية ، نزلت بعد الأنبياء ، وسميت سورة «المؤمنون» ، لافتتاحها بفلاح المؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

المؤمنون والايمان

تبدأ السورة بذكر صفات المؤمنين ، ويستطرد السياق منها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ؛ ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله ، صلوات الله عليهم ، من نوح (ع) ، الى محمد (ص) ، خاتم الرسل والنبيين ، وشبهات المكذّبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها ؛ ووقوفهم في وجهها ؛ حتى يستنصر الرسل ربّهم ، فيهلك المكذّبين وينجي المؤمنين. ثم يستطرد السياق إلى اختلاف الناس بعد الرسل ، في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد. ومن هنا يتحدّث عن موقف المشركين من الرسول (ص) ، ويستنكر هذا الموقف ، الذي ليس له مبرر ، وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة ، يلقون فيه عاقبة التكذيب ، ويؤنّبون على ذلك الموقف المريب.

وتختم السورة بتعقيب يقرر التوحيد المطلق ، والتوجّه إلى الله تعالى بطلب الرحمة والغفران ... ، فهي سورة المؤمنين ، أو هي سورة الإيمان بكل قضاياه ودلائله وصفاته ، والإيمان موضوع السورة ومحورها الأصيل.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٤١

الأقسام الرئيسية في السورة

يمضي سياق سورة «المؤمنون» في أربعة أقسام رئيسية ، تتناول تاريخ الدعوة ، وحاضرها ، وتسوق الأدلة الحسية ، والنفسية ، على الإيمان بالله.

القسم الأول :

يبدأ القسم الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (١).

ويبين السّياق صفات المؤمنين هؤلاء ، الذين كتب لهم الفلاح ، ويثنّي بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ، فيعرض أطوار الحياة البشرية منذ نشأتها الأولى ، إلى نهايتها في الحياة الدنيا ، متوسّعا في عرض أطوار الجنين ، مجملا في عرض المراحل الأخرى ... ثم يتابع خط الحياة البشرية ، إلى البعث يوم القيامة ، وبعد ذلك ينتقل من الحياة البشرية إلى الدلائل الكونية : في إنزال الماء ، وفي إنبات الزرع والثمار ، ثم إلى الأنعام المسخّرة للإنسان ، والفلك التي يحمل عليها ، وعلى الحيوان ، ويمتدّ هذا القسم من أول السورة إلى الآية ٢٢.

القسم الثاني :

يشير القسم الثاني الى قصة نوح (ع) ، وهلاك الكافرين ، ثم يتبع ذلك بيان سنّة الله في إرسال الرسل ، لهداية الناس ، وإبلاغهم كلمة الحق والإيمان ، ودعوتهم الى الله ، فيقول نوح لقومه كما ورد في التنزيل :

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٢٣].

ويقول هذه الحقيقة كلّ نبي ورسول : يقولها موسى (ع) ، ويقولها عيسى (ع) ، ويقولها محمد (ص).

ويكون اعتراض المكذّبين دائما :

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [الآية ٣٣].

ويقدّم الكفار عددا من الحجج والأدلة على تكذيبهم. فيلجأ الرسل الى ربّهم يطلبون نصره ، فيستجيب سبحانه ، وينجي المؤمنين ، ويهلك الكافرين قال تعالى :

(ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (٤٤).

وينتهي هذا القسم ، ببيان وحدة الرسالات ، ووحدة الأمم المؤمنة ، فالربّ واحد ، والإيمان بالله وملائكته

٤٢

وكتبه ورسله واليوم الاخر إيمان واحد ، قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (٥٢).

ويستغرق هذا القسم الآيات [٢٣ ـ ٥٢].

القسم الثالث :

يتحدّث القسم الثالث ، عن تفرّق الناس بعد وصول الرسل إليهم ، وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة التي جاء بها الرسل :

(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٥٣).

ثم يتحدّث عن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة ، واغترارهم بما هم فيه من متاع ، بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم ، يعبدونه ولا يشركون به ، ويخشون غضبه ، ويرجون رحمته. وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين ، يوم يأخذهم العذاب ، فإذا بهم يجأرون ، فيأخذهم التوبيخ والتأنيب : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (٦٧).

ويستنكر السياق ، موقفهم العجيب من رسولهم الأمين ، وهم يعرفونه ولا ينكرونه ، وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا ، فما ذا ينكرون منه ، ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلّمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض ، وربوبيته سبحانه للسماوات والأرض ، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض ؛ وبعد هذا التسليم ، هم ينكرون البعث ، ويزعمون لله ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى :

(عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٩٢).

ويستغرق هذا القسم الآيات [٥٣ ـ ٩٢].

القسم الرابع :

في القسم الرابع والأخير ، حثّ للرسول (ص) أن يدعهم وشركهم وزعمهم ، وأن يدفع السّيئة بالتي هي أحسن ، وأن يستعيذ بالله من الشياطين ، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما

٤٣

يقولون. ثم يرسم السياق مشهدا من مشاهد القيامة ، يصوّر ما ينتظرهم هناك ، من عذاب ومهانة وتأنيب. ويختم السورة بتنزيه الله سبحانه :

(فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (١١٦).

وينفي الفلاح عن الكافرين ، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين. وفي آخر آية أمر للنبي (ص) أن يتوجّه إلى الله سبحانه بطلب المغفرة والرحمة :

(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨).

ويستغرق هذا القسم الآيات [٩٣ ـ ١١٨] ..

مظاهر عامة للسورة

جو السورة كلّها جو البيان والتقرير ، وجو الجدل الهادئ ، والمنطق الوجداني واللّمسات الموحية للفكر والضمير. والروح الساري في السورة روح الإيمان. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة ، وفي وسطها مدح للإيمان والإحسان :

(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) (٦٠).

وفي اللمسات الوجدانية ، تجد قوله سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٧٨).

وكلّها ، مظلّلة بذلك الظل الإيماني اللطيف.

٤٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المؤمنون» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «المؤمنون» بعد سورة الأنبياء ، ونزلت سورة الأنبياء بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة «المؤمنون» في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أوّلها (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) وتبلغ آياتها ثماني عشرة ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة بيان الشروط التي يفلح المؤمنون بها ، وينصرون على أعدائهم ، كما نصر الرسل وأتباعهم على أعدائهم من قبلهم. وقد اقتضى هذا ذكر أخبار بعض الرسل السابقين ، وتذييلها بما يناسب الغرض من ذكرها. وقد جاء في سورة الحجّ الإذن في القتال للمؤمنين ، ووعدهم بالنصر والفلاح في دنياهم وأخراهم ، فجاءت هذه السورة بعدها ، لبيان الشروط التي يتوقف عليها نصرهم وفلاحهم.

بيان شروط فلاح المؤمنين

الآيات [١ ـ ٢٢]

قال الله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤٥

خاشِعُونَ) فوعد بفلاح المؤمنين على سبيل التحقيق والتأكيد ، وذكر ، من الصفات التي يتوقف عليها فلاحهم ، أنهم في صلاتهم خاشعون ، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنهم ، بهذه الصفات ، إنما يرثون جنّة الفردوس التي أعدّت لهم ، فيفوزون بها في الدنيا والاخرة ؛ ثم ذكر من أدلة ألوهيّته ، عزوجل ، ما يثبت قدرته على تحقيق وعده بذلك في الدنيا ، وقدرته على بعثهم بعد موتهم ؛ ليحقّ لهم ما وعدهم به في الاخرة ؛ فذكر سبحانه أنه خلق الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعله نطفة فعلقة ، فمضغة ، إلى أن أنشأه خلقا آخر يتكلّم ويعقل ؛ ثم ذكر أنه خلق فوقنا سبع سماوات ، وأنزل من السماء ماء بقدر ، إلى أن ذكر خلق الأنعام وقال فيها : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (٢٢).

أخبار بعض الرسل

الآيات [٢٣ ـ ١١٨]

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٢٣) ، فذكر ، من أخبار بعض الرسل ، ما يثبت أيضا وعده بفلاح المؤمنين ، فذكر خبر نوح مع قومه ، وأنهم كذّبوه ، وقالوا مرّة كما ورد في التنزيل : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [الآية ٢٤]. ومرة أخرى (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) [الآية ٢٥] ، فطلب منه أن ينصره عليهم ، فأمره أن يصنع فلكا ، ويحمل فيها أهله إلّا من سبق عليه القول منهم ، ونهاه أن يخاطبه فيمن سيغرقه بالطوفان من أعدائه ؛ ثم ذكر أن في ذلك لآيات على نصره للمؤمنين ، وأن من شأنه أن يعاقب المكذّبين.

ثم ذكر سبحانه أنه أنشأ من بعد قوم نوح قرنا آخرين ، قيل هم عاد قوم هود ، وقيل هم ثمود قوم صالح ؛ وأنه أرسل فيهم رسولا ، ليأمرهم بعبادته وحده ، فكذّبوه لأنه بشر مثلهم ، وأنكروا ما أخبرهم به من بعثهم بعد موتهم ؛ ثم ذكر أنه طلب منه أن ينصره عليهم ، فأخذهم بالصيحة فأهلكهم.

ثم ذكر ، جلّ شأنه ، أنه أنشأ من بعدهم قرونا آخرين ، وأنه أرسل رسله تترى ، رسولا بعد رسول ، فكذّبت كلّ أمة رسولها ، فأهلكهم أمّة بعد أمة. ثم ذكر سبحانه أنه أرسل موسى وهارون (ع) إلى فرعون وقومه ، وأنهم

٤٦

كذّبوهما لأنهما بشر مثلهم ، ومن قوم عابدين لهم ، فأهلكهم كما أهلك من قبلهم من الأمم. ثم آتى موسى التوراة ليهتدي قومه بها ، بعد أن نجّاهم من استعباد فرعون ؛ ثم ذكر أنه جعل منهم عيسى بن مريم وأمّه آية في ولادته منها بغير أب ؛ وأن آياته كانت خاتمة آياتهم.

ثم ذكر تعالى ما كان من أمر هؤلاء الرسل ، بعد أن نصرهم على أعدائهم ، وأنّه أمرهم أن يتمتعوا بما رزقهم من الطيبات في دنياهم ، وأن يعملوا صالحا ينفعهم في آخرتهم ، وأن يعبدوه وحده ، لأنّ شرائعهم واحدة ، قائمة على أساس التوحيد ؛ ثم ذكر أن أتباعهم لم يعملوا بهذا بعدهم ، بل اختلفوا فيه اختلافا شديدا ، واغتبط كلّ فريق منهم بما اتّخذه دينا له ، وأمر النبيّ (ص) أن يتركهم في غفلتهم عما بعث به أولئك الرسل ، إلى أن يحين عذابهم ؛ ثم ذكر أنهم إذا كانوا في نعم عظيمة ، فإنها ليست ثوابا معجّلا لهم على أديانهم ، وإنما هي استدراج لهم في المعاصي ليبلغوا ما يبلغون من زيادة الإثم ؛ ثم ذكر أنّ ما هم فيه من تلك النّعم والخيرات ، ليس بخيرات على الحقيقة ، وإنما الخيرات ما يسارع فيه المؤمنون من خشية ربّهم ، إلى غير هذا مما ذكر من أعمالهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنه لا يكلّف أحدا إلّا وسعه من تلك الأعمال ، وأنّ لديه كتابا يسجّل تلك الأعمال ، وينطق بالحق فيها ، وأنّ المشركين في غفلة عنها ، بما هم فيه من الكفر والضلال ؛ ثم ذكر أنه إذا أخذ أصحاب تلك النّعم منهم بالعذاب ، جأروا من هوله ، وأنه ينهاهم عن الجؤار ، لأنّه أنذرهم بذلك ، فيما يتلى عليهم من آياته ، فكانوا ينكصون على أعقابهم ، ويسمرون بالطّعن في القرآن الذي يتلو ذلك عليهم ، ثم قطع عذرهم ، بأنه قد مكّن لهم من التدبّر في القرآن ، وما أنذرهم به فلم يتدبّروا ، إلى غير ذلك مما ذكره في قطع عذرهم ؛ ثم ذكر أنه جاءهم بالحق ، وأنه لا يحملهم على تكذيبه إلا كراهتهم له ، وأنه لم يأت على أهوائهم ، ولو اتّبع الحقّ أهواءهم ، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهما ؛ ثم ذكر أنه قد أتاهم من ذلك بما فيه ذكرهم وشرفهم ، وأن النبي (ص) لا يسألهم عليه أجرا ، وأنّه يدعوهم إلى صراط مستقيم ، وأنهم عن ذلك الصراط ناكبون ، وأنّه لو سمع لجؤارهم ، وكشف ما بهم من ضرّ ،

٤٧

لاستمروا في طغيانهم. ولقد أخذهم بعذاب قبل هذا العذاب ، ثم كشفه عنهم فما استكانوا له. فلما أخذهم بهذا العذاب يئسوا من كشفه عنهم ؛ ثم ذكر ما كان يكفي لصرفهم عن تلك المبالغة في الإعراض ؛ فذكر سبحانه أنه هو الذي أنشأ لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وأنه هو الذي جعلهم يتناسلون في الأرض ، ثم يحشرهم إليه وحده ، وأنه ، جلّ جلاله ، هو الذي يحيي ويميت ، ويخالف بين الليل والنهار ؛ ثم ذكر أنهم مع هذا مضوا في إعراضهم ، وتقليد آبائهم في إنكار بعثهم بعد موتهم ، وزعمهم أنهم قد وعدوا بذلك هم وآباؤهم ، فلم يحصل شيء منه ؛ ثم ردّ عليهم بأنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن الله هو خالق الأرض ومن فيها ، وهو ربّ السماوات السبع والعرش ، وأنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء ، ومن يكون هذا شأنه يكون قادرا على بعثهم ؛ ثم ذكر أنه أتاهم بالحق حين أثبت لهم أنه هو الذي خلقهم وحده ، وأنهم إليه يحشرون ، لا إلى غيره من ولد أو شريك ، لأنه لم يتّخذ له ولدا ولا شريكا ، ولو كان معه إله غيره ، لذهب كل إله بما خلق ، ولعلا بعضهم على بعض ، سبحانه عما يصفون ، وتعالى عما يشركون.

ثم أمر (ص) ، إذا أراه ما يوعدون من العذاب ، أن يدعوه بأن ينجيه منه ؛ وذكر أنه قادر على أن يريه ما يعدهم من ذلك ، ثم أمره أن يحتمل ما يكون منهم ، قبل ذلك من ضروب الأذى ، وأن يستعيذ به ، مما يهمز به الشيطان ، من دفعهم إلى إيذائه ؛ ثم ذكر تعالى أنه إذا جاء أحدهم الموت ندم على ذلك ، وطلب من ربه أن يرجعه إلى الدنيا ليعمل صالحا ، وأنه يجاب بزجره عن هذا الطلب ، لأنه لا سبيل إلى رجوعه ، إلى أن يبعث من قبره ؛ ثم ذكر أحوال يوم البعث وأنه ينفخ فيه في الصّور ، فيبعثون من قبورهم ، لا يعرف قريب قريبا ، ولا يسأل شخص شخصا ؛ ثم يحاسبون ، فمن ثقلت موازينه فهو من المفلحين ، ومن خفّت موازينه فهو من الخالدين في جهنم. ثم ذكر أنهم ينادونه فيها ، ويعتذرون بأن شقوتهم غلبت عليهم ، ويطلبون أن يخرجهم منها ، فإن عادوا إلى العصيان فهم ظالمون ، فيأمرهم بأن يخسئوا فيها ، ولا يكلّموه في الخروج منها ، ويذكّرهم ما كان من سخريتهم بعباده

٤٨

المؤمنين ؛ ويخبرهم بأنه جزاهم بصبرهم على سخريتهم ، وجعلهم من الفائزين ؛ ثم يسألهم ، على سبيل التوبيخ ، عن عدد السنين التي لبثوها في الأرض ، لأنهم كانوا يعتقدون أنه لا لبث إلّا في الدنيا ، فيجيبون بأنّهم لم يلبثوا فيها إلّا يوما أو بعض يوم ، فيقرّهم على استقصارهم لمدة لبثهم فيها ، لأنّها قليلة بالنسبة لما يلبثونه في الاخرة ؛ ثم يوبّخهم على ظنّهم أنه خلقهم عبثا ، وأنهم لا يرجعون إليه ، لأنه سبحانه الملك الحقّ الذي يتعالى عن العبث.

ثم ختمت السورة بنفي الفلاح عن الكافرين ، ليناسب ابتداءها بإثباته للمؤمنين ؛ وأمر النبي (ص) أن يتوجّه إليه بطلب المغفرة والرحمة ، بعد تفصيل ذلك العذاب للكافرين ، فقال سبحانه (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) (١١٨).

٤٩
٥٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المؤمنون» (١)

أقول : وجه اتصالها بسورة الحج : أنه تعالى ، لما ختمها بقوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وكان ذلك مجملا ، فصّله في فاتحة هذه السورة ، فذكر سبحانه خصال الخير التي من فعلها قد أفلح ، فقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢). ولما قال سبحانه في أول الحج : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) [الآية ٥] ، زاده هنا بيانا في قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣). فكل جملة أوجزت هناك في القصد ، أطنب فيها هنا.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٥١
٥٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «المؤمنون» (١)

١ ـ (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) [الآية ٢٠].

قال الرّبيع : هي الزيتون ، أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (إِلى رَبْوَةٍ) [الآية ٥٠].

قال أبو هريرة : هي الرملة من فلسطين (٢). وقال الضّحّاك : هي بيت المقدس (٣).

وقال سعيد بن المسيّب : هي دمشق.

وقال ابن زيد : هي مصر. أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وأخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» عن مرة الزهري. قال الهيثمي في «معجم الزوائد» ٧ : ٧٢ : «وفيه من لم أعرفهم». واستبعد الطبري في «تفسيره» ١٨ : ٢١ هذا التفسير لأن الرملة لا معين بها ؛ والله تعالى ذكره ، وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومعين.

(٣). هذا القول هو الأظهر عند ابن كثير في «تفسيره» ٣ : ٣٤٦.

٥٣
٥٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «المؤمنون» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (١٢).

والسلالة : الخلاصة لأنّها تسلّ من بين الكدر ، و «فعالة» : بناء للقلّة ، ولبقايا الأشياء كالقلامة ، والقمامة ، والصّبابة ، والخشارة ، وغير ذلك.

٢ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ) (١٣).

والقرار المكين ، أي : المستقر ، ذو المكانة ، والمراد به الرّحم.

والمكين فعيل اشتق من «المكان» ، وهذا يفيد أن العربية اشتقت الكثير من الأسماء الدالة على المعاني ، أو على الذوات من الاسم ، وهو «المكان».

٣ ـ وقال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها) [الآية ٢١].

أقول : أنظر : الآية : ٦٦ ، من سورة النحل.

٤ ـ وقال تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) [الآية ٢٧].

وقوله تعالى : «بأعيننا» ، أي بحفظنا وكلاءتنا.

أقول : وما زال شيء من هذا التعبير في اللغة السائرة في العراق.

والذي أراه أن «العين» ، في هذا الاستعمال تفيد الحفظ والمساعدة.

ولعلّ من «العين» ، وهي عضو البصر في الأصل ، أخذت العربية «العون» بمعنى المساعدة ، ولمّا كان لكلمة «العين» معنى مجازي ، وهو

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٥٥

الحفظ والرعاية ، فقد حوّلت هذه اللفظة من الياء إلى الواو لهذا الغرض.

وكنا قد أشرنا إلى شيء من هذا في مادة «غيث» ، وكيف صارت «غوثا».

وقوله تعالى : (وَوَحْيِنا) ، أي : نأمرك كيف تصنع ونعلمك.

٥ ـ وقال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الآية ٢٧].

قالوا : التنوّر : وجه الأرض.

٦ ـ وقال تعالى : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٣٦).

أقول : ذكر النحاة أن بعد هيهات اسم يرتفع بها هو الفاعل ، ومن شواهدهم :

فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خلّ بالعقيق نواصله وقال الزجاج في الآية : البعد لما توعدون.

وهذا التفسير في قول الزجّاج ، يشعرنا أنهم حاروا في اللام ، لأن الآية لم ترفع الاسم الظاهر ، بل وليها الاسم مجرورا باللام.

٧ ـ وقال تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥).

أقول : باعتبار الفعل الأول ، تسبق ، كانت الكلمة مؤنثة ، وهي مؤنثة لفظا ، وباعتبار الفعل اللاحق لها ، كانت الكلمة جمعا مذكّرا ، وذلك مراعاة للمعنى.

٨ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) [الآية ٤٤].

«تترى» على «فعلى» ، والألف للتأنيث لأن الرسل جماعة.

وقرئ : (تترّى) بالتنوين.

أقول : والتاء بدل من الواو ، والأصل وترى. ولعلّ الكلمة من الجموع التي أميت واحدها ، فهو «وتير» ، مثل جريح وجرحى. ولكنّ «وتير» لم يرد في العربية ، فهو مما أهمل وأنسي.

٩ ـ وقال تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) [الآية ٤٦].

والمراد ب «عالين» أنهم متكبّرون.

أقول : والذي رشّح هذا المعنى المراد : أن في الآية الكريمة قوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا). والذي يقال في عربيتنا المعاصرة : «أنهم متعالون» ، أي : متكبّرون.

٥٦

١٠ ـ وقال تعالى : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) [الآية ٤٧].

أقول : البشر واحد وجمع ، فكونه مفردا هو في قوله تعالى :

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [آل عمران : ٤٧].

وفي آيات أخرى.

وأما كونه جمعا ، فكما في قوله تعالى :

(قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا) [إبراهيم : ١٠].

وفي آيات أخرى.

فأما الآية التي وقفنا عليها من هذه السورة ، الآية ٤٧ ، فدلالتها على المفرد ، ومن أجل ذلك بني الكلام على التثنية.

ولا بد من الوقوف ، من معنى كلمة «بشر» ، على شيء يدلّ في ظاهره على الإنسان ، رجلا كان أو امرأة ، فأقول :

لو استقرينا قدرا من الآيات التي وردت فيها كلمة «بشر» ، ومنها :

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم : ١١].

(قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ) [الحجر : ٣٣].

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) (٣٤) [الأنبياء].

(وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١).

أقول : لو استقرينا هذا القدر من آيات أخرى ، لوقفنا على ما يحملنا على أن نقول : إن دلالة كلمة «بشر» على الكائن الهالك ، الذي من شأنه أن يفنى ويموت.

ألا يحق لنا أن نقف على شيء من مادة «بشر» ، فنجد «البشرة» وهي ظاهر جلد الإنسان التي مصيرها الفناء ، وهي قبل أن تفنى يصيبها التلف ، وهي تتفسّخ بعد الموت! أليس هذا هو الفناء والهلاك؟

أقول : ومن هنا كان لي أن أذهب إلى أن «البشر» هو الفاني.

١١ ـ وقال تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) (٥٠).

والمعين : الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. وقد اختلف في زيادة ميمه وأصالته ؛ فوجه من جعله مفعولا ، أنه مدرك بالعين لظهوره ، من عانه : إذا أدركه بعينه ، ووجه من جعله

٥٧

فعيلا أنه نفّاع بظهوره وجريه ، من الماعون ، وهو المنفعة. وأرى : أن «معين» من «العين» ، والميم زائدة على نحو المبيع والمدين وغيرهما ، وذلك لأن دلالة «العين» على الماء معروفة ، فالعين عين الماء في إحدى دلالاتها الكثيرة ، ومنها قالوا : عانت البئر عينا ، أي : كدر ماؤها.

وعان الماء والدمع يعين عينا وعينانا : جرى وسال.

١٢ ـ وقال تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٥٤).

و «الغمرة» : الماء الذي يغمر القامة ؛ فضربت مثلا ، لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم.

أقول : والغمر : الماء الكثير.

والغمرة أيضا : الشدّة ، وغمرات الهمّ والموت أي شدّتهما.

والمغمور من الرجال : الذي ليس بمشهور.

والغامر من الأرض خلاف العامر.

وهكذا يذهب المعنى في مادة «غمر».

١٣ ـ وقال تعالى : (فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) (٦٦). أي : تدبرون ، وتستأخرون ، وترجعون القهقرى مكذّبين.

أقول : وهذه الآية أورثت العربية قول القائل : فلان نكص على عقبيه ، بهذا المعنى ، والعبارة ما زالت جارية في عربية العصر.

١٤ ـ وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) [الآية ٧٠].

الجنّة : الجنون وهو المصدر.

وتأتي «الجنّة» بمعنى «الجنون» في آيات أخرى منها :

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤].

كما تأتي بمعنى «الجن» كقوله تعالى :

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) [هود].

وقوله سبحانه : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) [الناس].

أقول : الجنّ أصل المادة اللغوية ، والجنّ عالم خفيّ ، جاء ذكره وشيء من أمره في آيات كثيرة ؛ وعلى رأس الجنّ إبليس اللعين الذي يغوي الناس ، كما جاء في التنزيل العزيز.

٥٨

ولما كان «الجن» ، وهو جمهرة هذه المخلوقات قد خفي عن النظر ، ولا يبصره الناس ، أفادت العربية من هذه المادة ، مواد كثيرة ، تدلّ جميعها على الخفاء والتستّر ، فجاء الفعل «جن» بمعنى أخفى وستر ، ومن أجل ذلك قيل : جنّ عليه الليل ، أي : أخفاه وستره.

ومن هذا الأمر ، قيل للمخلوق بعد النطفة والمضغة والعلقة في بطن الأم ، «جنينا» ، وذلك لخفائه أيضا.

ومن هذا قيل للقلب «جنان» بفتح الجيم ، لأنه مستور.

وقيل : للدّرع ، يستر به المحارب صدره ، جنّة ومجنّ.

ثم اتسع الأمر أكثر من ذلك ، فقيل لفاقد العقل «مجنون» ، أو به جنون أو جنّة ، وذلك من تصوّر العرب أن «الجنّ» أغوته وأفقدته العقل.

والفعل مبنيّ للمفعول «جنّ».

وبعد ، فهذه المادة وجدت في غير العربية من اللغات السامية ؛ ولكن تلك اللغات ، لم تتصرف في هذه المادة على النحو البديع ، الذي ورد في العربية ، وهذا شيء من عبقرية هذه اللغة.

١٥ ـ وقال تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [الآية ٧٢].

وقرئ : خراجا فخراج ، وخرجا فخرج ...

والخرج ما يخرجه الرجل إلى الإمام من زكاة الأرض ، وإلى كلّ عامل من أجرته وجعله.

وقيل : الخرج ما تبرّعت به ، والخراج ما لزمك أداؤه.

والوجه أن الخرج أخصّ من الخراج ، كقولك : خراج القرية ، وخرج الكردة ، وزيادة اللفظ لزيادة المعنى ، ولذلك حسنت قراءة من قرأ :

«خرجا فخراج ربك» (١).

أقول : وهذا شيء من تصرّف المعربين بمادة هذه اللغة ؛ فقد أفادوا من مادة «خرج» الدالة على الخروج ضد الدخول ، في وضع هذه المصطلحات الفنية.

١٦ ـ وقال تعالى : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا

__________________

(١). الزمخشري : الكشّاف ٣ : ١٩٦.

٥٩

عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٧٧).

وقوله تعالى : (مُبْلِسُونَ) (٧٧) أي : متحّيرون يائسون.

أقول : لعل الفعل «أبلس» ، ومادة «بلس» أيضا ذات علاقة ب «إبليس»!

١٧ ـ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [الآية ٧٨].

أقول : لم يرد السمع إلّا مفردا ، وهو مقترن ب «الأبصار» جمعا ، في جميع آي القرآن ، ما عدا قوله تعالى :

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣٦).

وهذا ما لاحظناه وليس لنا أن نتكلم فيه ، ولكلام الله أسرار وفوائد كثيرة.

١٨ ـ وقال تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) [الآية ٩٦].

وقوله تعالى : (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي : الحسنى إرادة التفضيل ، ومن أجل ذلك لا يتحقّق إحكام المعنى ، لو يقال : ادفع بالحسنة السيئة.

١٩ ـ وقال تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ).

أريد ب «الموازين» الأعمال الصالحات ، والاستعارة جميلة ، فثقل الموازين يدل على سعة العمل الصالح ، ووزنه وقيمته. وبعكسه من كان خفيف الموزون من العمل الصالح ، وقد كنا عرضنا لشيء من هذا في آية سابقة.

٦٠