الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

يجول في جنبات الأرض ، وأطوار التاريخ مع قصص الماضين.

والقصص هنا مفصّل بعض الشيء ، لأنه يتضمن الجدل حول حقائق العقيدة التي وردت في مطلع السورة. والتي يجيء كل رسول لتقريرها ، وكأنما المكذّبون هم المكذبون وكأنما طبيعتهم واحدة ، وعقليّتهم واحدة على مدار التاريخ. ويتّبع القصص ، في هذه السورة ، خط سير التاريخ ، فيبدأ بنوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ويلم بإبراهيم في الطريق إلى لوط ثم شعيب ثم إشارة الى موسى ؛ ويشير الى الخط التاريخي ، لأنه يذكّر التالين بمصير السالفين.

وليس من قصدنا أن نذكر قصص هؤلاء الأنبياء الكرام ، فذلك ما لا يتّسع له المجال ، ولكن واجبنا نحو سورة هود ، يحتّم علينا أن نذكر لمحات من سيرة هؤلاء الرسل.

قصة نوح (ع)

لقد ألمحت سورة يونس إلى قصة نوح فذكرت الحلقة الاخيرة منها ، وهي غرق الكافرين ونجاة المؤمنين.

ولكن سورة هود تعرضت لقصة نوح بمزيد من التفصيل خلال أربع وعشرين آية : من الآية ٢٥ الى الآية ٤٩.

تناولت دعوة نوح الى الله ، وجداله مع قومه وصنعه السفينة ، وتعرّضه لسخرية قومه ، ثم فوران التنور ، واكتساح الطوفان ، وركوب السفينة تسير بأمر الله وقدرته :

(بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [الآية ٤١].

ثم تهدأ العاصفة ، وتبلع الأرض ماءها ، وتمسك السماء عن المطر ، وتعود الحياة سيرتها ، فيناجي نوح (ع) ربّه بعد غرق ولده ، قائلا :

(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [الآية ٤٥].

أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ، فيجيبه الله سبحانه :

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [الآية ٤٦].

والمعنى : إنه عمل عملا غير صالح ، فهو من صلب نوح وذريّته ، إلا أنه منقطع الصلة به في نسب الإيمان ، وصلة العمل الصالح. وهنا يتنبه نوح الى حقيقة العدل الإلهي ، ويرى أن عقاب الله عامّ لكل الكافرين ، وأن نعيمه عام لجميع المؤمنين ، فليس بين

٦١

الله وبين أحد من عباده نسب ولا صلة ، فالخلق كلهم عباد الله ، يتفاضلون عنده بالتقوى ، ويدركون ثوابه بالعمل الصالح :

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات / ١٣].

ويكون التعقيب على قصة نوح معبّرا عن أهداف القصص القرآني ، مبشّرا بالنجاة والنصر للمؤمنين ، منذرا بالهلاك والعذاب للكافرين. قال تعالى :

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩).

فيحقق هذا التعقيب من أهداف القصص القرآني في هذه السورة ما يأتي :

١ ـ حقيقة الوحي التي ينكرها المشركون. فهذا القصص غيب من الغيب ، ما كان يعلمه النبي (ص) ، وما كان معلوما لقومه ، ولا متداولا في محيطة وإنّما هو الوحي من لدن حكيم خبير.

٢ ـ وحقيقة وحدة العقيدة ، من لدن نوح أبي البشر الثاني ، هي نفسها ، والتعبير عنها يكاد يكون واحدا ، مشتملا على الدعوة الى الايمان بالله ، والدعوة الى مكارم الأخلاق ، والبعد عن الرذائل والمنكرات.

٣ ـ وحقيقة السنن الجارية التي لا تتخلف ولا تحيد (والعاقبة للمتقين) ، فهم الناجون وهم المستخلفون.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥) [الأنبياء].

قصة هود

تناول الدرس السابق قصة نوح عليه‌السلام ونجاته ومن معه في الفلك ، ثم هبوطه على الأرض ، مستحقّا لبركات الله عليه وعلى المؤمنين من ذريته ، أمّا المكذّبون من ذرّيته فلهم عذاب أليم ، وقد دارت عجلة الزمن ، ومضت خطوات التاريخ وإذا عاد من نسل نوح الذين تفرّقوا في البلاد ، ومن بعدهم ثمود ، ممّن حقت عليهم كلمة الله.

(وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨).

فأما عاد ، فكانوا قبيلة تسكن الأحقاف ، «وال حقف كثيب الرمل المائل» في جنوب الجزيرة العربية.

٦٢

وأما ثمود ، فكانت قبيلة تسكن مدائن الحجر ـ بين تبوك والمدينة ـ وبلغت كل منهما في زمانها أقصى القوة والمنعة والرزق والمتاع. ولكن هؤلاء وهؤلاء كانوا ممّن حقت عليهم كلمة الله ، بما عتوا عن أمر الله واختاروا الوثنية على التوحيد ، وكذّبوا الرسل شرّ تكذيب ، وفي قصّتهم هنا ، مصداق ما في مطلع السورة من بشارة للمؤمنين ، وإنذار للكافرين.

* * *

وقد ذكرت قصة هود في سورة الأعراف من الآية ٦٥ إلى الآية ٧٢ ، وفي سورة الشعراء من الآية ١٢٣ إلى الآية ١٤٠ ، ثم ذكرت هنا في سورة هود من الآية ٥٠ الى الآية ٦٠.

وقد نتساءل : لما ذا سمّيت هذه السورة بسورة هود ، مع أنها اشتملت على عدد كبير من قصص الأنبياء ، منهم نوح وهود وصالح وابراهيم ولوط وموسى عليهم‌السلام ، والجواب أن قوم هود (ع) قد حباهم الله سبحانه ، نعما وافرة وخيرات جليلة ، وأرسل السماء عليهم بالمطر ، فزرعوا الأرض وأنشأوا البساتين ، وشادوا القصور ، ومنحهم الله فوق ذلك بسطة في أجسامهم وقوّة في أبدانهم. وكان الواجب عليهم أن يفكّروا بعقولهم وأن يشكروا الله على هذه النّعم ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك بل اتّخذوا أصناما يعبدونها من دون الله ، ثم عثوا في الأرض فسادا وظلما وعدوانا. ولما جاءهم هود يدعوهم إلى الله ، ويأمرهم بتقواه وطاعته ، ويحذّرهم من البغي والعدوان ، لم يصيخوا لدعوته ، ولم يؤمنوا برسالته.

وإذا كانت السورة تسمّى بأغرب شيء فيها ، فإن الغرابة في قصة هود هي أن قومه «عادا» كانوا أكثر فضلا ونعمة ، ولكنهم قابلوا هذه النعمة بالجحود والكنود.

وتذكر الآيات معارضتهم لهود وإنكارهم عليه ، واعتقادهم أن آلهتهم أنزلوا به الجنون والاضطراب ، فيتبرّأ هود من آلهتهم ويتحدّاهم ، ويستنهض همتهم في أقصى ما يستطيعون من قوى الكيد ، وأنه لن يعبأ بهم ولا بجمعهم ، قال هود ، كما ورد في التنزيل :

(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) [الآية ٥٦].

وهي صورة محسوسة للقوة الإلهية. فالناصية أعلى الجبهة ، والله تعالى

٦٣

وحده صاحب القهر والغلبة والتصريف في كل ناصية ، وهي صورة حسّيّة تناسب الموقف ، وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ، حين استكبروا في الأرض بغير الحقّ :

(وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) (١٥) [فصّلت].

وتذكر الآيات هنا خاتمة أمر هود مع قومه ، على حسب سنة الله في نصرة أوليائه وخزي أعدائه. قال تعالى :

(وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠).

* * *

وتستمرّ «سورة هود» فتعرض قصة صالح مع قومه ، ودعوته لهم إلى دين الله ، وتودّده إليهم بقوله كما ورد في التنزيل :

(وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ) [الآية ٦٤].

وكانت ناقة ضخمة تشرب من الماء في يوم ، وتتركه فلا تذوقه في اليوم الآخر. ولكنهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، فنجّى الله صالحا ومن معه من المؤمنين ، وأرسل صيحة عاتية أهلكت الكافرين ، فصاروا جثثا هامدة ، وأصبحت ديارهم خاوية خالية :

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨).

٦٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «هود» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة هود بعد سورة يونس ، ونزلت سورة يونس بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة هود في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة هود فيها ، وتبلغ آياتها ثلاثا وعشرين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن مثل سورة يونس ، ولهذا ذكرت بعدها لتكمل الغرض منها ، ولتستوفي جانب القصص الذي ذكر فيها ، وقد ابتدأت بإثبات تنزيل القرآن بالتنويه بشأنه وبيان حاجتهم إليه ، وبتحدّيهم به كما تحدّوا به في سورة يونس ، ثم انتقل من هذا الى القصص لتثبيت النبي (ص) على تكذيبهم له ، ثم ختمت بما يناسب هذا السياق فيها.

إثبات تنزيل القرآن

الآيات [١ ـ ٢٤]

قال الله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١) ، فأقسم بهذه الحروف انه كتاب أحكمت آياته ثم فصّلت فصولا : حلالا وحراما ، ترغيبا وترهيبا ، ونحو ذلك ، وأنه أنزله كذلك ليعبدوه ، ويستغفروه ويتوبوا إليه. ليمتعهم متاعا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٦٥

حسنا الى أجل مسمّى ، ثم أوعدهم ، إن تولّوا عنه ، بعذاب يوم كبير ، وذكر أن إليه مرجعهم وهو على كل شيء قدير ، وأنه يعلم ما يسرّون وما يعلنون من أعمالهم ، وما من دابة في الأرض إلا عليه رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها ، وكل ذلك عنده في كتاب مبين ؛ ثم ذكر أنه سبحانه هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ليبلوهم : أيّهم أحسن عملا ، فلا بدّ لهم من يوم يحاسبون فيه على أعمالهم ؛ ثم ذكر أن النبي (ص) إذا أخبرهم مع هذا بأنهم مبعوثون بعد الموت ، يزعمون أن هذا سحر باطل لا حقيقة له ، وأنه إذا أخّر عنهم جلّ جلاله هذا العذاب الذي يوعدهم به ، يقولون على سبيل الاستهزاء : (ما يحبسه؟). وأجابهم بأنه يوم يأتيهم لا يصرف عنهم ويحيق بهم ما كانوا به يستهزئون. ثم أراد أن يبين أنه لو عجّل لهم هذا العذاب لم يؤمنوا به ، لأن الواحد منهم إذا أذاقه رحمة ثم نزعها منه يبالغ في اليأس والكفر ، فإذا أذاقه نعماء بعد هذا ، ظنّ أن السيئات ذهبت عنه الى غير عودة وبالغ في الفرح والفخر ، ومثل هذا لا يتّعظ بنقمة ولا نعمة ، ثم استثنى منهم الذين صبروا لأنهم لا ييأسون في النقمة ولا تبطرهم النعمة ، ووعدهم مغفرة وأجرا كبيرا.

ثم عاد السياق الى الحديث عن القرآن ، فذكر تعالى للنبي (ص) أنه لعله يترك بعض ما يوحي إليه منه ويضيق به صدره لأنهم يطلبون آية تدل على أنه منزل من عنده سبحانه ، كأن ينزل عليه كنزا أو يجيء معه ملك ؛ ثم ذكر أنه ليس إلّا نذيرا لهم ، فلا يطلب منه إلّا أن يبلّغهم ، وهو على كل شيء وكيل ؛ ثم ذكر أنّهم يزعمون أنه افتراه عليه ، وأمره أن يتحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وأمرهم أن يدعوا من استطاعوا ليساعدوهم على الإتيان بها ، ثم أمرهم إن لم يستجيبوا لهذا التحدّي ، أن يعلموا أنه إنما أنزل بعلمه ، وأنه لا إله إلا هو ، لأنهم لم يستطيعوا هم وآلهتهم أن يأتوا بما تحدّاهم به ، وطلب منهم أن يسلموا بعد عجزهم عنه ؛ ثم ذكر أن الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الإيمان به يوفّي إليهم أجور أعمالهم فيها ، ولا يكون لهم في الآخرة إلا النار ، ويحبط ما صنعوا فيها وتبطل أعمالهم ، لأنهم

٦٦

وفّوا أجورها في دنياهم ؛ ثم ذكر أن من كان على بيّنة من ربّه ـ وهو القرآن ـ ويتلوه شاهد منه ـ وهو الإنجيل ـ ومن قبله كتاب موسى ـ وهو التوراة ـ لا يمكن أن يكون جزاؤه كغيره ، أولئك يؤمنون به ، ومن يكفر به فالنار موعده ؛ ثم نهى النبي (ص) على سبيل التعريض أن يكون في مرية منه : (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١٧) ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا بشركهم ، وأنهم يعرضون عليه ، ويقول الأشهاد من الملائكة الذين كانوا يراقبونهم في دنياهم : (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٨) ثم يذكرون أنهم كانوا يصدّون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون ، وأنهم لم يكونوا معجزين في الأرض ، وما كان لهم من دون الله من أولياء يمنعون عنهم ، ولكنه أراد إمهالهم ليضاعف العذاب لهم ، وأنهم ما كانوا يستطيعون سماع القرآن ، وما كانوا يبصرون هديه ، وأنهم خسروا أنفسهم وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون ؛ ثم أتبع هذا بوعد المؤمنين بأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، وضرب مثلا للفريقين فقال سبحانه : (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٤).

تثبيت النبي بالقصص

على تكذيبهم

الآيات [٢٥ ـ ٩٩]

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٥) فذكر سبحانه أنه أرسل نوحا الى قومه لينذرهم قبل أن يأخذهم بعقابه. فأمرهم ألا يعبدوا إلا الله لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم ، فأجابه الذين كفروا من قومه بأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم ، ولا يرونه اتّبعه إلا أراذلهم بادي الرأي ، ولا يرون لهم عليهم من فضل. بل يظنونهم كاذبين في دعواهم ، ثم ذكر أنه أجابهم بأنه على بيّنة من ربّه وقد أتاه رحمة من عنده ، فإذا كان هذا قد عمّي عليهم فلا يلزمهم أن يؤمنوا به وهم له كارهون. وقد فصّل في قصته هنا ما فصل ، وذكر فيها ما لم يذكره في قصة يونس من الأخبار والحكم والمواعظ ؛ إلى أن ختمها ببيان ما كان من عقابه لمن

٦٧

كذّبه ، وأنه سبحانه نجّاه هو ومن آمن به وبارك عليه وعلى أمم منهم يهتدون بهديهم ، ومنهم أمم سيمتّعهم في الدنيا ثم يمسهم منه عذاب أليم : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (٤٩).

ثم ذكر أنه أرسل الى عاد أخاهم هودا فأمرهم سبحانه بعبادته وحده ، وقد مضت قصته معهم في سورة الأعراف. لكن ما ذكر منها هنا يخالف ما ذكر منها هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص ، وقد ذكر في ختامها أنه لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى هودا ومن آمن به ، وأنهم لا يذكرون إلا بأنهم جحدوا بآياته وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبّار عنيد : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ) (٦٠).

ثم ذكر أنه أرسل إلى ثمود أخاهم صالحا ، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده ، وقد مضت قصتهم أيضا في سورة الأعراف ، والفرق بينها في السورتين كالفرق بين قصة عاد فيهما ، وقد ذكر في ختامها أنه ، لمّا جاء أمره بهلاكهم نجّى صالحا ومن آمن به ، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨).

ثم ذكر أنه جاءت رسله إبراهيم بالبشرى ، وأنه قدّم لهم بعد السلام عجلا حنيذا (١) ليأكلوا منه فلم تمتدّ إليه أيديهم ، فلما رأى ذلك نكرهم وأوجس منهم خيفة ، فطمأنوه وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط ، وكانت امرأته قائمة فضحكت فبشّروها بولد يولد لها من إبراهيم وهو إسحاق ، وبولد يكون لإسحاق يكون هو يعقوب ؛ ثم ذكر أن إبراهيم طلب منهم أن يؤخّروا عذاب قوم لوط لعلّهم يؤمنون به ، وأنهم أمروه أن يعرض عن هذا الطلب ، لأنه قد جاء أمر الله بهلاكهم ، ثم ذكر قصة قوم لوط وقد مضت في سورة الأعراف ، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود ، وقد ذكر جلّ وعلا في ختامها ، أنه أمر لوطا وأهله إلا امرأته

__________________

(١). اى مشويا

٦٨

أن يخرجوا من قريتهم ، ثم أمطر عليها حجارة من سجّيل منضود : (مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) (٨٣).

ثم ذكر أنه أرسل الى مدين أخاهم شعيبا ، فأمرهم سبحانه أن يعبدوه وحده ، وقد مضت قصتهم في سورة الأعراف ، والفرق بينها في السورتين هو ما سبق في قصة عاد وثمود وقوم لوط ، وقد ذكر في ختامها ، أنه لما جاء أمره بهلاكهم نجّى شعيبا ومن آمن به ، وأخذت الكافرين الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين : (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) (٩٥) ثم ذكر أنه أرسل موسى الى فرعون وقومه وقد مضت قصّتهم في سورة يونس ، ولكنه لم يفصّلها هنا كما فصّلها هناك ، وإنما ذكر تعالى أنهم خالفوه واتّبعوا أمر فرعون ، فأوردهم النار ، وبئس الورد المورود : (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٩٩).

الخاتمة

الآيات [١٠٠ ـ ١٢٣]

ثم قال تعالى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) (١٠٠) فذكر أن ما سبق من أنباء القرى يقصّه عليه وبعضها لا تزال آثاره قائمة ، وبعضها ذهبت آثاره كلّها ، وأنه لم يظلمهم بهذا ، ولكنهم ظلموا أنفسهم ، باتخاذهم آلهة غيره ، فلم تدفع عنهم شيئا ؛ ثم ذكر أن في هذا دليلا لمن خاف عذاب الآخرة ، وأنه يوم يجمع له الناس وما يؤخره إلا لأجل معدود ، إلى غير هذا مما ذكره من أحوال الأشقياء والسعداء فيه.

ثم نهى النبي (ص) ، على سبيل التعريض ، أن يكون في مرية ممّا يعبده قومه ، وذكر أنهم لا يعبدون إلا كما يعبد الذين قصّ أخبار هلاكهم ، وأنه سيوفّيهم نصيبهم من العذاب أيضا ؛ ثم ذكر أنه قد أنزل على موسى التوراة من قبله ، فاختلفوا فيها كما اختلف قومه فيما أنزل اليه ، وأنه لو لا أن كلمته سبقت بتأخير عذابهم لقضى به بينهم ، وأنه جلّت قدرته ، لا بد أن يوفّي كلّا من الفريقين جزاء أعمالهم : (إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١١١) ثم أمره أن يستمر على استقامته ، كما أمر هو ومن تاب معه ، ونهاهم أن يطغوا كما يطغى المشركون ، أو يركنوا إليهم لئلّا تمسّهم النار ، ولا يجدون من دونه أولياء ثم لا

٦٩

ينصرون. وأمره أن يستمر على إقامة الصلاة في أوقاتها ، وأن يصبر على تكذيب قومه له : (فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (١١٥).

ثمّ عاد سبحانه الى أولئك الذين قصّت أخبار هلاكهم ، فذكر سبحانه أنه لم يكن فيهم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممّن أنجاهم ، وأنهم اتّبعوا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين ، وأنه لم يكن ليهلك تلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ، وأنه لو شاء لجعلهم مصلحين جميعا ولا يزالون مختلفين إلّا من رحمه ، ولذلك خلقهم : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩).

ثم ذكر للنبي (ص) ما قصّ من أنباء الرسل ليثبّت به فؤاده ، وأنه جاءه في هذه السورة القصص الحقّ وموعظة وذكرى للمؤمنين ، وأمره أن يخبر الذين لا يؤمنون بما جاء فيه من الوعيد بالعذاب ، أن يعملوا ما يقدرون لمنعه ، لأنه سيعمل لتحقيقه ، وأمرهم أن ينتظروه لأنه والمؤمنين ينتظرونه لهم : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (١٢٣).

٧٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «هود» (١)

أقول : وجه وضعها بعد سورة يونس : أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدا ، مجملة (٢) ، فشرحت في هذه السورة وبسّطت بما لم تبسطه في غيرها من السور ، ولا في سورة الأعراف على طولها ، ولا في سورة نوح التي أفردت لقصّته. فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس (٣). فإن قوله هناك : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) [يونس / ١٠٩] ، هو عين قوله هنا : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) (١). [فكان أول هود تفصيلا لخاتمة يونس].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك من قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) [يونس / ٧١] إلى (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣) [يونس].

(٣). وذلك من قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الآية ٢٥] إلى (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) [الآية ٤٨].

٧١
٧٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «هود» (١)

١ ـ (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [الآية ١٧].

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية (٢) : من كان على بيّنة : محمد (ص) ؛ والشاهد : جبريل.

وقال زيد بن أسلم : من : محمّد ؛ والشاهد : القرآن.

وقال الحسين (٣) بن علي : من : المؤمن ؛ والشاهد : محمد (ص). أخرج ذلك ابن أبي حاتم.

وأخرج عن محمد بن الحنفية (٤) قال : قلت لأبي : يا أبت : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) إنّ الناس يقولون : إنك أنت هو.

قال : وددت أني أنا هو. لكنه لسانه (٥).

وأخرج عن عباد بن عبد الله قال : قال علي : ما في قريش أحد ، إلّا وقد نزلت فيه آية.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). هذا القول صحّحه ابن كثير.

(٣). كذا في الطبري في «تفسيره» ١٢ / ١٠.

(٤). محمد بن الحنفية : هو ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، لكنه نسب الى أمه ، كان ثقة عالما من أفاضل أهل بيته ، مات بعد الثمانين.

(٥). المثبت من «تفسير الطبري» ١٢ / ١٠ ؛ ووقع في «الدر المنثور» ٣ / ٣٢٤ : و «مجمع الزوائد» ٧ / ٣٧ : «لسان محمد (ص)». وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه خليد بن دعلج ، وهو متروك.

٧٣

قلت له : فما نزل فيك؟ قال : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (١).

وفي «العجائب» للكرماني :

قيل : (الشاهد) : ملك يحفظه (٢).

وقيل : أبو بكر.

وقيل : الإنجيل (٣).

٢ ـ (وَيَقُولُ الْأَشْهادُ) [الآية ١٨].

يأتي في سورة غافر (٤).

٣ ـ (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الآية ١٩].

قال السّدّيّ : هو محمد (ص).

أخرجه ابن أبي حاتم.

٤ ـ (وَفارَ التَّنُّورُ) [الآية ٤٠].

أخرجه ابن أبي حاتم عن علي قال : فار التنور من مسجد الكوفة من قبل أبواب كندة.

وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَفارَ التَّنُّورُ).

قال : العين التي بالجزيرة عين الوردة.

وأخرج عن قتادة قال : التنوّر : أشرف الأرض ، وأعلاها ، عين بالجزيرة : عين الوردة (٥).

وأخرج من وجه آخر عن ابن عباس قال : (وَفارَ التَّنُّورُ) بالهند.

٥ ـ (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠).

قال ابن عباس : كان معه في السفينة ثمانون رجلا ، معهم أهلوهم ، أحدهم : جرهم (٦). أخرجه ابن أبي حاتم (٧).

__________________

(١). ضعّفه ابن كثير في «تفسيره».

(٢). أخرجه الطبري في «تفسيره» ١٢ / ١٢ عن مجاهد ، وهو جبريل كما في روايات أخر فيه.

(٣). قال الطبري بعد أن أورد الأقوال في تفسير هذه الآية ١٢ / ١٢ : «وأولى هذه الأقوال التي ذكرها بالصواب في تأويل قوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) قول من قال : هو جبريل لدلالة قوله سبحانه في الآية نفسها : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) على صحة ذلك ، وذلك أن نبي الله (ص) لم يتل قبل قبل القرآن كتاب موسى ، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال : عنى به لسان محمّد (ص) ، أو محمّدا نفسه ، أو عليّا ، على قول من قال عنى به عليّا ، ولا يعلم أن أحدا كان تلا ذلك قبل القرآن ، أو جاء به ممّن ذكر أهل التأويل أنه عني بقوله تعالى : (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) غير جبرئيل عليه‌السلام.

(٤). في الآية (٥١) وهو قوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٥١).

(٥). عين الوردة : موضع على مقربة من الكوفة. انظر «الروض المعطار» : ٤٢٣.

(٦). وكان لسانه عربيّا ، كما في «الدر المنثور» ٣ / ٣٣٣.

(٧). والطبري ١٢ / ٢٦ ـ ٢٧.

٧٤

وأخرج في آثار عن قتادة ، وكعب الأحبار ، ومحمد بن عبّاد بن جعفر ، ومطر ، وغيرهم : أنه كان معه اثنان وسبعون مؤمنا ، وهو ، وزوجته ، وأولاده الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث ؛ وزوجات الثلاثة ، وأنه ركبها في عشر خلون من رجب ، ونزل في عشر خلون من المحرم (١).

٦ ـ (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) [الآية ٤٢].

قال قتادة : كان اسمه كنعان. أخرجه ابن أبي حاتم.

وقيل : يام. حكاه السّهيلي.

فائدة : وقع السؤال كثيرا ، هل كان ماء الطوفان عذبا ، او ملحا؟ لم نعبأ بذلك.

ثم رأيت ما يدل على أنه كان عذبا. أخرج ابن أبي حاتم ، من طريق نوح ابن المختار ، عن أبي سعيد عقيص (٢) قال : خرجت أريد أن أشرب ماء المر ، فمررت بالفرات ، فإذا الحسن والحسين ؛ فقالا : يا أبا سعيد ، أين تريد؟

قلت : أشرب ماء المرّ.

قالا : لا تشرب ماء المر ، فإنه لما كان زمن الطوفان أمر الله الأرض أن تبلع ماءها ، وأمر السماء أن تقلع ، فاستعصى عليه بعض البقاع فلعنه ، فصار ماؤه مرّا ، وترابه سبخا (٣) ، لا ينبت شيئا.

٧ ـ (فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) [الآية ٦٥].

قال قتادة : هي : يوم الخميس ، والجمعة ، والسبت ؛ وصبّحهم العذاب يوم الأحد. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). قال الطبري ١٢ / ٢٧ : والصواب من القول في ذلك القول أن يقال كما قال الله : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠) يصفهم بأنهم كانوا قليلا ، ولم يحدّ عددهم بمقدار ، ولا خبر عن رسول الله (ص) صحيح. فلا ينبغي أن يتجاوز في ذلك حد الله ، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدّ من كتاب الله أو أثر عن رسول الله (ص)».

(٢). في «لسان الميزان» و «الميزان» : «عقيصا» وهو رجل غير ثقة في حديثه ، حتى إن الدّار قطني تركه ، ولم يوثّقه النسائي ، ولا الجوزجاني. وقال ابن عديّ : ليس له رواية يعتمد عليها عن الصحابة ، وإنما له قصص يحكيها. لذلك لا يعتمد على هذا الخبر ؛ وقول ابن عدي هذا يكفي لرده. انظر «ميزان الاعتدال» ٣ / ٨٨ و «لسان الميزان» ٢ / ٤٣٣.

(٣). سبخا : مالحا.

٧٥

٨ ـ (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ) [الآية ٧١].

اسمها : سارة.

٩ ـ (قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي) [الآية ٧٨]. سمّى السّدّيّ الكبرى : ريثا ، والصغرى : رغوثا.

أخرجه ابن أبي حاتم.

وسمى الوسطى (١).

__________________

(١). هذه العبارة ضرب عليها بالقلم ، وروى الطبري ١٢ / ٥١ عن مجاهد قال : لم يكنّ بناته ، لكن كنّ من أمته ، وكل نبي أبو أمته.

٧٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «هود» (١)

١ ـ وقال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) [الآية ٥].

قوله تعالى : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، أي : يزورّون عن الحق وينحرفون عنه : لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره ، ومن ازورّ عنه وانحرف ، ثنى عنه صدره ، وطوى عنه كشحه.

أقول : و «ثني الصدر» من مجازات القرآن البديعة التي لم نعرفها في مجازات العرب.

٢ ـ وقال تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢).

قال الزجّاج : «لا» نفي لما ظنّوا أنه ينفعهم ، كأنّ المعنى لا ينفعهم ذلك جرم (أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٢٢) ، أي : كسب ذلك الفعل ، لهم الخسران. وقال غيره : معناه : لا بدّ ولا محالة أنهم.

وقيل : معناه حقا ، ويستعمل في أمر يقطع عليه ولا يرتاب فيه ، أي : لا شكّ أن هؤلاء الكفار هم أخسر الناس في الآخرة.

أقول : حين اختلفت الأقوال في معنى «لا جرم» ، أصبحت الكلمة من المسائل المشكلة ، فليس في طوق المتكلّم أن يستعملها ، ولعل من أجل ذلك لم يكتب لها البقاء كثيرا في العربية ، وقلّما نقف على شيء منها في النصوص.

لقد روي في حديث قيس بن عاصم قوله : لا جرم لأفلّنّ حدّها.

قال ابن الأثير : هذه كلمة ترد بمعنى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٧٧

تحقيق الشيء ، واختلف فيها فقيل أصلها التبرئة بمعنى لا بدّ ، وقد استعملت بمعنى حقّا.

وقال الخليل : إن «جرم» إنما تكون جوابا لما قبلها من الكلام ، يقول الرجل : كان كذا وكذا وفعلوا كذا ، فتقول : لا جرم أنهم سيندمون ، أو انه سيكون كذا وكذا.

٣ ـ وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٣).

قوله تعالى : (وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ) ، اي : اطمأنّوا إليه ، وانقطعوا الى عبادته بالخشوع والتواضع ، وهو من الخبت أي : الأرض المطمئنة.

وقيل : معناه أنابوا وتضرّعوا إليه ، وهو قول ابن عبّاس.

وعن مجاهد : المعنى خضعوا له وخشعوا اليه ، والكلّ متقارب.

وفي قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤) [الحج].

أي : المتواضعين : وقيل : المطمئنّين.

وفي قوله تعالى : (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) [الحج / ٥٤]. فسّره ثعلب بأنه التواضع.

وفي حديث الدعاء : «واجعلني لك مخبتا».

أقول : وهذا من الكلم القرآني الذي نهض له أهل العلم من اللغويين والمفسّرين ، ووقفوا منه وقفات فيها جدّ وإخلاص.

٤ ـ وقال تعالى : (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) [الآية ٢٧].

قوله تعالى : (بادِيَ الرَّأْيِ) بمعنى أوّل الرأي أو ظاهر الرأي ، وانتصابه على الظرف ، أصله : وقت حدوث أول رأيهم ، أو وقت حدوث ظاهر رأيهم ، فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه.

وقرئ بالهمز وغير الهمز.

أقول : قد يحمل على الظرف مسائل كثيرة ليست من الظرف في الدلالة الزمانية أو المكانية ، فما أضيف الى الظرف أو إلى كلّ ما يدلّ على شيء من الزمان والمكان ينصب على الظرفية ، ألا ترى أن «أثناء» جمع ثني ، و «خلال» مصدر يدل على المكان ، ولكنهما اكتسبا الظرفية من الخافض «في» كما في قولهم : «في أثناء» ،

٧٨

والخافض «من» في قولهم «من خلال» ، ثم اتسع في الاستعمال ، وشاعت الظرفية في الكلمتين فأسقط الخافض فقيل : وحدث أثناء ذلك والأصل : «في أثناء ذلك» ، وقيل : وعرض خلال الأمر ، والأصل : من خلال.

٥ ـ وقال تعالى : (وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ) [الآية ٣٠].

المراد بقوله تعالى : (مِنَ اللهِ) ، أي من انتقامه ، فمن يمنعني من ذلك إن طردتهم أقول : وطيّ ، «الانتقام» ، بهذه الصورة يتبين من المعنى وسياق الآية قبلها. وفي أسلوب القرآن ، من الإيجاز بالحذف ، ما لا يدركه إلا الفطن اللبيب.

٦ ـ وقال تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤).

أقول : إن أسلوب القرآن جرى على نسق من إحكام الجملة العربية ، فخصّها بشيء كثير من «التناسب» ، وأريد بالتناسب محاكاة الطول ، حتّى لكأنّك مع هذا النظم البديع أمام مشهد متّصل الصّور منسجم الألوان ، وهذا من لطف بديع القرآن.

وأنت إذا تلوت : (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) ، ثم عقّبت عليها بقوله تعالى : (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) ، غلب عليك جمال هذا التقطيع عن الانصراف الى السجع بين «ابلعي» و «أقلعي».

ونتابع هذا الأسلوب المحكم في وضع الفقر ، المصيب كل الإصابة للمعنى بيانا وتصويرا ، فنجد أنفسنا مأخوذين بلطف الصنعة في السّرد ، وما يشبه الحركة الفنّية ، في الخطاب والجواب الذي يقتضيه مقام سرد الخبر ، ونتلو :

(وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (٤٥) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦)).

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٤٧)).

(قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ

٧٩

عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤٨).

ونجتزئ بهذا القدر ، من هذه اللغة الشريفة التي أحسن الله بناءها ، فكان من ذلك سر الإعجاز.

٧ ـ وقال تعالى : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) [الآية ٦٠].

قوله تعالى : (كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ، المراد به (كفروا بربهم) فحذف الباء كقولهم : أمرتك الخير ، والمعنى أمرتك بالخير ، وهذا من باب الحذف والإيصال ، وفي لغة القرآن ، وغيره ، نظائر وأشباه ، قال تعالى :

(أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) (٦٨).

ولا بد أن نستذكر قوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) [الأعراف / ١٥٥]. وقد مرّ كلامنا على الآية.

٨ ـ وقال تعالى : (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) [الآية ٦١].

المراد بقوله تعالى : (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ، أي : أذن لكم في عمارتها ، واستخراج قومكم منها ، وجعلكم عمّارها.

أقول : هذا هو أصل الاستعمار ، فماذا من أمره في العربية المعاصرة. لا أريد أن ادخل في موضوع «الاستعمار» بمعناه الحديث ، فهو تسلط أجانب أعداء على بلاد ليست بلادهم ، والاستيلاء عليها والإفادة من خيراتها.

ومن غير شكّ ، أن في هذا فهما جديدا لهذه الكلمة ، يدخل في باب التطور الجديد ، وكم من كلمة هبطت من عل الى الدرك الأسفل ، وليس غريبا أن تجد عكس ذلك.

٩ ـ وقال تعالى : (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [الآية ٧٠].

قوله تعالى : (نَكِرَهُمْ) مثل أنكره واستنكره ، إلا أنّ «منكور» قليل في كلامهم ، وقال الأعشى :

وأنكرتني وما كان الذي نكرت منّي الحوادث إلّا الشّيب والصّلعا أقول : قولهم : إنّ «منكور» قليل في كلامهم مع وجود الفعل الثلاثي ، وهذا

٨٠