الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

مألوف في العربية ، ألا ترى انهم قالوا : الظّلام والظّلمة ، حتّى إذا أرادوا الفعل قالوا : أظلم الليل ، وليس لهم «ظلم».

١٠ ـ قال تعالى : (فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) (٦٩).

أقول : والحنيذ المشويّ بالرّضف في أخدود ، أي : بالحجارة.

وهذا ، مما كان معروفا في رسوم الجاهليين وغيرهم ، من أهل البوادي.

١١ ـ وقال تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٧٧).

قال الزمخشري (١) : كانت مساءة لوط وضيق ذرعه لأنه حسب أنهم إنس ، فخاف عليهم خبث قومه ، وأن يعجز عن مقاومتهم ومدافعتهم.

أقول : جاء في كتب اللغة : أن الذرع الطاقة. وضاق بالأمر ذرعه وذراعه أي : ضعفت طاقته ، ولم يجد من المكروه فيه مخلصا ، ولم يطقه ولم يقو عليه ، وأصل الذّرع إنما هو بسط اليد فكأنك تريد : مددت يدي إليه فلم تنله ، قال حميد بن ثور يصف ذئبا :

وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها

ذراعا ، ولم يصبح لها وهو خاشع

وضاق به ذرعا مثل ضاق به ذراعا ،

ونصب «ذرعا» ، لأنه خرج مفسّرا

محوّلا ، لأنه كان في الأصل : ضاق ذرعي به ، فلما حوّل الفعل خرج قوله ذرعا مفسّرا ، ومثله طبت به نفسا ، وقررت به عينا.

وأصل «الذّرع» ان يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه ، فإذا حملته على أكثر من طاقته حتى يبطر ، ويمدّ عنقه ضعفا عمّا حمل عليه.

١٢ ـ وقال تعالى : (وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ) [الآية ٧٨].

قال أبو عبيدة : معناه يستحثّون إليه كأنه يحثّ بعضهم بعضا.

وتهرّع إليه : عجل.

أقول : وأصل الهرع والهرع والإهراع شدّة السّوق ، وسرعة العدو ، قال الشاعر :

كأنّ حمولهم متتابعات ،

رعيل يهرعون الى رعيل

وهذا الفعل «هرع» ، ومثله قولهم

__________________

(١). «الكشاف» ٢ / ٤١٣.

٨١

«ضاق به ذرعا» في الآية السابقة ، يدلان دلالة واضحة على مكانة البداوة وتأثيرها في العربية ، وكيف أنها أمدّت هذه اللغة بذخائر حوّلها الاستعمال وأبعد عنها صفة البداوة ، فصارت من مواد الحضارة. ومن المفيد أن أشير الى أن الفعل «هرع» بني في استعمالهم على ما لم يسمّ فاعله : وقالوا معناه المعلوم مثل سقط وحمّ وغمّ وغير ذلك. غير أن المعربين في عصرنا ، درجوا على بنائه على «فعل يفعل» نظير «سطع يسطع» ، وكأن التنبيه على موطن التجاوز والخطأ أفاد ، فبدأ إصلاحهم للخطأ.

١٣ ـ وقال تعالى : (وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ) [الآية ٨٩].

قوله تعالى : (لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ) ، أي : لا يكسبنّكم شقاقي إصابة العذاب.

و «جرم» مثل «كسب» في تعدّيه الى مفعول واحد والى مفعولين : تقول : جرم ذنبا وكسبه ، وجرمته ذنبا وكسبته إيّاه ، قال :

ولقد طعنت أبا عيينة طعنة

جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وقرأ ابن كثير بضم الياء من «أجرمته ذنبا» إذا جعلته جارما له ، أي : كاسبا ، وهو منقول من «جرم» المتعدّي الى مفعول واحد ، كما نقل «أكسبه المال» من «كسب المال» ، وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إيّاه ، فكذلك لا فرق بين «جرمته ذنبا» و «أجرمته إيّاه». والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما ، إلّا ان المشهورة أفصح لفظا (١).

أقول : وليس لنا شيء من هذا الفعل. بهذه الدلالة أو ما يقرب منها في عربيتنا المعاصرة.

١٤ ـ وقال تعالى : (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا) [الآية ٩٢].

والظّهريّ : الذي تجعله بظهر ، أي : تنساه وتغفل عنه ، والمراد بالآية أي لم تلتفتوا إليه ، وتركتم أمر الله وراء ظهوركم.

قال ابن سيده : واتّخذ حاجته ظهريّا ، استهان بها كأنّه نسبها الى الظّهر ، على غير قياس ، كما قالوا في النّسب الى البصرة بصريّ.

__________________

(١). «الكشاف» ٢ / ٤٢١.

٨٢

وفي حديث عليّ ـ عليه‌السلام ـ : اتّخذتموه وراءكم ظهريّا حتى شنّت عليكم الغارات ، أي : جعلتموه وراء ظهوركم.

أقول : لم يبق من هذه المادة الجميلة إلا ما ورد على التثنية ، وهو معروف لدى القلة من أهل العربية الملتزمة بالفصاحة ، يقال : هو نازل بين ظهرانيهم ، أي : بين أظهرهم ، وأقام بينهم.

وقد ورد في الحديث الشريف أيضا ، ويقال بين ظهريهم أيضا.

وينبغي أن ننبّه الى أنّ قولهم : «بين ظهرانيهم» و «ظهريهم» ينبغي أن يكون الأول والثاني بفتح الظاء ، والأول أيضا بفتح النون. وتنبيهي هذا دليل أن الخطأ معروف ، كما أن الأقدمين نبّهوا على مثل هذا.

١٥ ـ وقال سبحانه وتعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١).

أي : ما زادوهم غير تخسير ، يقال : تبّ إذا خسر ، وتبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران.

أقول : لا نعرف في العربية المعاصرة هذا الفعل ولا المصدر ، كما لا نعرف الثلاثي منه ، ولا نقرأه إلّا في لغة التنزيل.

١٦ ـ وقال تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١٠٨).

والمعنى : غير مقطوع.

وجذّ الشّعر معروف في عصرنا في العربية المعاصرة.

أما الجذ بمعنى القطع كما في الآية ، فهو معروف في العربية القديمة ، فالجذّ القطع ، وكسر الشيء الصّلب ، والجذاذ والجذاذ ، ما كسر منه ، وضمّه أفصح من كسره ، والواحدة جذاذة ، وقطع الفضة الصغار جذاذ ، ويقال لحجارة الذهب. والجذاذات القراضات للفضة.

وجذذت الحبل قطعته فانجذّ ، وجذّ النّخل يجذّه جذا وجذاذا وجذاذا حرمه. عن اللحيانيّ ، وهي مثل جزّ جزا وجزازا وجزازا.

ورحم جذّاء : مقطوعة.

أقول : ذهب كل هذا وليس لنا إلّا الشّعر يجذّ ، وإلّا قول المعاصرين من الباحثين في مصطلحهم «الجذاذة» لقطعة الورق ، التي يثبتون فيها فائدة خاصة ، يرجعون إليها بعد جمع ما يحتاجون إليه من فوائد ومعارف ، لتدخل في المادة التي يحرّرونها كتابا أو أي شيء آخر.

٨٣
٨٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «هود» (١)

وقال تعالى : (إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا) بجعله خارجا من أوّل الكلام على معنى «ولكنّ» (٢) ؛ وقد فعلوا هذا فيما هو من أول الكلام ، فنصبوا. وقال الشاعر (٣) [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائتين] :

يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي

إلّا عبيدا قعودا بين أوتاد

فتنشده العرب نصبا.

وقال تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الآية ١٧] على خبر المعرفة.

وقال تعالى : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) [الآية ١٧] وقرأ بعضهم (مرية) (٤) تكسر وتضم وهما لغتان (٥).

وقال تعالى : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِ) [الآية ٢٤] أي : «كمثل الأعمى والأصمّ» (٦).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٢ / ٤٧١ والمشكل ١ / ٣٥٦ والجامع ٩ / ١١.

(٣). هو صخر الغي الهذلي ، شرح أشعار الهذليين ٩٣٩ والمحتسب ٢ / ٢٩٢ وديوان صخر الغي ٧١.

(٤). في الشواذ ٥٩ الى الإمام علي بن أبي طالب والحسن ، وفي البحر ٥ / ٢١١ الى السلمي وأبي رجاء وأبي الخطاب والسدوسي والحسن ، وقال هي لغة أسد وتميم والناس وأهل مكة (كذا).

(٥). الكسر لأهل الحجاز ، والضم لتميم وأسد ، المزهر ٢ / ٢٧٦ واللهجات العربية ١٨٤.

(٦). نقله في إعراب القرآن ٢ / ٤٧٤ والجامع ٩ / ٢١.

٨٥

وقال تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [الآية ٢٧] أيّ : في ظاهر الرأي. وليس بمهموز لأنّه من «بدا» «يبدو» أي : ظهر. وقال بعضهم (بادئ الرأي) أي : فيما يبدأ به من الرأي (١).

وقال تعالى : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [الآية ٣٢] وقرأ بعضهم (جدلتنا) (٢) وهما لغتان.

وقال تعالى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) [الآية ٤٠] بجعل الزوجين الضربين الذكور والإناث.

وزعم يونس (٣) أن قول الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] :

وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة

فتخطئ فيها مرّة وتصيب

يعني الذئب.

وقال : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [الآية ٤١] بجعلها من جريت (٤) ، وقرأ بعضهم (مجراها ومرساها) إذا جعلت من أجريت (٥).

__________________

(١). القراءة بلا همز في الطبري ١٢ / ٢٧ نسبت الى عامة قراء المدينة والعراق ، وفي السبعة ٣٣٢ والكشف ١ / ٥٢٦ والتيسير ١٢٤ الى غير أبي عمرو.

والقراءة بالهمز في الطبري ١٢ / ٢٧ الى بعض أهل البصرة ، وفي السبعة ٣٣٢ والكشف ١ / ٥٢٦ والتيسير ١٢٤ والجامع ٩ / ٢٤ الى أبي عمرو ؛ وفي البحر ٥ / ٢١٥ زاد عيسى الثقفي.

(٢). في الجامع ٩ / ٢٨ والبحر ٥ / ٢١٨ الى ابن عباس ، وزاد الشواذ ٦٠ السختياني ، وفي الإملاء ٢ / ٣٨ أنّ الجمهور على إثبات الألف.

(٣). هو يونس بن حبيب ، وقد سبقت ترجمته.

(٤). في معاني القرآن ٢ / ١٤ أن فتح الميم الاولى إلى مسروق وعبد الله ، وفي الكشف ١ / ٥٢٨ فتح الميم الأولى إلى حفص والكسائي ، وكذلك في السبعة ٣٣٣ والتيسير ١٢٤ والبحر ٥ / ٢٢٥ ؛ وفتح الميم الى ابن مسعود وعيسى بن عمر الثقفي وزيد بن علي والأعمش.

(٥). هي في معاني القرآن ٢ / ١٤ الى ابراهيم النخعي والحسن وأهل المدينة ، وهي بضم الثانية وحدها الى مسروق وعبد الله ؛ وفي السبعة ٣٣٣ أنّ ضمّ الميم في الأولى الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم في رواية ، والى أبي بكر ، وضم الميم في الثانية له القراء كلهم ، وفي الكشف ١ / ٥٢٨ ضم الميم في مجراها إلى غير حفص وحمزة والكسائي ، وضم الميم في الثانية الى الإجماع. وفي البحر ٥ / ٢٢٥ ضم الميم في الاولى إلى مجاهد والحسن وأبي حيّان والأعرج وشيبة والجمهور من السبعة والحرميين والعربيين وأبي بكر ، وضمّ الميم في الثانية الى القراء كلهم.

٨٦

وقرأ بعضهم (مجريها ومرسيها) (١) لأنه أراد أن يجعل ذلك صفة لله عزوجل.

وقال تعالى : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي) [الآية ٤٣] بقطع (سآوى) لأنّه «أفعل» وهو يعني نفسه.

وقال : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [الآية ٤٣] ويجوز أن يكون على «لإذا عصمة» أي : معصوم ويكون (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) رفعا بدلا من العاصم (٢).

وقال تعالى : (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [الآية ٤٦] منوّن (٣) لأنه حين قال ـ والله أعلم : (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الآية ٤٦] كان في معنى «أن تسألني» فقال (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)

وقال (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) [الآية ٤٨] بالرفع على الابتداء نحو قولك «ضربت زيدا وعمرو لقيته» على الابتداء (٤).

وقال : (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) [الآية ٦٤] بالنصب على خبر المعرفة.

وقال : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) [الآية ٧٢] فإذا وقفت قلت (يا ويلتاه) لأنّ هذه الألف خفيفة وهي مثل ألف الندبة ؛ فلطفت من أن تكون في السكت وجعلت بعدها الهاء ، ليكون أبين لها ، وأبعد للصوت. وذلك أنّ الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدّى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء ، فيتردّد فيه فيكون أكثر وأبين. ولا تقف على ذا الحرف في القرآن كراهية خلاف الكتاب. وقد ذكر أنه يوقف على ألف الندبة ؛ فان كان هذا صحيحا ، وقفت على الألف.

__________________

(١). في معاني القرآن ٢ / ١٤ إلى مجاهد ، وفي الطبري ١٢ / ٤٤ الى أبي رجاء العطاردي ، وفي الجامع ٩ / ٣٧ الى مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي ، وفي البحر ٥ / ٢٢٥ الى الضحّاك والنخعي وابن وثّاب وأبي رجاء ومجاهد وابن جندب والكلبي والجحدري.

(٢). نقله في التهذيب ٢ / ٥٤ «عصم».

(٣). في معاني القرآن ٢ / ١٧ نسبت إلى عامة القراء ، وفي الطبري ١٢ / ٥٠ و ٥١ و ٥٢ إلى الحسن وابن عباس وسعيد بن جبير والضحّاك وعامة قراء الأمصار وابراهيم وقتادة ومجاهد. وفي السبعة ٣٣٤ الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة ، وفي الكشف ١ / ٥٣٠ والتيسير ١٢٥ الى غير الكسائي.

(٤). نقله في إعراب القرآن ٢ / ٤٨١ والجامع ٩ / ٤٨ والبحر ٢٣١.

٨٧

وقال تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ) [الآية ٧٤] وهو الفزع.

ويقال : «ألقي في روعي» ويقال : «أفرخ روعك» (١) و «ألقي في روعي» أي : في خلدي. «فالروع» القلب والعقل. و «الرّوع» : الفزع.

وقال تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) [الآية ٧٨] بالرفع (٢) ، وكان عيسى (٣) يقول (هنّ أطهر لكم) (٤) وهذا لا يكون إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن خبر ، إذا كان بين الاسم وخبره هذه الأسماء المضمرة التي تسمى الفصل ، يعني : «هي» و «هو» و «هنّ» ، وزعموا أن النصب قراءة الحسن أيضا. وقال تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) [الآية ٧٨] ف «الضيف» : يكون واحدا ويكون جماعة. تقول : «هؤلاء ضيفي» ، هذا ضيفي ، كما تقول : «هؤلاء جنب» و «هذا جنب» ، و «هؤلاء عدوّ» و «وهذا عدوّ».

وقال تعالى : (قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) [الآية ٨٠] وبإضمار «لكان».

وقال (إِلَّا امْرَأَتَكَ) [الآية ٨١] يقول : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ) بالنصب (٥). وقرأ بعضهم (إلّا أمرأتك) بالرفع (٦) وحمله على الالتفات. أي لا يلتفت منكم إلّا امرأتك. وقال : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً) بالنصب

__________________

(١). مثل من أمثال العرب ؛ التهذيب ٣ / ١٧٧ راع ، واللسان «روع» ، مجمع الأمثال ٢ / ٨١ مثل ٢٧٨٩ ، وفصل المقال ٥٧ و ٣٥٦.

(٢). في الطبري ١٢ / ٨٥ والجامع ٩ / ٧٦ والبحر ٥ / ٢٤٦ نسبت الى العامة والجمهور.

(٣). هو عيسى بن عمر الثقفي ، وقد مرت ترجمته.

(٤). نسبها في الطبري ١٢ / ٨٥ إلى عيسى ، وزاد عليه في الجامع ٩ / ٧٦ الحسن البصري ، وزاد في الشواذ ٦٠ محمد بن مروان وأبا عمرو بن العلاء ، وأغفل الحسن ، وفي البحر ٥ / ٢٤٧ نسبها الى الحسن وزيد بن علي وعيسى وسعيد بن جبير ومحمد بن مروان ، وفي المحتسب ٣٢٥ نسبها الى سعيد بن جبير والحسن بخلاف ، ومحمد بن مروان وعيسى وابن أبي إسحاق.

(٥). في الطبري ١٢ / ٨٩ نسبها الى عامة القراء من الحجاز والكوفة ، وفي الكشف ١ / ٥٣٦ والتيسير ١٢٥ والبحر ٥ / ٢٤٨ إلى غير ابن كثير وأبي عمرو ، وعيّن منهم في الجامع ٩ / ٨٠ ابن مسعود ، وفي السبعة ٣٣٨ الى نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.

(٦). في معاني القرآن ٢ / ٢٤ الى الحسن ، وفي الطبري ١٢ / ٨٩ الى بعض البصريين ، وفي السبعة ٣٣٨ والكشف ١ / ٥٣٦ والتيسير ١٢٥ والجامع ٩ / ٨٠ والبحر ٥ / ٢٤٨ الى ابن كثير وأبي عمرو.

٨٨

بالتنوين. ف «المنضود» من صفة «السّجّيل» ، و «المسوّمة» من صفة «الحجارة» فلذلك انتصب.

وقال تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا) [الآية ٨٧] أي «أن نترك وأن نفعل في أموالنا ما نشاء» وليس المعنى «أصلاتك تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء» لأنه ليس بذا أمرهم. وقرأ بعضهم (تشاء) (١) وذلك إذا عنوا شعيبا.

وقال تعالى : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠) يريد «ومحصود» ك «الجريح» و «المجروح».

وقال سبحانه : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الآية ١٠٥] ومعناه «تتفعّل» فكان الأصل أن تكون «تتكلّم» ولاستثقال اجتماع التاءين حذفت الآخرة منهما ، لأنها هي التي تعتل فهي أحقهما بالحذف ، ونحو (تذكّرون) (٢) يسكنها الإدغام ، فإن قيل : «فهلّا أدغمت التاء هاهنا في الذال وجعلت قبلها ألف وصل ، كما قلت : «اذّكّروا» فلأن هذه الألف إنما تقع في الأمر وفي كلّ فعل معناه «فعل» فأما «يفعل» و «تفعل» ، فلا.

وقال تعالى : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا) [الآية ٥٤] على الحكاية تقول : «ما أقول إلّا» : «ضربك عمرو» و «ما أقول إلّا : «قام زيد».

وقال : (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) [الآية ٦٦] فأضاف (خزي) الى «اليوم» فجرّه ، وأضاف «اليوم» إلى «إذ» فجرّه (٣).

وقال تعالى : (نَكِرَهُمْ) [الآية ٧٠] تقول «نكرت الرجل» و «أنكرته».

وقال : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) (١٠١) فهو مصدر «تبّبوهم» «تتبيبا».

__________________

(١). في الشواذ ٦١ نسبت القراءة بالتاء إلى الإمام علي بن ابي طالب والضحاك. وأبدل في الجامع ٩ / ٨٧ السلمي بالإمام. وفي البحر ٥ / ٢٥٣ زاد ابن أبي عبلة وزيد بن علي وطلحة. أما القراءة بالنون فهي في البحر ٥ / ٢٥٣ الى الجمهور.

(٢). في الأصل تذكرون ، والكلام يشير الى ما أثبتناه ، وقد وردت هذه اللفظة في سبعة عشر موضعا من القرآن الكريم ، أولها الأنعام ٦ / ١٥٢ وآخرها الحاقة ٦٩ / ٤٢.

(٣). هي في السبعة ٣٣٦ قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة وعاصم ، والى نافع في رواية ، وفي الكشف ١ / ٥٣٢ والتيسير ١٢٥ والبحر ٥ / ٢٤٠ الى غير نافع والكسائي ، وخصّ من المستثنى منهم في الجامع ٩ / ٦١ أبا عمرو.

٨٩

وقال : (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [الآية ٨] و «الأمّة» : الحين كما قال (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف / ٤٥].

وقال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِ) [الآية ١٥] ف (كانَ) في موضع جزم وجوابها (نُوَفِ).

وقال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [الآية ١٧] بإضمار الخبر.

وقال (فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) [الآية ١٧] بجعل النار هي الموعد ، وإنّما الموعد فيها كما تقول العرب : «الليلة الهلال» ومثلها (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [الآية ٨١].

وقال : (وَغِيضَ الْماءُ) [الآية ٤٤] تقول «غضته» ف «أنا أغيضه» وتقول : «غاضته الأرحام» ف «هي تغيضه» وقال : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) [الرعد / ٨]. وفي قوله تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [الآية ٤٤] ثقّل «الجوديّ» لأن الياء ياء النسبة ، فكأنه أضيف الى «الجود» كقولك : «البصريّ» و «الكوفيّ».

وقال : (وَلا تَطْغَوْا) [الآية ١١٢] من «طغوت» «تطغا» مثل «محوت» «تمحا».

وقال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا) [الآية ١١٣] من «ركن» «يركن» ، وإن شئت قلت «ولا تركنوا» (١) وجعلتها من «ركن» «يركن».

وقال تعالى : (طَرَفَيِ النَّهارِ) [الآية ١١٤] بتحريك الياء لأنها ساكنة لقيها حرف ساكن ، لأن اكثر ما يحرّك الساكن بالكسر ، نحو (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) [يوسف / ٣٩ و ٤١].

وقال تعالى : (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) [الآية ١١٤] لأنها جماعة ، تقول «زلفة» و «زلفات» و «زلف».

وقال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣) لأنه عنى النبيّ (ص) ، أو قال له «قل لهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣)».

__________________

(١). هي في الشواذ ٦١ الى قتادة ، وفي المحتسب ٣٢٩ زاد طلحة والأشهب وأبا عمرو ، وأغفل في الجامع ٩ / ١٠٨ أبا عمرو والأشهب ، وفي البحر ٥ / ٢٦٩ كما في المحتسب.

٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «هود» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [الآية ٣] مع أن التوبة مقدّمة على الاستغفار؟

قلنا : المراد : استغفروا ربكم من الشرك ، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. كذا قاله مقاتل. وهذا الاستغفار مقدم على هذه التوبة. الثاني : أنّ فيه تقديما وتأخيرا. الثالث قال الفرّاء : ثمّ هنا بمعنى الواو ، وهي لا تفيد ترتيبا ، فاندفع السؤال.

فإن قيل : من لم يستغفر ولم يتب ، فإنّ الله يمتّعه متاعا حسنا الى أجله : أي يرزقه ويوسع عليه كما قال ابن عباس ، أو يعمّره كما قال ابن قتيبة ، فما الحكمة في قوله تعالى (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى)؟

قلنا : قال غيرهما : المتاع الحسن ، المشروط بالاستغفار والتوبة ، هو الحياة في الطاعة والقناعة ، ومثل هذه الحياة إنما تكون للمستغفر التائب التقي.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٦] لم لم يقل على الأرض مع أنه أشدّ مناسبة لتفسير الدابة لغة ، فإنها ما يدب على وجه الأرض؟

قلنا : «في» هنا بمعنى «على» ، كما في قوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه / ٧١] ، وقوله تعالى (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) [الطور / ٣٨]. الثاني :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩١

أن لفظة «في» أعم وأشمل ، لأنها تتناول كل دابة على وجه الأرض ، وكل دابة في باطن الأرض ، بخلاف على.

فإن قيل : لم خصّ الدابة بذكر ضمان الرزق ، والطير كذلك رزقه على الله تعالى ، وهو غير الدابة بدليل قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام / ٣٨].

قلنا : إنّما خص الدابة بالذكر ، لأن الدواب أكثر من الطيور عددا ، وفيها ما هو أكبر جثة من كل فرد من أفراد الطير ، كالفيل والحوت ، فيكون أحوج الى الرزق ، فلذلك خصّه بالذكر.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [الآية ٦] و «على» للوجوب ، والله تعالى لا يجب عليه شيء وإنما يرزقها تفضّلا منه وكرما.

قلنا : «على» هنا بمعنى «من» ، كما في قوله تعالى (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) (٢) [المطفّفين]. الثاني : أنه ذكره بصيغة الوجوب ، ليحصل للعبد زيادة سكون وطمأنينة في حصوله.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك / ٢] والخطاب عامّ للمؤمنين والكافرين ، فإنه امتحن الفريقين بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت الى أحسن وأحسن ، فأما أعمال الفريقين فتفاوتها الى حسن وقبيح.

قلنا : قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ) عامّ ، أريد به الخاص ، وهم المؤمنون تشريفا لهم وتخصيصا ، فصحّ قوله سبحانه : (أَحْسَنُ عَمَلاً).

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) [الآية ١٢] ولم يقل و «ضيّق»؟

قلنا : ليدل على أن ضيقه عارض غير ثابت ، لأن النبي (ص) كان أفسح الناس صدرا ، ونظيره قولك : زيد سائد وجائد ، فإذا أردت وصفه بالسيادة والجود الثابتين المستقرين قلت زيد سيّد وجواد ، كذا قال الزمخشري.

فإن قيل : قال تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [الآية ١٣] أمرهم بالإتيان بمثله وما يأتون به لا يكون مثله ، لأن ما يأتون به مفترى ، والقرآن ليس بمفترى.

٩٢

قلنا : أراد به مثله في البلاغة والفصاحة ، وإن كان مفترى. وقيل معناه : مفتريات ، كما أن القرآن مفترى في زعمكم واعتقادكم ، فيتماثلان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلْ فَأْتُوا) فأفرد في قوله (قُلْ) ثم جمع فقال (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا) [الآية ١٤].

قلنا : الخطاب للنبي (ص) في الكل ، ولكنه جمع في قوله عزوجل : (لَكُمْ فَاعْلَمُوا) تفخيما له وتعظيما. الثاني : أن الخطاب الثاني للنبي (ص) وأصحابه ، لأن النبي (ص) وأصحابه كانوا يتحدّونهم بالقرآن ، وقوله تعالى في موضع آخر : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ) [القصص / ٥٠] يعضد الوجه الاول. الثالث : أن يكون الخطاب في الثاني والثالث للمشركين ، والضمير في (يَسْتَجِيبُوا) لمن استطعتم ، يعني فإن لم يستجب لكم من تدعونه المظاهرة على معارضته ، لعجزهم ، فاعلموا أيها المشركون أنما أنزل بعلم الله ، وهذا وجه لطيف.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) [الآية ١٦] يدل على بطلان عملهم ، فما الحكمة في قوله بعده (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الآية ١٦]؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها) أي بطل ثواب ما صنعوا من الطاعات في الدنيا (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) من الرياء.

فإن قيل : لم قال نوح عليه‌السلام كما ورد في التنزيل (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً) [الآية ٢٩] بالواو ، وقال هود عليه‌السلام ، كما ورد في التنزيل أيضا (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) [الآية ٥١] بغير الواو؟

قلنا : لأن الضمير في (عَلَيْهِ) لتبليغ الرسالة المدلول عليه بأول الكلام في القصتين ، ولكن في قصة نوح عليه‌السلام وقع الفصل بين الضمير وبين ما هو عائد عليه بكلام آخر ، فجيء بواو الابتداء : وفي قصة هود عليه‌السلام لم يقع بينهما فصل فلم يحتج الى واو الابتداء ، هذا ما وقع لي فيه ، والله اعلم.

فإن قيل : قوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الآية ٤٣] لا يناسبه

٩٣

المستثنى في الظاهر ، وهو قوله سبحانه في الآية نفسها : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) لأن المرحوم معصوم ، فظاهره يقتضي (١) لا معصوم إلّا من رحم : أي لا معصوم من الغرق بالطوفان إلّا من رحمه‌الله بالإنجاء في السفينة؟

قلنا : عاصم هنا بمعنى معصوم ، كقوله تعالى : (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) (٦) [الطارق] أي مدفوق ، وقوله تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٢١) [الحاقة] أي مرضية ، وقول العرب : سرّ كاتم : أي مكتوم. الثاني أن معناه : لا عاصم اليوم من أمر الله إلّا من رحم ، أي إلا الراحم وهو الله تعالى ، وليس معناه المرحوم ، فكأنه قال : لا عاصم إلا الله. الثالث أن معناه : لا عاصم اليوم من أمر الله إلا مكان من رحم الله من المؤمنين ، ونجّاهم وهو السفينة ، ويناسب هذا الوجه قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤١) وهذا لأنّ ابن نوح عليه‌السلام ، لمّا جعل الجبل عاصما من الماء ، ردّ نوح عليه‌السلام ، ذلك ، ودلّه على العاصم وهو الله تعالى ، أو المكان الذي أمر الله بالالتجاء إليه ، وهو السفينة.

فإن قيل : كيف صح أمر السماء والأرض بقوله تعالى (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [الآية ٤٤] وهما لا يعقلان ، والأمر والنهي إنما يكون لمن يفعل ويفهم الخطاب؟

قلنا : الخطاب لهما في الصورة ، والمراد به الخطاب للملائكة الموكّلين بتدبيرهما. الثاني : أن هذا أمر إيجاب لا أمر إيجاد ، وأمر الإيجاد لا يشترط فيه العقل والفهم ، لأن الأشياء كلها بالنسبة الى امر الإيجاد مطيعة منقادة لله تعالى ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس] وقوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) [فصّلت / ١١] كل ذلك أمر إيجاد.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِ) [الآية ٤٥] بالفاء ، وقال في قصة زكريا عليه الصلاة

__________________

(١). قوله (فظاهره يقتضي إلخ) لا يخفى أنه على هذا الظاهر لا ورود لصورة الإشكال ، إذ هو عين ما صدر به في الجواب عنه ؛ فكان المناسب في تقدير السؤال ، بقاء العاصم على حقيقته ، وهو الحافظ ، وجعل المراد ممّن رحم ، المرحوم لا الراحم ، وهو الله تعالى ، كما هو أحد التأويلات.

٩٤

والسلام (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِ) [مريم] بغير فاء؟

قلنا : أراد بالنداء هنا إرادة النداء فجاء بالفاء الدالة على السببية ، فإن إرادة النداء سبب للنداء ، فكأنه قال : وأراد نوح نداء ربه فقال كيت وكيت ، وأراد به في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام حقيقة النداء ، فلهذا جاء بغير فاء لعدم ما يقتضي السببية.

فإن قيل : هود عليه الصلاة والسلام كان رسولا ولم يظهر معجزة ، ولهذا قال له قومه : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) ([الآية ٥٣] فبأي شيء لزمتهم رسالته؟

قلنا : إنّما يحتاج الى المعجزة ، من الرسل ، من يكون صاحب شريعة لتنقاد أمّته لشريعته ، فإن في كل شريعة أحكاما غير معقولة فيحتاج الرسول الآتي بها ، الى معجزة لتشهد بصحة صدقه ، فأما الرسول الذي لا تكون له شريعة ولا يأمر إلّا بالعقليات فلا يحتاج الى معجزة ، لأن الناس ينقادون الى ما يأمرهم به لموافقته للعقل ، وهود (ع) كان كذلك. الثاني : أنه نقل أن معجزة هود كانت الريح الصرصر ، فإنها كانت سخّرت له.

فإن قيل : على الوجه الأول لو كان أمره لهم مقصورا على العقليات لما خالفوه وكذبوه ونسبوه الى الجنون ، بقولهم كما ورد في التنزيل (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) إلى (بِسُوءٍ).

قلنا : إنما صدر ذلك القول من قاصري العقول أو المعاندين المكابرين ، كما قيل ذلك لكل رسول بعد إتيانه بالمعجزات الظاهرات والآيات الباهرات.

فإن قيل : هل قوله تعالى : (إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا) [الآية ٥٤] لتتناسب الجملتان؟

قلنا : لأن إشهاد الله تعالى على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ، مفيد تأكيد التوحيد وشده معاقده ؛ وأما إشهادهم فما هو إلا تهكّم بهم وتهاون ودلالة على قلة المبالاة ، لأنهم ليسوا أهلا للشهادة ؛ فعدل به عن اللفظ الأول ، وأتى به على صورة التهكّم والتهاون ؛ كما يقول الرجل لصاحبه إذا لاحاه : اشهد إني لأحبك ، تهكّما به واستهانة له.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) [الآية ٥٧] جعل التولّي

٩٥

شرطا والإبلاغ جزاء ، والإبلاغ كان سابقا على التولّي.

قلنا : ليس الإبلاغ جزاء التولّي ، بل جزاؤه محذوف تقديره : فإن تولّوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ أو تقصير فيه ، ودلّ على الجزاء المحذوف قوله سبحانه : (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ). الثاني : قال مقاتل تقديره : فإن تولّوا فقل لهم قد أبلغتكم.

فإن قيل : ما الحكمة من تكرار التنجية في قوله تعالى (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) (٥٨)؟

قلنا : أراد بالتنجية الأولى تنجيتهم من عذاب الدنيا الذي نزل بقوم هود ، وهو سموم أرسلها الله تعالى عليهم فقطّعتهم عضوا عضوا ، وأراد بالتنجية الثانية تنجيتهم من عذاب الآخرة الذي استحقّه قوم هود بالكفر ، ولا عذاب أغلظ منه ولا أشدّ.

فإن قيل : (بُعْداً) [الآية ٤٤] معناه عند العرب الدعاء عليهم بالهلاك بعد هلاكهم.

قلنا : معناه الدلالة على أنهم مستأهلون له وحقيقون به ، ونقيضه قول الشاعر :

إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

أراد بالدعاء لهم بنفي الهلاك بعد هلاكهم الإعلام بأنهم لم يكونوا مستأهلين له ولا حقيقين به.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [الآية ٨٤] نهي عن النقص فيهما ، والنهي عن النقص أمر بالإيفاء معنى ، فما الحكمة في قوله تعالى في الآية التالية : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ).

قلنا : صرّح أوّلا بنهيهم عن النقص الذي كانوا يفعلونه لزيادة المبالغة في تقبيحه وتغييرهم إيّاه ، ثم صرح بالأمر بالإيفاء بالعدل الذي هو حسن عقلا ، لزيادة الترغيب فيه والحثّ عليه.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٨٥) والعثوّ الفساد ، فيصير المعنى : ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة. وجواب آخر معناه : ولا تعثوا في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بنقص المكيال والميزان.

٩٦

فإن قيل : لم قال تعالى : (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الآية ٨٦] فشرط الإيمان في كون البقيّة خيرا لهم ، وهي خير لهم مطلقا لأن المراد ببقيّة الله ما يبقى لهم من الحلال ، بعد إيفاء الكيل والوزن ، وذلك خير لهم ، وإن كانوا كفّارا ، لأنهم يسلمون معه من عقاب البخس والتطفيف؟

قلنا : إنما شرط الإيمان في خيرية البقيّة ، لأن خيريتها وفائدتها مع الإيمان أظهر ، وهو حصول الثواب مع النجاة من العقاب ، ومع فقد الإيمان أخفى لانغماس صاحبها في عذاب الكفر ، الذي هو أشدّ العذاب. الثاني : أن المراد إن كنتم مصدّقين ، فيما أقول لكم وأنصح.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) (٨٩) ولم يقل ببعيدين والقوم اسم لجماعة الرجال ، وما جاء في القرآن الضمير العائد اليه إلا ضمير جماعة ، قال الله تعالى (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ) [نوح / ١] وقال تعالى (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) [الحجرات / ١١].

قلنا : فيه إضمار تقديره : وما هلاك قوم لوط او مكان قوم لوط ، ومكان قوم لوط كان قريبا منهم ، وإهلاكهم أيضا كان قريبا من زمانهم. الثاني : أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، قال الجوهري : يقال ما أنتم منا ببعيد ، وقال الله تعالى (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) [التحريم] وقال سبحانه (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) [ق].

فإن قيل : قولهم ، كما ورد في التنزيل : (وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ) (٩١) كلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه ، فكيف صح قوله كما ورد في التنزيل أيضا (أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ) [الآية ٩٢]؟

قلنا : تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله ، فحين عزّ رهطه عليهم دونه ، كان رهطه أعزّ عليهم من الله ، ألا ترى الى قوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء / ٨٠] وقوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح / ١٠].

فإن قيل : قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته ، ثم أتبعه بذكر عاقبة العاملين منه ومنهم ، فكان المطابق والموافق في ظاهر الفهم أن

٩٧

يقول : من يأتيه عذاب يخزيه حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إليهم ، ومن هو صادق إليه.

قلنا : القياس ما ذكرت ، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبا قال : ومن هو كاذب ، يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) [الآية ١٠٢] والقرى لا تكون ظالمة ، لأن الظلم من صفات من يعقل ، أو من صفات الحيوان دون الجماد؟

قلنا : هو من الإسناد المجازي ، والمراد به أهلها ، كما قال تعالى في موضع آخر (أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها) [النساء / ٧٥] لكن لما أمن اللبس أسند الظلم الى القرية لفظا ، كما في قوله تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف / ٨٢].

فإن قيل : كيف التوفيق بين قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الآية ١٠٥] وقوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل / ١١١] وقوله عزوجل (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) [المرسلات] فإن الآية الثالثة تناقض الآية الأولى بنفي الإذن ، وتناقض الآيتين جميعا بنفي النطق؟

قلنا : أمّا التوفيق بين الآيتين ، الأوليين فظاهر ، لأن المعنى تجادل عن نفسها بإذنه فتوافقت الآيتان ، وأما الآية الثالثة فإنها لا تناقض الآية الاولى بنفي الإذن ، إن قلنا إنّ الاستثناء من النفي ليس بإثبات ، لأنّ الآية الاولى لا تقتضي وجود الإذن حينئذ ، بل تقتضي نفي الكلام عند انتفاء الإذن ؛ فأما إن قلنا إن الاستثناء من النفي إثبات ناقضت الآية الثالثة الأولى ، ولا تناقض الآيتين بنفي النطق ، لأن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف ومواطن ، ففي بعضها يكفّون عن الكلام فلا يؤذن لهم فيه ، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون ، وفي بعضها يختم على أفواههم وتتكلّم أيديهم وتشهد أرجلهم ، وهذا جواب عام عن مثل هذه الآيات ، ويرد على هذا أن يقال قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) نفى النطق عنهم يوم القيامة ، ما يوجب انتفاءه في جميع أجزاء ذلك الزمان عملا بعموم النفي ، كما يعم النفي جميع أجزاء المكان في قولنا ، لا وجود لزيد في الدار ، فاندفع الجواب باختلاف المواقف والمواطن ؛

٩٨

فيكون الجواب ، أن الآية الثالثة أريد بها طائفة خاصة ، غير الطائفتين الأوليين فلا تناقض.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١٠٥) وكلمة «من» للتبعيض ، ومعلوم أن الناس كلهم إما شقي أو سعيد ، فما معنى التبعيض؟

قلنا : التبعيض هنا على حقيقته ، لأنّ أهل القيامة ثلاثة أقسام : قسم شقيّ ، وقسم سعيد ، وهم أهل النار والجنة كما ذكر في هذه الآية مفصّلا ؛ وقسم لا شقي ولا سعيد وهم أهل الأعراف. الثاني أنّ معنى الكلام : فمنهم شقيّ ومنهم سعيد ، وهذا يقتضي أن يكون الشقيّ بعض الناس والسعيد بعض الناس ، والأمر كذلك ، ولا يقتضي أن يكون الشقي والسعيد كلاهما بعض الناس ، بل كل واحد منهما بعض ، وكلاهما كلّ ، كما تقول من الحيوان إنسان ، ومن الحيوان غير إنسان ، وكل الحيوان إما إنسان أو غير إنسان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [الآية ١٠٨] وأراد به بيان دوام الخلود ، مع أنّ أهل الجنة وأهل النار مخلّدون فيهما خلودا لا نهاية له ، والسموات والأرض ودوامهما منقطع ، لأنهما يوم القيامة ينهدمان ، قال الله تعالى : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٢١) [الفجر] وقال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) [الانفطار] وقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء / ١٠٤] ونظائره كثيرة ممّا يدل على خراب السموات والأرض؟

قلنا : للعرب في معنى الأبد ألفاظ تعبر عن إرادة الدوام دون التأقيت ، منها هذا ؛ يقولون : لا أفعل كذا ما اختلف الليل والنهار ، وما دامت السماء والأرض ، وما أطمت الإبل ، ويريدون بذلك لا أفعله أبدا مع قطع النظر عن كون المؤقّت به له نهاية أو لا نهاية له. الثاني : أنه خاطبهم على معتقدهم أن السموات والأرض لا تزول ولا تتغير. الثالث : أنه أراد به كون الفريقين في قبورهم إما منعّمين أو معذّبين ، كما جاء في الحديث «إن القبر إمّا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» ومن كان في روضة من رياض الجنة فهو في الجنة ، ومن كان في حفرة من حفر النار فهو في النار ، فعلى هذا يكون المراد بالتأقيت بدوام السماوات والأرض مدة الخلود الى

٩٩

يوم القيامة. الرابع : أن المراد بها سماوات الآخرة وأرضها ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم / ٤٨] وتلك دائمة لا تزول ولا تفنى ، ولأنه لا بد لأهل الجنة ممّا يقلّهم ويظلّهم ، إمّا سماء يخلقها الله تعالى ، أو العرش ، كما جاء في الأخبار ، أنّ أهل الجنة تحت ظل العرش ، وكل ما أظلك فهو سماء ؛ وجاء في الأخبار أيضا في صفة الجنة ، أنّ ترابها من زعفران ، فدل أنّ لها أرضا ؛ والمراد تلك السموات ، وتلك الأرض.

فإن قيل : إذا كان المراد بهذا التأقيت دوام الخلود دواما لا آخر له ، فكيف صحّ الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [الآية ١٠٧]؟

قلنا : قال الفرّاء : «إلّا» هنا بمعنى «غير» و «سوى» ، فمعناه : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض ، سوى ما شاء الله تعالى من الخلود والزيادة ؛ فكأنه قال : خالدين فيها قدر مدة الدنيا ، غير ما شاء الله من الزيادة عليها إلى غير نهاية ، وهذا الوجه إنّما يصح إذا كان المراد سموات الدنيا وأرضها. قال ابن قتيبة : ومثله في الكلام قولك : لأسكّنك في هذه الدار حولا إلا ما شئت ، يريد سوى ما شئت أن أزيدك على الحول. الثاني : أنه استثناء لا يفعله كما تقول : لأهجرنّك إلّا أن أرى غير ذلك ، وعزمك على هجرانه أبدا ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما. إلا ما شاء ربّك ، وقد شاء أن يخلدوا فيها. قال الزجّاج : وفائدة هذا الاستثناء ، إعلامنا أنه ، لو شاء سبحانه أن لا يخلّدهم لما خلّدهم ، ولكنه ما شاء إلّا خلودهم. الثالث : أنه استثناء لزمان البعث والحشر والوقوف للعرض والحساب ، فإنّ الأشقياء والسعداء في ذلك الزمان كلّه ، ليسوا في النار ولا في الجنة. الرابع : أن «ما» بمعنى من ، والمستثنى من يدخل النار من الموحّدين فيعذّب بقدر ذنوبه ، ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ، وهذا الوجه يختص بالاستثناء من الأشقياء فقط. الخامس : أنّ المستثنى زمان كون أهل الأعراف على الأعراف قبل دخولهم الجنة ؛ وهذا الوجه يختص بالاستثناء من السّعداء ، لأنهم لم يدخلوا النار لأنّ مصيرهم الى الخلود في الجنة. السادس : أنه استثناء من الخلود في عذاب النار ، ومن الخلود في نعيم الجنة ؛ الأشقياء لا يخلدون

١٠٠