الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٦

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٨٣

قوله تعالى : (وَوَجَدَ اللهَ) استعارة ومجاز. والمعنى : فوجد وعيد الله سبحانه ، عند انتهائه إلى منقطع عمله السيّئ ، فكاله بصواعه ، وجازاه بجزائه. وذلك يكون يوم المعاد ، وعند انقطاع تكليف العباد.

وقد قيل أيضا : إنّ الضمير في قوله تعالى : (عِنْدَهُ) يعود إلى الكافر لا إلى عمله ، فكأنّه تعالى قال : فوجد الله قريبا منه ، أي وجد عقابه مرصدا له ، فأخذه من كثب ، وجازاه بما اكتسب. وذلك كقول القائل : الله عند لسان كل قائل. أي يجازيه على قول الحق بالثواب ، وعلى قول الباطل بالعقاب. والقولان جميعا يؤولان إلى معنى واحد.

وقوله سبحانه : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) [الآية ٤٣].

وهذه استعارة على بعض التأويلات. لأنّ الجبال هاهنا ، يراد بها السحاب الثّقال ، تشبيها لها بكثائف أطوادها ، ومشارف هضابها. ويكون الضمير في قوله سبحانه : (مِنْ جِبالٍ فِيها) عائدا على السماء ، لا على الجبال. فكأنّ التقدير : وينزّل من جبال من السماء من برد ، يريد من السحاب المشبّهة بالجبال. وتكون الفائدة في قوله تعالى : (مِنْ جِبالٍ) في السماء ، تخصيص تلك الجبال من جبال الأرض ؛ لأنّا لو جعلنا الضمير الذي فيها عائدا على الجبال ، أوهم أنها جبال تنزل إلى الأرض من السماء. فإذا جعلنا الضمير عائدا إلى السماء أمن الالتباس ، وكان في ذلك أيضا تعجّب لنا ، من وصف جبال في السماء على طريق التشبيه ؛ لأنّ الجبال على الحقيقة لا تكون إلا في قرارات الأرض ، وصفحات التّرب.

وقوله سبحانه : (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [الآية ٤٤] وهذه استعارة. والمراد بها طرد النهار بالليل ، وطرد الليل بالنهار. فكنى عن ذلك سبحانه باسم التقليب. وليس المراد تقليب الأعيان (٢) ، بل تغاير الأزمان.

__________________

(٢). أي ليس المراد التقليب المادي للأشياء العينية الذاتية.

١٠١
١٠٢

سورة الفرقان

(٢٥)

١٠٣
١٠٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الفرقان» (١)

سورة الفرقان سورة مكية نزلت بعد سورة يس ، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن. وكان نزول سورة الجن عند رجوع النبي (ص) من الطائف ، وكان قد ذهب إليها سنة عشر من بعثته ، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة العاشرة من البعثة ، وتكون من السور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء. وهي فترة تميزت بقسوة مشركي مكة وعنفهم ورغبتهم في القضاء على الدعوة بكل سبيل ، ولذلك تبدو سورة الفرقان وكأنها إيناس لرسول الله (ص) ، وتسرية له وتطمين ؛ وهو يواجه مشركي قريش ، وعنادهم وتعنّتهم معه ، وجدالهم بالباطل ، ووقوفهم في وجه الهدى ، وصدّهم عنه.

سورة تشد أزر الرسول

تنوّعت جوانب هذه السورة وتعددت لكنها ، في جملتها ، كانت مؤازرة لرسول الله ، تمنحه الثقة والاطمئنان ، وتفضح شبهات المشركين ، وتدافع عن الدعوة والداعية بالعديد من السبل.

* * *

فهي ، في لمحة منها ، تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله ، وكأنّما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ، ويفيض عليه بالرعاية واللطف والمودة.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٠٥

وهي ، في لمحة ، تصوّر المعركة العنيفة مع البشرية الضالّة الجاحدة ، المشاقّة لله ورسوله ، وتجادل في عنف ، وتتعنت في عناد ، وتجنح عن الهدى الواضح المبين.

إنها البشرية الضالّة التي تقول عن هذا القرآن العظيم ، كما ورد في التنزيل :

(إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الآية ٤].

أو تقول :

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٥).

والتي تقول عن محمد رسول الله :

(إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٨).

أو تقول باستهزاء :

(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١).

وهذا التكذيب كان سمة الناس من عهد نوح (ص) إلى عهد محمد (ص). لقد اعترض القوم على بشرية الرسول (ص) ، واعترضوا على حظه من المال ، فقالوا ، كما ورد في التنزيل :

(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الآية ٨].

واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن ، فقالوا ، كما ورد في التنزيل :

(لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الآية ٣٢].

وذلك فوق التكذيب والاستهزاء ، والافتراء والإيذاء. وعند ما يئس النبي (ص) من أهل مكة توجه إلى الطائف وفيها قبائل ثقيف ، وفيها نعمة وغنى وزراعة وأعناب ؛ حتى كان العرب يعتقدون أن طائفة من الجن نقلتها من اليمن السعيد إلى جنوب الحجاز.

ولمّا ذهب إلى الطائف ، دعا أهلها للإسلام فردوه أسوأ رد ، وأغروا به السفهاء والعبيد يرجمونه بالحجارة ، حتى دميت قدماه الشريفتان وأغمي عليه ، فلما أفاق مد يده لله داعيا متضرعا يقول :

«اللهم أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس. يا ربّ العالمين أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربي إلى من تكلني ، إلى عدو يتجهمني ، أو بعيد ملّكته أمري؟ أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات

١٠٦

وصلح عليه أمر الدنيا والاخرة أن ينزل بي سخطك ، أو يحلّ عليّ غضبك ، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ، عافيتك هي أوسع لي ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم».

* * *

وقد نزلت سورة الفرقان في أعقاب رحلة الطائف ، فكانت حنانا ورحمة من الله لنبيه ، تمسح آلامه وتسرّي عنه ، وتهوّن عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم ، وسوء أدبهم وتطاولهم على من اختاره الله سبحانه ، ليحمل رسالة الله إلى الناس ؛ وتعزّيه عن استهزائهم بتصوير المستوي الهابط الذي يتمرغون فيه :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤).

ويتكفل القرآن بالعون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجّة :

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٣٣).

ثم تعرض السورة أهوال القيامة ومشاهد المجرمين تهديدا ووعيدا : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦).

وتصف ندم هؤلاء الكفار يوم القيامة فتقول :

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨).

ثم تقدّم السورة مسيرة الأنبياء وجهادهم وبلاءهم ، تسلية للرسول الأمين ، ثم تحثّه على الصبر والمصابرة ، وعلى جهاد الكفار بالحجة والبرهان :

(فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) (٥٢).

وهكذا تمضي السورة : في جانب منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله ، وفي جانب آخر مشاقّة وعنت من المشركين لرسول الله ؛ وتقدّم السورة جوانب القدرة الإلهية ، وتصف عجائب صنع الله في مد الظلّ ، وتسخير الشمس ، وخلق الليل والنهار ، والظلام والنور ، وإنزال المطر وإنبات النبات ، وخلق الإنسان والكواكب

١٠٧

والبروج والأفلاك ، وتتوعد المشركين بالعذاب والعقاب.

فإذا اقتربت السورة من نهايتها ، وصفت عباد الرحمن بالتواضع ، وقيام الليل ، والاقتصاد في النفقة ، والاحتراز من الشرك والزّنى ، وقتل النفس ؛ وتذكر فضل التوبة ومنزلة التائبين عند الله ، وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله لو لا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجئ إليه وتدعوه :

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧).

موضوعات السورة

رغم أن الخط الأساسي لسورة الفرقان هو العناية بالرسول (ص) ، ومسح آلام الحزن عنه ، وتثبيت قلبه ، إلا انه يمكن أن نقسم هذه السورة إلى أربع فقرات أو أربعة موضوعات متمايزة :

الموضوع الأول :

بدأ الموضوع الأول من سورة الفرقان بتسبيح الله سبحانه وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض ، المدبّر للكون بحكمة وتقدير ، ونفي الولد والشريك. ثم شرع في ذكر ما أورده الكفار من شبه ، فذكر شبهتهم الأولى :

(إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الآية ٤].

وردّ عليهم بأن ادّعاءهم ظلم وزور ، لأنه تحداهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله.

ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم أن القرآن أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليهم بأن الذي أنزله هو خالق الإنسان ، وهو العليم بأسراره وما يناسبه.

ثم ذكر اعتراضهم على بشرية الرسول (ص) ، وحاجته للطعام والمشي في الأسواق ، واقتراحهم أن ينزّل عليه ملك ، أو يلقى اليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها.

ورد عليهم بأن الله لو شاء لجعل لنبيه في الاخرة جنّات وقصورا ، خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا.

وكان الرسل جميعهم قبل محمد (ص) يأكلون الطعام ويمشون

١٠٨

في الأسواق ، لأنهم بشر وذلك شأن البشر.

ويستغرق الموضوع الأول من أول السورة إلى الآية ٢٠ منها.

الموضوع الثاني :

بدأ الموضوع الثاني بذكر تطاول المشركين ، وزعمهم بذكر تطاول المشركين ، وزعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تؤيد محمدا (ص) في دعواه ، أو يروا ربّهم.

ثم عاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة لا تحمل البشرى ، وإنما تحمل الإنذار والوعيد.

(وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦).

ليكون في ذلك تسلية للرسول (ص) ، وهم يهجرون القرآن وهو يشكو لربه هذا الهجران.

ثم ذكر اعتراضهم على عدم نزول القرآن جملة واحدة ، وردّ عليهم بأنه نزل مفرّقا لتثبيت قلب الرسول وللإجابة عن استفهام المستفهمين ، وتوضيح الحق أمام السائلين.

ثم ذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين ، وجوههم إلى تحت ، وأرجلهم إلى فوق ، فيضلّون في أخراهم كما ضلّوا في دنياهم.

ثم شرع في تأييد ذلك بتصوير عاقبة المكذّبين من قبلهم من قوم موسى وقوم نوح ، وعاد وثمود ، وأصحاب الرّسّ والقرون الكثيرة بين ذلك ، ويعجب من أمرهم وهم يمرّون على قرية لوط المدمّرة ، ولا يعتبرون. فيهوّن ، بذلك كله ، من وقع تطاولهم على الرسول (ص) ، وقولهم كما ذكر القرآن الكريم حكاية على لسانهم :

(أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١).

ثم عقّب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤).

ويستغرق هذا الموضوع الآيات [٢١ ـ ٤٤].

الموضوع الثالث :

يبدأ الموضوع الثالث بعرض مظاهر القدرة الإلهية في نظام هذا الكون وإبداع صنعته ودقّة ناموسه ، فيعرض مشهد الظل ، ويستطرد إلى تعاقب الليل والنهار ، والرياح المبشّرة بالماء المحيي ، وخلقه البشر من الماء ، ومع

١٠٩

هذا فهم يعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم ، فينصرون الشيطان على ربهم الذي يريد أن يربّيهم ويهديهم ، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الرحمن ، وقد جعل الله الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الاخر ، ويتعاقبان ليرى الإنسان الصباح المشرق والليل المظلم ، فيتذكّر عظمة الله ويشكره ، لكنهم لا يتذكّرون ولا يشكرون.

ويستغرق هذا الموضوع الآيات [٤٥ ـ ٦٢].

الموضوع الرابع :

يصف الموضوع الرابع عباد الرحمن الذين يسجدون له ويعبدونه ويسجل مقوّماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة ، ويفتح باب التوبة على مصراعيه لمن يريد الإقبال على الله ، ويصوّر جزاء المؤمنين الصابرين على تكاليف الإيمان والعبادة :

(أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) (٧٦).

ويستغرق هذا الموضوع الآيات [٦٣ ـ ٧٧] فتختم السورة ببيان هوان البشرية على الله سبحانه لو لا دعاء المؤمنين ، وعبادة المتقين.

وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه الرسول (ص) من عنت المشركين ، فهو يتفق مع ظل السورة وجوّها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها.

١١٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الفرقان» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الفرقان بعد سورة يس ، ونزلت سورة يس بعد سورة الجن ، وكان نزول سورة الجن في رجوع النبي (ص) من الطائف ، وكان قد سافر إليها في السنة العاشرة من بعثته ، فيكون نزول سورة الفرقان في السنة نفسها ، وتكون من السّور التي نزلت بين الهجرة إلى الحبشة وبين الإسراء.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١).

الغرض منها وترتيبها

ترمي هذه السورة إلى بيان الغرض من نزول القرآن ، وهو أن يكون نذيرا للعالمين ، والكلام فيها على هذا الغرض ينقسم إلى قسمين : أوّلهما في دفع ما أوردوه عليه من شبه وتأييده بما وقع قبله من النّذر الأولى ، وثانيهما في بيان عدم تأثّرهم بذلك لتكبّرهم وجهلهم.

وقد ختمت السورة السابقة بتحذير المخالفين أن يصيبهم فتنة أو عذاب أليم ، وهذا يناسب ما ابتدئت به هذه السورة من الإنذار والتحذير.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١١

تنزيل القرآن للإنذار

الآيات [١ ـ ٤٠]

قال الله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) ، فذكر أنه نزّل القرآن ليكون نذيرا للناس كافة ، ووصف نفسه بأربعة أنواع من صفات الكبرياء ، ليدل على قدرته على تحقيق إنذاره ، فذكر ملكه للسماوات والأرض ، وتنزّهه عن الولد والشريك ، وخلقه كلّ شيء وتقديره له. ثم شرع في ذكر ما أوردوه على ذلك من شبه ، فذكر شبهتهم الأولى وهي قولهم كما ورد في التنزيل : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الآية ٤] ، وردّ عليه بأنه ظلم وزور ، لأنه تحدّاهم به فلم يمكنهم أن يأتوا بمثله ، ولو كان من عنده لأمكنهم أن يأتوا به.

ثم ذكر شبهتهم الثانية وهي زعمهم بأنّه أساطير الأولين اكتتبها. ورد عليها بأن الذي أنزله هو الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، ومثله ينزل الحقائق لا الأساطير.

ثم ذكر شبهتهم الثالثة وهي زعمهم بأن من يرسل للإنذار لا يكون بشرا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، وأنه كان يجب أن ينزل إليه ملك ينذر معه ، أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها ؛ ودعواه الرسالة ، من غير ذلك ، تدلّ على أنه رجل مسحور لا يصحّ اتّباعه ، وردّ سبحانه ، على هذا بأنه إن شاء جعل له في الاخرة جنّات وقصورا خيرا مما ذكروه من نعم الدنيا ، ولكنهم يكذّبون بالساعة فلا يرجون ثوابا ولا عقابا ؛ ثم ذكر ما أعد لهم فيها من العذاب ، وما وعد المتقين فيها من نعيم وثواب ، وما يكون من تبرّؤ آلهتهم منهم فيها ، وعاد السياق بعد هذا إلى الرد على هذه الشبهة بأن الله سبحانه ، لم يرسل قبل هذا إلا رسلا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.

ثم ذكر شبهتهم الرابعة وهي زعمهم أنه كان يجب أن ينزل عليهم ملائكة تشهد بصدقه فيما ينذر به ، أو يروا ربّهم فيخبرهم بأنه أرسله لإنذارهم. ورد على هذا بأنه تعنّت ظاهر وعتوّ كبير ، وبأن ما طلبوه من ذلك سيرونه يوم القيامة ، ولكنهم يلقون منه ما يكرهون ، ويلقى المؤمنون فيه ما يحبّون ؛ ثم ذكر ما يكون من ندمهم على كفرهم ، ومن تمنّيهم أن لو كانوا اتّخذوا مع الرسول سبيلا ، ولم يسمعوا

١١٢

لمن أضلّهم من خلّانهم ، وذكر ما يكون من شكوى الرسول مما كان من طعنهم في القرآن ، بأنه سحر وشعر وكذب وهذيان ، ومن إجابته له بأن شأنهم في ذلك كشأن المجرمين قبلهم مع رسلهم.

ثم ذكر شبهتهم الخامسة وهي قولهم كما ورد في التنزيل (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الآية ٣٢]. وردّ على هذا بأنه نزّله مفرّقا ليثبّت به فؤاده ، ويرتله على تؤدة وتمهّل.

ثم عقّب على ذلك كله بأنهم لا يأتونه بمثل من جنس تلك الشبهات ، إلا أتاهم بالحق الذي يدفعها ويبين وجه فسادها ، وذكر أنهم في الاخرة يمشون مقلوبين وجوههم إلى تحت ، وأرجلهم إلى فوق ، فيضلّون في آخرتهم كما ضلّوا في دنياهم.

ثم شرع في تأييد ذلك بما حصل من النذر قبله ، فذكر أنه آتى موسى التوراة وجعل معه أخاه هارون وزيرا له ، وأنه أمرهما أن يذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياته فدمرهم تدميرا ، ثم ذكر أنه أغرق قوم نوح لمّا كذّبوا رسله وأعدّ لهم عذابا أليما ، إلى أن ذكر ما حصل لقرية سدوم التي يمرّون عليها في متاجرهم إلى الشام ، وهي من قرى قوم لوط (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) (٤٠).

عماية الكفار عن الإنذار

الآيات [٤١ ـ ٧٧]

ثم قال تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) (٤١) ، فذكر أنهم قابلوا ما أنذرهم به ، وما ذكره في رد شبهاتهم بالسفاهة والاستهزاء بالنبي (ص) ، لأنهم عجزوا عن رد ما ذكره في دفع شبههم. وقد بلغ من قوته أن اعترفوا بأنه كاد يضلّهم عن آلهتهم لو لا أن صبروا عليها ، ثم ذكر له أنهم اتخذوا هواهم إلههم ، وأنهم لا يسمعون ولا يعقلون ، ومن كان هذا شأنه لا يؤثّر دليل فيه. ثم ذكر له أن يرى كيف مدّ الظّلّ ولو شاء لجعله ساكنا ، إلى غير هذا مما لا تخفى دلالته على من يسمع ويعقل ، ليثبت له أنهم ليس لهم سمع ولا عقل. ثم ذكر أنه صرّف هذه الدلائل بينهم ليذّكّروا ولكنهم ينفرون من سماعها ، وأنه لو شاء لبعث بها نذيرا في كل قرية ، ولكنه اختاره وحده

١١٣

لذلك ، فيجب أن يقابل هذا بالاجتهاد في الدعوة ، ليقوم بأعبائها وحده ؛ ثم عاد إلى تلك الدلائل فذكر أنه هو الذي أجرى البحرين في مجاريهما بحيث يلتقيان ، وأنه فصل بينهما بقدرته فبقي هذا عذبا وذلك ملحا ، إلى غير هذا مما ذكره من دلائل عظمته وقدرته.

ثم أشار إلى أنهم لا يتأثّرون أيضا بهذه الأدلة الظاهرة على توحيده ، فيعبدون من دونه ما لا ينفعهم ولا يضرّهم ، ثم ذكر أنه لا شيء عليه من إعراضهم عنها ، لأنه لم يرسله إلا مبشّرا ونذيرا ، ولا يسألهم على ذلك من أجر ، إلا من شاء أن يتقرّب بالإنفاق إلى ربه ، ثم أمره أن يتوكل عليه في مجاهدتهم ودعوتهم ، وذكر ما ذكر من عظمته وقدرته ليدل على أن من توكل عليه يكفيه عن غيره. ثم ذكر أنهم مع عبادتهم ما لا ينفعهم ولا يضرّهم ، إذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، قالوا وما الرحمن ، عتوّا وتكبّرا ، واستعظموا أن يسجدوا لما يأمرهم مثله بالسجود له ، ثم ذكر سبحانه ، من أدلة عظمته وقدرته ، أنه جعل في السماء بروجا وهي منازل السيارات ، إلى غير هذا مما لا يصح معه أن يتكبّروا عن السجود له ، ثم ذكر أن للرحمن عبادا غيرهم لا يتكبّرون مثلهم ، بل يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ، إلى غير هذا من صفاتهم. ثمّ ختمت السورة بتحقير المتكبّرين وتهديدهم على تكذبيهم ، فقال تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧).

١١٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الفرقان» (١)

ظهر لي بفضل الله تعالى ، أن نسبة هذه السورة الى سورة النور ، كنسبة سورة الأنعام إلى «المائدة».

من حيث أن «النور» قد ختمت بقوله سبحانه : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٦٤] ، كما ختمت «المائدة» بقوله جلّ وعلا : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَ) [الآية ١٢٠].

وكانت جملة «النور» أوجز من جملة «المائدة» ، ثم فصّلت هذه الجملة في سورة الفرقان ، فافتتحت بقوله تعالى : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٢] ، إلى قوله سبحانه من الآية نفسها : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)). كما افتتحت «الأنعام» بمثل ذلك (٢). وكان قوله تعالى عقبه : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الآية ٣] إلى آخره ، نظير قوله هناك : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) [الأنعام].

ثم ذكر في هذه السورة جملة من المخلوقات ، كمدّ الظل ، والليل ، والنوم ، والنهار ، والرياح ، والماء ، والأنعام ، والأناسي ، ومرج البحرين ، والإنسان ، والنسب ، والصّهر ، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام ، والاستواء على العرش ، وبروج السماء ، والسّراج ، والقمر ، إلى غير ذلك ، مما هو تفصيل لجملة : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣). كما فصّل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). افتتاح الأنعام قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ).

(٣). جميع هذه المعاني جاءت في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) الى قوله جلّ وعلا : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (٦١).

١١٥

آخر «المائدة» في «الأنعام» بمثل ذلك (١). وكان البسط في «الأنعام» أكثر لطولها.

ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذّبة وإهلاكهم ، كما أشار في «الأنعام» إلى ذلك (٢). ثم أفصح عن هذه الإشارة في السورة التي تليها وهي «الشعراء» بالبسط التام ، والتفصيل البالغ (٣). كما أوضح تلك الإشارة التي في «الأنعام» ، وفصّلها في سورة الأعراف التي تليها (٤).

فكانت هاتان السورتان ، الفرقان والشعراء ، في المثاني ، نظير تينك السورتين ، الأنعام والأعراف ، في الطوال ، واتصالهما باخر النور ، نظير اتصال تلك باخر المائدة ، المشتملة على فصل القضاء (٥).

ثم ظهر لي لطيفة أخرى ، وهي : أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية ، افتتح أولها بالثناء على الله ، ك «الأنعام» بعد «المائدة» ، و «الإسراء» بعد «النحل» ، وهذه بعد «النور» ، و «سبأ» بعد «الأحزاب» ، و «الحديد» بعد «الواقعة» ، و «تبارك» بعد «التحريم» (٦) ، لما في ذلك من الإشارة إلى نوع من الاستقلال ، وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.

__________________

(١). هذا التفصيل جاء في الأنعام مفرقا في الآيات : ١٣ ، ١٨ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦١ ، ٦٥ ، ٧٣ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٨ ، ٩٩.

(٢). تفصيل أحوال القرون المكذبة وإهلاكهم في «الفرقان» في قوله تعالى : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا) [الآية ٣٦] الى (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٢٩)). وفي الأنعام في قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)).

(٣). جاء ذلك في الآيات ٦٤ ـ ١٨٩ حيث جاء عن قوم كل رسول تكذيبهم إياه ، ووسيلة إهلاكهم.

(٤). تفصيل أحوال القرون المكذبة ، جاء في «الأعراف» من قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) [الآية ٥٩] الى (فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)).

(٥). آخر المائدة (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠) وهو يشتمل على فضل القضاء ضمنا. وأول الانعام : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الآية الأولى].

(٦). قول المؤلف : و «الإسراء» بعد «النحل» ، لا يتفق مع قاعدته ، فكلاهما مكّيّ ، وقوله : و «الحديد» بعد «الواقعة» ، عكس قاعدته ، فالواقعة مكية ، والحديد مدنية ، وهناك سور مكية جاءت بعد المدنية وافتتحت بالثناء على القرآن ، ك «يونس» بعد «التوبة» ، و «إبراهيم» بعد «الرعد» ، و «النحل» بعد «الشعراء» ، و «ق» بعد «الرحمن» ، والثناء على القرآن ثناء على الله ضمنا.

وهناك مكيات بعد مدنيات لم تفتح بالثناء على الله ، كالواقعة بعد الرحمن.

١١٦

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الفرقان» (١)

١ ـ (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الآية ٤].

عنوا : يهود ؛ فيما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد.

وقيل : جبرا مولى الحضرمي. حكاه السّهيلي.

٢ ـ (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨)).

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ، وسعيد بن المسيّب ومجاهد ، وقتادة ، والسّدّي ، وغيرهم ؛ أن المراد بالظالم : عقبة بن أبي معيط ؛ وبفلان : أمية بن خلف (٢).

وقال عمرو بن ميمون (٣) : أبيّ بن خلف.

٣ ـ (الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الآية ٤٠].

أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : هي قرية لوط (٤).

وعن الحسن قال : هي بين الشام والمدينة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). انظر «تفسير الطبري» ١٩ : ٦.

(٣). عمرو بن ميمون الأودي ؛ أبو عبد الله ، مخضرم مشهور ، وثقة عابد ، نزل الكوفة ، ومات سنة أربع وسبعين.

(٤). انظر «تفسير الطبري» ١٩ : ١١.

١١٧

٤ ـ (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) [الآية ٥٣].

قال الحسن : بحر فارس والروم.

وقال سعيد بن المسيب : بحر السماء ، وبحر الأرض. أخرجها ابن أبي حاتم.

٥ ـ (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) [الآية ٥٥].

قال الشّعبي : هو أبو جهل. أخرجه ابن أبي حاتم.

١١٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الفرقان» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥)).

وقوله تعالى : (اكْتَتَبَها) ، أي : كتبها لنفسه وأخذها كما تقول :

استكب الماء واصطبّه ، إذا سكبه وصبّه لنفسه.

أقول : والاكتتاب في عصرنا شيء آخر ، يقال : اكتتبوا في بناء مدرسة ، أي : جمعوا الأموال تبرّعا وكتبوها مخصصة لبناء المدرسة.

٢ ـ وقال تعالى : (وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨)).

البور : الهلاك يوصف به الواحد والجمع ، ويجوز أن يكون جمع بائر كعائذ وعوذ ، وحائل وحول ، وهو مصدر كالبور بالفتح والبوار أيضا.

٣ ـ وقال تعالى : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٣)).

أقول : وقوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ، أي : بيّناه وحقّقناه ، وأرسلنا بعضه إثر بعض.

وقالوا : الترتيل : هو الترسّل والتأنّي في القراءة ، وإعطاء الأصوات حقها من البيان والصناعة.

ومن حديث عائشة رضي الله عنها في صفة قراءته (ص) «لا كسردكم هذا ، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه يعدّها».

٤ ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الآية ٤٠].

مما تجب ملاحظته أن مادة «مطر» ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١١٩

قد استعملت في آي القرآن فعلا فريدا «أمطر» في سبع آيات ، كما استعملت اسما في ثماني آيات ، وفي هذه الآيات جميعها كان «المطر» شرّا وعذابا وحجارة من سجيل.

فإذا أريد الرحمة والحياة ، جاءت كلمة «الغيث» ، قال تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) [الشورى : ٢٨].

٥ ـ وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الآية ٤٨].

قرئ : الريح والرياح.

وقرئ : نشرا ، أي : إحياء ، ونشرا جمع نشور وهي المحيية. ونشرا تخفيف نشر.

و «بشرا» تخفيف بشر جمع بشور وبشرى.

وأرى أن «بشرى» تلائم (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ، أي : أن الرياح قدام المطر الذي عبر عنه ب «الرحمة».

٦ ـ وقال تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)).

أقول ويحسن بنا أن نعود قليلا لنرى مسألة قوله تعالى : (حِجْراً مَحْجُوراً) ، في الآية الكريمة (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢)).

ذكر سيبويه في باب المصادر غير المتصرفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها ، نحو : معاذ الله ، وقعدك الله ، وعمرك الله. وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ موتور أو هجوم نازلة ، أو نحو ذلك ، يضعونها موضع الاستعاذة. قال سيبويه : أتفعل كذا وكذا ، فيقول : حجرا ، وهي من حجره إذا منعه ، لأن المستعيذ طالب من الله أن يمنع المكروه فلا يلحقه ، فكأن المعنى : أسأل الله أن يمنع ذلك منعا ، ويحجره حجرا.

وقوله تعالى : (مَحْجُوراً) صفة لتأكيد الحجر ، أي : المنع.

وأما في الآية : ٥٣ ، فالمراد من قوله جلّ وعلا (حِجْراً مَحْجُوراً) ، أي : أن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه في قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣)).

٧ ـ وقال تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥)).

١٢٠