الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

قوله تعالى : «رجالا» ، جمع راجل ، مثل قيام جمع قائم.

وهو مقابل لقوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، أي : «الرجال» يقابلون «الركبان» كقوله أيضا : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) [البقرة : ٢٣٩].

والراجل بهذا المعنى ، أي : الماشي ، أخذ من «الرجل» ، عضو المشي في الإنسان ، وهذا من باب الاشتقاق من أسماء الذات.

وقوله : (يَأْتِينَ) ، وهو وصف لقوله (كُلِّ ضامِرٍ) وكأنه بمعنى الجمع وقرئ : «يأتون» صفة للرجال والركبان.

٧ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الآية ٢٩].

«التّفث» : نتف الشعر ، وقصّ الأظفار ، وتنكّب كلّ ما يحرم على المحرم ، وكأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.

وقال الزجّاج : لا يعرف أهل اللغة التّفث إلّا من التفسير.

٨ ـ وقال تعالى : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣). قوله : (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣).

أي : وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت ، وهذا شيء من مناسك الحج.

أما قوله : (مَحِلُّها) ، بكسر الحاء فهو اسم مكان من حلّ يحلّ.

٩ ـ وقال تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤).

«المخبتون» المتواضعون الخاشعون ، وهو من الخبت ، أي : المطمئنّ من الأرض.

أقول : وقد توسعت العربية ، فأخذت الكثير من أسماء المعاني من أسماء الذات ، أي : من المحسوسات ، ومن الكلم الذي يتصل بالبيئة البدوية ، ألا ترى أن الفعل «بدا» ذو صلة ب «البدو» ، وأن «الجمال» ، بمعنى الحسن ، ذو صلة ب «الجمل» الحيوان ، ومثل هذا لا يمكن أن يبلغه الحصر.

١٠ ـ وقال تعالى : (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) [الآية ٣٦].

أما قوله : (الْقانِعَ) ، فهو السائل من قولك : قنعت إليه وكنعت : إذا خضعت له وسألته قنوعا.

٢١

(وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يتعرّض بغير سؤال.

وقيل : القانع السائل أو المتعفف.

أقول : وهذا كله من الكلم الذي نفتقده كل الافتقاد في العربية المعاصرة.

١١ ـ وقال تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) [الآية ٤٠].

الصوامع للرهبان وكذلك البيع ، والمفرد بيعة.

ويذهب أهل عصرنا هذا ، وأعني أهل العلم من المختصين باللغات القديمة ، أن «البيعة» فيها من آثار الآرامية شيء ، وهو صوت العين الذي يقابله في العربية الضاد ، وكان حقها أن تكون «بيضة» ، لأنها قبّة بيضاء ، وعلى هذا فالعين إشارة للأصل.

وأما الصلوات فهي متعبّدات اليهود ، وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنه يصلّى فيها.

١٢ ـ وقال تعالى : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ) [الآية ٤٢].

وقوله : (كَذَّبَتْ) ، إشارة إلى أن الفاعل مؤنث ، والفاعل هنا كلمة «قوم» ، وهي ألصق بالتذكير ومعناها الجمع ، ولكن في الآية مراعاة للمعنى ، فالمراد ب «قوم» «الأمّة».

ولو روعي اللفظ ، لكان الفعل «كذّب» ، ويعضد هذا أن الفصل موجود في الآية بين الفعل والفاعل بالظرف «قبلهم».

ومجيء «القوم» مذكّرا متحقق في عشرات الآيات بل المئات.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الآية ٤٨].

والإملاء : الإمهال والتأخير وإطالة العمر ، والله يملي للظالم أي يمهله.

أما الكلام على «كأيّن» ، فهي لفظ من كنايات العدد مثل : «كم» و «كذا» ، وهي نظيرة «كم» في الاستفهام والخبر.

وفيها لغة أخرى هي «كائن» ، قال زهير :

وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلّم وقد جاءت «كايّن» في آيات عدة منها :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ

٢٢

كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦].

والمعنى : وكم من نبيّ ......

أقول : إن «كأيّن» هذه من الكلم الذي لم يبق له استعمال منذ عصور عدة.

١٤ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (٥١). وقولنا : عاجزه بمعنى سابقه ، والمعاجز من يسعى في طلب إعجاز الاخر عن اللحاق به ، فإذا سبقه قيل : أعجزه.

أقول : وهذا من الكلم الذي يفتقده أصحاب ما يتصل بكل أنواع المسابقات في عصرنا.

٢٣
٢٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحج» (١)

قال تعالى : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الآية ٢] وذلك أنه أراد ، والله أعلم ، الفعل ، ولو أراد الصفة فيما نرى لقال «مرضع». وكذلك كلّ «مفعل» و «فاعل» يكون للأنثى ولا يكون للذكر فهو بغير هاء نحو «مقرب» و «موقر» : نخلة موقر ، و «مشدن» : معها شادن و «حامل» و «حائض» و «فادك» و «طامث» و «طالق» (٢)

وقال تعالى : (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) (١٥) [الآية ١٥] بحذف الهاء من (يغيظ) لأنها صلة «ما» لأنه إذا صار جميعا اسما واحدا كان الحذف أخف (٣).

وقال تعالى : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) [الآية ١٣] ف (يدعو) بمنزلة «يقول». و (من) رفع وأضمر الخبر كأنّ السياق يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه. يقول : لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه (٤).

وقوله تعالى (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الآية ٢٥] معناه : ومن يرد إلحادا. وزيدت الباء كما زيدت في قوله سبحانه (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون /]

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في التهذيب ١ : ٤٧٢ «رضع» وزاد المسير ٥ : ٤٠٤.

(٣). نقله في الجامع ١٢ : ٢٢.

(٤). نقله في إيضاح الوقف ، والابتداء ٢ : ٧٨١ والمشكل ٢ : ٤٨٧ و ٤٨٨ ، وإعراب القرآن ٢ : ٦٨٧ ، والبحر ٦ : ٣٥٦.

٢٥

[٢٠] وقال الشاعر (١) [من الطويل وهو الشاهد الثاني والخمسون بعد المائتين] :

أليس أميري في الأمور بأنتما

بما لستما أهل الخيانة والغدر (٢)

وقال تعالى : (صَوافَ) [الآية ٣٦] وواحدتها : «الصافّة».

وقال تعالى : (لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) [الآية ٤٠] فالصّلوات لا تهدّم ، ولكن ينبغي حمله على فعل آخر كأنّ السياق «وتركت صلوات» ، وقال بعضهم : «إنّما يعني مواضع الصلوات».

وفي قوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الآية ٤٠](بَعْضَهُمْ) بدل من (النَّاسَ).

وقوله تعالى : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الآية ٤٥] حمل على (كأيّن) والمشيد هو المفعول من «شدته» ف «أنا أشيده» مثل «عنته» ف «أنا أعينه» ف «هو معين».

وقال تعالى : (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) [الآية ٧٣] فإن قيل : «فأين المثل» قلت : «ليس هاهنا مثل ، لأنّ معنى قوله تبارك وتعالى : «ضرب لي مثل فجعل مثلا عندهم لي فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي في قولهم واتخاذهم الالهة ، وإنهم لن يقدروا على خلق ذباب ولو اجتمعوا له وهم أضعف ، لو سلبهم الذباب شيئا فاجتمعوا كلهم ليستنقذوه منه ، لم يقدروا على ذلك. فكيف تضرب هذه الالهة مثلا لربّها وهو ربّ كلّ شيء ، الواحد الذي ليس كمثله شيء وهو مع كل شيء ، وأقرب من كل شيء ، وليس له شبه ولا مثل ولا كفؤ ، وهو العلي العظيم ، الواحد الرب ، الذي لم يزل ولا يزال» (٣).

وقال تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الآية ٣٠] وكلّها رجس ، والمعنى : فاجتنبوا الرجس الذي يكون منها أي : عبادتها (٤).

__________________

(١). لم تفد المراجع شيئا في القائل.

(٢). ورد الشاهد في المغني ١ : ٣٠٦ ، وشرح شواهده للسيوطي ٣٤٤ ، والمقاصد النحوية ١ : ٤٢٢ على أنه من شواهد ابن أم قاسم ، وقيّد بلفظ «فما» بدل «بما».

(٣). نقله في زاد المسير ٥ : ٤٥١ ، والجامع ١٢ : ٩٦ والبحر ٦ : ٣٩٠.

(٤). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٦٩٢.

٢٦

وقال تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧) أي : «هو في الثقل ومما يخاف منه كألف سنة».

وقوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الآية ٧٨] نصب على الأمر. وقال : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) [الآية ٧٢] رفع على التفسير ، أي : هي النار. ولو جرّ على البدل كان جيدا (١).

وقال تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا) [الآية ١٩] لأنهما كانا حيّين. و «الخصم» يكون واحدا وجماعة.

__________________

(١). الجر في البحر ٦ : ٣٨٩ قراءة ابن أبي إسحاق ، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة. والرفع قراءة الجمهور.

٢٧
٢٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحج» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الآية ١] يدل على أن المعدوم شيء.

قلنا : لا نسلّم ، ومستنده أن المراد أنها إذا وجدت كانت شيئا لا أنها شيء الآن ، ويؤيد هذا قوله تعالى : (عَظِيمٌ) مع أن المعدوم لا يوصف بالعظم.

فإن قيل : لم قال تعالى أوّلا : (يَوْمَ تَرَوْنَها) [الآية ٢] بلفظ الجمع ، ثم أفرد فقال في الآية نفسها : (وَتَرَى النَّاسَ)؟

قلنا : لأن الرؤية أولا علّقت بالزّلزلة ، فجعل الناس كلهم رائين لها ، وعلقت آخرا بكون الناس على هيئة السكارى ، فلا بد من أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.

فإن قيل : لم قال تعالى في حق النضر بن الحارث : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) [الآية ٣] إلى أن قال (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الآية ٩] وهو ما كان غرضه في جداله الضلال عن سبيل الله ، فكيف علل جداله به وما كان أيضا مهتديا حتى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال؟

قلنا : هذه لام العاقبة والصيرورة ، وقد سبق ذكرها غير مرة ، ولما كان الهدى معرضا له ، فتركه وأعرض عنه وأقبل على الجدال بالباطل ، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.

فإن قيل : النفع والضر منفيان عن

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٩

الأصنام مثبتان لها في الآيتين ، فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : معناه يعبد من دون الله ما لا يضره بنفسه إن لم يعبده ، ولا ينفعه بنفسه إن عبده ، ثم قال : يعبد من يضره الله بسبب عبادته ، وإنما أضاف الضرر إليه لحصوله بسببه.

فإن قيل : قوله تعالى : (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) [الآية ١٣] يدل على أن في عبادة الصنم نفعا ، وإن كان فيها ضرر؟

قلنا : معناه أقرب من النفع المنسوب إليه في زعمهم ، وهو اعتقادهم أنه يشفع لهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الآية ٣٩] أي بسبب كونهم مظلومين ، ولم يبين ما الشيء الذي أذن لهم فيه؟

قلنا : تقديره : أذن للذين يقاتلون في القتال ، وإنما حذف لدلالة «يقاتلون» عليه ولدلالة الحال أيضا ، فإن كفار مكة يؤذون المؤمنين بأنواع الأذى وهم يستأذنون النبي (ص) في قتالهم ، فيقول : «لم يؤذن لي في ذلك». حتى هاجر إلى المدينة فنزلت هذه الآية ، وهي أول آية نزلت في الإذن في القتال ، فنسخت سبعين آية ناهية عن القتال ، كذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ، فكان المأذون فيه ظاهرا لكونه مترقّبا منتظرا.

فإن قيل : ما وجه الاستثناء في قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) [الآية ٤٠]؟

قلنا : هو استثناء منقطع تقديره : لكن أخرجوا بقولهم : ربنا الله. الثاني أنه بمنزلة قول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

 تقديره : إن كان فيهم عيب فهو هذا ، وليس بعيب فلا يكون فيهم عيب.

فإن قيل : أي منّة على المؤمنين في حفظ الصوامع والبيع والصلوات : أي الكنائس عن الهدم حتى امتن عليهم بذلك في قوله تعالى (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الآية ٤٠]؟

قلنا : المنّة في ذلك أن الصوامع والبيع والكنائس في حرم المسلمين وحراستهم وحفظهم ، لأن أهلها ذمة للمسلمين. الثاني أن المراد به لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى (ع) ،

٣٠

وصلوات : أي كنائس في زمن موسى (ع) ، ومساجد في زمن النبي (ص) ، فالامتنان على أهل الرسالات الثلاث.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَكُذِّبَ مُوسى) [الآية ٤٤] ولم يقل و «كذّب قوم موسى» ، كما قال الله تعالى فيما قبله؟

قلنا : لأن موسى (ع) ما كذّبه قومه بنو إسرائيل ، وإنما كذبه غير قومه وهم القبط. الثاني : أن يكون التنكير والإبهام للتفخيم والتعظيم كأنه قال تعالى : بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم : وكذّب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته ، فما ظنك بغيره.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦)؟

قلنا : الحكمة فيه المبالغة في التأكيد كما في قوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] وقوله تعالى (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) [الفتح : ١١] وما أشبه ذلك : أن القلب هنا يستعمل بمعنى العقل ، ومنه قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) [ق : ٣٧] أي عقل في أحد القولين ، فكان التقييد احترازا على قول من زعم أن العقل في الرأس.

فإن قيل : المغفرة إنما تكون لمن يعمل السيئات ، لا لمن يعمل الصالحات والحسنات ، فلم قال تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) [الآية ٥٠]؟

قلنا : المراد بالعمل الصالح هنا الإخلاص في الإيمان ؛ فيصير المعنى : فالذين آمنوا عن إخلاص نغفر لهم سيئاتهم.

فإن قيل : ما الفرق بين الرسول والنبي ، مع أن كليهما مرسل بدليل قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) [الآية ٥٢].

قلنا : الفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من جمع له بين المعجزة وأنزل الكتاب عليه. والنبي فقط : من لم ينزل عليه كتاب ، وإنما أمر أن يدعو أمته إلى شريعة من قبله. وقيل الرسول من كانت له معجزة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، والنبي من لم تكن له منهم معجزة ، وفي هذا نظر. وقيل الرسول من كان مبعوثا إلى أمّة ، والنبي فقط من لم يكن مبعوثا إلى أحد مع كونه نبيّا ، والجواب

٣١

عمّا في الآية من هذا القول أن فيه إضمارا تقديره : وما أرسلنا من رسول ولا نبأنا من نبيّ ، أو ولا كان من نبيّ ؛ ويقول الشاعر :

ورأيت زوجك في الوغى

متقلّدا سيفا ورمحا

 أي ومتعلقا رمحا أو حاملا رمحا.

فإن قيل : أين المثل المضروب في قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) [الآية ٧٣] والمذكور بعده ، وهو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [الآية ٧٣] إلى آخره ليس بمثل ، بل هو كلام مبتدأ مستقل بنفسه؟

قلنا : الصفة والقصة الغريبة أو المستحسنة تسمى مثلا ، ومنه قوله تعالى (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] فالمعنى يثبت بصفة ، وهي عجز الصنم عن خلق الذباب واستنقاذ ما يسلبه ، وقيل هو إشارة إلى قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] وإنما أبهم هنا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الآية ٧٨] مع أن قطع اليد بسبب سرقة عشرة دراهم حرج في الدين ؛ وكذا رجم المحصن بسبب الوطء مرة واحدة ، ووجوب صوم شهرين متتابعين بسبب إفطار يوم واحد من رمضان بوطء ، والمخاطرة بالنفس والمال في الحجّ والعمرة ؛ كل ذلك حرج بيّن؟

قلنا : المراد بالدين كلمة التوحيد ، فإنها تكفّر شرك سبعين سنة ، ولا يتوقف تأثيرها على الإيمان والإخلاص سبعين سنة ، ولا على أن يكون الإثبات بها في بيت الله تعالى أو في زمان أو مكان معين. وقيل المراد به أن كل ما يقع فيه الإنسان من الذنوب والمعاصي يجد له مخرجا في الشرع بتوبة أو كفّارة أو رخصة. وقيل المراد به فتح باب التوبة للمذنبين ، وفتح أبواب الرّخص للمعذورين ، وشروع الكفارات والديات ؛ وقيل المراد به نفي الحرج الذي كان على بني إسرائيل من الإصر والتشديد.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) [الآية ٧٨] وإبراهيم صلوات الله عليه لم يكن أبا للأمة كلها؟

قلنا : هو أبو رسول الله (ص) ، فكان

٣٢

أبا لأمته ، لأن أمّة الرسول بمنزلة أولاده من جهة العطف والشفقة ، هذا إذا كان الخطاب لعامة المسلمين ، وإن كان للعرب خاصة فإبراهيم أبو العرب قاطبة.

فإن قيل : متى سمّانا إبراهيم صلوات الله عليه المسلمين من قبل ، كما ورد في قوله تعالى : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الآية ٧٨]؟

قلنا : وقت دعائه عند بناء الكعبة حيث قال ، كما ورد في التنزيل (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] فكل من أسلم من هذه الأمة فهو ببركة دعوة إبراهيم (ع).

٣٣
٣٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحج» (١)

قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١).

وهذه استعارة. لأن حقيقة الزلزلة هي حركة الأرض على الحال المفزعة. ومثل ذلك قولهم : زلزل الله قدمه. وكان الأصل : أزلّ الله قدمه. بمعنى أزالها عن ثباتها واستقامتها ، وأسرع تعثرها وتهافتها. ثم ضوعف (٢) ذلك ، فقيل : زلزل الله قدمه. كما قيل : دكّه الله ، ودكدكه. فالمراد بزلزلة الساعة ـ والله أعلم ـ رجفان القلوب من الخوف ... وزلات الأقدام من روعة موقعها. ويشهد بذلك قوله سبحانه : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) [الآية ٢] يريد تعالى من شدة الخوف والوجل ، والذهول والوهل.

وفي قوله سبحانه : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥) استعارة. لأن المراد هاهنا باهتزاز الأرض ، والله أعلم ، تشبيهها بالحيوان الذي همد بعد حراكه ، وخشع بعد إشرافه ، لعلّة طرأت عليه ، فأصارته إلى ذلك ، ثم أفاق من تلك الغمرة ، وصحا من تلك السّكرة ، فتحرك بعد هموده وركوده. وكذلك حال الأرض إذا أماتها الجدب ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). التضعيف في تصريف الأفعال معروف مثل : زلزل في زل ، وصلصل في صل.

٣٥

وأهمدها المحل ؛ ثم حالها إذا نضحها الغيث بسجاله ، وبلّها القطر ببلاله ، واهتزت بالنبات ناضرة ، ورطبت بعد الجفوف متزيّنة (١). ذلك تقدير العزيز العليم.

وقوله سبحانه : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الآية ٩] استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، الصفة بالإعراض عن سماع الرشد ، وليّ العنق عن اتباع الحق. لأن المستقبل لسماع الشيء الذي لا يلائمه في الأكثر يصرف دونه بصره ، ويثني عنه عنقه. والعطف : جانب القميص ، وبه سمّي شق الإنسان عطفا ، لأن منه يكون ابتداء انعطافه ، وأول انحرافه. ومثل ذلك قوله سبحانه : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) [الإسراء : ٨٣ وفصّلت : ٥١].

وفي قوله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) [الآية ١١] استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ، ويفارق دينه لها ، تشبيها بالقائم على حرف مهواة. فأدنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه.

وفي قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) [الآية ١٨] استعارة.

والمراد ، والله أعلم ، بسجود الشمس والقمر والنجوم والشجر ، وما ليس بحيوان مميز ، ما يظهر فيه من آثار الخضوع لله سبحانه ، وعلامات التدبير ، ودلائل التصريف والتسخير ، فيحسن لذلك أن يسمّى ساجدا على أصل السجود في اللغة ، لأنه الخضوع والاستكانة. أو يكون ذلك على معنى آخر ، وهو أن الذي يظهر في الأشياء التي عدّدها ، من دلائل الصنعة ، وأعلام القدرة ، يدعو العارفين الموقنين إلى السجود ، ويبعثهم على الخضوع ، اعترافا له سبحانه بالاقتدار ، وإخباتا له بالإقرار. وذلك كما تقدّم من قولنا في تسبيح الطير والجبال.

__________________

(١). في الأصل «متزيّلة».

٣٦

وفي قوله سبحانه : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الآية ١٩] استعارة. والمراد بها أن النار ، نعوذ بالله منها ، تشتمل عليهم اشتمال الملابس على الأبدان ، حتى لا يسلم منها عضو من أعضائهم ، ولا يغيب عنها شيء من أجسادهم.

وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك ، والله أعلم ، أن سرابيل القطران التي ذكرها سبحانه ، فقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [ابراهيم : ٥٠] إذا لبسوها واشتعلت النار فيها صارت كأنها ثياب من نار ، لإحاطتها بهم واشتمالها عليهم.

وفي قوله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) استعارة. لأن المراد بها ذهول القلب عن التفكّر في الأدلّة التي تؤدي إلى العلم. وذلك في مقابلة قوله تعالى : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١١) [النجم] فإذا وصف القلب عند تبيين الأشياء بالرؤية والإبصار ، جاز أن يوصف عند الغفلة والذهول بالعمى والضلال. وإنما جعلت القلوب هاهنا بمنزلة العيون ، لأن بالقلوب يكون تحصيل المعلومات ، كما أن بالعيون يكون إدراك المرئيات. ولأن الرؤية ترد في كلامهم بمعنى العلم. ألا تراهم يقولون : هذا الشيء مني بمرأى ومسمع. أي بحيث أعرفه وأعلمه ، ولا يريدون بذلك نظر العين ، ولا سمع الأذن.

وفي قوله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) معنى عجيب ، وسر لطيف. وذلك أنه سبحانه لم يرد نفي العمى عن الأبصار جملة. وكيف يكون ذلك وما يعرض من عمى كثير منها أشهر من أن نؤمي إليه ، وندل عليه؟ وإنما المراد ، والله أعلم ، أن الأبصار إذا كانت معها آلة الرؤية من سلامة الأحداق ، واتصال الشعاعات لم يجز أن لا ترى ما لا مانع لها من رؤيته. والقلوب بخلاف هذه الصفة بها ، قد يكون فيها آلة التفكر والنظر من سلامة البنية ، وصحة الروية وزوال الموانع العارضة ، ثم هي مع ذلك لاهية عن النظر ، ومتشاغلة عن التفكر. فلذلك أفردها الله سبحانه بصفة العمى عن الأبصار على الوجه الذي بيّناه مع الفائدة.

فأما الفائدة في قوله سبحانه : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) ،

٣٧

والقلب لا يكون إلا في الصدور ، فإن هذا الاسم الذي هو القلب لما كان فيه اشتراك بين مسمّيات كقلب الإنسان ، وقلب النخلة ، والقلب الذي هو الصميم والصريح. من قولهم هو عربيّ قلبا (١) ، والقلب الذي هو مصدر قلبت الشيء أقلبه قلبا ، حسن أن يزال اللّبس بقوله تعالى : (الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦) ، احترازا من تجويز الاشتراك.

وقوله سبحانه : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥) من أحسن الاستعارات. لأن العقيم المرأة التي لا تلد ، فكأنه سبحانه وصف ذلك اليوم بأنه لا ليل بعده ولا نهار ، لأن الزمان قد مضى ، والتكليف قد انقضى. فجعلت الأيام بمنزلة الولدان للّيالي ، وجعل ذلك اليوم من بينها عقيما ، لأنه لا ينتج ليلا بعده ، ولا يستخلف بدلا له. وقد يجوز أيضا أن يكون المراد ، والله أعلم ، أن ذلك اليوم لا خير بعده ، لمستحقّي العقاب ، الذين قال الله سبحانه في ذكرهم : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) [الآية ٥٥] فوصفه بالعقم لأنه لا ينتج لهم خيرا ، ولا ينتج لهم فرحا.

وفي قوله سبحانه : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) [الآية ٧٢] استعارة ، والمراد بها ، والله أعلم ، أن الكفار عند مرور الآيات بأسماعهم يظهر في وجوههم من الإنكار لسماعها والإعراض عن تأملها ، ما لا يخفى على المخالط لهم ، والناظر إليهم. وذلك كقول القائل : عرفت في وجه فلان الشّرّ. أي استدللت منه على اعتقاد المكروه ، وإرادة فعل القبيح.

ويحتمل قوله تعالى : (الْمُنْكَرَ) هاهنا وجهين : أحدهما أن يكون المنكر ما ينكره الغير من أمرهم. والاخر أن يكون ما ينكرونه هم من الهجوم عليهم ، بتلاوة القرآن ، وصوادع البيان.

__________________

(١). في «الأساس» للزمخشري : هو أعرابي قلب ، أي محض واسط في قومه.

٣٨

سورة المؤمنون

٢٣

٣٩
٤٠