المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «القصص» (١)
أقول : ظهر لي بعد الفكرة : أنه سبحانه ، لما حكى في سورة «الشعراء» قول فرعون لموسى : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) [الشعراء] ، إلى قول موسى (ع) كما ورد في سورة نفسها : (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) ، ولما حكى ، سبحانه ، قول موسى لأهله ، كما ورد في سورة «النمل» : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [النّمل : ٧] ، وكان ذلك على سبيل الإشارة والإجمال ، بسط في هذه السورة ما أو جزه في السورتين ، وفصّل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما. فبدأ بشرح تربية فرعون لموسى ، وبيّن : علوّ فرعون ، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم ، خوفا عليه من الذبح ؛ وبسط القصة في تربيته ، وما وقع فيها إلى كبره ؛ إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي ، والموجب لفراره إلى مدين (٢) ؛ إلى ما وقع له مع شعيب (ع) ، وتزوّجه بابنته ، إلى أن سار بأهله ، وآنس من جانب الطور نارا ، فقال لأهله كما ورد في التنزيل : (امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [الآية ٢٩] ؛ إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربّه ،
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). مدين : مدينة قوم شعيب (ع) ، وهي تجاه تبوك ، على بحر القلزم ، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب (مراصد الاطّلاع ٣ : ١٢٤٦).
وبعثه إياه رسولا ، وما استتبع ذلك ، إلى آخر القصة.
فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا ، على الترتيب. وبذلك عرف وجه الحكمة في تقديم سورة «النمل» على هذه ، وتأخيرها عن سورة «الشعراء» ، فلله الحمد على ما ألهم.
المبحث الرابع
مكنونات سورة «القصص» (١)
١ ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) [الآية ٨].
اسم الملتقط ، قيل : طابوث (٢).
وقيل : هي امرأة فرعون.
وقيل : ابنته.
قلت أخرج ابن أبي حاتم الثالث عن أبي عبد الرحمن الحبلي (٣).
٢ ـ (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) [الآية ٩]. اسمها : آسية بنت مزاحم. أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو.
٣ ـ (أُمِّ مُوسى) [الآية ١٠] قال البغوي : «أم موسى» : يوخابذ بنت لاوي بن يعقوب. وكذا قال ابن الجوزي في «التبصرة» (٤).
وقيل : ياوخا. وقيل : يارخت (٥).
٤ ـ (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) [الآية ١١].
قال ابن عساكر : اسمها مريم (٦).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). في الإتقان ٢ : ١٤٧ «طابوس» بالسين.
(٣). أبو عبد الرحمن الحبلي ، هو من تابعي أهل مصر ، يروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره. «الأنساب» للسمعاني ٤ : ٥٠.
(٤). العبارة جاءت في «الإتقان» ٢ : ١٤٧ كما يلي : «أمّ موسى : يوحانذ بنت يصهر بن ولاوي».
(٥). العبارة في «الإتقان» : وقيل : يوخا. وقيل : اباذخت».
(٦). جاء ذلك في رواية أخرجها ابن عساكر عن أبي روّاد ، وأخرى عن أبي أمامة رضي الله عنه ، أخرجها ابن عساكر والطبراني ؛ كما في «الدر المنثور» ٥ : ١٢١.
وقيل : كلثوم (١).
٥ ـ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) [الآية ١٥].
هي منف (٢) ، من أرض مصر.
أخرجه ابن أبي حاتم (٣) عن السّدّيّ.
٦ ـ (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) [الآية ١٥].
قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة : نصف النهار.
أخرج ذلك ابن أبي حاتم.
وأخرج من وجه آخر (٤) عن ابن عبّاس قال : ما بين المغرب والعشاء.
٧ ـ (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) [الآية ١٥].
الإسرائيلي : هو السامري.
والقبطي : هو فاتون. حكاه الزمخشري (٥).
٨ ـ (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) [الآية ٢٠]. قال الضّحّاك : هو مؤمن آل فرعون.
وقال شعيب الجبائي : اسمه شمعون.
وقال ابن إسحاق : شمعان (٦).
أخرجهما ابن أبي حاتم.
قال السّهيلي : وشمعان أصحّ ما قيل فيه.
قال الدّار قطني : لا يعرف شمعان بالمعجمة ، إلّا مؤمن آل فرعون.
وفي «تاريخ الطبري» أن اسمه :
جبر (٧) ، وقال بعضهم : حبيب ؛ وقيل : حزقيل.
٩ ـ (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) [الآية ٢٣].
هما : ليّا ، وصفوريا (٨) ؛ وهي التي نكحها. أخرجه ابن أبي حاتم ، عن شعيب الجبائي. قال : وقيل : شرفا ؛
__________________
(١). انظر «الإتقان» ٢ : ١٤٧.
(٢). كذا ضبطها ياقوت الحموي في «معجم البلدان» ٥ : ٢١٣.
(٣). وابن جرير في «تفسيره» ٢ : ٢٨.
(٤). انظر «تفسير الطّبري» ٢٠ : ٢٩.
(٥). في كتابه «الكشّاف» ٣ : ١٦٠.
(٦). في «تاج العروس» ٥ : ٤٠٣ مادة : (شمع) نقلا عن شعيب الجبائي : «شمعان».
(٧). في «تفسير الطّبري» ٢٠ : ٤٠ «حبر».
(٨). كذا في الأصول ؛ وفي «تفسير الطبري» ٢٠ : ٣٩ ، ٤٠ : «صفورا».
وأبو هما شعيب (ع) عند الأكثر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس : أنه بلغه أن شعيبا (ع) ، هو الذي قصّ عليه موسى القصص.
وأخرج عن الحسن قال : يقولون شعيب ، وليس بشعيب ؛ ولكنه سيّد أهل (١) الماء يومئذ.
وأخرج عن أبي عبيدة قال : هو يثرون ، ابن أخي (٢) شعيب.
وأخرج ابن جرير (٣) عن ابن عباس : أن اسمه يثرى.
١٠ ـ (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) [الآية ٢٤].
هو ظل سمرة (٤). أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود (٥).
١١ ـ (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) (٦).
قيل : هو بحر يسمّى راسافا من وراء مصر. حكاه ابن عساكر.
١٢ ـ (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [الآية ٥٧].
قائل ذلك : الحارث بن عامر بن نوفل. أخرجه النّسائي عن ابن عبّاس.
١٣ ـ (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) [الآية ٦١].
أخرج ابن جرير عن مجاهد قال : نزلت في حمزة وعلي (٧) وأبي جهل.
١٤ ـ (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [الآية ٧٦].
أخرج الدّينوري (٨) في «المجالسة» عن خيثمة قال : قرأت في الإنجيل ، أنّ
__________________
(١). زيادة من «تفسير الطّبري» ٢٠ : ٤٠.
(٢). كذا في «تفسير الطّبري» ٢٠ : ٤٠.
(٣). ٢٠ : ٤٠.
(٤). سمرة : واحدة السّمر ، وهو شجر الطلح ، ينبت في البوادي ولا ثمر له.
(٥). «الطّبري» ٢٠ : ٣٧ عن السّدّيّ لا ابن مسعود ، وكذا في «الطّبري» ط الحلبي ٢٠ : ٥٨. ولعل ما أثبته المؤلف جاء في نسخته من «الطّبري» ؛ والله أعلم.
(٦). لفظ : (فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ) من سورة الأعراف [الآية ١٣٦]. والذي هنا في سورة القصص : (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) [الآية ٤٠].
(٧). زيادة من «تفسير ابن جرير» ٢٠ : ٦٢.
(٨). الدّينوري : هو أحمد بن مروان المالكي ، أبو بكر ، من رجال الحديث المتّهمين بوضع الحديث ، ولي قضاء أسوان ، وتوفي بالقاهرة سنة ٣٣٣ ه.
مفاتيح كنوز قارون وقر (١) ستّين بغلا ، كلّ مفتاح على قدر إصبع ، لكل مفتاح منها كنز.
١٥ ـ (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [الآية ٨٥].
قال مجاهد والضّحّاك : يعني مكّة (٢).
وقال نعيم القاري : بيت المقدس.
وقال ابن عبّاس وغيره : القيامة.
أخرجها ابن أبي حاتم (٣).
__________________
(١). الوقر : الحمل ؛ أي ما يستطيع البعير حمله.
(٢). أخرجه البخاري (٤٧٧٣) في التفسير ، عن ابن عبّاس موقوفا.
(٣). وفي «فتح الباري» ٨ : ٥١٠ : «وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة قال : كان ابن عبّاس يكتم تفسير هذه الآية ؛ وروى الطّبري من وجه آخر عن ابن عبّاس قال [قوله تعالى] : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أي : إلى الجنة ، وإسناده ضعيف ، ومن وجه آخر قال : «إلى الموت» ، وأخرجه ابن أبي حاتم وإسناده لا بأس به ؛ ومن طريق مجاهد قال : «يحييك يوم القيامة» ، ومن وجه آخر عنه : «إلى مكّة». وقال عبد الرزاق ، قال معمر : وأما الحسن والزّهري فقالا : هو يوم القيامة ؛ وروى أبو يعلى ، من طريق أبي جعفر محمد بن علي ، قال : سألت أبا سعيد عن هذه الآية ، فقال : معاده آخرته. وفي إسناده جابر الجعفيّ ، وهو ضعيف.
المبحث الخامس
لغة التنزيل في سورة «القصص» (١)
١ ـ وقال تعالى : (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) [الآية ٤].
وقوله تعالى : (يُذَبِّحُ) فعل مضاعف ، والغرض من التضعيف الاستفظاع ، وقوله تعالى : (وَيَسْتَحْيِي) ، أي : يستبقي النساء على قيد الحياة ، ولا يقتلهنّ.
أقول : والاستحياء على هذا معنى غريب ، لا نعرفه الآن ، ولم نعرفه إلا في هذه اللغة الشريفة.
٢ ـ وقال تعالى : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) [الآية ١٢].
والمراضع جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع.
وقالوا : جمع مرضع ، وهو موضع الرضاع ، أي : الثدي. والمرضع التي معها رضيع كالمرضعة ، ومثلها المطفل وهي ذات الطّفل. وعلى هذا يصحّ أن يأتي «مفاعل» جمعا لمفعل ومفعلة ، وبهذا يصحّ جمع مشكلة مشاكل ، خلافا لأهل التصحيح في جعلهم «مشاكل» من الخطأ.
٣ ـ وقال تعالى : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) [الآية ١٥].
وقوله تعالى : (فَوَكَزَهُ) ، أي دفعه بأطراف الأصابع ، وقيل : بجمع الكف.
أقول : وينبغي أن ننظر إلى الأفعال : لكز ، ولقز ، ونكز ، ووكز ؛ فكلّها تتضمن معنى الدفع ، بهيئة خاصة.
وإذا كان لنا أن نقرّب بين هذه
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
الأصوات ، وتشابه الدلالات التي جاءت في الأفعال ؛ كان لنا أيضا أن ننظر في : نسق ووسق ، ونفر وأفر ووفر.
٤ ـ وقال تعالى : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) [الآية ١٩].
أقول : جاءت «أن» المفتوحة الهمزة زائدة بعد «لما» وهي كقوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) [يوسف : ٩٦].
وإذا زيدت «أن» بعد «لمّا» فقد زيدت «إن» المكسورة الهمزة بعد «ما» النافية ، وهذا ما لم نقف على شاهد له في لغة التنزيل ، وقد استدل عليه النحاة في قول النابغة :
ما إن أتيت بشيء أنت تكرهه إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي وقد زيدت ، قبل الاسم ، في بيت لفروة بن مسيك ، أو لعمرو بن قعاس ، ونسب إلى الكميت ، وهو :
فما إن طبّنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا وقول الشاعر :
بني غدانة ما إن أنتم ذهبا |
|
ولا طريفا ولكن أنتم الخزف |
وهذه الأبيات من شواهدهم التي نجدها في عامّة كتبهم.
وتزاد «إن» المكسورة الحقيقية في مواضع أخرى ، ذكرها ابن هشام في «المغني» ، وليس من همنا في هذا الموضع استيفاؤها.
وقد عرضت لزيادة «إن» هذه ، وهي ليست موضعا في لغة التنزيل ، بسبب الخطأ الذي يعرض للمعربين في عصرنا ، فيجعلونها «أن» مفتوحة الهمزة ، وهي زائدة زيادة «أن» بعد «لما» موضع بحثنا هذا فيقولون : وما أن حضر الرئيس حتى عزفت الموسيقى.
والصحيح الفصيح : وما إن حضر ... ، بكسر الهمزة.
٥ ـ وقال تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢)).
أقول : جاءت «تلقاء» مصدرا في اللغة ليس على فعله ، وذلك لأنّه مكسور التاء ، والمصادر كلها المبدوءة بتاء تكون مفتوحة التاء ، كالتجوال والتطواف وغير هما إلا تلقاء وتبيان فإنهما مكسوران.
أما تلقاء هذه التي وردت في الآية ،
فهي ظرف مكان ، والمعنى : ولما توجّه نحو مدين ...
أقول : وليس لنا هذا الاستعمال في العربية المعاصرة ، أي : كونها ظرفا. والذي نعرفه من «تلقاء» أنها مصدر ، يستعمل نحو قولهم مثلا : واعترف من تلقاء نفسه ، أي : أنه اعترف من دون إكراه أو إجبار أو شيء آخر.
٦ ـ وقال تعالى : (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) [الآية ٢٣].
أقول : والرّعاء جمع راع ، وهو من الجموع العزيزة في عصرنا ، ذلك أنّنا لا نعرف إلا «الرّعاة» في العربية المعاصرة. ومفعول «يصدر» محذوف ، تقديره : ماشيتهم.
٧ وقال تعالى : (قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [الآية ٣٥].
والمعنى : سنقوّيك به ، ونعينك.
ويقال : شدّ الله في عضدك ؛ وضدّه : فتّ الله في عضدك. والعضد : الساعد من المرفق إلى الكتف.
أقول : وقد أفادت العربية من العضد في هذا المعنى ، فقالوا : عضد يعضد ، بمعنى أعان وأيّد.
والإفادة من أعضاء الجسم في توليد المعاني كثيرة ، فقالوا : أيّد من اليد ، وأنف من «الأنف» ، وفاه من «فوه» ، وعاين من «العين» ، وغير ذلك كثير.
٨ ـ وقال تعالى : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) [الآية ٤٧].
أقول : جاءت «لولا» أداة تحضيض ، مثل «هلّا» ، فاستحقّت الفعل بعدها.
وهذه من الأدوات التي افتقدناها في العربية المعاصرة ، على أنّ استعمالها كثير على هذا النحو في القرآن.
٩ ـ وقال تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً) [الآية ٥٧].
أي : أن الله ، جلّ وعلا ، جعل لهم من الحرم مكانا آمنا.
وجاء قوله تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وقرئ : تجبى.
أما القراءة المشهورة المثبتة ، فقد غلّب فيها التذكير ، لأن «الثمرات» وإن كانت مؤنثة فهي عامة ، تشمل أجناس النبات كلّها ، وأصناف الخير كلّها ، فضلا عن أنها مؤنث مجازي ، وأنها مفصولة عن فعلها.
١٠ ـ وقال تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) [الآية ٥٨].
وقوله تعالى : (مَعِيشَتَها) بالنصب ، والمعنى : بطرت في معيشتها.
والأصل : بطر أهلها بمعيشتهم ؛ ولما دلّت القرية على أهلها ، كما هو كثير في القرآن ، جاز ذلك.
١١ ـ وقال تعالى : (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) [الآية ٦٦].
والمراد : طمست ، وغامت ، فجهلوها.
أقول : واستعارة «العمى» للإنباء ، من الكلم المجازيّ الجميل.
١٢ ـ وقال تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [الآية ٧٦].
قالوا : ناء بالحمل ، إذا نهض به مثقلا ، وناء به الحمل إذا أثقله.
والمعنى في الآية : أنّ المفاتح تنوء بالعصبة ، أي : تميلهم من ثقلها.
أقول : والاستعمال في عصرنا على الوجه الاخر فيقال :
ناء فلان بالعبء أي : شقّ عليه وأثقله.
١٣ ـ وقال تعالى : (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الآية ٨٢].
أقول : «وي» مفصولة عن «كأنّ» ، ولكن بسبب من خط المصحف اتصلت ؛ وهي كلمة تنبّه على الخطأ وتندّم ، ومعناها أن القوم قد تنبّهوا على خطأهم في تمنّيهم.
وقد بقي شيء من هذه الأداة في المحكيات ، ففي «لغة» النساء في العراق ، تستعمل «وي» بكسر الواو في مقام التعجب والاستغراب ، فكأنها شيء مما اصطلح عليه النحويون ب «أسماء الأفعال». وهي في «لغة» الأعرابيات في الجنوب «بفتح الواو» أيضا.
المبحث السادس
المعاني اللغوية في سورة «القصص» (١)
قال تعالى : (فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) [الآية ١٠] أي : فارغا من الوحي ، إذ تخوّفت على موسى إن كادت لتبدي بالوحي.
أي : تظهره (٢).
قال تعالى : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [الآية ١١] أي : قصّي أثره.
وقال سبحانه : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً) [الآية ١٧] أي مقيما ، يقال : «لن يكون فلان في الدّار مقيما» أي : «لا يكوننّ مقيما». وقال تعالى : (تَأْجُرَنِي) [الآية ٢٧] ؛ وفي لغة العرب منهم من يقول «أجر غلامي» ف «هو مأجور» و «أجرته» ف «هو مؤجر» يريد : «أفعلته» ف «هو مفعل» ، وقال بعضهم : «آجرته» ف «هو مؤاجر» أراد «فاعلته».
وقال تعالى : (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) [الآية ٣٠] ؛ وجماعة «الشّاطئ» «الشواطئ» قرأ بعضهم «شطّ» ، والجماعة «شطوط».
وقال تعالى : (فَذانِكَ بُرْهانانِ) [الآية ٣٢] ؛ ثقّل بعضهم (٣) وهم الذين
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). نقله الأنباري في الأضداد ٢٩٨ ، ونسب في الجامع ١٣ : ٢٥٥ القول بالفراغ من الوحي ، الى الحسن وابن أبي إسحاق وابن زيد.
(٣). تثقيل النون قراءة في الطّبري ٢٠ : ٧٤ ؛ نسبت الى ابن كثير ، وأبي عمرو ؛ وكذلك في السبعة ٤٩٣ ، والتيسير ١٧١ ، والبحر ٧ : ١١٨ ، واقتصر في الجامع ١٣ : ٢٨٥ ، على ابن كثير ؛ أمّا تخفيف النون ، فلغيرهما ، كما جاء في المصادر السابقة.
قرءوا (ذلك) فأدخلوا التثقيل للتأكيد ، كما أدخلوا اللام في «ذلك».
وقال تعالى : (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [الآية ٣٤] أي : عونا فيمنعني ، ويكون في هذا الوجه : «ردأته» : أعنته. (ويصدّقني) بالجزم إذا جعلته شرطا (١) و (يُصَدِّقُنِي) (٢) إذا جعلته من صفة الردء.
وقال تعالى : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الآية ٤٦] بنصب (رَحْمَةً) على «ولكن رحمك ربّك رحمة» (٣).
وقال تعالى : (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [الآية ٦٣] لأنه من «غوى» «يغوي» مثل «رمى» «يرمي».
وقال تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) [الآية ٥] على قوله سبحانه (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) [الآية ٤] أي : فعل هذا فرعون ونحن (نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا).
وقال تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) [الآية ٧٦] أي : إنّ الذي مفاتحه. وهذا موضع لا يبتدأ فيه ب «أنّ» وقد قال تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) [الجمعة : ٨] وقوله سبحانه (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) معناه أنّ العصبة لتنوء بها وقد ورد السياق على سبيل المجاز. وفي الشعر [وهو الشاهد السابع عشر بعد المائة من مجزوء الوافر] :
تنوء بها فتثقلها |
|
عجيزتها ...... |
وليست العجيزة تنوء بها ، ولكنّها هي تنوء بالعجيزة. وقال (٤) [من الكامل وهو الشاهد الثالث والستون بعد المائتين] :
ما كنت في الحرب العوان مغمّرا |
|
إذ شبّ حرّ وقودها أجزالها |
وقال تعالى : (وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) [الآية ٨٢] المفسرون
__________________
(١). في معاني القرآن ٢ : ٣٠٦ ، نسبت قراءة الجزم الى اهل المدينة ؛ وفي الطبري ٢٠ : ٧٥ الى عامة قراء الحجاز والبصرة ؛ وفي السبعة ٤٩٤ ، وحجّة ابن خالويه ٢٥٣ ، والكشف ٢ : ١٧٣ ، والتيسير ١٧١ ، والجامع ١٣ : ٢٨٧ ، والبحر ٧ : ١١٨ ، الى غير عاصم وحمزة.
(٢). نسبت قراءة الرفع في المصادر السابقة كلّها ، عدا معاني القرآن ، إذ لم يشر الى نسبتها ، الى عاصم وحمزة.
(٣). نقله في المشكل ٢ : ٥٤٦ ، وإعراب القرآن ٢ : ٧٩٧ ، والجامع ١٣ : ٢٩٢.
(٤). هو الأعشى ميمون. ديوانه ٣.
يفسّرونها : «ألم تر أنّ الله» وقال تعالى : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [الآية ٨٢] وفي الشعر [من الخفيف وهو الشاهد الثامن والعشرون بعد المائتين] :
سالتاني الطّلاق أن رأتا مالي [م] |
|
قليلا قد جئتماني بنكر |
ويكأن من يكن له نشب يحبب [م] |
|
ومن يفتقر يعش عيش ضر |
وقال تعالى : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً) [الآية ٨٦] استثناء خارج من أوّل الكلام في معنى «لكن».
المبحث السابع
لكل سؤال جواب في سورة «القصص» (١)
إن قيل : ما الحكمة في وحي الله تعالى ، إلى أم موسى (ع) ، بإرضاعه وهي ترضعه طبعا ، سواء أأمرت بذلك أم لا؟
قلنا : أمرها بإرضاعه ليألف لبنها ، فلا يقبل ثديا غيرها ، بعد وقوعه في يد فرعون ؛ فلو لم يأمرها بإرضاعه ، لكان من المتوقّع أن تسترضع له مرضعة ، فيفوت ذلك المقصود.
فإن قيل : لم قال تعالى : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) [الآية ٧] ؛ والشرط الواحد إذا تعلق به جزاءان صدّق مع كل واحد منهما وحده ، فيؤول هذا إلى صدق قوله : فإذا خفت عليه فلا تخافي ، وأنه يشبه التناقض. قلنا : معناه فإذا خفت عليه من القتل ، فألقيه في اليمّ ، ولا تخافي عليه من الغرق ، ولا تناقض بينهما.
فإن قيل : ما الفرق بين الخوف والحزن حتى عطف أحدهما على الاخر ، في قوله تعالى : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي) [الآية ٧]؟
قلنا : الخوف غمّ يصيب الإنسان ، لأمر يتوقّعه في المستقبل ، والحزن غمّ يصيبه لأمر قد وقع ومضى.
فإن قيل : لم جعل موسى (ع) ، قتله القبطي الكافر من عمل الشيطان ، وسمّى نفسه ظالما ، واستغفر منه؟
قلنا : إنّما جعله من عمل الشيطان ، لأنّه قتله قبل أن يؤذن له في قتله ،
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
فكان ذلك ذنبا يستغفر منه مثله. قال ابن جريج : ليس لنبيّ أن يقتل ما لم يؤمر.
فإن قيل : إنّ موسى (ع) ، ما سقى لابنتي شعيب (ع) ، طلبا للأجر ، فكيف أجاب دعوة إحداهما ، لمّا قالت كما ورد في التنزيل : (إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) [الآية ٢٥]؟
قلنا : يجوز أن يكون قد أجاب دعوتها ، ودعوة أبيها لوجه الله تعالى ، على سبيل البر والمعروف ابتداء ، لا على سبيل الإجزاء ، وإن سمّته هي جزاء ؛ ويؤيّد هذا ، ما روي أنّه لما قدّم إليه الطعام امتنع ، قال : «إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع (١) الأرض ذهبا ، ولا نأخذ على المعروف أجرا» ، حتى قال له شعيب (ع) : «هذه عادتنا ، مع كلّ من ينزل بنا».
فإن قيل : لم قال له شعيب (ع) كما ورد في التنزيل : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ) [الآية ٢٧] ، ومثل هذا النكاح ، لا يصحّ لجهالة المنكوح ، والنبي (ع) لا ينكح نكاحا فاسدا ، ولا يعد به؟ قلنا : إنّما كان ذلك وعدا بنكاح معيّنة عند الواعد ، وإن كانت مجهولة عند الموعود ، ومثله جائز ، ويكون التعيين عند إنجاز الوعد ، كما وقع منه.
فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [الآية ٣٢] ؛ فجعل الجناح هنا مضموما ، وقال في سورة طه ؛ (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) [طه : ٢٢] ، فجعل الجناح هناك مضموما إليه ، والقصة واحدة؟
قلنا : المراد بالجناح المضموم هنا ، هو اليد اليمنى ، والمراد بالجناح المضموم إليه في سورة طه ، ما بين العضد إلى الإبط من اليد اليسرى ، فلا تناقض بينهما.
فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [الآية ٣٢]؟
قلنا : لمّا رهب الحيّة ، أمره الله تعالى ، أن يضمّ إليه جناحه ، ليذهب عنه الفزع ، وإنما قال تعالى : (مِنَ الرَّهْبِ) ، لأنه جعل الرهب الذي أصابه علّة وسببا ، لما أمر به من ضمّ
__________________
(١). طلاع الأرض : مثلها.
الجناح. قال مجاهد : كل من فزع من شيء ، فضمّ جناحه إليه ، ذهب عنه الفزع. وقيل حقيقة ضمّ الجناح غير مرادة ؛ بل هو مجاز ، عن تسكين الروع وتثبيت الجأش. قال أبو علي : لم يرد به الضم بين شيئين ، وإنما أمر بالعزم والجدّ في الإتيان بما طلب منه ؛ ومثله قولهم :
اشدد حيازيمك للموت فليس فيه شدّ حقيقة. وقيل في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : ولّى مدبرا من الرهب.
فإن قيل : ما الحكمة في تصديق هارون لموسى (ع) ، في قوله تعالى : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [الآية ٣٤]؟
قلنا : ليس المراد بقوله تعالى : (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) أن يقول هارون لموسى (ع) : صدقت في دعوى الرسالة ، فإنّ ذلك لا يفيده عند فرعون وقومه ، الذين كانوا لا يصدّقونه ، مع وجود تلك الآية الباهرة والمعجزات الظاهرة ، بل مراد موسى (ع) أن يلخّص حججه بلسانه ، ويبسّط القول فيها ببيانه ، ويجادل عنه بالحق ، فيكون ذلك سببا لتصديقه. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [الآية ٣٤]؟ وفضل الفصاحة ، إنما يحتاج إليه لما قلنا ، لا لقوله صدقت ، فإن سحبان وائل وباقلا في ذلك سواء.
فإن قيل : قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) [الآية ٤٤] ، أي أحكمنا إليه الوحي ، مغن عن قوله تعالى : (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [الآية ٤٤] ، أي من الحاضرين عند ذلك؟
قلنا : معناه وما كنت من الشاهدين قصّته ، مع شعيب (ع) ؛ فاختلفت القضيّتان.
فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الآية ٥٠] ، وكم رأينا من الظالمين بالكفر والكبائر ، من قد هداه الله للإسلام والتوبة؟
قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة المائدة.
فإن قيل : لم قال تعالى : (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) [الآية ٦٤] ، وإنّما يرى العذاب من كان ضالًّا ، لا مهتديا.
قلنا : جواب «لو» محذوف تقديره : ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون ،
لما اتّبعوهم ، أو لما رأوا العذاب.
فإن قيل : لم قال تعالى في آخر آية الليل : (بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) [الآية ٧١] وقال في آخر آية النهار : (بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الآية ٧٢]؟
قلنا : السّماع والإبصار المذكوران ، لا تعلّق لهما بظلمة الليل ولا بضياء النهار ، فلذلك لم يقرن الإبصار بالضياء ؛ وبيانه أن معنى الآيتين : أفلا تسمعون القرآن سماع تأمّل وتدبّر ، فتستدلّوا ، بما فيه من الحجج ، على توحيد الله تعالى؟ أفلا تبصرون ما أنتم عليه ، من الخطأ والضلالة؟
فإن قيل : ما وجه الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [الآية ٨٦]؟
قلنا : قال الفرّاء : هو استثناء منقطع ، تقديره رحمة من ربك : أي للرحمة.
المبحث الثامن
المعاني المجازية في سورة «القصص» (١)
قوله تعالى : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) [الآية ١٠].
وقد تقدّم الإيماء إلى معنى ذلك ، بذكر نظيره في السورة التي يذكر فيها إبراهيم (ع) ؛ ومعنى «فارغا» ، أي : قد خلا من صبر ، وثبات ، وتماسك ، ووقار ، لفرط الجزع ، والأسف ، وشدّة الارتماض (٢) والقلق ؛ وحسن وصف القلب بالفراغ من الأشياء التي ذكرنا ، وإن كان مملوءا بأضدادها ، لأنّ تلك الأشياء من المحمودات ، وأضدادها من المذمومات ؛ والممتلئ من الأشياء المذمومة كالفارغ ، إذا كان امتلاؤه ممّا لا فائدة فيه ، ولا عائدة له. وقوله تعالى : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [الآية ٣٢].
وهذه استعارة ، والجناح هاهنا عبارة عن اليد ؛ وقد أشرنا إلى الكلام على نظيره فيما تقدّم ، وقيل معنى ذلك ، أي : سكّن روعك ، وخفّض جأشك من الرهب الذي أصابك ، والرعب الذي داخلك ، عند انقلاب العصا في هيئة الجان ؛ ولمّا كان من شأن الخائف القلق والانزعاج والتململ والاضطراب ، صار ضمّ الجناح عبارة عن السكون بعد القلق ، والأمان بعد الغرق ؛ فأما قوله تعالى في صدر هذه الآية : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). من رمض : الرّمض : حرقة القيظ ، ارتمض لفلان أي حزن له ، الرّماضة : الحدّة وشدّة الوقع.
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) ، فيقرب من أن يكون استعارة ، لأن «اسلك» ، ان كان بمعنى أدخل ، فإن أصلها مأخوذ من إدخال السلك ، وهو الخيط المستدقّ ، في خروق الخرز المنظومة ، فهو ، إذا ، يفيد إدخال الشيء في الشيء المتضايق ، أو إدخاله على الوجه الشاقّ المستصعب ، وعلى هذا قوله تعالى : (كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (٢٠٠) [الشعراء] ، أي أدخلنا القرآن في قلوبهم ، من جهة الأسماع على كره منها ، إدخالا يشقّ ؛ وقد تقدم كلامنا على مثل هذا ؛ وكذلك قوله تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (٤٢) [المدثر] ، أي ما أدخلكم فيها على كره منكم ، ومشقّة عليكم ، وعلى هذا قول الشاعر :
وقد سلكوك في يوم عصيب أي أدخلوك وأنت كاره له ؛ فيكون معنى قوله تعالى لموسى (ع) : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) إن كنت على خوف وإشفاق عند مشاهدة ما قد راعك ، من تلك الآيات القواهر ، والأعلام البواهر.
وقوله تعالى : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) [الآية ٣٥].
وهذه استعارة ؛ والمراد بها تقويته على إنفاذ الأمر ، وتأدية الوحي بأخيه ؛ لأنّ اشتداد العضد والساعد في القول ، عبارة عن القوّة ، والجلد ، والقدرة على العمل ؛ ألا ترى إلى قول الشاعر :
أعلّمه الرّماية كلّ يوم |
|
فلما اشتدّ ساعده رماني |
ويروى ، فلما «استدّ ساعده» بالسّين ، والأوّل أقوى وأظهر ، ولأنّ اشتداد العضد بمعنى القوة ، تمكّن اليد من السطوة ، وتعينها على البسطة ؛ وهذا من عجيب الكلام.
وقوله تعالى : (قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا) [الآية ٤٨].
على قراءة أهل الكوفة ؛ وهذه استعارة ، لأنّ التظاهر الذي معناه المعاونة والمضافرة إنّما هو من صفات الأجسام ، والسّحر عرض من الأعراض ، والمراد بذلك حكاية ما قاله المشركون ، في الكلام الذي جاء به نبينا (ص) ، بعد ما جاء به موسى (ع) ، من الآيات الباهرة والأعلام الظاهرة ؛ ومعنى تظاهرا أي تعاونا من طريق الاشتباه والتماثل ، وكان الثاني مصدّقا للأوّل والمتأخّر مقوّيا للمتقدّم.
وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥١).