الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «النمل» (١)

أقول : وجه اتصالها بما قبلها ، أنها كالتتمّة لها ، في ذكر بقية القرون ، فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود (ع). وبسط فيها قصة لوط (ع) أبسط ممّا هي في «الشعراء» (٢).

وقد روينا عن ابن عباس ، وجابر بن زيد ، في ترتيب السور : أن «الشعراء» أنزلت ثم «طه» ، ثم «القصص» ، ولذلك كان ترتيبها في المصحف هكذا.

وأيضا فقد وقع فيها : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [الآية ٧] إلى آخره. وذلك تفصيل قوله تعالى في الشعراء : (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١) [الشعراء].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). قصة داود وسليمان (ع) في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) [الآية ١٥] الى (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤) وقصة لوط (ع) في قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) [الآية ٥٤] ، الى (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨).

وقول المؤلف : إن قصة لوط هنا أبسط منها في الشعراء مخالف للواقع ، فهي في الشعراء أطول ، ولكنها ذكرت في النمل مع بيان أقصى ما وصلوا إليه من الانحلال الخلقي والانتكاس العقلي ؛ إذ عدّوا طهارة لوط من الشذوذ الجنسيّ جريمة يستحق عليها النفي من البلاد. ولم يرد هذا التعليل في الشعراء. فلعلّ البسط في المعاني لا في المقدار.

١٨١
١٨٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «النمل» (١)

١ ـ (وادِ النَّمْلِ) [الآية ١٨].

قال قتادة : ذكر لنا أنه واد بأرض الشام (٢). أخرجه ابن أبي حاتم.

٢ ـ (قالَتْ نَمْلَةٌ) [الآية ١٨].

قال السّهيلي : اسمها حرميا. وقيل : طاخية حكاه الزمخشري.

وقال صاحب «القاموس» : اسمها عيجلوف ؛ بالجيم.

قال ابن عسكر : حكي أن قتادة سئل عن نملة سليمان أذكر هي أم أنثى؟ فأفحم! وكان أبو حنيفة حاضرا فقال : أنثى ، لقوله تعالى : (قالَتْ) بالتاء (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وادي النمل : الذي خاطب سليمان (ع) النمل فيه ، قيل : هو بين جيرين وعسقلان ، كما في «معجم البلدان» ٥ : ١٩٧.

(٣). ونقل هذه القصة الزمخشري في «الكشاف» ٣ : ١٣٧ ، وعلق عليها ابن المنير السّكندري في كتابه «الانتصاف من الكشّاف» قائلا : «لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة أن يثبت ذلك عنه ؛ وذلك أن النملة كالحمامة والشاة ، تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس ، يقال نملة ذكر ، ونملة أنثى ، كما يقولون : حمامة ذكر وحمامة أنثى ، وشاة ذكر ، وشاة أنثى. فلفظها مؤنث ومعناه محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر ، بل هذا الفصيح المستعمل. ألا ترى الى قوله عليه الصلاة والسلام ، «لا تضحي بعوراء ولا عجفاء ولا عمياء» كيف أخرج هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني الإناث من الأنعام خاصة ، فحينئذ قوله تعالى : (قالَتْ نَمْلَةٌ) روعي فيه تأنيث اللفظ. وأما المعنى فيحتمل على حد سواء ، إنما أطلت في هذا وإن كان لا يتمشّى عليه حكم ، لأنه نسبه إلى الامام أبي حنيفة على بصيرته باللغة. ثم جعل هذا الجواب معجبا لنعمان ـ أبي حنيفة ـ على غزارة علمة وتبصره بالمنقولات. ثم قرر الكلام على ما هو عليه مصونا له ، فيا لله العجب العجاب ؛ والله الموفق للصواب».

١٨٣

٣ ـ (وَعَلى والِدَيَ) [الآية ١٩].

هما : داود ، وأوريا ؛ ذكره الكرماني في «عجائبه».

٤ ـ (لا أَرَى الْهُدْهُدَ) [الآية ٢٠].

أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : اسم هدهد سليمان عنبر.

٥ ـ (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) [الآية ٢٣].

أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هي بلقيس بنت شراحيل.

وأخرج مثله عن قتادة.

وأخرج عن زهير بن محمد قال : هي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان ، وأمّها فارعة ، الجنية.

وأخرج عن ابن جريح قال : بلقيس بنت ذي سرح ، وأمها بلقية (١).

وقال ابن عسكر :

قيل : اسم أبيها اليشرح ؛ وقيل : إيلي شرخ ؛ وقيل : أمها بلمقة ؛ وقيل : يلمغة ؛ وقيل : يلمعة ؛ وقيل : رواحة.

٦ ـ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي) [الآية ٣٢].

أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة : أنّ أهل مشورتها ، كانوا ثلاث مائة واثني عشر رجلا.

٧ ـ (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) [الآية ٣٦].

__________________

(١). في «الدر المنثور» ٥ : ١٠٥ : «بلقته» وعن ابن عباس قال ، سئل رسول الله (ص) من سبأ ، أرجل هو ، أم امرأة ، أم أرض؟ فقال رسول الله (ص) : بل رجل ولد عشرة ، سكن منهم اليمن ستة ، والشام أربعة : فاليمانيون : مذحج ، وكندة ، والأنمار ، والأزد ، والأشريون ، وحمير ؛ وأما الشاميون : فلخم وجذام ، وعاملة ، وغسان.

وكانت بلقيس من أحسن نساء العالمين ، وقال ابن الكلبي : كان أبوها من عظماء الملوك ، وولده ملوك اليمن ؛ وتسمى بلقيس بلقمة ، ويقال : إن مؤخّر قدمها كان يشبه حافر الدابة ، لذلك اتخذ سليمان عليه‌السلام الصرح الممدد ، وكان بيتا من زجاج ، ويخيّل للرائي أنه يضطرب ، فلما رأته كشفت عن ساقيها فلم ير غير شعر خفيف ، ولذلك أمر بإحضار عرشها ليختبر عقلها ثم أسلمت ؛ وعزم سليمان على تزوّجها ، فأمر الشياطين فاتخذوا الحمام والنورة ، وهو أول من اتخذ ذلك ؛ ثم تزوجها ، وأرادت منه ردها إلى ملكها ، ففعل ذلك ، وأمر الشياطين فبنوا لها باليمن الحصوة التي لم ير مثلها ، وهي : غمدان وسون ، وغيرهما ، وأبقاها على ملكها ، وكان يزورها في كل شهر مرة من الشام على البساط والريح ، وبقي ملكها إلى أن توفي ، فزال بملكه ، والله تعالى أعلم». قلت : أفاد الزّركلي في «الأعلام» ٢ : ٧٤ في ترجمة «بلقيس» أنها توفيت في عهد سليمان (ع) ، بخلاف ما ذكر في الحاشية السابقة. والله تعالى أعلم.

١٨٤

اسم الجائي : منذر. ذكره الكرماني في «عجائبه».

٨ ـ (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) [الآية ٣٩].

اسمه كوزن. أخرجه ابن أبي حاتم عن شعيب الجبائي ، ويزيد بن رومان.

٩ ـ (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) [الآية ٤٠].

قال ابن عباس وقتادة : هو آصف بن برخيا كاتبه.

وقال زهير بن محمد : هو رجل من الإنس ، يقال له : ذو النّور.

وقال مجاهد : اسمه أسطوم.

وقال ابن لهيعة ، هو الخضر.

أخرج كلّها ابن أبي حاتم.

وقيل ، هو جبريل.

وقيل : هو ملك أيّد الله به سليمان.

وقيل : هو ضبّة ؛ أبو القبيلة.

وقيل : رجل زاهد ، اسمه «مليخا».

حكاها الكرماني في «عجائبه».

وقيل : اسمه بلخ. حكاه ابن عسكر

١٠ ـ (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) [الآية ٤٨]. أخرج ابن أبي حاتم ، من طريق السّدّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس قال : كانت أسماؤهم رعمي ، ورعيم ، وهرمي ، وهريم ، وداب ، وصواب ، ورئاب ، ومسطع ، وقدار بن سالف : عاقر الناقة.

وقد نظمهم بعضهم في بيتين فقال :

رئاب وغنم ، والهذيل ، ومصدع

عمير ، سبيط ، عاصم ، وقدار

وسمعان ، رهط الماكرين بصالح

ألا إن عدوان النفوس بوار

هكذا نقلته من خط الشيخ جمال الدين بن هشام في «تذكرته» وفيه مخالفة لقول ابن عبّاس (١).

وذكر ابن هشام أن أسماء آبائهم على الترتيب : مهرع ، وغنم ، وعبد رب ، ومهرج ، وكردة ، وصدقة ، ومخرمة وسالف ، وصيفي.

١١ ـ (رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) [الآية ٩١].

قال ابن عباس : يعني مكة. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). ذكر السيوطي في «بغية الوعاة» أن هذا الكتاب في خمسة عشر مجلدا ، قال الأستاذ عبد الغني الدقر في مقدمته ل «شرح شذور الذهب» لابن هشام ص ١٠ : «ولم نطلع على شيء منه».

١٨٥
١٨٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «النمل» (١)

قال تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) [الآية ٧].

وقوله تعالى : (آنَسْتُ) ، أي : أبصرت ورأيت.

أقول : ويحسن بي أن أقف وقفة طويلة على : (آنَسْتُ) فأقول : هي من مادة «الأنس».

وآنس الشيء : أحسّه. وآنس الشخص واستأنسه : رآه وأبصره.

وأنست بفلان : فرحت به.

وفي التنزيل العزيز : (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) [القصص : ٢٩] يعني أبصر.

واستأنست : استعلمت. والاستئناس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) [النور : ٢٧].

قال الفراء : هذا مقدّم ومؤخّر ، إنّما هو حتى تسلّموا وتستأنسوا ...

وقال الزجاج : معنى تستأنسوا تستأذنوا.

أقول : وجميع معاني «أنس» من الأفعال والمصادر تتصل ب «الأنس» الذي هو جملة هذه المعاني من الإبصار والاستعلام والفرح والاستئذان ، فلا بد من أن نجد لها أصلا في أنّ الإنسان يألف أخاه الإنسان بطبعه ، فإذا اتصل به وألفه استلّ منه فعلا لهذه الحالة المعنوية من مادة «إنس» ، أي : الإنسان ، والإنس

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٨٧

مقابل الجن في طائفة من الآيات.

والإنس والإنسان شيء واحد ، وزيادة الألف والنون لكمال صيغة جديدة.

ثم إذا وقفنا قليلا وجدنا لغة قديمة في «الإنسان» هي «إيسان» وهذه اللغة الأخيرة ذات صلة وثيقة بمادة «أيس» الذي يعني الوجود. ولم يرد هذا إلا في قول الخليل بن أحمد : أن العرب تقول جيء به من حيث «أيس ، وليس» لم تستعمل «أيس» إلا في هذه الكلمة ، وإنما معناها كمعنى حيث ، هو في حال الكينونة والوجد مصدر «وجد» ، وقال : إنّ معنى «لا أيس» أي لا يوجد.

أقول : والذي يؤيّد هذا ، ما نعرفه من أن في العبرانية من هذا شيئا هو أن إيش بمعنى رجل ، ويقابله إيث في الآرامية.

ولنرجع إلى العربية فنجد أن كلمة «شيء» ، ومعناها معروف ليس بعيدا عن مادة «وجد» ، فالشيء موجود بطبعه وحقيقته ، وكأن الأصل هو مقلوب «أيش» الذي يذكرنا ب «أيس» ، الذي يفيد الوجود والذي بقي شيء منه في مادة «ليس» ، أي «لا أيس». وكان الفلاسفة على حق في التمسّك ب «الأيس» و «الليس» للدلالة على الوجود وعدمه.

٢ ـ وقال تعالى : (وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ) [الآية ١٠].

وقوله تعالى : (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : ولم يرجع ، ويقال عقّب المقابل إذا كرّ بعد الفرار ، قال :

فما عقّبوا إذ قيل هل من معقّب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا يصف قوما بالجبن وأنهم إن قيل : هل من معقّب وراجع على عقبه للحرب؟ فما رجعوا إليها ، ولا نزلوا يوم الحرب ، منزلا من منازلها ، أي : لم يقدموا مرة على العدو.

أقول : وهذا من الكلم المفيد الذي كان ينبغي أن يكون له مكان في العربية المعاصرة ، وذلك للحاجة إليه في أحوال مشابهة.

٣ ـ وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١٣).

المبصرة : الظاهرة البيّنة ، جعل الإبصار لها وهو في الحقيقة لمتأمليها ، لأنهم لابسوها ، وكانوا منها بنظرهم وتفكيرهم فيها.

١٨٨

أقول : وهذا شيء من استعمالات لغة القرآن البديعة ، التي تأتي بغير المألوف من إسناد الأفعال ، وذلك يحقّق فوائد في إدراك المعاني وتصويرها ، على نحو لم يلتفت إليه أهل النظر.

٤ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) [الآية ١٨].

أقول جاء الفعل «يحطم» في هذه الآية فعلا ثلاثيا.

ومثله ما جاء في قوله تعالى :

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) [القصص].

والفعل «قبح» في قوله تعالى (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢) ثلاثي أيضا.

أقول : والفعلان في العربية المعاصرة مزيدان بالتضعيف ولا نعرف صيغة الثلاثي فيهما فيقال : حطم القيد وحطّم الزّجاج ، على الحقيقة وحطّم الأحوال ، وفلان محطّم أي : متعب مريض ، على سبيل المجاز.

ومثله يقال : قبّحه الله في الدعاء عليه. ٥ ـ وقال تعالى : (وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) [الآية ١٩].

أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي ، أي : كفّني عن الأشياء إلّا عن شكر نعمتك ، وكفّني عما يباعدني عنك.

أقول : وهذا من الأفعال ذات المعاني المفيدة.

٦ ـ وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) [الآية ٣٦].

حذفت الياء من قوله تعالى : (أَتُمِدُّونَنِ) وحقها أن تثبت لأنها ضمير في موضع المفعول به ، والاكتفاء بالكسرة من خط المصحف.

والاكتفاء بالكسرة ربما كان للاهتمام بالكلمة التالية ، وهي (بِمالٍ) ، فكأن قصر المد والاكتفاء بكسر النون يغري السماع ، ويدفعه إلى الاهتمام بالكلمة اللاحقة.

٧ ـ وقال تعالى : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) [الآية ٣٧].

وقوله تعالى : (لا قِبَلَ) أي : لا طاقة.

أقول : لم يعرف أهل عصرنا المصدر «قبل» ، وقد استعاضوا منه المصدر الصناعي «القابلية» بمعنى

١٨٩

الطاقة فهم يقولون : فلان يملك قابليات نادرة.

ولا بد من الإشارة إلى أن «القابلية» عند أهل العلوم تعني درجة القبول لعمل من الأعمال كقولهم : قابلية هذه الأرض لامتصاص الماء.

٨ ـ وقال تعالى : (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (٣٧).

«والصاغرون» جمع صاغر وهو الذليل.

والصّغار : أن يقعوا في الأسر والاستعباد ، ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.

أقول : وقد فرّقت العربية في الأبنية باختلاف المعاني ، فالمصدر صغر للدلالة على صغر الجسم طولا وعرضا. والصّغار كما أشرنا ، والفعل فيهما صغر.

٩ ـ وقال تعالى : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) (٤١).

وقوله تعالى : (نَكِّرُوا) ، أي : اجعلوه متنكرا متغيّرا عن هيئته وشكله ، كما يتنكّر الرجل للناس لئلا يعرفوه.

أقول : والتنكير بهذا المعنى مما نعرفه الآن في لغتنا المعاصرة ، فيقال مثلا : جاء فلان متنكّرا ، أي : متخفّيا مضلّلا من يراه لئلّا يعرفه.

١٠ ـ وقال تعالى : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) (٧٢).

استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم : (عَسى أَنْ يَكُونَ) ردفكم بعضه ، وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو : دنا لكم وأزف لكم ، ومعناه : وتبعكم ولحقكم ، وقد عدّي ب «من» قال :

فلما ردفنا من عمير وصحبه تولّوا سراعا والمنيّة تعنق يعني دنونا من عمير أقول : ومعنى «ردف» ، في هذه الآية من كلم القرآن الذي لا نعرفه في لغتنا المعاصرة. على أن استعماله كان في موضعه في الآية ، قد أدّى المعنى أحسن الأداء.

١١ ـ وقال تعالى : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)).

وقوله (داخِرِينَ (٨٧)) أي : صاغرين.

١٩٠

المبحث السادس

المعاني الغوية في سورة «النمل» (١)

قال تعالى : (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) [الآية ٨] أي : نودي بذلك.

وقال تعالى : (بِشِهابٍ قَبَسٍ) [الآية ٧] بجعل «القبس» بدلا من «الشّهاب» وإن أضيف «الشّهاب» الى «القبس» لم ينوّن «الشهاب» وكلّ حسن.

وقال تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) [الآية ١١] لأن «إلّا» تدخل في مثل هذا الكلام كمثل قول العرب : «ما أشتكي إلّا خيرا» فلم يجعل قوله «إلّا خيرا» على الشكوى ، ولكنه علم إذا قال لهم «ما أشتكي شيئا» أنه يذكر من نفسه خيرا. كأنه قال «ما أذكر إلّا خيرا».

وقال تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [الآية ١٦] لأنها لما كانت تكلّمهم صار كالمنطق. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] :

صدّها منطق الدجاج عن القصد

وقال [من الرجز وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :

فصبّحت والطير لم تكلّم

وقال تعالى : (أَلَّا يَسْجُدُوا) [الآية ٢٥] يقول : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الآية ٢٤] ل «أن لا يسجدوا» وقرأ بعضهم (أَلَّا يَسْجُدُوا) فجعله أمرا كأنه قيل لهم : «ألا يسجدوا» فجعله أمر كأنه قيل لهم : «ألا اسجدوا» وزيد بينهما «يا» التي تكون للتنبيه ثم أذهبت ألف الوصل التي في «اسجدوا» وأذهبت الالف التي في «يا» لأنها

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٩١

ساكنة لقيت السين فصارت (أَلَّا يَسْجُدُوا) ؛ وفي الشعر (١) [من الطويل وهو الشاهد الثاني والستون بعد المائتين]

ألا يا سلمي يا دارميّ على البلى ولا زال منهلّا بجرعائك القطر وإنّما هي : ألا يا اسلمي وقال تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ) [الآية ٣٠] على (إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ) [الآية ٢٩](إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ؛ و (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ) و (بِسْمِ اللهِ) مقدمة في المعنى.

وقال تعالى : (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) [الآية ٤٠] أي : لينظر أأشكر أم أكفر. كقولك : «جئت لأنظر أريد أفضل أم عمرو».

وقال تعالى : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ) [الآية ٤٧] بإدغام التاء في الطاء ، لأنها من مخرجها ، وإذا استأنفت قلت : «اطّيّرنا».

وقال تعالى : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) [الآية ٤٨] والرهط جمع ليس له واحد من لفظه مثل «ذود».

وقال تعالى : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) [الآية ٦٠](أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) [الآية ٦٤] حتى ينقضي الكلام. (أَمَّنْ) ، هاهنا ليست باستفهام على قوله سبحانه : (خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)) إنّما هي بمنزلة «الذي».

وقال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [الآية ٦٥] كما قال :

(إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] وفي حرف ابن مسعود «قليلا» بدلا من الأول لأنك نفيته عنه وجعلته للآخر.

وقال تعالى : (رَدِفَ لَكُمْ) [الآية ٧٢] أي «ردفكم» وأدخلت اللام فأضيف بها الفعل ، كما قال (لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣)

[يوسف] و (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)) [الأعراف] وتقول العرب : «ردفه أمر» كما يقولون : «تبعه» و «أتبعه».

وقال تعالى : (أَنَّ النَّاسَ) [الآية ٨٢] أي : بأنّ النّاس ، وبعضهم يقرأ (إنّ

__________________

(١). هو لذي الرمة غيلان ، ديوانه : ٥٥٩ ومجاز القرآن ٢ : ٩٤ ومختار الصحاح «الياء» ، والإنصاف ١ : ٦٢ ، والصحاح ، ولسان العرب «يا» ، وأمالي الشجري ٢ : ١٥١ ، ومغني اللبيب ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني للسيوطي ٢١٠ ، والمقاصد النحوية ٢ : ٦ ، والدرر ١ : ٨١ و ٢ : ٢٣ و ٨٦.

١٩٢

النّاس) كما قال (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ) [الزمر : ٣] انما معناه يقولون : «ما نعبدهم».

قال : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨)) ف (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) مؤخّرة لأن المعنى «فألقه إليهم فانظر ما ذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم».

وقال تعالى : (آياتُنا مُبْصِرَةً) [الآية ١٣] أي : إنها تبصرهم حتّى أبصروا. وإن شئت قرأت : (مبصرة) (١) بفتح الصاد ، فقد قرأها بعض الناس ، وهي جيدة ؛ يعني مبصرة مبيّنة.

__________________

(١). في البحر ٧ : ٥٨ أنّ قتادة والإمام عليّ بن الحسين قرأ بفتح الميم والصاد ، وكذلك في الكشاف ٣ : ٣٥٢.

١٩٣
١٩٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «النمل» (١)

إن قيل : ما الحكمة في تنكير الكتاب في قوله تعالى (وَكِتابٍ مُبِينٍ (١)).

قلنا : الحكمة في التفخيم والتعظيم كقوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥)) [القمر].

فإن قيل : العطف يقتضى المغايرة ، فلم عطف الكتاب المبين على القرآن ، والمراد به القرآن؟

قلنا : قيل إن المراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ ، فعلى هذا لا إشكال ؛ وعلى القول الاخر ، فتقول العطف يقتضي المغايرة مطلقا إما لفظا وإما معنى ، بدليل قول الشاعر:

فألفى قولها كذبا ومينا

وقولهم : جاءني الفقيه والظريف والمغايرة لفظا أمر ثابت.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [الآية ٤].

وقال تعالى في موضع آخر : (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [الأنفال : ٤٨].

قلنا : تزيين الله تعالى لهم الأعمال بخلقه الشهوة والهوى وتركيبها فيهم ، وتزيين الشيطان بالوسوسة والإغواء والغرور والنميمة ، فصحّت الإضافتان.

فإن قيل : لم قيل هنا (سَآتِيكُمْ) [الآية ٧] وقيل في سورة طه : (لَعَلِّي آتِيكُمْ)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩٥

[طه : ١٠] وأحدهما قطع ، والاخر ترجّ ، والقصة واحدة؟

قلنا : قد يقول الراجي إذا قوي رجاؤه : سأفعل كذا ، وسيكون كذا مع تجويزه الخيبة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) [الآية ٨] مع أنه لم يكن في النار أحد ، بل لم يكن المرئي نارا ، وإنما كان نورا في قول الجمهور ، وقيل كان نارا ثم انقلب نورا؟

قلنا : قال ابن عباس والحسن رضي الله عنهما : معناه قدّس من ناداه من النار وهو الله عزوجل ، لا على معنى أن الله تعالى يحل في شيء ، بل على معنى أنه أسمعه النداء من النار في زعمه. الثاني : أن «من» زائدة ؛ والتقدير بورك في النار وفيمن حولها ، وهو موسى (ع) والملائكة. الثالث : أن معناه بورك من في طلب النار ؛ وهو موسى (ع).

فإن قيل : إنما يقال بارك الله على كذا ، ولا يقال بارك الله كذا؟ قلنا : قال الفراء : العرب تقول باركه الله وبارك فيه وبارك عليه بمعنى واحد ، ومنه قوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) [الصافات : ١١٣]. ولفظ التحيات : وبارك على محمد وعلى آل محمد.

فإن قيل : ما وجه الاستثناء في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [الآية ١٠].

قلنا : فيه وجوه : أحدها أنه استثناء منقطع بمعنى لكن. الثاني : أنه استثناء متصل ، كذا قاله الحسن وقتادة ومقاتل رحمهم‌الله ، ومعناه : إلا من ظلم منهم بارتكاب الصغيرة كآدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف وموسى وغير هم صلوات الله وسلامه عليهم ، فإنه يخاف ممّا فعل مع علمه أني غفور رحيم ، فيكون تقدير الكلام : «إلا من ظلم منهم فإنه يخاف فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم». ولهذا قال بعضهم : إن هنا وقفا على قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) وابتداء الكلام الثاني محذوف كما قدرنا. والثالث : أن «إلّا» بمعنى «ولا» ، كما في قوله تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة : ١٥٠] أي «ولا الذين ظلموا منهم». الرابع : أن تقديره : أني لا يخاف لدي المرسلون ولا غير المرسلين (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [الآية ١١].

١٩٦

فإن قيل : لم قال سليمان (ع) كما ورد في التنزيل (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا) [الآية ١٦] بنون العظمة ، وهو من كلام المتكبّرين؟

قلنا : لم يرد به نون العظمة ، وإنما أراد به نون الجمع وعنى نفسه وأباه. الثاني : أنه كان ملكا مع كونه نبيّا فراعى سياسة الملك ، وتكلم بكلام الملوك.

فإن قيل : كيف حلّ له تعذيب الهدهد ، حتى قال كما ورد في التنزيل (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) [الآية ٢١].

قلنا : لعل ذلك أبيح له خاصّة ، كما خصّ بفهم منطق الطير ، وتسخيره له ، وغير ذلك.

فإن قيل : كيف استعظم الهدهد عرشها مع ما كان يرى من ملك سليمان (ع) حتى قال ولها عرش عظيم؟

قلنا : أولا : يجوز أنه استصغر حالها بالنسبة الى حال سليمان ، فاستعظم لها ذلك العرش. ثانيا : أنه يجوز أن لا يكون لسليمان مثله ، وإن عظمت مملكته في كل شيء ، كما يكون لبعض الأمراء شيء لا يكون للملك مثله.

فإن قيل : لم ورد على لسان الهدهد قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [الآية ٢٣] مع قول سليمان صلوات الله وسلامه عليه كما ورد في التنزيل (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [الآية ١٦]. فكأنه سوى بينهما؟

قلنا : بينهما فرق ؛ وهو أن الهدهد أراد به ، وأوتيت من كل شيء من أسباب الدنيا ؛ لأنه عطف على الملك ، وسليمان أراد به وأوتينا من كل شيء من أسباب الدين والدنيا ، ويؤيّد ذلك عطفه على المعجزة ، وهي منطق الطير.

فإن قيل : كيف سوّى الهدهد بين عرشها وعرش الله تعالى في الوصف بالعظم ، في قوله تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)) و (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))؟

قلنا : بين الوصفين بون عظيم لأنه وصف عرشها بالعظم بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك ، ووصف عرش الله تعالى بالعظم بالنسبة إلى ما خلق من السماوات والأرض وما بينهما.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨)).

١٩٧

إذا تولّى عنهم ، فكيف يعلم جوابهم؟

قلنا : أوّلا : معناه ثم تولّ عنهم مستترا من حيث لا يرونك فانظر ما ذا يرجعون. ثانيا : أن فيه تقديما وتأخيرا تقديره : فانظر ما ذا يرجعون ، ثم تولّ عنهم.

فإن قيل : كيف استجاز سليمان (ع) تقديم اسمه في الكتاب على اسم الله تعالى ، حتّى كتب فيه ، كما ورد في التنزيل : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠)).

قلنا : لأنه أدرك أنها لا تعرف الله تعالى وتعرف سليمان ، فخاف أن تستخف باسم الله تعالى إذا كان أول ما يقع نظرها عليه ، فجعل اسمه وقاية لاسم الله تعالى.

وقيل : إن اسم سليمان كان على عنوانه ، واسم الله تعالى كان في أول طيّه.

فإن قيل : كيف يجوز أن يكون آصف ، وهو كاتب سليمان (ع) ووزيره ، وليس بنبيّ يقدر على ما لا يقدر عليه النبيّ ، وهو إحضار عرش بلقيس في طرفة عين؟

قلنا : يجوز أن يخصّ غير الرسول بكرامة لا يشاركه فيها الرسول ، كما خصّت مريم بأنها كانت ترزق من فاكهة الجنة ، وزكريا عليه‌السلام لم يرزق منها ؛ وكما أن سليمان صلوات الله عليه خرج مع قومه يستسقون فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تستسقي ، فقال لقومه : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ، ولم يلزم من ذلك فضلها على سليمان. وقد نقل أن النبي (ص) كان إذا أراد الخروج إلى الغزوات قال لفقراء المهاجرين والأنصار : ادعوا لنا بالنصرة ، فإن الله تعالى ينصرنا بدعائكم. ولم يكونوا أفضل منه (ص) ، مع أن كرامة التابع من جملة كرامات المتبوع. قالوا : والعلم الذي كان عنده هو اسم الله الأعظم ، فدعا به فأجيب في الحال ، وهو عند أكثر العلماء ، كما قال البندنيجي ، اسم الله ، ثم قيل هو يا حيّ يا قيوم ، وقيل يا ذا الجلال والإكرام ، وقيل يا الله يا رحمن ، وقيل يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ؛ فمن أخلص النيّة ، ودعا بهذه الكلمات مع استجماع شرائط الدعاء المعروفة فإنه يجاب لا محالة.

١٩٨

فإن قيل : لم قالت كما ورد في التنزيل (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)) وهي إنّما أسلمت بعده على يده لا معه ، لأنه كان مسلما قبلها؟

قلنا : إنما عدلت عن تلك العبارة إلى هذه لأنها كانت ملكة ، فلم تر أن تذكر عبارة تدل على أنها صارت مولاة له ، بإسلامها على يده ، وإن كان الواقع كذلك.

فإن قيل : كيف يكونون صادقين وقد جحدوا ما فعلوا ، فأتوا بالخبر على خلاف المخبر عنه؟

قلنا : كأنهم اعتقدوا أنهم إذا جمعوا بين البيانين ، ثم قالوا : (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) [الآية ٤٩] يعنون ما شهدناه وحده كانوا صادقين ، لأنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) [الآية ٦٥] ونحن نعلم الجنة والنار وأحوال القيامة ، وكلّها غيب؟

قلنا : معناه لا يعلم الغيب بلا دليل إلا الله ، أو بلا معلم إلا الله سبحانه ، أو جميع الغيب إلا الله جلّ وعلا. وقيل معناه : لا يعلم ضمائر السماوات والأرض إلا الله.

فإن قيل قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [الآية ٦٦] أو «أدرك» على اختلاف القراءتين ، هل مرجع الضمير فيه وفي ما قبله واحد أم لا؟ وكيف مطابقة الإضراب لما قبله ، ومطابقته لما بعده من الإضرابين؟ وكيف وصفوا بنفي الشعور ثم بكمال العلم ، ثم بالشك ، ثم بالعمى؟

قلنا : مرجع الضمير في قوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) [الآية ٦٦] هو الكفّار فقط ، وفيما قبله جميع من في السماوات والأرض ، وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل تتابع وتلا حق واجتمع كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً) [الأعراف : ٣٨] وأصله تدارك ، فأدغم التاء في الدال ، وقوله تعالى : (بَلِ ادَّارَكَ) معناه بل كمل وانتهى. قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد ما جهلوه في الدنيا علموه في الاخرة. وقال السعدي : يريد اجتمع علمهم يوم القيامة فلم يشكوا ولم يختلفوا. وقال مقاتل : يريد علموا في الآخرة ما شكوا فيه وعموا عنه في الدنيا ، وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ

١٩٩

مِنْها) [الآية ٦٦] معناه بل هم اليوم في شك من الساعة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)) جمع عم وهو أعمى القلب. ومطابقة الإضراب الأول لما قبله ، أن الذين لا يشعرون وقت البعث ، لما كانوا فريقين : فريق منهم لا يعلمون وقت البعث مع علمهم أنه يوجد لا محالة ، وهم المؤمنون ؛ وفريق منهم لا يعلمون وقته ، لإنكارهم أصل وجوده. أفرد الفريق الثاني بالذكر بقوله تعالى (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [الآية ٦٦] تأكيدا لنفي علمهم في الدنيا ، كأنه تعالى قال : بل فريق منهم لا يعلمون شيئا من أمر البعث في الدنيا أصلا ، ثم أضرب عن الإخبار بتتابع علمهم ، وتلاحقه بحقيقة البعث في الاخرة ، إلى الإخبار عن شكهم في الدنيا في أمر البعث والساعة ، مع قيام الأدلّة الشرعية على وجودها لا محالة ؛ وأمّا وصفهم بنفي الشعور ثم بكمال العلم ثم بالشك ، ثم بالعمى ، فلا تناقض فيه ، لاختلاف الأزمنة ، أو لاختلاف متعلّقات تلك الأمور الأربعة ، وهي الشعور والعلم والشك والعمى.

فإن قيل : قضاء الله تعالى وحكمه واحد ، فما معنى قوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) [الآية ٧٨] وهو بمنزلة قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) [الآية ٧٨] بقضائه أو يحكم بينهم بحكمه.

قلنا معناه بما يحكم به وهو عدله المعروف المألوف ، لأنه لا يقضي إلا بالحق والعدل ، فسمى المحكوم به حكما. وقيل معناه بحكمته ، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمته ، ويدل عليه قراءة من قرأ بحكمه جمع حكمة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [الآية ٨٦] ولم تراع المقابلة بقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [الآية ٨٦] فيه؟

قلنا : روعيت المقابلة المعنوية دون اللفظية ، لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه ، وقد سبق ما يشبه هذا في قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الآية ٥٩].

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)) مع أن في ذلك علامات على وحدانية الله تعالى لجميع العقلاء؟

قلنا : إنّما خصّهم بالذكر لأنهم هم المنتفعون بها دون غير هم.

٢٠٠