الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

وهذه استعارة ، والمراد بتوصيل القول ، والله أعلم ، إرداف بعضه ببعض ، وتكرير بعضه على أعقاب بعض ، مظاهرة للحجّة على سامعيه ، وإبعادا في منازع الاحتجاج على مخالفيه ، ليتذكّروا بعد الغفلة ، وينتبهوا من الرّقدة ؛ وذلك تشبيها بتوصيل الحبال بعضها ببعض ، عند إدلاء الدلو إلى الطّويّ البعيدة ، إلى أن يصل إلى الماء ، ويفضي إلى الرواء ، وهذا من دقيق المعاني.

وقوله تعالى : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) [الآية ٥٤].

وهذه استعارة ؛ لأنّ الحسنة والسّيئة ليستا بجسمين ، يصح دفع أحدهما بالآخر ؛ وإنّما المراد ، والله أعلم ، أنهم يختارون الأفعال الحسنة على الأفعال القبيحة ، فيكونون ، بذلك الاختيار ، كأنهم قد دفعوا السّيئات بالحسنات ، عكسا لرقابها ، وردّا على أعقابها ؛ وقد يجوز أن يكون أيضا معنى ذلك : أنهم يدفعون ضرر العقوبة بعاجلة التوبة ، لأنّ التوبة حسنة ، والعقوبة قد تسمّى سيّئة ، لأنها جزاء على السيئة ، ولأنها مضرّة وان لم تكن قبيحة.

وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [الآية ٥٨]. وهذه استعارة ، والمراد بها أهل القرية ؛ والبطر سوء احتمال النعمة ، حتى يستقلع مغارسها ، ويستنزع ملابسها ؛ وقد مضت الإشارة الى نظير ذلك ، فيما تقدّم.

وقوله سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) [الآية ٥٩].

وهذه استعارة ، والمراد هاهنا بأمّ القرى مكّة على الأغلب ؛ وقال بعضهم المراد معظمها ، والمنظور إليها منها ، لأنّ ما هو دونها جار مجرى التّبع لها ، ومثل ذلك قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٢ والشورى : ٧] ، يريد مكّة ، وإنما سمّيت مكة أمّ القرى ، لما ضمّته من بيت الله ، وحرمه ، ومهابط وحيه ، ومدارج أقدام رسله (ع) ؛ فصارت من أجل ما ذكرناه ، كأنها كبيرة القرى ، وصارت القرى بالإضافة إليها صغارا ، كصغر البنات إذا أضيفت إلى الأمهات.

وقوله تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٦٦).

وهذه استعارة ؛ والكلام وارد في وصف أحوال الاخرة ، لأنه سبحانه يقول أمام هذه الآية : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ

٢٤١

فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (٦٥) ، ثم قال تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) [الآية ٦٦] ؛ والمعنى أنهم إذا سئلوا في الاخرة عمّا أجابوا به أنبياءهم في الدنيا ، لجلجلوا (١) المقال ، وأخطئوا الجواب ، ولم يعلموا ما يقولون ، ولا عمّا يخبرون ؛ فكأنّ الأنباء التي هي الأخبار عميت عليهم ، فكانوا لا يوجّهون كلاما إلّا ضلّ عن طريق الحقّ ، ولا يخبرون خبرا إلّا كان قاصرا عن غرض الصّدق ، كالأعمى الذي لا يهتدي لقصد ، ولا يقوم على نهج ، وكأنهم حادوا عن الجواب لانسداد طرق الأنباء عليهم ؛ ولم يتساءلوا ، فيستخبر بعضهم بعضا عن ذلك ، علما منهم بقيام الحجّة عليهم ، وعموم الحيرة لجميعهم ؛ وقد يجوز أن يكون لقوله تعالى (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) وجه آخر ، هو أن يكون ذلك على معنى قول القائل : خرّبت عليّ داري ، وموّتّ عليّ إبلي. أي خربت هذه ، وموّتّ هذه ، وجاءت لفظة عليّ هاهنا لاختصاص الضرر بصاحب الدار والإبل ؛ فيكون المعنى : أن الأخبار عميت في نفوسها ، أي لم تهتد إلى صدق ، ولم تنفذ في حقّ ، وقيل عليهم لاختصاص ضرر ذلك بهم ، لأنّ الحجّة لزمتهم ، والاحتجاج قعد بهم. ومثل ذلك قوله سبحانه في هذه السورة : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الآية ٧٥] ، لأنّ ضلال افترائهم في معنى عمى أنبائهم. ومن الكنايات العجيبة عن الدعاء على قوم بعمى العيون ، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، في كلام له يخاطب بعض أصحابه : «مالكم (٢) لا سددتم لرشد ، ولا هديتم لقصد» ؛ فكأنه (ع) ، قال لهم مالكم أعمى الله عيونكم ، وقد ذكرنا هذا الكلام بتمامه ، في كتابنا الموسوم (بنهج البلاغة) ، وهو المشتمل على المختار من كلام أمير المؤمنين (ع) ، في جميع أقسامه ، ومرامي أغراضه.

وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [الآية ٧٦].

وهذه الاستعارة على القلب ، لأن

__________________

(١). من لجلج : تردّد في الكلام.

(٢). في النهج شرح الشيخ محمد عبده ج ١ ص ٢٣١ طبع مصر ما بالكم ... إلخ.

٢٤٢

المراد أنّ العصبة أولي القوة تنوء بتلك المفاتح ، أي تنهض بها نهضا متثاقلا ، لكثرة أعدادها ، وثقل اعتمادها ؛ ولكن لما كانت هي السبب في نوء تلك العصبة بها ، على التثاقل من نهضها ، كانت كأنّها هي التي تنوء بالعصبة ، أي تحوجها إلى النهوض ، على تلك الحال من المشقّة.

وقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [الآية ٨٨].

وهذه استعارة ؛ والوجه هاهنا عبارة عن ذات الشيء ، ونفسه ؛ وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) [الرحمن] ، أي ويبقى ذات ربك ؛ ومن الدليل على ذلك رفع «ذو» في قوله تعالى (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٢٧) : لأنه صفة للوجه ، الذي هو الذات ، ولو كان الوجه هاهنا بمعنى العضو المخصوص ، على ما ظنّه الجهال ، لكان وجه الكلام أن يكون : «ويبقى وجه ربك «ذي» الجلال والإكرام» ، فيكون «ذي» صفة للجملة ، لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة ؛ كما يقول القائل : «رأيت وجه الأمير ذي الطّول والإنعام» ، ولا يقول ذا لأنّ الطّول والإنعام من صفات جملته ، لا من صفات وجهه. ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) [الرحمن] ، لمّا كان الاسم غير المسمّى ، وصف سبحانه المضاف إليه ؛ ولمّا كان الوجه في الآية المتقدّمة ، هو النفس والذات ، قال تعالى (ذُو الْجَلالِ) ولم يقل «ذي الجلال والإكرام» ؛ ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو ، وقد قيل في ذلك وجه آخر ، وهو أن يراد بالوجه هاهنا ، ما قصد به من العمل الصالح ، والمتجر الرابح ، على طريق القربة وطلب الزلفة (١).

وعلى ذلك قول الشاعر :

أستغفر الله ذنبا لست محصيه

ربّ العباد إليه الوجه والعمل

أي اليه تعالى ، قصد الفعل الذي يستنزل به فضله ، ودرجات عفوه ؛ فأعلمنا سبحانه أنّ كل شيء هالك إلا وجه دينه ، الذي يوصل إليه منه ، ويستزلف عنده به ، ويجعل وسيلة إلى رضوانه ، وسببا لغفرانه.

__________________

(١). من زلف : درجة ، منزلة قربة.

٢٤٣
٢٤٤

سورة العنكبوت

٢٩

٢٤٥
٢٤٦

المبحث الأول

أهداف سورة «العنكبوت» (١)

سورة العنكبوت سورة مكّية ، نزلت بعد سورة الروم ، وآياتها ٦٩ آية. وقد نزلت سورة العنكبوت ، في الفترة الأخيرة من حياة المسلمين في مكّة ، قبل الهجرة ؛ وكانت هذه الفترة ، من أقسى الفترات ، ولذلك تعرّضت السورة لتثبيت المؤمنين على الإيمان ، وبيان أن هناك ضريبة يدفعها المؤمن ، هي الفتنة ، والامتحان بالإيذاء ، أو بالإغراء ، أو بالوعد ، أو بالوعيد.

وتناولت السورة قصص الأنبياء السابقين ، وجهادهم ، وبلاءهم ، ثمّ إهلاك الكافرين ، وانتصار المؤمنين ؛ وسمّيت سورة العنكبوت بهذا الاسم ، لتكرّر ذكر العنكبوت فيها في قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١).

وفي المصحف المطبوع بالقاهرة ، المتداول بين الناس ، نجد في عنوان السورة : سورة العنكبوت مكيّة ، إلّا من الآية ١ إلى الآية ١١ ، فمدنية.

وقد رجّحت اللجنة المشرفة على طبع المصحف الرأي القائل : بأنّ الإحدى عشرة آية الأولى مدنية ، وذلك لذكر الجهاد فيها .... وذكر المنافقين.

وعند التأمّل يترجّح لدينا ، أن السورة كلّها مكّية ؛ أما تفسير الجهاد فيها ، فمرجعه أنها واردة بصدد الجهاد ضدّ الفتنة ، أي جهاد النفس ، لتصبر ولا

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٤٧

تفتن ؛ وهذا واضح في السياق ؛ وكذلك ذكر النّفاق ، فقد جاء بصدد تصوير حالة نموذج من الناس.

ثلاثة فصول

الخط الأساسي لسورة العنكبوت ، هو الحديث عن الإيمان والفتنة ، وعن تكاليف الإيمان الحقة ، التي تكشف عن معدنه في النفوس ؛ فليس الايمان كلمة تقال باللسان ، وإنّما هو الصبر على المكاره ، والثبات في المحن.

ومع أنّ موضوع السورة ، هو تكاليف الإيمان والثبات في المحنة ، إلّا أنه يمكن أن نقسّم سورة العنكبوت إلى ثلاثة عناصر ، لهذا الموضوع ، أو ثلاثة فصول.

الفصل الأول : من أوّل السورة إلى الآية ١٣ :

يتناول هذا الفصل حقيقة الإيمان ، وسنّة الابتلاء والفتنة ، ومصير المؤمنين والكافرين ؛ ثم فرديّة التبعية ، فلا يحمل أحد عن أحد شيئا ، يوم القيامة.

(وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣).

الفصل الثاني : الآيات [١٤ ـ ٤٥] :

يتناول هذا الفصل قصص نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (ع) وإشارة إلى قبيلة عاد وثمود ؛ ويصوّر هذا القصص ، ما وجد من عقبات وفتن في طريق كلّ دعوة.

ويتحدّث عن التهوين من شأن هذه العقبات ، أمام قوة الإيمان ، والاعتماد على قدرة الله تعالى ، والمضيّ في تبليغ رسالته ، وتحمّل تبعات هذه الرسالة ، إحقاقا للحق ، وازهاقا للباطل. قال تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) [الأنبياء : ١٨].

الفصل الثالث : من الآية ٤٦ إلى آخر السورة :

يتناول هذا الفصل النهي عن مجادلة أهل الكتاب إلّا بالحسنى ؛ ويتناول وحدة الدين والعقيدة والإيمان ، واتحاد ذلك مع الدين الأخير ، الذي يجحد به الكافرون ، ويجادل فيه المشركون ؛ ويختم بالتثبيت والبشرى ، والطمأنينة للمجاهدين في الله ، المهديين إلى سبيله.

ويتخلّل السورة ، من المطلع إلى الختام ، إيقاعات قويّة عميقة ، حول معنى الإيمان وحقيقته ، تهزّ الوجدان

٢٤٨

هزّا. وتوقفه أمام تكاليف الإيمان وقفة حازمة ؛ فإمّا النهوض بها ، وإمّا النكوص عنها ، وإلّا فهو النفاق الذي يفضحه الله.

القصص في سورة العنكبوت

استغرقت الآيات [١٤ ـ ٤٥] الحديث عن قصص الأنبياء والتعليق عليه ، وبيان العظة والعبرة منه.

وبدأت بالحديث عن نوح (ع) ، فقد مكث في قومه ألف سنة ، إلّا خمسين عاما ، هي مدة الرسالة ؛ وجزء من حياته كان قبل الرسالة ، وجزء منها كان بعد الطوفان ؛ وهو عمر مديد ، ولكن نتيجته محدودة ، فلم يؤمن به إلّا قليل من قومه.

ثم ثنّى بالحديث عن إبراهيم الخليل (ع) ، صاحب الرسالة الكبرى ، إذ دعا قومه إلى عبادة الله الخالق الرزاق ، ونبذ الأوثان والأصنام ؛ والتوجّه إلى الله ، الإله الواحد :

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) [الآية ٢٤].

وفي قصة لوط (ع) ، يتبدّى تبجّح الرذيلة وسفورها ، بلا حياء ولا تحرّج ، وانحدار البشرية إلى الدرك الأسفل ، من الانحراف والشذوذ ، مع الاستهتار بالنذير (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الآية ٢٩].

وفي قصّة شعيب (ع) مع مدين ، يتبدّى الفساد ، والتمرّد على الحق والعدل ، فاستحقّوا عذاب الله : (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) (٣٧).

وتذكر الإشارة ، إلى عاد وثمود ، بالاعتزاز بالقوّة ، والبطر بالنعمة ؛ كما تذكر الإشارة إلى قارون وفرعون وهامان ، بطغيان المال ، واستبداد الحكم ، والتمرّد على أمر الله.

وفي النهاية يلقى الظالم حتفه جزاء ظلمه ؛ وقد تكرر هذا المعنى في سور سابقة ، وتأكّد هنا ، ليستقر في الأذهان ، أمام المشركين والظالمين.

قال تعالى :

(فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠).

وتعقّب السورة على هذا القصص ،

٢٤٩

بمثل ضربته ، لهوان قوى الشرك والظلم ؛ فالباطل مهما علا ، لا مستقبل له ؛ والحقّ مهما امتحن ، مستقبله هنيء مريء ؛ قال تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٤١).

وينتهي هذا القصص بهوان الشرك ، وعزّة الإيمان ، وبيان قدرة الله تعالى ، الذي يضرب الأمثال ، ليتّعظ بها العقلاء ، وليفهمها العلماء. قال تعالى :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) (٤٣).

الدرس الأخير

في سورة العنكبوت

يستغرق الدرس الأخير في السورة ، ربعا كاملا من الآية ٤٦ إلى الآية ٦١. والسورة بدأت ، بإعلان ثقل تكاليف الإيمان ، وتعرّض المؤمنين للبلاء والامتحان.

ثمّ ذكرت قصص الأنبياء وبلاءهم من عهد نوح (ع).

وفي هذا الدرس الأخير ، يبيّن القرآن الكريم ، وحدة الرسالات في الهدف ؛ فالرسالات كلّها من عهد نوح (ع) والرسل من بعده ، إلى عهد محمد (ص) ، دعوة واحدة ، من عند إله واحد ، ذات هدف واحد ، هو إصلاح العقيدة ، وتهذيب السلوك ، وردّ البشرية الضالّة إلى قوانين الله العادلة ؛ وأنّ المؤمنين بكل رسالة ، لإخوة للمؤمنين بسائر الرسالات : كلهم أمّة واحدة ، تعبد إلها واحدا ؛ وأنّ البشرية في جميع أجيالها صنفان اثنان : صنف المؤمنين وهم حزب الله ، وصنف المشاقّين وهم حزب الشيطان.

ولقد ختم الجزء العشرون في القرآن ، بآية شهيرة ، تدعو إلى تلاوة الكتاب ، وقراءة القرآن ، وإقامة الصلاة ، هي قوله تعالى :

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥).

وبدأ الجزء الحادي والعشرون ، بالحديث عن هذا الكتاب ، والعلاقة بينه وبين الكتاب السابقة ، وبأمر المسلمين ، ألّا يجادلوا أهل الكتاب إلّا بالتي هي أحسن ، لبيان حكمة مجيء

٢٥٠

الرسالة الجديدة ، والكشف عمّا بينها وبين الرسالات قبلها من صلة ، إلّا الذين ظلموا منهم ، وبدّلوا في كتبهم ، وانحرفوا إلى الشرك ؛ والشرك ظلم عظيم. ودعت الآية المؤمنين ، أن يعلنوا إيمانهم بالدعوات كلّها ، وبالكتب المنزّلة جميعها ، فهي حق من عند الله يصدّق ما معهم من القرآن والإسلام. قال تعالى :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤٦).

ثم يحذّر القرآن المشركين استعجالهم بعذاب الله ، ويهدّدهم بمجيئه بغتة ، ويصوّر لهم قربه منهم ، وإحاطة جهنّم بهم ؛ ويصف حالهم ، يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ؛ ثمّ يلتفت إلى المؤمنين الذين يتلقّون الفتنة والإيذاء في مكّة ، يحضّهم على الهجرة بدينهم إلى الله ، ليعبدوه وحده ، يلتفت إليهم في أسلوب عجيب ، يعالج كلّ هاجسة تخطر في ضمائرهم ، وكلّ معيق يقعد بهم ، ويقلّب قلوبهم بين أصابع الرحمن ، في لمسات تشهد بأن منزّل هذا القرآن هو خالق هذه القلوب ؛ فما يعرف مساربها ومداخلها الخفيّة إلا خالقها اللطيف الخبير ، الذي تكفّل برزق كلّ دابة في كلّ مكان وزمان.

وينتقل من هذا التعجّب من حال أولئك المشركين ، وهم يتخبّطون في تصوّراتهم ، فيقرّون لله سبحانه بخلق السماوات والأرض ، وتسخير الشمس والقمر ، وإنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الموات ؛ وإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وحده مخلصين له الدين. ثمّ هم بعد ذلك يشركون بالله ويكافرون بكتابه ، ويؤذون رسوله ، ويفتنون المؤمنين به. ويذكّر المشركين بنعمة الله عليهم ، بهذا الحرم الأمن الذي يعيشون فيه ، والناس من حولهم في خوف وقلق ، وهم يفترون على الله الكذب ، ويشركون به آلهة مفتراة ، ويعدهم على هذا جهنّم ، وفيها مثوى للكافرين.

وتختم السورة ، بوعد من الله سبحانه ، بهداية المجاهدين ورعايتهم ، فيقول سبحانه :

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩).

٢٥١
٢٥٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «العنكبوت» (١)

تاريخ نزولها ، ووجه تسميتها

نزلت سورة العنكبوت بعد سورة الروم ، ونزلت سورة الروم في السنة التي انتصر الفرس فيها عليهم ، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة ، فيكون نزول سورة العنكبوت في هذه السنة مثلها ، وتكون من السّور التي نزلت فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لورود اسم العنكبوت في قوله تعالى في [الآية ٤١] منها (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) وتبلغ آياتها تسعا وستين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة ، تهوين ما يلقاه المؤمنون من العذاب في سبيل دينهم ؛ وهي في ذلك تنقسم إلى قسمين : أوّلهما ، في بيان الحكمة من فتنة المؤمنين في دينهم ؛ وثانيهما ، في بيان ما يسلكونه مع من يفتنونهم في دينهم ، من المضيّ في دعوتهم ، وردّ شبههم ، ومن الهجرة عنهم إلى من لا يفتنهم في دينهم ؛ وكانت المدينة توشك أن تفتح أبوابها لهجرتهم.

وقد جاء في السورة السابقة ، أنّهم كانوا يخافون إذا آمنوا أن يتخطّفهم الناس من أرضهم ، فجاءت هذه السورة بعدها ، وفي أوّلها تهوين ما يلقاه المؤمنون من الفتنة في دينهم ، ووعدهم بالنصر على أعدائهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٥٣

الحكمة في فتنة المؤمنين

في دينهم

الآيات [١ ـ ٤٤]

قال الله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) فنهى تعالى المؤمنين ، أن يظنوا أنهم يتركون من غير أن يفتنوا في دينهم ؛ وذكر سبحانه أن تلك سنّته في كلّ من آمن قبلهم ، وأنه يفعل ذلك ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب فيه ؛ ثم هدّد الذين يفتنونهم ، بأنهم لا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه على فتنتهم ؛ وذكر ، أنّ لذلك أجلا ، يعلم من يرجو لقاءه أن لا يتخلّف عنه ؛ ثم ذكر عزوجل ، أنّ من جاهد ما يلقاه في دينه من الفتنة بالصبر عليه ، فإنّما يجاهد لنفسه ، لأنّ الذين يعملون الصالحات يجازون عليها بأحسن منها ؛ ثمّ ذكر من الفتنة في الدّين ما كان يفعله الآباء من محاولة صرف أبنائهم عن دينهم ، ووصّى الأبناء بطاعة الآباء ، إلّا في محاولة ردّهم إلى الشرك ؛ ثمّ ذكر أنّ من الناس من يؤمن بلسانه ولا يصل الإيمان إلى قلبه ، فإذا فتن في دينه لم يصبر على ما يصيبه فيه ، واختار الاحتراز عمّا يوقعه في الأذى ، فإذا جاء نصر الله ذكر للمؤمنين أنه كان معهم ، والله أعلم منه بما كان يخفيه من نفاقه ؛ ثمّ ذكر من الفتنة في الدين ، أنّ الكفّار كانوا يقولون لمن آمن منهم (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [الآية ١٢] يريدون ، بذلك ، أنه لا خطيئة في رجوعهم إلى الكفر ، وأنّه لا معاد يحاسبون فيه على ذلك ؛ وقد أجابهم سبحانه ، بإثبات أن هناك معادا يحملون فيه خطاياهم ، وخطايا من حملوهم على الكفر ، ويسألون فيه عمّا يفترون ، من إنكار المعاد والحساب.

ثمّ انتقل جلّ وعلا إلى ذكر من فتنوا قبلهم من المؤمنين ، فصبروا ، فنصرهم الله على من فتنوهم ؛ فذكر أنه أرسل نوحا (ع) إلى قومه ، فلبث فيهم ألف سنة إلّا خمسين عاما ، ثمّ أخذهم بالطوفان ، ونجّاه ومن آمن به ؛ وأنّ إبراهيم (ع) ، أمر قومه أن يعبدوا الله ويتّقوه ، وبيّن لهم فساد ما يعبدونه من الأوثان ، إلى غير هذا ممّا ذكره في دعوتهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنّ جوابهم له ، كان أن أمروا بقتله أو تحريقه ، فنجّاه الله من النار التي ألقوه فيها ، وكان في ذلك دلالة على قدرته تعالى ؛

٢٥٤

وقد سجّل عليهم به أنّهم يتّخذون من دونه أوثانا يقلّد فيها بعضهم بعضا ، ويوم القيامة يتبرّأ بعضهم من بعض ويكون مأواهم النار فلا ينجّونهم منها ؛ ثم ذكر إيمان لوط (ع) بدعوة ابراهيم (ع) ، وهجرته معه من بلاد قومه ؛ وأنه سبحانه وهب لإبراهيم (ع) إسحاق ويعقوب (ع) ، وجعل في ذريّته النبوة والكتاب ؛ ثم ذكر لوطا (ع) ، وتوبيخه قومه على ما يأتونه من الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها ، إلى غير هذا ممّا سبق في قصّته ؛ ثم ذكر شعيبا (ع) وما جرى له مع أهل مدين ؛ وذكر عادا وثمود وقارون وفرعون وهامان وما فعله بهم ، وأنه لم يظلمهم بذلك ، ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ؛ ثم ضرب مثلا لظلمهم لأنفسهم بشركهم ؛ فذكر أنهم في اتّخاذهم آلهة من دونه ، لا تنفعهم في دنياهم وأخراهم ، كالعنكبوت التي تتّخذ لها بيتا هو أوهن البيوت ؛ فما يدعونه من دونه ليس بشيء أصلا ؛ ثم ذكر أنّه يضرب لهم هذا المثل وغيره من الأمثال ، وما يعقلها إلا العالمون (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤).

ما يفعلونه في فتنتهم في دينهم

الآيات [الآية ٤٥ ـ ٦٩]

ثم قال تعالى : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)). فأمر النبي (ص) أن يتلو ما أوحي إليه من أخبار من فتنوا قبله في دينهم ، ليكون له سلوة وأسوة بهم ؛ وأن يثابر على إقامة الصلاة ومداومة ذكره ، لأنّ الصلاة تصلح من نفوسهم ، وتعطيهم قوّة على احتمال ما يفتنون به ؛ ثمّ ذكر لهم آداب المجادلة على من يحاول أن يفتنهم بها في دينهم ، فأمرهم سبحانه أن يجادلوا أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، وأن يذكروا لهم أنّهم يؤمنون بالكتب المنزّلة كلّها ، ويؤمنون بالإله الذي يؤمنون به ؛ ثمّ ذكر أنّ من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن ، كما يؤمن بتلك الكتاب ، ومن المشركين من يؤمن به أيضا ، وما يجحد به إلّا المعاندون منهم ، وذكر ما يثبت تنزيله من أمّيّة النبي (ص) ؛ ثم أورد ، من شبهاتهم عليه ، اقتراحهم أن تنزل عليه آيات أخرى ، مثل الآيات التي أنزلت على الأنبياء السابقين ؛ وردّ عليهم ، بأنه

٢٥٥

سبحانه هو الذي ينزّل تلك الآيات كما يشاء ، وليس النبي إلّا نذيرا لهم ، ولا يملك أن يقترح على الله شيئا ؛ وبأنّ في إنزال القرآن عليه ، وهو أمّيّ ، ما يكفيهم في الإيمان به ؛ ولو تأمّلوا لعلموا أنّ آياته خير من آيات العذاب التي يقترحونها ، لما فيها من الرحمة والذكرى لهم ؛ ثمّ ذكر سبحانه أنهم يستعجلونه بالعذاب بما يقترحونه من تلك الآيات ، ولو لا أنه جعل له أجلا مسمّى لجاءهم. إلى غير هذه ممّا ذكره في الردّ على استعجالهم.

ثمّ أرشدهم إلى الهجرة بدينهم ، فرارا ممّن يفتنهم ؛ فذكر لهم أن أرضه (تبارك اسمه) واسعة ، فإذا تعذّرت عبادته في أرض ، فليهاجروا إلى غيرها ، ولا يتركوا عبادته بحال من الأحوال ؛ وهوّن عليهم ذلك ، بأنّهم لا بدّلهم من مفارقة أحبابهم بالموت ، فليكن ذلك في سبيل الله ، ليجازيهم عليه عند رجوعهم إليه ، ويكافئهم على ما عملوا من صالحات ، وما صبروا عليه من فتنة وأذى ، ثمّ هوّن عليهم ذلك أيضا ، بأنّه هو المتكفّل برزق كلّ دابّة في الأرض ، وبرزقهم ؛ فلا يفوتهم شيء من رزقهم بهجرتهم. ثمّ ختم السورة ، بتهديد أولئك الذين يفتنونهم ، كما هدّدهم في أوّلها ، فذكر لهم أنّهم لا يمكنهم أن ينكروا ، أنه سبحانه هو خالق السماوات والأرض ، ومسخّر الشمس والقمر ، فلا يمكنهم أن يفلتوا من عقابه ؛ وذكر لهم أنّه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ليبتلي بذلك عباده ، فلا يصحّ أن يغترّوا بما بسط لهم من الرزق ؛ وذكر لهم أنه هو الذي ينزل الماء من السماء فيحيي به الأرض بعد موتها ، ليعلموا أنه هو الذي يرزقهم ؛ ثم ذكر لهم أنّ ما يغترّون به من هذه الحياة ، وبسطة أرزاقهم فيها ، إنّما هما لهو ولعب ، وأنّ الاخرة هي الحياة التي يعتدّ بها ، وأيّد ذلك بما يحصل لهم حينما يركبون الفلك في البحر ، فإنهم ينسون الدنيا وزخارفها ، ويتوجّهون إليه سبحانه بالدعاء وحده ؛ فإذا نجّاهم إلى البرّ ، رجعوا إلى ما كانوا عليه من حبّ الدنيا ، فأشركوا به ؛ ثم أمرهم أمر تهديد ، أن يقابلوا ما بسط لهم من الرزق بالكفر ، فسوف يعلمون ما أعدّ لهم من العذاب على كفرهم ؛ وذكر أنهم لا يمكنهم أن ينكروا أنه هو الذي أسكنهم في ذلك الحرم الأمن ، فبسط لهم من الرزق ما لم يبسطه لغيرهم ،

٢٥٦

ممّن يتخطّف من حولهم ؛ وأنكر عليهم بعد ذلك أن يؤمنوا ، بما هم فيه من الباطل ، ويكفروا بنعمته عليهم بذلك الحرم ، ثمّ أوعدهم على ذلك بما أوعدهم به ، ووعد المؤمنين ، فقال جلّ شأنه (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩).

٢٥٧
٢٥٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «العنكبوت» (١)

أقول : ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها : أنه تعالى ، لما أخبر في أول السورة السابقة ، عن فرعون أنه : (عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) [القصص : ٤] ، افتتح هذه السورة ، بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفّار ، وعذّبوهم على الإيمان ، بعذاب دون ما عذّب به قوم فرعون بني إسرائيل ، تسلية لهم ، بما وقع لمن قبلهم ، وحثّا لهم على الصبر ؛ ولذلك قال تعالى في هذه السورة : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الآية ٣]. وهذه أيضا من حكم تأخير سورة العنكبوت على (طسم).

وأيضا ، فلمّا كان في خاتمة «القصص» إشارة إلى هجرة النبي (ص) (٢) ، وفي خاتمة هذه الإشارة إشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) [الآية ٥٦] ، ناسب تتاليهما.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [القصص : ٨٥]. والمعنى : لرادّك إلى مكّة ، كما في البخاري. ٦ : ١٤٢. أي : كما خرجت منها. وبه قال ابن عبّاس ، ويحيى بن الجزّار ، وسعيد بن جبير والضّحّاك ، واختاره ابن جرير (تفسير الطبري. ٢٠ : ٨٠).

٢٥٩
٢٦٠