الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ) [الآية ٨٧] ولم يقل فيفزع ، وهو أظهر مناسبة؟

قلنا : أراد بذلك الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، لأن الفعل الماضي يدل على الثبوت والتحقّق قطعا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)) أي صاغرين أذلاء بعد البعث ، مع أن النبيّين والصّدّيقين والشهداء يأتونه عزيزين مكرمين؟

قلنا : المراد به صغار العبودية والرّق وذلّهما لا ذلّ الذنوب والمعاصي ، وذلك يعم الخلق كلهم ؛ ونظيره قوله تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣)) [مريم].

٢٠١
٢٠٢

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «النمل» (١)

قوله تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [الآية ٧] ، وهذه استعارة على القلب. والمراد بها ، والله أعلم ، إنّي رأيت نارا فآنستني ؛ فنقل فعل الإيناس إلى نفسه على معنى : وإنّي وجدت النار مؤنسة لي ، كما سبق من قولنا في تأويل قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف : ٢٨] أي وجدناه غافلا ، على بعض الأقوال.

وقريب من ذلك قوله تعالى : (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الأعراف : ٥١] ولم تغرّهم هي ، وإنما اغتروا بها هم ؛ فلما كانت سببا للغرور ، حسن أن ينسب إليها ويناط بها. وحقيقة الإيناس ، هي الإحساس بالشيء من جهة يؤنس بها ؛ وما أنست به ، فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه.

وقوله سبحانه حاكيا عن ملكة سبأ : (ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)). وهذه استعارة. والمراد بقطع الأمر ، والله أعلم ، الرجوع بعد إجالة الآراء ، ومخض الأقوال إلى رأي واحد يصحّ العزم على فعله ، والعمل عليه دون غيره ، تشبيها بالإسداء والإلحام في الثوب النسيج ، ثم القطع له بعد الفراغ منه. فكأنها أجالت الرأي عند ورود ما ورد عليها من دعاء سليمان (ع) لها إلى الإيمان به ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٣

والاتباع له ، فميّلت (١) بين الامتناع والإجابة ، والمخاشنة والملاينة. فلما قوي في نفسها أمر الملاطفة عزمت على فعله ، فحسن أن يعبّر بقطع الأمر ، لما أشرنا إليه.

وعلى هذا قول الرجل لصاحبه : لا أقطع أمرا دونك. أي لا أقرر العزم على شيء حتّى أفاوضك فيه ، وأوافقك عليه. وقد يجوز أن يكون ذلك كناية عن الاستعجال بفعل الأمر ، تشبيها بسرعة قطع الشيء المستدق كالحبل وغيره. ومنه قولهم : صرم الأمر. أي فرغ من فعله بسرعة. والصّريمة من ذلك. وفصل الأمر أيضا قريب منه.

وقوله سبحانه : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [الآية ٤٠].

وهذه استعارة : لأن المراد بارتداد الطّرف هاهنا التقاء الجفنين بعد افتراقهما. وذلك أبلغ ما يوصف به في السرعة. وليس هناك على الحقيقة شيء ذهب عنه ، ثمّ رجع إليه. ولكن جفن العين لمّا كان ينفتح وينطبق ، أقام الانفتاح مقام الخروج ، والانطباق مقام الرجوع. وقيل : في ذلك وجه آخر ، وهو أنّ في مجرى عادة الناس ، أن يقول القائل لغيره ، إذا كان على انتظار أمر يرد عليه من جهته : أنا ممدود الطرف إليك ، وشاخص البصر نحوك. فإذا كان امتداد الطرف بمعنى الانتظار مستعملا ، جاز أن يجعل ارتداده عبارة عن زوال الانتظار. فكأنه قال : أنا آتيك به قبل أن تتكلّف أمر انتظار ، وتعدّ الأوقات.

والقول الأول أولى بالاعتماد ، وأخلق بالصواب.

وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) (٦٦) وهذه استعارة. لأن العمى هنا ليس يراد به فقد الجارحة المخصوصة ، وإنّما يراد به التعامي عن الحق ، والذهاب صفحا عن النظر والفكر ، إمّا قصدا وتعمّدا ، أو جهلا وعمّى.

وإنّما أجري الجهل مجرى العمى في هذا المعنى ، لأن كل واحد منهما يمنع بوجوده من إدراك الشيء على ما هو به. إذ الجهل مضادّ للعلم والمعرفة ، والعمى مناف للنظر والرؤية. وإنّما قال

__________________

(١). ميّلت : أي شكّت ، انظر القاموس المحيط ، مادة ميل.

٢٠٤

سبحانه : (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ولم يقل : «عنها» ، لأن المراد أنهم يشكّون فيها ، ويمترون في صحّتها ، فهم في عمّى منها : ولا يصلح أن يكون ، في هذا الموضع ، «عنها» لأنه ليس المراد ذكر عماهم عن النظر إليها ، وإنما القصد ذكر عماهم بالشك فيها. وهذا من لطائف المعاني.

وقوله سبحانه : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢) وهذه استعارة : لأن حقيقة الرّدف هي حمل الإنسان غيره مما يلي ظهره على مركوب.

فالمراد بقوله سبحانه : (رَدِفَ لَكُمْ) هاهنا ، والله أعلم ، أي عسى أن يكون العذاب الذي تتوقعونه قرب منكم ، وهو في آثاركم ولا حق بكم.

وقد قيل أيضا إن المراد ب «ردف لكم» هو : ردفكم. فصار العذاب في الالتصاق بكم كالمرادف لكم. والمعنى واحد.

وقوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (٧٦) وهذه استعارة. لأن القصص كلام مخصوص ، ولا يوصف به إلا الحيّ الناطق المميّز. ولكن القرآن لمّا تضمّن نبأ الأوّلين ، ومصادر أمور الآخرين ؛ كان كأنّه يقصّ على من آمن به عند تلاوته له ، قصص من تقدّمه.

٢٠٥
٢٠٦

سورة القصص

٢٨

٢٠٧
٢٠٨

المبحث الأول

أهداف سورة «القصص» (١)

سورة القصص سورة مكّيّة ، وعدد آياتها ٨٨. نزلت بعد سورة النّمل ، وكان نزولها في الفترة المكّيّة الأخيرة ، فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.

وقد سمّيت بسورة القصص ، لاشتمالها على القصص الذي حكاه موسى (ع) لنبي الله شعيب (ع) في قوله سبحانه :

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥).

قصة موسى

تستغرق قصة موسى (ع) ، حيّزا كبيرا من سورة القصص ، فمن بداية السورة إلى الآية ٤٨ ، نجد حديثا مستفيضا عنه.

وفي الآيات [٧٥ ـ ٨٢] نجد حديثا عن قارون ، أي أنّ معظم سورة القصص ، يتناول قصة موسى (ع) ، ويتناول قصة قارون. والحكمة في ذلك ، أنّ هذه السورة نزلت في مكّة ، في مرحلة قاسية ، كان المسلمون فيها قلّة مستضعفة ، والمشركون أصحاب الحول والطّول والجاه والسلطان ؛ فنزلت هذه السورة تضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم ؛ وتقرّر أنّ هناك قوة واحدة في هذا الوجود ، هي قوة الله سبحانه ؛ وأن هناك قيمة واحدة في هذا الكون ، هي قيمة الإيمان ؛ فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٠٩

ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ، ولو ساندته القوى جميعا.

ويقوم كيان سورة القصص على قصّة موسى (ع) وفرعون ؛ وتعرض السورة ، من خلال هذه القصة ، قوّة فرعون الطاغية المتجبّر اليقظ الحذر ، وفي مواجهتها موسى طفلا رضيعا ، لا حول له ولا قوّة ، ولا ملجأ له ولا وقاية.

وقد علا فرعون في الأرض ، واتّخذ أهلها شيعا ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبّح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، وهو على حذر منهم ، قابض على أعناقهم. لكنّ قوة فرعون وجبروته وحذره ويقظته ، لا تغني عنه شيئا ، بل لا تمكّن له من موسى الطفل الصغير المجرّد من كلّ قوّة وحيلة. وهو في حراسة القوّة الحقيقية الوحيدة ، ترعاه عين العناية ، وتدفع عنه السوء ، وتعمي عنه العيون ، وتتحدى به فرعون وجنده ، تحدّيا سافرا ، فتدفع به إلى حجره ، وتدخل به عليه عرينه ، بل تقتحم به عليه قلب امرأته ، وهو مكتوف اليدين إزاءه ، مكفوف الأذى عنه ، يصنع بنفسه لنفسه ما يحذره ويخشاه.

* * *

لقد طمعت آسية (ع) ، أن يكون موسى (ع) وليدا لها ، تتبنّاه مع زوجها فرعون ، فقالت لفرعون كما ورد في التنزيل :

(قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩).

وهكذا دبّر الله ، سبحانه ، أن يتربّى موسى (ع) في بيت فرعون ، وأن يؤتى الحذر من مكمنه ؛ ولمّا حرّم الله تعالى المراضع على موسى ، جاءت أمه كمرضع له ، وأرضعته في بيت فرعون ، وصار فرعون يجري عليها كلّ يوم دينارا من الذهب ، وفي الحديث يقول النبي (ص) : «مثل المؤمن كأمّ موسى ترضع ولدها ، وتأخذ أجرتها» (١).

موسى في سنّ الرجولة

بلغ موسى (ع) أشدّه ، واستكمل نيّفا

__________________

(١). أي : المؤمن يعبد الله ، فيستفيد من العبادة نظافة القلب ، وثقة النفس ، وثبات اليقين ، وهدوء البال ، وصحة الجسم والروح. ثم ينال ثواب العبادة ، في جنّة عرضها السماوات والأرض ، يوم القيامة. وبذلك ينال أجره مضاعفا : مرّة في الدنيا ، ومرّة في الاخرة.

٢١٠

وثلاثين عاما ، وقد صنعه الله سبحانه على عينه ، فصار يتأمّل في هذا الكون ، ويبتعد عن حاشية فرعون ؛ ودخل العاصمة في فترة الظهيرة ، فرأى قبطيّا يعمل طبّاخا في قصر فرعون ، يتشاجر مع إسرائيليّ (١) فاستغاث به الإسرائيلي ، فضرب موسى القبطيّ بجمع يده ، فوقع جثّة هامدة ؛ وندم موسى على ذلك ، واستغفر الله وتاب إليه.

وتربّص قوم فرعون بموسى (ع) ليقتلوه ، فانتدبت يد القدرة واحدا منهم ، يكتم إيمانه عنهم ، وجاء لموسى ، وقال له كما ورد في التنزيل :

(إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (٢٠).

خرج موسى (ع) هاربا ، مهاجرا ، متّجها إلى أرض مدين ، وحيدا ، فريدا ، فآواه الله ورعاه ؛ وتعرّف هناك على نبي الله شعيب (ع) وتزوّج بابنته ، ومكث هناك عشر سنين ؛ ثمّ عاوده الحنين إلى مصر ، فجاء إليها عبر سيناء ، وعند الشجرة المباركة ، ناداه لله أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ، وامتنّ الله سبحانه عليه بالرسالة ، وأيّده بالمعجزات.

موسى مع فرعون

عاد موسى إلى فرعون مرّة أخرى ، يدعوه إلى الإيمان بالله ويقدّم له الأدلّة العقلية ، والمعجزات الظاهرة. ولكنّ فرعون طغى وتجبّر ، وكذّب ، وعصى ، فأهلكه الله ، وأخذه نكال الاخرة والأولى ، إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى.

* * *

الحلقة الجديدة في القصة

عنيت سورة القصص ، بإبراز حلقة ميلاد موسى (ع) وتربيته في بيت فرعون ؛ وهي حلقة جديدة في القصّة ، تكشف عن تحدّي القدرة الإلهية للطغيان والظلم ، وفيها يتجلّى عجز قوّة فرعون وحيلته وحذره ، عن دفع القدر المحتوم ، والقضاء النافذ.

لقد ولد موسى (ع) في ظروف قاسية في ظاهرها ، فصاحبته رعاية الله وعنايته ، في رضاعه وفي نشأته وفتوّته ،

__________________

(١). نسبة إلى نبي إسرائيل في زمن موسى (ع).

٢١١

وصنعه الله على عينه وهيّأه للرسالة ؛ وإذا أراد الله أمرا هيّأ له الأسباب ، ثمّ قال له : كن فيكون.

قارون

ذكرت سورة القصص ، قصة موسى (ع) في بدايتها ، وقصة قارون في نهايتها ، والهدف واحد : فقصة فرعون تمثّل طغيان الملك ، وقصة قارون تمثّل طغيان المال.

* * *

كان قارون من قوم موسى (ع) ، وكان غنيّا ذا قدرة ومعرفة ، وأوتي من المال ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة من الرجال الأقوياء ، وخرج على قومه في زينته وأبّهته ، ليكسر قلوب الفقراء ؛ ونصحه قومه بالاعتدال ، وإخراج الزكاة ، والإحسان إلى الناس ، والابتعاد عن الفساد.

فزادته النصيحة تيها وعلوّا ، وخرج يباهي النّاس بماله وكنوزه ، ثمّ تدخّلت يد القدرة الإلهية ، فخسفت به وبداره الأرض ، ولم يغن عنه ماله ولا علمه.

وهكذا تكون عاقبة الظالمين. وكما غرق فرعون في البحر ، هلك قارون خسفا في الأرض ، ولا تزال بحيرة قارون ، تذكّر الناس بنهاية الظالمين ، قال تعالى :

(وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) [العنكبوت].

أهداف السورة

تهدف سورة القصص ، إلى إثبات قدرة الله تعالى ، ورعايته للمؤمنين ؛ فهو ، سبحانه ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، المتفرّد بالحكم والقضاء ، قد آزر موسى وحيدا ، فريدا ، طريدا ، ونجّاه من بطش فرعون ، وأغرق فرعون وجنوده ، كما أهلك قارون وقومه.

وبين القصّتين نجد الآيات [٤٤ ـ ٧٥] تعقّب على قصة موسى (ع) ، وتبيّن أين يكون الأمن ، وأين تكون المخافة. وتجول مع المشركين ، الذين يواجهون دعوة الإسلام بالشرك والإنكار والمعاذير ، تجول معهم

٢١٢

جولات شتّى في مشاهد الكون ، وفي مشهد الحشر ، وفيما هم فيه من الأمر ، بعد أن تعرض عليهم دلائل الصدق فيم جاءهم به رسولهم (ص) ، وكيف يتلقّاه فريق من أهل الكتاب بالإيمان واليقين ، بينما هم يتلقّونه بالكفران والجحود ، وهو رحمة لهم من العذاب ، لو أنهم كانوا يتذكّرون.

ختام السورة

في ختام السورة ، نجد الآيات [٨٥ ـ ٨٨] ، تعد الرسول (ص) بالرجوع إلى مكة ، فاتحا ، منتصرا ، ينشر الهدى ، ويقيم الحق والعدل ؛ ومن العجيب : أنّ هذا الوعد بالنصر ، جاءه وهو يخرج من بلده ، يطارده قومه ، مهاجرا إلى المدينة ، ولمّ يبلغها بعد ؛ فقد كان بالجحفة قريبا من مكّة ، قريبا من الخطر ، يتعلّق قلبه وبصره ببلده الذي يحبّه ، ويقول عند فراقه مخاطبا مكّة : «والله إنّك لمن أحبّ البلاد إليّ ، ومن أحبّ البلاد إلى الله ، ولو لا أنّ قومك أخرجوني منك ما خرجت».

ويعده الله بالرجوع إلى مكة ، فيقول تعالى :

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) [الآية ٨٥].

ويبيّن سبحانه ، أنّ كل ما دون الحق فهو عرضة للفناء والزوال ، وأنّ زمام الحكم بيده تعالى. وتختم السورة بهذه الآية ، إثباتا للوحدانية ، ولجلال القدرة الإلهية :

(وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨).

٢١٣
٢١٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «القصص» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة القصص بعد سورة النمل ، وقد نزلت سورة النمل فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة القصص في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لأنه جاء في قوله تعالى في الآية [٢٥] منها : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) وتبلغ آياتها ثماني وثمانين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : التنويه بشأن القرآن أيضا ، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة ، وقد فصّل في أولها ما أجمل في السورة السابقة من قصة موسى (ع) ، وجاء آخرها في الاحتجاج بها على أن القرآن من عند الله ، وفي دفع ما عندهم من شبه عليه.

التنويه بشأن القرآن

الآيات [١ ـ ٤٢]

قال الله تعالى (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) (٢) فنوّه بشأن القرآن وشأن ما يتلى فيه من هذه القصة ؛ ثمّ ذكر أنّ فرعون علا في الأرض ، واستضعف بني إسرائيل ، يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم ؛ وأنه تعالى أراد أن يمنّ عليهم ، ويجعل منهم أنبياء

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٥

وملوكا ، ويري فرعون وقومه ما كانوا يخافونه منهم ، فأظهر فيهم موسى (ع) ، وأوحى إلى أمّه أن ترضعه ، وأمرها ، إذا خافت عليه من الذبح ، أن تضعه في تابوت ، وتلقيه في اليمّ ، وطمأنها بأنه سيحفظه ، ويردّه إليها لتقوم برضاعه ؛ فلما ألقته في اليمّ ، سار به إلى أن التقطه آل فرعون ، ففرحت به امرأته ومنعتهم من قتله ، وأرادت أن تربّيه ، عسى أن ينفعهم أو يتّخذوه ولدا ؛ ثم ذكر سبحانه أنّ أمّ موسى حزنت عليه ، وأرسلت أخته وراءه ، فرأت عن بعد ما فعلوه به ، وأنه لم يقبل الرّضاع من المراضع. فتقدّمت أخته لتدلّهم على مرضع تكفله وتنصح له ، فدلّتهم على أمّه ، فردّ إليها لتقرّ عينها به ، ولتعلم أنّ وعد الله حق. ثم ذكر سبحانه أنه لما بلغ أشدّه آتاه حكمة وعلما ، وأنّه دخل المدينة يوما فوجد رجلا من قوم فرعون يعتدي على رجل من بني إسرائيل ، فاستغاثه الإسرائيليّ على عدوّه ، فوكزه فقضى عليه. ولم يكن موسى يقصد قتله لكنه وقع خطأ منه ، فندم عليه ، وطلب من الله أن يغفر له.

ثم ذكر سبحانه أن موسى (ع) أصبح في المدينة خائفا أن يظهر أنه القاتل ، فإذا الإسرائيلي الذي استغاثه بالأمس يستغيثه على رجل آخر من قوم فرعون يعتدي عليه ، فلما أراد أن يبطش به ، قال له ، كما ورد في التنزيل (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) (١٩) ؛ ثمّ ذكرت السورة أنّ رجلا جاء من أقصى المدينة يسعى ، فأخبر موسى بأن القوم يأتمرون به ليقتلوه ، وأمره أن يخرج من المدينة قبل أن يقبضوا عليه.

فخرج موسى من المدينة ، وتوجّه تلقاء مدين ، إلى أن ورد ماءها ، فوجد عليه ناسا يسقون أغنامهم ، ووجد من دونهم امرأتين تذودان أغنامهما ، فسألهما عن أمرهما ، فأخبرتاه بأنهما لا يسقيان حتى يصدر الرّعاء لضعفهما ، وأنّ أباهما شيخ كبير لا يقوى على رعي الغنم وسقيها ، فسقى لهما ، ثمّ ذهب إلى ظلّ شجرة ، ودعا الله أن يرزقه خيرا من عنده ؛ ثم ذكر أنّ إحداهما جاءته بعد أن رجعتا بأغنامهما إلى أبيهما ، تمشي على استحياء ، فأخبرته بأنّ أباها يدعوه ليجزيه على ما فعله معهما ، فذهب إليه ، وقصّ عليه ما حصل منه في مدينة فرعون ، فقال له ، كما ورد في التنزيل : (لا تَخَفْ

٢١٦

نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢٥) ؛ ثم ذكر تعالى ، أنّ إحدى ابنتيه طلبت منه أن يستأجره ، لقوّته وأمانته ، فأخبره بأنه يريد أن ينكحه إحدى ابنتيه ، على أن يعمل له ثماني سنين ، فإن أتمّها عشرا كان فضلا منه ، فرضي موسى (ع) على أنه إذا قضى أحد الأجلين ، لم يكن له أن يعتدي عليه بطلب الزيادة ؛ ثم ذكر سبحانه ، أن موسى (ع) لما قضى الأجل ، وسار بأهله إلى مصر ، آنس نارا بجانب الطور حينما وصل إليه ، فأمر أهله أن يمكثوا ليذهب إليها ؛ ثم ذكر أنه حين أتاها ناداه ربّه وأعطاه آيتين ليذهب بهما إلى فرعون وقومه ، فذكر له موسى (ع) أنه قتل منهم نفسا ، ويخاف أن يقتلوه بها ، وطلب منه أن يرسل معه أخاه هارون ، لأنه أفصح منه لسانا ، فأرسل أخاه هارون معه ، ووعده بالغلبة عليهم ؛ فلمّا جاءهم بآياته ، زعموا أنها سحر مفترى ، وأنهم لم يسمعوا ما يدعو إليه في آبائهم الأوّلين ؛ فذكر لهم أنّ ربّه أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ، ومن تكون له عاقبة الدنيا ، فناداهم فرعون أنه لا يعلم لهم إلها غيره ، وأمر هامان أن يوقد له على الطين ، ويبني له صرحا لعلّه يطّلع إلى إله موسى ، ليبيّن لهم ـ في زعمه ـ كذبه في دعواه أن له إلها غيره ؛ واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق ، وظنّوا أنّهم لا يرجعون إليه تعالى ؛ فأخذهم ، فأغرقهم في اليمّ ، وجعلهم أئمّة يدعون إلى النار ؛ ويوم القيامة لا ينصرون : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢).

إثبات تنزيل القرآن

الآيات [٤٣ ـ ٨٨]

ثمّ قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٣) فذكر ، سبحانه ، أنه آتى موسى التوراة ، من بعد أن أهلك القرون الأولى ، من قوم فرعون وغير هم ، وأن النبي (ص) لم يكن حاضرا ، حينما ألقى إلى موسى وحي التوراة بالجانب الغربي من الطّور ، وأنه لم يكن ثاويا في أهل مدين ، حينما كان فيها موسى ، وأنه لم يكن بجانب الطور إذ نودي موسى به ؛ ولكنّه سبحانه ، هو الذي أوحى إليه بما لم يشاهده من ذلك كلّه ، لينذر به قومه الذين لم يأتهم نذير من قبله ، حتى لا

٢١٧

يكون لهم عذر ، إذا أصابتهم مصيبة ، بما قدّمته أيديهم.

ثم ذكر تعالى ، أنّهم لمّا جاءهم القرآن بذلك آية لهم ، طلبوا أن يؤتى النبي (ص) مثل آيات موسى (ع) ؛ وردّ عليهم ، بأنّ أسلافهم كفروا بما أوتي موسى (ع) منها ، وزعموا أنّه ساحر هو وأخوه هارون (ع) ، وأمرهم بأن يأتوا بكتاب أهدى من التوراة والقرآن ، ليتّبعه ويهدي به ، فإذا لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا فهم قوم يتّبعون أهواءهم ، ومن يتّبع هواه لا ترجى هدايته ؛ ثم ذكر سبحانه أن الذين أوتوا الكتاب من قبله ، يؤمنون به ، لأنّه يوافق ما كانوا عليه من الإيمان من قبله. ووعدهم بأن يؤتيهم أجرهم مرتين ، على إيمانهم السابق واللاحق ؛ وذكر تعالى أن الرسول (ص) لا يمكنه أن يهدي من أحبّ من قومه ، لأن الهداية بيده سبحانه ، وحده.

ثم ذكر لهم سبحانه شبهة ثانية : أنهم إن اتبعوا ما نزّل عليه من الهدى ، يتخطّفهم الناس من أرضهم ، وردّ عليهم بأنه لا خوف عليهم من ذلك ، لأنه مكّن لهم في حرم يأمن فيه الخائف ، يجبى إليه ثمرات كلّ شيء ، وبأن عدم إيمانهم ، هو الذي يخاف عليهم منه ، لأنه يؤدّي إلى إهلاكه لهم ، كما أهلك القرى التي بطرت معيشتها قبلهم ، وبأنهم إذا فاتهم بإيمانهم شيء من الدنيا ، فما عند الله خير وأبقى منه ؛ لأنه لا يمكن أن يكون من وعده وعدا حسنا في الاخرة ، فهو لاقيه كمن يمتّعه متاع الدنيا ، ثم يحضره يوم القيامة فيناديهم (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) [الآية ٦٢]. ويأمرهم بأن يدعوهم فلا يستجيبون لهم ، ثم يناديهم : (ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [الآية ٦٥] ، فيعيون بالكلام ولا ينطقون ؛ فأمّا من تاب من الكفر ، وعمل صالحا ، فإنه يكون من المفلحين. ثم ذكر جلّ وعلا أنه يفعل ذلك بقدرته واختياره ؛ فيثيب من يشاء ، ويعذّب من يشاء ، وليس لهم اختيار مع اختياره ؛ وأنه يعلم ما تكنّه صدورهم ، وما يعلنونه ، فيحاسبهم عليه حسابا عادلا ؛ إلى غير هذا ممّا ذكره من آثار قدرته وعظمته ورحمته ، ثم عاد السّياق إلى ما ناداهم به تعالى ، أوّلا : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ؛ وذكر سبحانه ، أنه يحضر من كلّ أمة شهيدا عليهم من الرسل ، الذين بلّغوهم رسالاتهم ، وأنه يأمرهم أن يأتوا

٢١٨

ببرهانهم على أنّ الشّركاء آلهة ، وأنهم يعلمون حينئذ ، أن الحق لله فلا يحاولون شيئا.

ثم أراد أن يهوّن عليهم ما يخافون عليه من دنياهم ، إذا آمنوا به ؛ فذكر لهم أن قارون كان من قوم موسى (ع) ، فبغى عليهم ، وأنه جلّ وعلا آتاه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بها العصبة أولو القوة ، وأنّ قومه نهوه أن يفرح بذلك ، ويغترّ به ؛ وأنّ قارون ذكر لهم ، أنه أوتيه على علم عنده ، ولا فضل لأحد عليه ، إلى غير هذا ممّا دار بينه وبينهم ، ثم ذكر أنه خسف به وبداره الأرض ، فلم يغن عنه أحد شيئا ، وذهب ما أوتيه في الدنيا ، وكأن لم يكن ؛ ثم عظّم شأن الاخرة ، وذكر سبحانه أنه يجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا ؛ وأنّه ، جلّت قدرته ، يحاسبهم فيها على الحسنة بخير منها ، وعلى السيّئة بمثلها.

ثم ختم السورة بتبشير النبي (ص) ، وأمره بالصبر على تكذيبهم بالقرآن ؛ فذكر له أنه هو الذي فرض عليه أحكامه ، وأنه سيردّه إلى معاد ينصره فيه عليهم ، وهو أعلم بمن جاء بالهدى ، ومن هو في ضلال ، فيجازيهم على وفق علمه ؛ ثم ذكر له أنه ما كان يرجو أن ينزّل عليه القرآن ، ولكنّ رحمته هي التي آثرته به ، فيجب أن يشكره عليه ، بعدم التأثّر بما يقترحه عليه المشركون من الآيات الأخرى : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨).

٢١٩
٢٢٠