الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

الظهير : بمعنى المظاهر ، وهو من باب فعيل بمعنى مفاعل ، كالعوين والمعاون ، ويجوز أن يراد ب «ظهيرا» الجماعة ، كقوله تعالى :

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)) [التحريم].

٨ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦)).

قوله تعالى : (ساءَتْ) فعل بمعنى أصبحت سيئة.

وقالوا : إنها في حكم «بئست» ، وفيها ضمير مبهم يفسره (مُسْتَقَرًّا) والمخصوص بالذم محذوف.

أقول : أرادوا أن يلحقوا هذا الفعل بما أسموه أفعال المدح والذم ، فيكون إعرابها ما يقتضيه إعراب تلك الأفعال.

وأرى أنّ الفعل «ساء» ليس ، مثل «نعم» و «بئس» ، وإن كان معناه الذم.

وقوله تعالى : (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) ، أي ساءت جهنّم مستقرّا ، كقولك :

حسن البيت مقاما ، وذمّ السرداب سكنا ، فهل نحمل هذين الفعلين على أفعال المدح والذم؟ والفاعل في الآية (ساءَتْ مُسْتَقَرًّا) يعود على «جهنّم» في الآية السابقة.

١٢١
١٢٢

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الفرقان» (١)

قال تعالى : (قَوْماً بُوراً) [الآية ١٨] أي جماعة «البائر» مثل «اليهود» وواحدهم «الهائد» وقال بعضهم : «هي لغة على غير واحد ، كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر».

وقال تعالى : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) [الآية ١٩] فحذف «عن الكفّار» وقد يكون ذلك عن الملائكة ، والدليل على وجه مخاطبة الكفار ، أنه جلّ وعلا قال : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ) [الآية ١٩] وقال بعضهم «يعني الملائكة».

وقال تعالى : (الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الآية ٤٠] يقال «مطرنا» و «أمطرنا». وقال سبحانه : (إِلَّا مَنْ شاءَ) [الآية ٥٧] استثناء خارج من الكلام بمعنى «لكن».

وقال تعالى : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الآية ٦٢] أي : «يختلفان».

وقال سبحانه (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ) [الآية ٦٣]. فهذا ليس له خبر (٢) إلّا في المعنى ، والله أعلم.

وقال تعالى : (لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) ف «الإمام» هاهنا جماعة (٣) كما في (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) [الشعراء : ٧٧] ويكون على الحكاية كما يقول الرجل إذا قيل له : «من أميركم» : «هؤلاء أميرنا» وقال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٢ : ٧٤٤ والمشكل ٢ : ٥٢٤ والجامع ١٣ : ٦٨.

(٣). نقله في المحتسب ٢ : ٣١٧ والجامع ١٣ : ٨٣.

١٢٣

الخامس والخمسون بعد المائتين] :

يا عاذلاتي لا تردن ملامتي

إنّ العواذل ليس لي بأمير (١)

وقال تعالى : (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ) [الآية ٧٧] لأنّها من «عبأت به» ف «أنا أعبأ به» «عبئا».

وقال تعالى : (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) [الآية ٤٩] مثقّلة لأنها جماعة «الإنسيّ».

__________________

(١). البيت في الخصائص ٣ : ١٧٤ ب «لسن» بدل «ليس» ، وهو كذلك في الصحاح «ظهر» وعجزه كذلك في مختار الصحاح «ظهر» ، والبيت كذلك في مغني اللبيب ١ : ٢١١ ؛ والبيت بعد ، في شرح شواهد المغني.

١٢٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الفرقان» (١)

إن قيل : الخلق هو التقدير ؛ ومنه قوله تعالى (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) [المائدة : ١١٠] أي تقدّر ، فما معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) فكأنه تعالى قال : «وقدّر كل شيء فقدره تقديرا»؟

قلنا : الخلق من الله تعالى بمعنى الإيجاد والإحداث ، فمعناه : وأوجد كل شيء مقدّرا مسوّى مهيّأ لما يصلح له ، لا زائدا على ما تقتضيه الحكمة والمصلحة ؛ ولا ناقصا عن ذلك.

الثاني أن معناه : وقدّر له ما يقيمه ويصلحه ؛ أو قدّر رزقا وأجلا وأحوالا تجري عليه.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف الجنّة : (كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً) (١٥) ، وهي ما كانت بعد ، وإنما تكون كذلك بعد الحشر والنشر؟

قلنا : إنما قال : «كانت» : لأن ما وعده الله تعالى ، فهو في تحققه كأنه قد كان ، أو معناه : كانت في علم الله مكتوبة في اللوح المحفوظ أنها جزاؤهم ومصيرهم.

فإن قيل : ما الحكمة من تأخير الهوى ، في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الآية ٤٣] والأصل اتّخذ الهوى إلها ، كما تقول : «اتّخذ الصنم معبودا»؟

قلنا : هو من باب تقديم المفعول الثاني على الأول للعناية به ، كما تقول علمت منطلقا زيدا لتظهر عنايتك بانطلاقه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٢٥

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) [الآية ٤٤]؟

قلنا : قد مر مثل هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٧٠) [المؤمنون].

فإن قيل : لم شبّههم سبحانه وتعالى بالأنعام في الضلال ، بقوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الآية ٤٤] مع أن الأنعام تعرف الله سبحانه وتعالى وتسبّحه بدليل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء / الآية ٤٤] وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١]؟

قلنا : المراد أولا تشبيههم بالأنعام في الضلال ، عن فهم الحق ومعرفة الله تعالى ، بواسطة دعوة الرسول (ص). ثانيا : أن المراد تشبيههم ، في الضلال والعمى عن أمر الدين ، بالأنعام في ضلالها وعماها عن أمر الدين.

فإن قيل : إن كانوا كالأنعام في الضلال ، فلم قال تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)؟ وإن كانوا أضلّ من الأنعام ، فلم قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ)؟ وإن كانوا كالأنعام في الضلال ، وأضل منها أيضا ، فكيف يجتمع الوصفان؟

قلنا : المراد بقوله تعالى في الموضع الأول : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) التشبيه في أصل الضلال لا مقداره. والثاني :

بيان لمقداره. وقيل : المراد بالأول التشبيه في المقدار أيضا ، ولكن المراد بالأول طائفة ، وبالثاني طائفة أخرى ، ووجه كونهم أضلّ من الأنعام ، أنّ الأنعام تنقاد لأربابها التي تعلفها وتتعهّدها ، وتعرف من يحسن إليها ممّن يسيء إليها ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرّها ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ، من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم ، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ، ولا يتّقون العذاب الذي هو أشد المضارّ والمهالك ، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنيّ والعذاب الروي (١).

فإن قيل : في قوله تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً

__________________

(١). انظر الكشاف ج ٢ ص ٤١٠.

١٢٦

مَيْتاً) لم ذكّرت الصفة والموصوف مؤنث ، ولم تؤنث الصفة كما أنّثت في قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) [يس : ٣٣]؟

قلنا : إنما التذكير نظرا إلى معنى البلدة ، وهو البلد والمكان لا إلى اللفظ.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (٤٩) فإنزاله موصوفا بالطهورية ، وتعليل ذلك بالإحياء والسقي ، يشعر بأن الطهورية شرط في حصول تلك المصلحة ، كما تقول : حملني الأمير على فرس سابق ، لأصيد عليه الوحش ، وليس كذلك.

قلنا : وصف الطهورية ذكر إكراما للأناسيّ الذين شربهم من جملة المصالح التي أنزل لها الماء ، وإتماما للمنّة والنعمة عليهم ، لا لكونه شرطا في تحقيق تلك المصالح والمنافع ، بخلاف النظير فإنه قصد بكونه سابقا الشرطية لأن صيد الوحش على الفرس لا يكون إلّا بها.

فإن قيل : لم خصّ تعالى الأنعام بذكر السقي دون غيرها من الحيوان الصامت؟

قلنا : أولا لأن الوحش والطير تبعد في طلب الماء ولا يعوزها الشرب ، بخلاف الأنعام. ثانيا : أن الأنعام قنية الأناسيّ وعامة منافعهم متعلّقة بها.

فإن قيل : لم قدّم تعالى إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي؟

قلنا : أولا لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم ، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم. ثانيا : أن سقي الأرض بماء المطر سابق في الوجود على سقي الأناسي به.

فإن قيل : ما وجه الاستثناء في قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥٧)؟

قلنا : هو استثناء منقطع تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، فأنا أدله على ذلك وأهديه إليه. وقيل تقديره : لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، بإنفاق ماله في مرضاته تعالى ، فليفعل ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (قُلْ ما

١٢٧

أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي أجرا ، لأن «من» لتأكيد النفي وعمومه. وقال في آية أخرى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] فأثبت سؤال الأجر عليه؟

قلنا : هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) [سبأ : ٤٧] رواه مقاتل والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

والصحيح الذي عليه المحققون أنها غير منسوخة ، بل هو استثناء من غير الجنس ، تقديره : لكن أذكركم المودة في القربى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) (٧٤) ولم يقل أئمة؟

قلنا : مراعاة لفواصل الآيات ، وقيل تقديره : واجعل كل واحد منا إماما.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) (٧٥) وهما بمعنى واحد ، ويؤيده قوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) وقوله (ص) «تحيّة أهل الجنة في الجنة سلام».

قلنا : قال مقاتل : المراد بالتحية سلام بعضهم على بعض ، أو سلام الملائكة عليهم ، والمراد بالسلام أن الله تعالى سلّمهم ممّا يخافون وسلّم إليهم أمرهم.

وقيل : التحية من الملائكة أو من أهل الجنة ، والسلام من الله تعالى عليهم ، لقوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٥٨) [يس]. وقيل التحية من الله تعالى لهم بالهدايا والتحف والسلام بالقول. وقيل : التحية الدعاء بالتعمير ، والسلام الدعاء بالسلامة ، فمعناه أنهم يلقون ذلك من الملائكة أو بعضهم من بعض ، أو يلقون ذلك من الله تعالى ، فيعطون البقاء والخلود مع السلامة من كل آفة.

١٢٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الفرقان» (١)

في قوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) (١٢) استعارتان. إحداهما قوله سبحانه : (إِذا رَأَتْهُمْ) وهو في صفة نار جهنّم ، نعوذ بالله منها ، ولا تصحّ صفة الرّؤية عليها. وإنما المراد ، والله أعلم ، إذا كانت منهم بمقدار مسافة لو كان بها من يوصف بالرؤية لرءاهم. وهذا من لطائف التأويل ، وغرائب التفسير.

وقد يجوز أيضا أن يكون معنى ذلك : إذا قربت منهم ، وظهرت لهم. من قولهم : دور بني فلان تتراءى. أي تتقارب. وفي الحديث : (لا تتراءى ناراهما) (٢) أي لا تتدانى.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). الحديث بأكمله في «صحيح أبي داود» الجزء الأول ، باب على ما يقاتل المشركون ، كتاب الجهاد ، ص ٢٦١ ، ونصه : «حدثنا هناد بن السرى ثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله. قال : بعث رسول الله (ص) سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل قال : فبلغ ذلك النبي (ص) ، فأمر لهم بنصف العقل ، وقال : أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ، قالوا يا رسول الله لم؟ قال : لا تتراءى ناراهما» وفي سنن النسائي ج ٢ ص ٢٤٥ ، جاء هذا الحديث في باب القود بغير حديدة ، كتاب القسامة. وقد أورد المؤلف هذا الحديث في كتابه «المجازات النبوية» ، وتحدث عما فيه من مجاز حديثا رائعا. صفحة ٢٠٠ من المجازات النبوية ، طبعة القاهرة سنة ١٣٥٦ سنة ١٩٣٧ ، وجاء هذا الحديث في «لسان العرب» وفسره صاحب اللسان ثم قال : وقال أبو عبيد : معنى الحديث أن المسلم لا يحل له أن يسكن بلاد المشركين ، فيكون معهم بقدر ما يرى كل واحد منهم نار صاحبه.

١٢٩

(سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) وهاتان الصفات من صفات الحيوان ، ويختص التغيظ بالإنسان ، لأن الغيظ من أعلى منازل الغضب ، والغضب لا يوصف بحقيقته إلا الناس. والزفير قد يشترك الإنسان وغير الإنسان في الصفة به. وإنما المراد بهاتين الصفتين المبالغة في وصف النار بالاهتياج والاضطرام ، على عادة المغيظ والغضبان.

وفي قوله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) استعارة ، لأن صفة القدوم لا تصح إلّا على من تجوز عليه الغيبة ، فتجوز منه الأوبة. والله سبحانه شاهد غير غائب ، وقائم غير زائل. فالمعنى : وقصدنا إلى ما عملوا ، أو عمدنا إلى ما عملوا. وذلك كقول القائل : قام فلان بفلان في الناس ، إذا أظهر ذمّه وعيبه ، وليس يريد أنه نهض عن قعود ، وتحفّز بعد استقرار وسكون ، وإنما يريد أنه قصد إلى سبّه ، وتظاهر بثلبه. وقال الشاعر (١) :

فإنّ أباكم تارك ما سألتم

فمهما أتيتم فاقدموه على علم

يقال : قدمت هذا الأمر ، وأنا أقدمه : إذا أتيته وقصدته. وقد ذكر بعض العلماء في ذلك وجها آخر. قال : إنما قال سبحانه : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) : لأنه عاملهم معاملة القادم من غيبة. أو كان ، بطول إمهاله لهم ، كالغائب عنهم ثم قدم ، فرآهم على خلاف ما أمرهم به ، واستعملهم فيه ، فأحبط أعمالهم الفاسدة ، وعاقبهم عقاب العاند عن الطاعة ، المرتكس في الضّلالة. والمعتمد القول الأول.

وفي قوله تعالى : (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣) مجاز آخر. وذلك أنه لم يجعل عملهم على الحقيقة هباء منثورا ، وهو الغبار الدقيق هاهنا. ومنه الهابي. وإنما أراد سبحانه أنه أبطل ذلك العلم فعفا رسمه ، وسقط حكمه ، وبطل بطلان الغبار الممحق ، والغثاء المتفرق.

وفي قوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤) استعارة. لأن المقيل من صفات المواضع التي ينام فيها ، ولا نوم في

__________________

(١). لم نعثر على اسم صاحب هذا البيت.

١٣٠

الجنة. وتقدير الكلام : وأحسن موضع للقائلة. فكأن ذلك المكان من وثارة مهاده ، وبرد أفيائه ، يصلح أن ينام فيه لو كان ذلك جائزا. وهذا كقوله سبحانه في ذكر أصحاب الجنة : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢) [مريم] أي مثل أوقات البكرة والعشيّ المعهودين في حال الدنيا. لأن الجنة لا يوصف زمانها بالأيام والليالي ، لأن ذلك من صفات الزمان الذي تتعاقب عليه الشمس طالعة وغاربة ، فيسمّى نهارا بطلوعها ، ويسمّى ليلا بقبوعها (١).

وفي قوله سبحانه : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥) استعارة. والمراد بها ، والله أعلم ، على أحد القولين ، صفة السماء في ذلك اليوم بتعاظم الغمام فيها ، وانتشاره في نواحيها. كما يقول القائل : قد تشققت الغمائم بالبرق ، وتشققت السّحائب بالرعد ، إذا كثر ذلك فيها ، ليس أن هناك تشققا على الحقيقة ، في قول أهل الشرع. وقيل أيضا : إن المراد بذلك انتقاض بنية السماء وتغيّرها إلى غير ما هي عليه الآن ، كما تظهر في البناء آثار التداعي ، وأعلام التهافت ، من تثلّم أطراف ، وتفطّر أقطار ، فيكون ذلك مؤذنا بانقضاضه ، ومنذرا بانتقاضه.

وقال سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم : ٤٨].

وقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) (٢) [الأنبياء : ١٠٤].

ويكون انتقاض بنية السماء عن ظهور الغمام الذي آذننا سبحانه بمجيئه يوم القيامة ، إذ يقول عزّ من قائل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠) [البقرة].

ومعنى تشقّق السماء بالغمام : أي عن الغمام ، كما يقول القائل : رميت بالقوس ، وعن القوس ، بمعنى واحد.

وفي قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٤٣) استعارة على أحد التأويلين : وهو أن يكون في الكلام تقديم وتأخير. فكأنه تعالى قال : أرأيت من اتّخذ هواه إلهه. معنى ذلك أنه جعل هواه آمرا يطيعه ، وقائدا

__________________

(١). القبوع : الاختفاء ومنه : قبع النجم أي ظهر ثم خفي.

(٢). وقد سبق الحديث عن قراءة «للكتب» و «للكتب» بالمفرد والجمع ، في سورة الأنبياء.

١٣١

يتبعه ، فكأنه قد عبده لفرط تعظيمه له.

ومن أمثالهم : الهوى إله معبود ، على المعنى الذي ذكرنا. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري (١) في كتاب (الأشراف) أن هذه الآية نزلت في الحارث بن قيس بن عديّ السّهمي ، وهو من عبدة الأوثان ؛ لأنه كان كلما رأى حجرا أحسن من الذي اقتناه لعبادته ، أخذه واطّرح ما عبده.

وقال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦). في الآية الأولى استعارتان ، إحداهما قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الآية ٤٥] ، أي ألم تر إلى فعل ربك ، أو إلى حكمة ربك في مدّ الظل ، فحذف هذه اللفظة لدلالة الكلام عليها ، إذ كان الله سبحانه لا يدرك بالمشاعر ، ولا يرى بالنواظر. وقد يجوز أن يكون معنى الرؤية هاهنا معنى العلم. فكأنه سبحانه قال : ألم تعلم حكمة ربّك في مدّ الظل؟ وإنما أقام سبحانه ، الرؤية هاهنا مقام العلم ، لتحقّق المخاطب الذي هو النبي (ص) وجهة الله تعالى في ذلك الفعل ، فقامت معرفة قلبه مقام رؤية عينه ، قطعا باليقين ، وبعدا عن الظنون.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) وهي استعارة على القلب. لأن الظل في الشاهد يدل على الشمس ، وذلك أن الظل لا يكون إلا وهناك شمس طالعة ، فيوصف ما لم تطلع عليه لحاجز يحجز ، أو مانع يمنع ، بأنه ظل. وقد قيل : إن الظل ما كان بالغداة ، والفيء ما كان بالعشيّ. وقيل : إن الظل ما نسخته الشمس ، والفيء ما نسخ الشمس ، فعلى هذا القول يجوز أن يكون معنى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي دائما لا ترد الشمس عليه فتزيله وتذهب به ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. أي دللناها عليه ، فهي تتحيّف من أقطاره ، وتنتقص من أطرافه ، حتى تستوفي أجمعه ، وتكون

__________________

(١). هو المؤرّخ الجغرافي النسابة : جالس الخليفة المتوكل العباسي ، ومدح المأمون ، ومات في أيام المعتمد ، سنة ٢٧٩ ه‍. ومن كتبه «فتوح البلدان» وهو مصدر وثيق للفتوحات الإسلامية : وقد طبع في أوروبا والقاهرة. وكتاب «الأشراف».

١٣٢

بدلا منه. فهذا معنى قوله تعالى : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)).

ويجوز أن يكون معنى دلالة الشمس على الظل ، أنه لو لا الشمس لم يعرف الظل. ويجوز أن نقول : لو لا الظل لم تعرف الشمس.

وفي قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)) استعارتان. فإحداهما قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً). والمراد باللباس هاهنا ، والله أعلم ، تغطية ظلام الليل النّشوز والقيعان ، وأشخاص الحيوان كما تغطّي الملابس الضّافية ، وتستر الجنن الواقية. وهذه العبارة من أفصح العبارات عن هذا المعنى.

ومعنى السّبات : قطع الأعمال ، والرّاحة من الأشغال. والسّبت في كلامهم : القطع.

والاستعارة الأخرى قوله تعالى : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً). والنشور في الحقيقة : الحياة بعد الموت. وهو هاهنا مستعار الاسم لتصرّف الحي وانبساطه ، تشبيها للنوم بالممات ، واليقظة بالحياة. وذلك من أوقع التشبيه ، وأحسن التمثيل.

وفي قوله سبحانه : (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) [الآية ٤٩] استعارة. وقد مضت الإشارة إلى نظيرها في سورة «الأعراف».

ووصف البلدة بالموت هاهنا محمول على أحد وجهين : إما أن تكون إنما شبّهت بالميت من فرط يبسها ، لتسلّط المحل عليها ، وتأخّر الغيث عنها. أو يكون فيها من النبات والشجر ، لمّا مات لانقطاع الماء عنه ، حسن أن توصف هي بالموت لموت بنيها ، لأنها كالأم التي تكلفه ، والظّئر التي ترضعه.

وفي قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) [الآية ٥٣] استعارة. والمراد بذلك ، والله أعلم ، أنه خلّاهما من مذاهبهما ، وأرسلهما في مجاريهما ، كما تمرج الخيل أي تخلّى في المروج مع مراعيها.

فكان وجه الأعجوبة من ذلك ، أنه سبحانه ، مع التخلية بينهما في تقاطعهما ، والتقائهما في مناقعهما ، لا يختلط الملح بالعذب ، ولا يلتبس العذب بالملح.

١٣٣

ولغة أهل تهامة «مرجه» ، ولغة أهل نجد «أمرجه». وقال أبو عبيدة (١) : إذا تركت الشيء وخلّيته فقد مرجته. ومنه قولهم : مرج الأمير الناس : إذا خلّاهم بعضهم على بعض. والأمر المريج : المختلط الملتبس.

وقوله سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١)) ، وقد قرئ : سرجا ، على الجمع. وهي قراءة حمزة والكسائي من السبعة. والباقون يقرءون : سراجا على التوحيد.

فمن قرأ «سراجا» أراد النجوم ، ومن قرأ «سراجا» أراد الشمس ، ويقوّي ذلك قوله سبحانه في موضع آخر : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦)) [نوح]. ويقوّي قراءة من قرأ «سراجا» أن النجوم من شعائر الليل ، والسّرج بأحوال الليل أشبه منها بأحوال النهار.

وإنما شبهت النجوم بالسّرج لاهتداء الناس بها في الظّلماء ، كما تهتدي بالمصابيح الموضوعة ، والنيران المرفوعة.

وفي قوله سبحانه : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢)) استعارة ، ومعنى خلفة ، في بعض الأقوال ، أي جعل الليل والنهار يتخالفان ، فإذا أتى هذا ذهب هذا ، وإذا أدبر هذا أقبل هذا.

وقيل : خلفة ، أي يخلف أحدهما الاخر ، فيكون ذلك من الخلافة لا من المخالفة.

وقيل : خلفة ، أي أحدهما أسود ، والاخر أبيض. وهو أيضا راجع إلى معنى المخالفة.

وفي قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)) استعارة. والمراد ، والله أعلم ، لا يصمّون عن قوارع النّذر ، ولا يعشون عن مواقع العبر.

__________________

(١). هو معمر بن المثنّى النحوي البصري ، كان إماما في اللغة والأدب. وقال فيه الجاحظ : لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه. واشتهر بحفظ حديث رسول الله. وقد استقدمه الرشيد إلى بغداد سنة ١٨٨ ه‍ ـ وقرأ عليه أشياء من كتبه. وتوفي سنة ٢٠٩ ه‍.

١٣٤

سورة الشعراء

(٢٦)

١٣٥
١٣٦

المبحث الأول

أهداف سورة «الشعراء» (١)

سورة الشعراء سورة مكية وآياتها ٢٢٧ ، نزلت بعد سورة الواقعة ، وسميت بهذا الاسم لذكر الشعراء فيها ، في قوله تعالى.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤)).

موضوع السورة

موضوع سورة «الشعراء» هو موضوع السور المكية جميعا ، وهو تثبيت العقيدة وتلخيص عناصرها الأساسية ويتوافق ذلك مع دعوة السورة إلى توحيد الله :

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣)).

وبيان قدرة الله الفائقة ونعمه السابغة على لسان إبراهيم الخليل (ع) حين يقول ، كما ورد في التنزيل :

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)).

وتتطرّق السورة إلى وعيد المكذّبين بعذاب الدنيا ، أو بعذاب الاخرة.

حيث تقول :

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦)) وتقول :

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧)).

ذلك إلى تسلية الرسول (ص)

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٣٧

وتعزيته عن تكذيب المشركين له وللقرآن :

(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣)).

وإلى طمأنينة قلوب المؤمنين وتصبيرهم على ما يلقون من عنت المشركين ، وتثبيتهم على العقيدة مهما أوذوا في سبيلها من الظالمين ، كما ثبّت من قبلهم من المؤمنين.

القصص في سورة الشعراء

القصص غالب على سورة الشعراء ، يشغل معظم السورة : فمجموع آياتها ٢٢٧ آية ، منها ١٨٠ آية تحتوي على قصص هادف يمسّ شغاف القلوب ، ويبين رعاية الله للأنبياء والمرسلين. ذكرت قصة موسى وفرعون في الآيات [١٠ ـ ٦٨].

وفيها سبعة مشاهد ، أولها : مشهد النداء والبعثة والوحي والمناجاة بين موسى وربه ؛ وثانيها : مواجهة موسى لفرعون وملئه ، وتأييد موسى بآيتي العصا واليد البيضاء ؛ وثالثها : مشهد التامر وجمع السّحرة وحشد الناس للمباراة الكبرى ؛ ورابعها : مشهد إيمان السّحرة وتهديد فرعون ووعيده ؛ وخامسها : مشهد إيحاء الله لموسى أن يسري بعباده ليلا ؛ وسادسها : مشهد إرسال فرعون في المدائن حاشرين يجمعون الجنود لملاحقة بني إسرائيل ؛ وسابعها مشهد المواجهة أمام البحر ، ونهاية القصّة بانفلاق البحر وغرق الظالمين ونجاة المؤمنين.

قصة ابراهيم

تستغرق قصة إبراهيم الآيات : [٦٩ ـ ١٠٤] ، والحلقة التي تعرض هنا من قصة إبراهيم (ع) هي حلقة الرسالة إلى قومه ، وحواره معهم حول العقيدة ، وإنكار الالهة المدّعاة ، والاتّجاه بالعبادة إلى الله ، وبيان صفات الله وفضله وعظيم نعمائه ، فهو الذي يخلق ويطعم ويسقي ، ويشفي ويحيي ويميت ، ويغفر الذنب ويحاسب الناس ، ويكافئ المؤمنين ويعاقب الغاوين.

وفي أعقاب قصة إبراهيم ، مشهد كامل من مشاهد القيامة ، يتنكّر فيه المشركون لآلهتهم ، ويندمون على الشّرك الذي انتهى بهم إلى ما هم فيه ، وكأنهم قد صاروا فعل في موقف الحساب والجزاء ، وهنا عبرة القصة للمشركين.

١٣٨

ومن ثمّ يتوسع السياق في الحديث عن مقومات عقيدة التوحيد ، وفساد عقيدة الشرك ، ومصير المشركين في يوم الدين ، لأن التركيز متجه إليه ، وتختصر السورة ما عدا ذلك مما يفصّل في سور أخرى.

قصة نوح

تستغرق قصة نوح (ع) الآيات [١٠٥ ـ ١٢٢] ونلحظ أن القصص في سورةالشعراء لا يتّبع التسلسل التاريخي ، فقد عرضت قصة موسى (ع) ، ثم قصة إبراهيم (ع) ، ثم قصة نوح (ع). ولو أراد أن يتّبع التسلسل التاريخي لعرض قصة نوح أولا ، ثم قصة إبراهيم ، ثم قصة موسى.

لكنه ، أي القصص ، في هذه السورة ، كان يذكر الأحدث ثم يرجع في الزمن من قصة إبراهيم إلى قصة نوح. لأن الخط التاريخي ليس هو المقصود هنا ، بل المقصود هو العبرة من نهاية الشرك والتكذيب.

وقصة نوح ، ومن قبلها قصة موسى وقصة إبراهيم ، قد عرضت في سور شتى سابقة.

لكن الجانب الذي يعرضه من القصة يأتي مناسبا لسياق السورة ، وللعظة والعبرة المقصودة منها.

وتعرض قصة نوح ، غالبا في سلسلة من قصص عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين.

وأظهر ما في الحلقة المعروضة في سورة الشعراء هنا : دعوة نوح قومه إلى تقوى الله ، وإعلانه أنه لا يطلب منهم أجرا على الهدى ، وإباؤه أن يطرد المؤمنين الفقراء الذين يستنكف منهم الكبراء ، وهذا ما كان يواجهه رسول الله (ص) في مكة سواء بسواء ، ثم دعاؤه لربه أن يفتح بينه وبين قومه ، واستجابة الله له بإغراق المكذّبين وإنجاء المؤمنين.

قصة هود

تستغرق قصة النبيّ هود (ع) الآيات [١٢٣ ـ ١٤٠] وقبيلة عاد ، وهم قوم هود ، كانوا يسكنون الأحقاف وهي جبال رملية قرب حضرموت من ناحية اليمن. وقد جاءوا بعد قوم نوح ، وكانوا ممن زاغت قلوبهم بعد فترة الطوفان ، الذي طهّر الأرض من العصاة.

واتخذت عاد المساكن المرتفعة ،

١٣٩

والمصانع المشيدة ، وبلغت شأوا بعيدا من الحضارة الصناعية ، وزادتها القوة بطرا وقسوة ، فكفرت بنعم الله وتطاولت وتجبّرت ونسيت الخالق الرزاق ، وكذّبوا نبيّ الله هودا فأهلكهم الله ودمر مصانعهم ودورهم ، وصبّ عليهم العذاب من فوقهم ومن تحتهم ، وتركهم عبرة لكل طاغية :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٤٩)).

قصة ثمود

تستغرق قصة ثمود الآيات [١٤١ ـ ١٥٩] وقد دعاهم صالح (ع) إلى عبادة الله وذكرهم بما فيه من نعمة ، وكانوا يسكنون بالحجر بين الشام والحجاز ، وقد مر النبي (ص) بدورهم المدمرة مع صحابته في غزوة تبوك ، فاستحث راحلته وحنى ظهره ، وجلا وخشوعا لله ، وقال للمسلمين : (لا تمروا على قرى القوم الذين ظلموا أنفسهم إلّا وأنتم مشفقون ، خشية أن يصيبكم ما أصابهم).

لقد كانت ثمود في نعمة ، فكفروا بنعمة الله عليهم ، وذكّرهم صالح بقدرة الله ، فطلبوا منه معجزة ، فأعطاه الله الناقة على شرط أن يكون الماء الذي يستقون منه يوما للناقة ويوما لهم ، وحذّرهم صالح أن ينالوا الناقة بسوء على الإطلاق ، وإلّا أخذهم عذاب يوم عظيم.

ولكنّهم استمروا في عنادهم وظلمهم ، فنحروا الناقة ، وكذّبوا صالحا ، وأحسّوا الندم بعد فوات الأوان ، فأخذهم عذاب الله العادل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)).

قصة لوط

تستغرق قصة لوط (ع) الآيات [١٦٠ ـ ١٧٥] وقد كان قوم لوط يسكنون عدة قرى في وادي الأردن ، واشتهر بينهم الشذوذ الجنسي بإتيان الذكور وترك النساء ، وهو انحراف شنيع مناف للفطرة. فقد برأ الله الذكر والأنثى ، وفطر كلّا منهما على الميل الى صاحبه ، لتحقيق حكمته ومشيئته في امتداد الحياة ، من طريق النسل الذي يتحقق باجتماع الذكر والأنثى ، فكان هذا الميل طرفا من الناموس الكوني العام.

ولكنّ قوم لوط خرجوا على الفطرة ،

١٤٠