الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

قلنا : أعاد ذكرها تخصيصا لها وتمييزا ، لأن أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه ، ومن ولد منه ، وما شاهد وعاين من الدلائل على الصانع ، والنقل من هيئة إلى هيئة ، ومن حال إلى حال ، من وقت ولادته إلى وقت وفاته ؛ ثم خص المشرق والمغرب ، لأن طلوع الشمس من أحدهما وغروبها في الاخر ، على تقدير مستقيم في فصول السنة ، وحساب مستو ، من أظهر ما يستدلّ به على وجود الصانع. ولظهوره انتقل خليل الله صلوات الله عليه وسلامه ، إلى الاحتجاج به عن الاحتجاج بالإحياء والإماتة : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨].

فإن قيل : لم قيل أوّلا : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤)) وقيل آخرا : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨)؟

قلنا : كان اللين واللطف أوّلا ، فلما برز عنادهم وإصرارهم كان قوله تعالى (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨) ردّا على افتراء فرعون ، كما ورد في التنزيل حكاية على لسانه (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧).

فإن قيل : القول : «لأسجننك» أوجز من (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (٢٩) فلم عدل عنه؟

قلنا : كان مراده تعريف العهد ، فكأنه قال لأجعلنّك واحدا ممن عرفت حالهم في سجني. وكان إذا سجن إنسانا طرحه في هوة عميقة جدّا مظلمة ، وحده لا يبصر فيها ولا يسمع ، فكان ذلك أوجع من القتل ، وأشد نكاية.

فإن قيل : قصة موسى (ع) مع فرعون والسّحرة ذكرت في سورة الأعراف ، ثم في سورة طه ، ثم في هذه السورة ، فما الحكمة من تكرارها وتكرار غيرها من القصص؟

قلنا : أولا : تأكيد التحدي وإظهار الإعجاز ، كما أن المبارز إذا خرج من الصف ، قال «نزال نزال هل من مبارز هل من مبارز» ، مكرّرا ذلك. يقال : ولهذا سمّى الله تعالى القرآن مثاني لأنه ثنيت فيه الأخبار والقصص.

فإن قيل : لم كرر الله تعالى ذكر قصة موسى (ع) أكثر من قصص غيره من الأنبياء (ع)؟

قلنا : لأن أحواله كانت أشبه بأحوال النبي (ص) من أحوال غيره من

١٦١

الأنبياء ، في إقامته الحجج ، وإظهاره المعجزات لأهل مصر ؛ وإصرارهم على تكذيبه والجفاء عليه ، كما كان حال النبي (ص) مع أهل مكة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) [الآية ٦١] والترائي «تفاعل» مشتقّ من الرؤية ، فيقتضى وجود رؤية كل جمع للجمع الاخر ، والمنقول أن بعضهم لم ير بعضا ، فإن الله تعالى أرسل غيما أبيض ، فحال بين العسكرين حتى منع رؤية بعضهم بعضا؟

قلنا : الترائي يستعمل بمعنى التداني والتقابل أيضا ، كما قال (ص) : «المؤمن والكافر لا يتراءيان» ، أي لا يتدانيان ، ويقال : دورنا تتراءى : أي تتقارب وتتقابل.

فإن قيل : لم قال تعالى حكاية على لسان إبراهيم (ع) : (وَإِذا مَرِضْتُ) [الآية ٨٠] ، ولم يقل : «وإذا أمرضني» ، كما قال قبله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) (٧٨).

قلنا : لأنه كان في معرض الثناء على الله تعالى وتعديد نعمه ، فأضاف إليه الخير المحض حفظا للأدب ، وإن كان الكلّ مضافا إليه ، ونظيره ، كما ورد في التنزيل ، قول الخضر (ع) (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) [الكهف : ٧٩] وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) [الكهف : ٨٢].

فإن قيل : هذا الجواب يبطل بقوله تعالى : (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) [الآية ٨١] ويقوله : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما) [الكهف : ٨١].

قلنا : إنما أضاف الموت إلى الله تعالى لأنه سبب لقائه إياه وانتقاله إلى دار كرامته ، فكان نعمة من هذا الوجه. وقيل : إنما أضاف المرض إلى نفسه ، لأن أكثر الأمراض تحدث بتفريط الإنسان في مطاعمه ومشاربه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) (٨٨) والمال الذي أنفق في طاعة الله تعالى وسبيله ينفع ، والولد الصالح ينفع ، والولد الذي مات صغيرا يشفع ، وشواهد ذلك كثيرة من الكتاب والسّنّة ، خصوصا قوله (ص) «إذا مات ابن آدم ينقطع عمله إلّا من ثلاث» ، الحديث؟

قلنا : المراد بالآية أنهما لا ينفعان غير المؤمن ، فإنه هو الذي يأتي بقلب سليم من الكفر ، أو المراد بهما مال لم ينفق في طاعة الله تعالى ، وولد بالغ غير صالح.

١٦٢

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٩٠) أي قربت ، والجنة لا تنقل من مكانها ولا تحوّل؟

قلنا : فيه قلب معناه : وأزلف المتقون إلى الجنة ، كما يقول الحجاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا. وقيل معناه : أنها كانت محجوبة عنهم ، فلما رفعت الحجب بينهم وبينها كان ذلك تقريبا لها.

فإن قيل : لم جمع الشافع ، ووحّد الصديق في قوله تعالى (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١))؟

قلنا : لكثرة الشفعاء في العادة وقلة الصديق ؛ ولهذا روي أن أحد الحكماء سئل عن الصديق ، فقال : هو اسم لا معنى له ، أراد بذلك عزّة وجوده. ويجوز أن يراد بالصديق الجمع كالعدو.

فإن قيل : لم قرن بين الأنعام والبنين في قوله تعالى (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) (١٣٣)؟

قلنا : لأن الأنعام كانت من أعز أموالهم عندهم ، وكان بنوهم هم الذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها ، فلهذا قرن بينهما. فإن قيل : القول أوعظت أم لم تعظ أوجز من : (أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) (١٣٦) ، فكيف عدل عنه؟

قلنا : المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل أم لم تكن من أهله أصلا ؛ وهذا أبلغ في قلة الاعتداء بوعظه من القول أو لم تعظ.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) لم أخذهم العذاب بعد ما ندموا على جنايتهم ، وقد قال (ص) «الندم توبة»؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : ندموا حين رأوا العذاب ، وذلك ليس وقت التوبة ، كما قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨]. وقيل كان ندمهم ندم خوف من العذاب العاجل ، لا ندم توبة فلذلك لم ينفعهم.

فإن قيل : لم طلب لوط (ع) تنجيته من اللّواط ، بقوله كما ورد في التنزيل : (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) (١٦٩) واللّواط كبيرة من الكبائر ، والأنبياء معصومون من الكبائر؟

١٦٣

قلنا : مراده رب نجّني وأهلي من عقوبة عملهم أو من شؤمه ، والدليل على ذلك ضمّه أهله إليه في الدعاء ، واستثناء الله تعالى امرأته من قبول الدعوة.

فإن قيل : لم قال تعالى في قصة شعيب (ع) : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) [الآية ١٧٧] ولم يقل أخوهم ، كما قال تعالى في حق غيره هنا ، وكما قال في حقه في موضع آخر؟

قلنا : لأنه هنا ذكر مع أصحاب الأيكة وهو لم يكن منهم ، وإنما كان من نسل مدين ، كذا قال مقاتل. وفي الحديث أن شعيبا (ع) أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة. وقال ابن جرير الطبري : أهل مدين هم أصحاب الأيكة ، فعلى هذا يكون حذف الأخ تخفيفا.

فإن قيل : ما الفرق بين حذف الواو في قصة صالح (ع) وإثباتها في قصة شعيب ، في قولهم كما ورد في التنزيل : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الآية ١٥٤] و (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الآية ١٨٦]؟

قلنا : الفرق بينهما أنه ، عند إثبات الواو ، يكون المقصود معنيين كلاهما مناف للرسالة عندهم : التّسخير والبشرية. وعند حذف الواو ، يكون المقصود معنى واحدا منافيا لها ، وهو كونه مسخّرا ثم قرروا التسخير بالبشرية ، كذا أجاب الزمخشري رحمه‌الله.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الكهنة والمتنبّئة كشقّ وسطيح ومسيلمة : (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) [الآية ٢٢٣] بعد ما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك أثيم ، والأفّاك الكذّاب ، والأثيم الفاجر ، ويلزم من هذا أن يكونوا كلهم كذّابين؟

قلنا : الضمير في قوله تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ) عائد إلى الشياطين لا إلى كل أفّاك.

١٦٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الشعراء» (١)

قوله سبحانه : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) وهذه استعارة. والمراد بها : العبارة عن التقارب والتداني. وإنما قلنا إن اللفظ مستعار ، لأنه قد يحسن أن يوصف به الجمعان ، وإن لم ير بعضهم بعضا بالموانع ، من مثار العجاج ، ورهج الطراد. لأن المراد به تقارب الأشخاص ، لا تلاحظ الأحداق ، وذلك كقولهم في الحيّين المتقاربين : تتراءى ناراهما. أي تتقابل وتتقارب ، لكون النارين بحيث لو كان بدلا منهما إنسانان لرأى كل واحد منهما صاحبه. وقد أومأنا إلى ذلك فيما مضى (٢).

ويقال أيضا : «قوم رئاء» ، على وزن فعال أي يقابل بعضهم بعضا. وكذلك «بيوتهم رئاء» إذا كانت متقابلة. ذكر ذلك أحمد بن يحيى ثعلب (٣).

ومن هذا الباب الحديث المشهور عن النبي (ص) ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك». قيل : ولم يا رسول

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في الكلام في مجازات سورة الفرقان. الآية رقم ١٢.

(٣). لم نجد لذلك ذكرا في «مجالس ثعلب» التي نشرتها «دار المعارف» بتحقيق الأستاذ عبد السلام محمد هارون. ووجدنا ذلك في «الأساس» للزمخشري. وثعلب هو إمام الكوفيين في النحو واللغة. اشتهر بالرواية والحفظ والصدق ، وكان ثقة. ومات بصدمة فرس سقط بسببها في هوة ، فتوفي على الأثر سنة ٢٩١ ه‍.

١٦٥

الله؟ قال : «لا تتراءى ناراهما». وقد استقصينا الكلام على معنى هذا الخبر في كتاب «مجازات الآثار النبوية».

وقوله سبحانه : (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٨) وهذه استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، فاحكم بيننا وبينهم حكما قاطعا ، وأمرا فاصلا : بفتح الباب المبهم بعد ما استصعب رتاجه ، وأعضل علاجه.

ويقال للحاكم : الفتّاح ، لأنه يفتح وجه الأمر بعد اشتباهه واستبهام أبوابه. وقال تعالى : (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سبأ : ٢٦]. وقال بعض بني ذهل بن زيد بن نهد :

وعمّي الّذي كانت فتاحة (١) قومه إلى بيته حتّى يجهّز غاديا أي كان الحكم بين قومه ، فيه وفي أهل بيته ، إلى حين وفاته. وقال فتاحة قومه بكسر الفاء ، لأنها في معنى الولاية والزعامة وما يجري مجراهما. وقوله سبحانه : (وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) (١٤٨) وهذه استعارة. والمراد «بالهضيم» هاهنا على بعض الأقوال ، والله أعلم ، الذي قد ضمن (٢) بدخول بعضه في بعض ، فكأنّ بعضه هضم بعضا لفرط تكاثفه ، وشدة تشابكه.

وقيل : الهضيم اللطيف. وذلك أبلغ في صفة الطّلع الذي يراد للأكل.

وذلك مأخوذ من قولهم : فلان هضيم الحشا. أي لطيف البطن. وأصله النقصان من الشيء. كأنه نقص من انتفاخ بطنه ، فلطفت معاقد خصره.

ومنه قوله تعالى : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢) [طه] أي نقصا وثلما.

وقيل الهضيم الذي قد أينع وبلغ.

وقيل أيضا هو الذي إذا مسّ تهافت من كثرة مائه ، ورطوبة أجزائه.

والقولان الأخيران يخرجان الكلام عن حد الاستعارة.

وقوله تعالى : (وَتَقَلُّبَكَ فِي

__________________

(١). وفي «اللسان» الفتاحة بالضم : الحكم ، والفتاحة والفتاحة أن تحكم بين خصمين. والفتاحة : الحكومة. قال الأشعر الجعفي :

ألا من مبلغ عمرا رسولا

فإني عن فتاحتكم غنيّ

والفتّاح : الحاكم. وأهل اليمن يقولون للقاضي : الفتّاح.

(٢). هكذا بالأصل. ولعلها ضمّ.

١٦٦

السَّاجِدِينَ) (٢١٩) وهذه استعارة. وليس هناك تقلّب منه على الحقيقة. وإنما المراد به تقلّب أحواله بين المصلّين وتصرّفه فيهم بالركوع والسجود ، والقيام والقعود. وذهب بعض العلماء في تأويل هذه الآية مذهبا آخر ، فقال : المراد بذلك تقلّب الرسول (ص) في أصلاب الآباء المؤمنين. واستدل بذلك على أن آباءه إلى آدم (ع) مسلمون ، لم تختلجهم خوالج الشرك ، ولم تضرب فيهم أعراق الكفر ، تكريما له عليه‌السلام عن أن يجري إلا في منزّهات الأصلاب ، ومطهّرات الأرحام. وهذا الوجه يخرج به الكلام عن أن يكون مستعارا.

وقوله سبحانه : (يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) (٢٢٣) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المراد بها أنهم يشغلون أسماعهم ، ويديمون إصغاءهم ليسمعوا من أخبار السماء ما يموّهون به على الضّلّال من أهل الأرض ، وهم عن السمع بمعزل ، وعن العلم بمزجر. وذلك كقول القائل لغيره : قد ألقيت إليك سمعي. أي صرفته إلى حديثك ، ولم أشغله بشيء غير سماع كلامك. والتأويل الاخر أن يكون السّمع هاهنا بمعنى المسموع ، كما يكون العلم بمعنى المعلوم ، فيكون التأويل أن الشياطين يلقون ما يدّعون أنهم يستمعونه إلى كل أفّاك أثيم ، من أعداء النبي (ص) ، على طريق الوسوسة واعتماد القدح في الشريعة. وهذا الوجه يخرج الكلام عن حد الاستعارة.

وقوله سبحانه : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) (٢٢٥). وهذه استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، أن الشعراء يذهبون في أقوالهم المذاهب المختلفة ، ويسلكون الطرق المتشعّبة. وذلك كما يقول الرّجل لصاحبه إذا كان مخالفا له في رأي ، أو مباعدا له في كلام : أنا في واد ، وأنت في واد. أي أنت ذاهب في طريق وأنا ذاهب في طريق. ومثل ذلك قولهم : فلان يهبّ مع كل ريح ، ويطير بكل جناح ، إذا كان تابعا لكل قائد ، ومجيبا لكل ناعق.

وقيل إن معنى ذلك تصرّف الشاعر في وجوه الكلام من مدح وذم ، واستزادة ، وعتب ، وغزل ، ونسيب ، ورثاء ، وتشبيب ، فشبّهت هذه الأقسام

١٦٧

من الكلام بالأودية المتشعبة ، والسبل المختلفة.

ووصف الشعراء بالهيمان فيه فرط مبالغة في صفتهم بالذهاب في أقطارها ، والإبعاد في غاياتها. لأن قوله سبحانه : (يَهِيمُونَ) (٢٢٥) أبلغ في هذا المعنى من قوله : «يسعون» ، و «يسيرون». ومع ذلك فالهيمان صفة من صفات من لا مسكة له ولا رجاحة معه ، فهي مخالفة لصفات ذي الحلم الرزين ، والعقل الرصين.

١٦٨

سورة النّمل

٢٧

١٦٩
١٧٠

المبحث الأول

أهداف سورة «النمل» (١)

سورة النمل سورة مكية ، آياتها ٩٣ آية ، نزلت بعد سورة الشعراء. وسميت بسورة النمل ، لاشتمالها على مناظرة النمل مع سليمان (ع) ، الواردة في قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٨).

نظام السورة

هذه السورة مجاورة لسورة الشعراء ، وهي تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة تمضي على نسقها في الأداء : مقدمة وتعقيب يتمثل فيهما موضوع السورة الذي تعالجه ، وقصص بين المقدمة والتعقيب يعين على تصوير هذا الموضوع ، ويؤكده ، ويبرز فيه مواقف معينة للموازنة بين موقف المشركين في مكة ومواقف الغابرين قبلهم من شتّى الأمم ، للعبرة والتدبّر في سنن الله وسنن الدعوات.

موضوع السورة

موضوع سورة النمل الرئيسي ، كسائر السور المكية ، هو العقيدة : الإيمان بالله ، وعبادته وحده ، والإيمان بالآخرة ، وما فيها من ثواب وعقاب ، والإيمان بالوحي ، وأن الغيب كلّه لله لا يعلمه سواه ، والإيمان بأن الله هو الخالق الرزّاق واهب النعم ؛ وتوجيه القلب إلى شكر أنعم الله على البشر ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٧١

والإيمان بأن الحول والقوة كلها لله ، وأن لا حول ولا قوة إلّا بالله.

القصص في سورة النمل

يأتي القصص في سورة النمل لتثبيت أهداف السورة ، وتصوير عاقبة المكذّبين بها ، وعاقبة المؤمنين.

تأتي حلقة من قصة موسى (ع) تلي مقدّمة السورة ، حلقة رؤيته للنار ، وذهابه إليها ، وندائه من الملأ الأعلى ، وتكليفه الرسالة إلى فرعون وملئه ؛ ثم يعجل السياق بخبر تكذيبهم بآيات الله ، وهم على يقين من صدقها ، وعاقبة التكذيب مع اليقين :

(وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤).

واستغرقت هذه الحلقة ، من قصة موسى ، من الآية ٧ إلى الآية ١٤.

قصة داود وبلقيس

استغرقت الآيات [١٥ ـ ٤٤] في الحديث عن داود وسليمان وبلقيس. وبدأت بالإشارة إلى نعمة الله على داود وسليمان عليهما‌السلام ؛ ثم ذكرت قصة سليمان مع النملة ، ومع الهدهد ، ومع ملكة سبأ وقومها ، وفيها تظهر نعمة الله على داود وسليمان ؛ وقيامهما بشكر هذه النعمة ، وهي نعمة العلم والملك والنّبوّة مع تسخير الجن والطير لسليمان ؛ وفيها تظهر كذلك أصول العقيدة التي يدعو إليها كل رسول.

قصة بلقيس

تبدأ قصة بلقيس بأن يتفقّد سليمان الطير ، ويبحث عن الهدهد فلا يجده ، ثم يجيء الهدهد بعد ذلك ، وهو هدهد عجيب صاحب إدراك وذكاء وإيمان ، وبراعة في عرض الأخبار ، فيخبر سليمان أنه رأى ملكة ولها رعية كبيرة في بلاد سبأ ، ورآهم في نعمة وغنّى ، ولكنهم يسجدون للشمس من دون الله ، فيكتب له سليمان رسالة ليلقيها إليهم ، وفيها كما ورد في التنزيل :

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١).

فلما ألقاها على الملكة ، جمعت قومها لتستشيرهم فيها. فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد ، وفوّضوا أمر ذلك إليها ، فذكرت لهم أن عاقبة

١٧٢

الحرب إفساد الديار ، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه ، فلما جاءته الهدية لم يقبلها ، وهدّدهم بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها ، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له وتسافر إلى مقرّ ملكه ، فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها ، فأخبره عفريت من الجن بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه ، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يمكنه أن يأتيه به قبل مرور طرفة عين ، فشكر سليمان ربه أن جعل في ملكه مثل هذا الرجل المؤمن المتصل بالله سبحانه.

وأمر سليمان قومه أن يغيّروا شيئا من شكل العرش ليختبر ذكاءها ، فانتهت الملكة إلى جواب ذكي أريب :

(قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) [الآية ٤٢].

فهي لا تنفي ولا تثبت ، ودلّت على فراسة وبديهة في مواجهة المفاجأة العجيبة ، ثم تعرّضت بلقيس لمفاجأة أخرى ، في قصر من البلّور أقيمت أرضيته فوق الماء ، وظهر كأنه لجّة. فلما قيل لها ادخلي الصرح ، حسبت أنها ستخوض في لجة الماء وكشفت عن ساقيها ، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها ، وقال : «إنه صرح مملّس من زجاج».

ووقفت الملكة متعجبة مندهشة أمام هذه العجائب التي تعجز البشر ، وتدل على أن سليمان مسخّر له قوى أكبر من طاقة البشر ، فرجعت إلى الله وناجته معترفة بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غيره ، معلنة إسلامها مع سليمان ـ لا لسليمان ـ ولكن لله رب العالمين.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤).

قصة صالح ولوط

عليهما‌السلام

وفي أعقاب قصة بلقيس نجد الآيات [٤٥ ـ ٥٣] تتحدث عن نبي الله صالح ومكر قومه في حقه. ونجد الآيات [٥٤ ـ ٥٩] تتحدث عن نبي الله لوط وارتكاب قومه لفاحشة اللواط بالرجال ، ومحاولة لوط تقديم النصيحة لهم دون جدوى ، بل هددوه بالطرد والنفي ، فأنجاه الله وأمطر قومه حجارة من السماء فأهلكتهم ، فبئس مطر الهالكين الخاطئين.

١٧٣

أدلة القرآن على وجود الله

في ختام سورة النمل نجد آيات قوية تتحدث عن قدرة الله ومظاهر العظمة والقدرة في هذا الوجود.

* * *

لقد استعرضت السورة في بدايتها حلقات من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط ، عليهم‌السلام جميعا ، استغرقت الآيات [٧ ـ ٥٩].

أما الآيات الأخيرة في السورة [٦٠ ـ ٩٣] ، فإنها تجول جولة هادفة في تثبيت العقيدة ، جولة في مشاهد الكون وأغوار النفس وأطواء الغيب ، وفي أشراط الساعة ، ومشاهد القيامة ، وأهوال الحشر ، التي يفزع لها من في السماوات والأرض إلّا من شاء الله.

في هذه الجولة الأخيرة ، يستعرض القرآن أمام الناس مشاهدات في صفحة الكون وفي أطواء النفس ، لا يملكون تعليلها بغير التسليم بوجود الخالق الواحد المدبّر القدير.

ويتوالى عرض هذه المشاهدات في إيقاعات مؤثّرة ، تأخذ عليهم أقطار النفس وأقطار المشاعر ، وهو يطرح عليهم أسئلة متلاحقة : من خلق السماوات والأرض؟ من أنزل من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة؟

من جعل الأرض قرارا ، وجعل خلالها أنهارا ، وجعل لها رواسي ، وجعل بين البحرين حاجزا؟ من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟ من يجعلكم خلفاء الأرض؟ من يهديكم في ظلمات البر والبحر؟ من يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ؛ من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ من يرزقكم من السماء والأرض؟ وفي كل مرة يقرّعهم : أإله مع الله؟ وهم لا يملكون أن يقولوا : إن إلها مع الله يفعل شيئا من هذا كله ، وهم مع هذا يعبدون أربابا من دون الله!

وعقب هذه الإيقاعات القوية التي تقتحم القلوب ، لأنها إيقاعات كونية تملأ صفحة الوجود من حولهم ، أو إيقاعات وجدانية يحسونها في قلوبهم ، يستعرض تكذيبهم بالآخرة وتخبّطهم في أمرها ، ويعقّب عليه بتوجيه قلوبهم إلى مصارع الغابرين الذين كانوا مثلهم يكذبون ويتخبطون.

ويخلص من هذا إلى عرض مشهد الحشر وما فيه من هول فزع ، ويرجع

١٧٤

بهم في ومضة خاطفة إلى الأرض ، ثم يردهم إلى مشهد الحشر ، وكأنما يهزّ قلوبهم هزّا ويرجّها رجّا.

* * *

وتختم السورة بحمد الله الذي يستحق الحمد وحده ، وتكلهم إلى الله يريهم آياته ، ويطّلع على أعمالهم ما ظهر منها وما بطن :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣).

١٧٥
١٧٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «النمل» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة النمل بعد سورة الشعراء ، ونزلت سورة الشعراء فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة النمل في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لورود اسم النمل في قوله تعالى في الآية ١٨ منها : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) ، وتبلغ آياتها ثلاثا وتسعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة التنويه بشأن القرآن أيضا ، ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة ، لأنها تشبهها في غرضها ، وقد جاء أوّلها في بيان ما فيه من الهداية والبشارة للمؤمنين ، والترهيب للكافرين ؛ ثم انتقل السّياق منه إلى الترغيب والترهيب بذكر بعض قصص الأنبياء والصالحين ، ثم انتقل منهما إلى التنويه بشأنها وشأن أصحابها ، والموازنة بين من ينزّل مثلها وبين آلهتهم في عجزها وضعفها ، إلى غير هذا مما ختمت به هذه السورة.

التنويه بشأن القرآن

الآيات [١ ـ ٦]

قال الله تعالى : (طس تِلْكَ آياتُ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٧٧

الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) (١).

فنوّه بشأن القرآن وذكر جلّ شأنه ، أنه هدّى وبشرى لمن يؤمن به ، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويؤمن بالآخرة ؛ وأنه سبحانه زيّن للذين لا يؤمنون بالآخرة أعمالهم ، فضلّوا عنه ، ثم ذكر أن لهم سوء العذاب ، وأنهم في الاخرة هم الأخسرون : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦).

الترغيب والترهيب بقصص الأنبياء

والصالحين

الآيات [٧ ـ ٥٨]

ثم قال تعالى : (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٧) فذكر قصة موسى حينما أعطاه آية عصاه يلقيها فتهتزّ كأنها جانّ (حية صغيرة) ، وآية يده يدخلها في جيبه ، فتخرج بيضاء من غير سوء ؛ ثم أرسله بهما إلى فرعون وقومه ، لأنهم كانوا قوما فاسقين ؛ فلما جاءهم بآياته ، زعموا أنها سحر مبين : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤).

ثم انتقل السياق منها إلى قصة داود وسليمان عليهما‌السلام ، فذكر أنه سبحانه آتاهما علما فعملا به وحمداه عليه ، وأنه كان مما آتاه سليمان علم منطق الطير وتسخير كثير من الأشياء له ، وأن سليمان جمع جنوده من الجن والإنس والطير ، فساروا حتى إذا أتوا على وادي النمل أمرت نملة جماعتها من النمل أن يدخلوا مساكنهم ، لئلا يحطمهم سليمان بجنوده ، ففهم سليمان أمرها وتبسّم سرورا من إدراكه له ، وطلب من الله عزوجل أن يعينه في شكره على تلك النعمة العظيمة ، ثم ذكر السياق أن سليمان تفقّد الطير فلم ير الهدهد فسأل عنه ، وكان قد طار إلى سبأ باليمن فلم يمكث إلا قليلا حتى رجع منها ، وأخبره بأنه وجد امرأة تملك سبأ ، وأنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، فكتب له رسالة ليلقيها إليهم (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (٣١). فلمّا ألقاها على الملكة جمعت قومها لتستشيرهم فيها ، فذكروا لها أنهم أولو قوة وبأس شديد ، وفوّضوا أمر ذلك إليها ، فذكرت لهم أن عاقبة الحرب إفساد الديار ، وأنها ترى مسالمة سليمان بإرسال هدية إليه ؛ فلما جاءته الهدية لم يقبلها ، وهدّدهم

١٧٨

بأن يرسل إليهم جنودا لا قبل لهم بها ، فلم تجد الملكة مفرّا من أن تذعن له ، وتسافر إلى مقرّ ملكه ؛ فجمع قومه وأخبرهم بأنه يريد أن يحصل على عرشها قبل حضورها ، فأخبره عفريت من الجن بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يقوم من مجلسه ، وأخبره عالم من علماء قومه بأنه يستطيع أن يأتيه به قبل أن يرتدّ إليه طرفه ، فشكر الله أن جعل في ملكه من يستطيع إحضار ذلك العرش في هذا الزمن ، وقد أمرهم أن يغيّروا شيئا من شكله ليعرضه عليها ، وينظر : أتعرف أنه عرشها أم لا تعرفه ، ليختبر بذلك عقلها ؛ فلما جاءت عرض عليها وقيل لها : أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو ، وذكرت أنها آمنت بالله وبقدرته من قبل هذه الآية ؛ ثم إنّ سليمان أمرها أن تدخل الصّرح ، وكان قصرا من زجاج تحته ماء ؛ فلما رأته حسبته لجّة وكشفت عن ساقيها ، فأخبرها بأنه صرح ممرّد من قوارير ، فعجبت من ذلك ، وآمنت بقدرة الله الذي أعطاه هذا الملك : (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤).

ثم انتقل السّياق إلى قصة صالح وقومه ثمود ، وقصة لوط وقومه ، وهما هنا يخالفان ما سبق منهما في سياقهما وأسلوبهما ، وفي ذكر بعض زيادات لم تسبق فيهما.

التنويه بهذه القصص وأصحابها

الآيات [٥٩ ـ ٩٣]

ثم قال تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩) فأمر الله سبحانه ، رسوله الأكرم (ص) أن يحمد الله على ما تلاه عليه من هذه القصص ، وأن يسلم على من اصطفاه من أصحابها ، وأن يسأل أولئك الذين لا يؤمنون بتنزيلها : آلله الذي ينزلها خير ، أم آلهتهم التي لا تقدر على إنزال شيء منها؟ وقد ذكرت موازنات أخرى بعد هذه الموازنة ، إلى أن أمروا ، أمر تعجيز ، بأن يأتوا ببرهان على أنها آلهة إن كانوا صادقين في زعمهم ؛ وذكر السياق أنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ، جلّ جلاله ، ومن عداه من آلهتهم وغير هم لا يشعرون أيّان يبعثون. ومع استحكام أسباب العلم والتمكن من المعرفة ، ولكنهم شاكّون جاهلون ، ومن أسباب ذلك فيهم أنهم يستبعدون أن يبعثوا بعد

١٧٩

أن يصيروا ترابا ، ويزعمون أنهم قد وعدوا هذا هم وآباؤهم من قبلهم ، فلم يحصل شيء منه ، وقد أجاب تعالى عن هذا بأن أمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كان عاقبة المجرمين في الدنيا ، فلا بدّ من أن يعاقبهم أيضا في الاخرة ؛ ثم ذكر استعجالهم ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأجاب عنه بأنه سيحصل لهم قريبا بعض منه في الدنيا ، بتسليط المؤمنين عليهم ، وأن رحمته هي التي اقتضت عدم تعجيله لهم ، ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون ، ثم هدّدهم على ذلك ، بأنه يعلم ما يخفون وما يعلنون (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٧٥).

ثم أعاد التنويه بشأن تلك القصص ، فذكر أن القرآن يقصّ منها على بني إسرائيل أكثر ما يختلفون فيه ، فيهديهم إلى ما غاب عنهم من الصواب فيها ، ثم أمر الرسول (ص) أن يتوكّل عليه ولا يلتفت إلى أعدائه لأنه على الحق المبين ؛ وذكر تعالى أن الرسول لا يؤثّر فيهم لأنهم موتى لا يسمعون ، وعمي لا يبصرون ، وإنما يسمع من يؤمن بآياته فهم مسلمون ؛ ثم ذكر تعالى ما يكون قبل يوم القيامة من خروج دابّة تخبر الناس بما كان من جحودهم بتلك الآيات ، فتؤمن بما لم يؤمنوا به ، وهي من العجماوات ، ثم ذكر أنهم يحشرون إلى ربهم فيوبّخهم على تكذيبهم بآياته ، وأنهم لا يجدون ما يعتذرون به ، فلا يمكنهم أن ينطقوا بعذر ، وذكر لهم آية واحدة تقطع عذرهم ، وهي ما يرونه من أنه جعل لهم الليل ليسكنوا فيه ، وجعل لهم النهار مبصرا ؛ وإنما آثر هذه الآية لأنهم يسكنون بالليل ، ويبعثون بالنهار ، كما يبعثون من الدنيا إلى الاخرة ؛ ثم ذكر ما يكون أيضا قبل يوم القيامة من النفخ في الصّور ، وأنه يفزع به من في السماوات ومن في الأرض فيأتون صاغرين إليه ، وأنه يجازيهم على أعمالهم ، فيكون لمن جاء بالحسنة خير منها ، ومن جاء بالسيّئة يكبّ في النار على وجهه.

ثم ختم السورة بأمر الرسول أن يخبرهم بأنه إنما أمر أن يعبد الله سبحانه ، وحده ؛ وأن يتلو عليهم القرآن فمن اهتدى به ، فإنما يهتدي لنفسه ، ومن ضل ، فليقل له إنما أنا من المنذرين (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣).

١٨٠