الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «يونس» (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى : (يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٥) ، والله تعالى فصّل الآيات للعلماء وسواهم.

قلنا : لمّا كان تفصيل الآيات مخصوصا بالعلماء ، وكان انتفاعهم بالتفصيل أكثر من انتفاع سواهم به ، فقد أضاف التفصيل إليهم وخصهم به.

فإن قيل : لم قال تعالى (سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) ، مع أن أقوال أهل الجنة وأحوالهم لا آخر لها ، لأن الجنة دار الخلود؟

قلنا : معناه آخر دعائهم في كل مجلس ، دعاء أو ذكر أو تسبيح ، فإن أهل الجنة يسبّحون ويذكرون للتنعم والتلذذ بالذكر والتسبيح. فإن قيل : قد أنكر الله تعالى على الكفار احتجاجهم بمشيئته ، في قوله سبحانه : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام / ١٤٨]. ولهذا لا يجوز للعاصي أن يحتج في وجود المعصية منه ، بقوله لو شاء الله ما فعلت هذه المعصية فلا تقيموا عليّ حدها ؛ فكيف ورد في التنزيل على لسان النبي (ص) : (لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) [الآية ١٦]؟

قلنا : النبي (ص) قال هذه الجملة بأمر الله تعالى ، لأن الله عزوجل قال له : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ) وللعبد أن يحتجّ بمشيئة الله إذا أمره الله أن يحتج بها ، أما ما ليس

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤١

كذلك ، فليس له أن يحتجّ بمجرّد المشيئة ، وما أوردتموه كذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الآية ٢٣].

والبغي لا يكون إلا بغير الحق ، لأن البغي هو التعدي والفساد ، من قولهم بغى الجرح إذا فسد ، كذا قاله الأصمعي ، فما فائدة التقييد؟.

قلنا : قد يكون الفساد بالحق ، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفار ، وهدم دورهم ، وإحراق زروعهم ، وقطع أشجارهم ، كما فعل رسول الله (ص) ببني قريظة.

فإن قيل : لم شبه الله تعالى الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض ، فقال سبحانه : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [الآية ٢٤]؟

قلنا : لأن ماء السماء وهو المطر ، لا تأثير لكسب العبد فيه ، ولا حيلة للعبد في زيادته ونقصانه ، كما أن الحياة لا حيلة للعبد في زيادتها ونقصانها.

الثاني : أن ماء السماء يستوي فيه جميع الخلائق ، الوضيع والشريف ، الغني والفقير ، الحيوان وغيره أيضا كالمدر والحجر والشوك والثمر ، كما أن الحياة كذلك ، فكأن تشبيه الحياة بماء السماء أشد مناسبة ومطابقة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) [الآية ٢٨] وقال في موضع آخر (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [البقرة / ١٧٤].

قلنا : يوم القيامة مواقف ومواطن ، ففي موقف لا يكلّمهم ، وفي موقف يكلّمهم ، ونظيره قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) [الرحمن] وقوله (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) [الحجر]. الثاني المراد أنه لا يكلمهم كلام إكرام بل كلام توبيخ وتقريع.

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٣١] إلى آخر الآية ، يدل على أنهم معترفون أن الله تعالى هو الخالق والرازق والمدبّر لجميع المخلوقات ، فكيف يعترفون بذلك كله ثم يعبدون الأصنام؟

قلنا : كانوا ، في عبادتهم الأصنام ، يعتقدون أنهم يتقرّبون بها إلى الله سبحانه ؛ فطائفة منهم كانت تقول نحن

٤٢

لا نتأهّل لعبادة الله تعالى بغير واسطة ، لعظمة إجلاله ، ونقصنا وحقارتنا ، فجعلوا الأصنام وسائط ، كما قال تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر / ٣] وطائفة كانت تقول : نتّخذ أصناما على هيئة الملائكة ، ونعبدهم ، لتشفع لنا الملائكة عند الله ، ليقرّبونا إلى الله ، وطائفة كانت تقول : الأصنام قبلة لنا في عبادة الله ، كما أن الكعبة قبلة في عبادته ، وطائفة ، وهي الأكثر ، كانت تقول : على كل صنم شيطان موكل به من عند الله ، فمن عبد الصنم حق عبادته ، قضى الشيطان حوائجه على وفق مراده ، بأمر الله ، ومن قصّر في عبادة الصنم أصابه الشيطان بنكبة بأمر الله ؛ فكل الطوائف من عبدة الأصنام ، كانوا يعتقدون بعبادتهم الأصنام عبادة الله ، والتقرب إليه ، ولكن بطرق مختلفة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (٤٦) فحصر سبحانه شهادته على أفعالهم ، في الآخرة ، مع أنه شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة؟

قلنا : ذكر الشهادة وأراد مقتضاها ونتيجتها ، وهو العقاب والجزاء ، فكأنه قال : ثم الله يعاقب على ما يفعلون ، أو مجاز على ما يفعلون ، كما قال تعالى : (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) [البقرة / ١٩٧] ونظائره في القرآن العزيز كثيرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (بَياتاً أَوْ نَهاراً) [الآية ٥٠] ولم يقل ليلا أو نهارا ، وهو أظهر في المطابقة ، استعمالا مع النهار في القرآن العزيز وغيره؟

قلنا : لأن المعهود المألوف في كلام العرب ، عند ذكر البطش والإهلاك والوعيد والتهديد ، ذكر لفظ البيات سواء أقرن به النهار أم لم يقرن ، فلذلك لم يقل ليلا.

فإن قيل : لم قال تعالى : (ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) (٥٠) أي ما ذا يستعجلون منه ، وأول الآية للمواجهة؟

قلنا : أراد بذكر المجرمين الدلالة على موجب ترك الاستعجال ، وهو الإجرام ، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ويفزع من مجيئه ، وإن أبطأ ، فضلا عن أن يستعجله.

٤٣

فإن قيل : لم قال تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [الآية ٥٨] ولم يقل فبذينك ، والمشار إليه اثنان : الفضل والرحمة.

قلنا : قد سبق مثل هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة في قوله تعالى (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة / ٦٨].

فإن قيل : قوله تعالى : (وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ٦٠] تهديد ، لأن فيه محذوفا تقديره : وما ظنهم أن الله فاعل بهم يوم القيامة بكذبهم ، فكيف يناسبه قوله تعالى بعده : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ).

قلنا : هو مناسب ، لأن معناه أن الله لذو فضل على الناس ، حيث أنعم عليهم بالعقل ، والوحي ، والهداية ، وتأخّر العذاب ، وفتح باب التوبة ؛ فكيف يفترون على الله الكذب مع توافر نعمه عليهم؟

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) [الآية ٦١] ، فأفرد ، ثم قال في الآية نفسها (وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) فجمع ، والخطاب للنبي (ص)؟

قلنا : قال ابن الأنباري : إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي (ص) في الفعلين الأوّلين. وقال غيره : المراد بالفعل الثالث أيضا النبي (ص) وحده ، وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة / ٧٥] على قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وكما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) [المؤمنون / ٥١]. والمراد به النبي (ص) ، كذا قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، واختاره ابن قتيبة والزجّاج.

فإن قيل : لم قدّم الأرض على السماء في قوله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [الآية ٦١] وقدّم السماء على الأرض في قوله تعالى في سورة سبأ : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ / ٣]؟

قلنا : حق السماء أن تقدم على الأرض مطلقا لأنها أشرف ، لكنه لما ذكر هنا في صدر الآية شهادته على شؤون أهل الأرض وأقوالهم وأعمالهم ، ثم أردفه بقوله سبحانه :

٤٤

(وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ) [الآية ٦١] ناسب ذلك تقديم الأرض على السماء. الثاني أن العطف بالواو نظير التثنية وحكمه حكمها ، فلا يعطى رتبة كالتثنية.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [الآية ٦٥] وقال في موضع آخر (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون / ٨]؟

قلنا : أثبت الاشتراك في نفس العزة التي هي في حق الله تعالى القدرة والغلبة ، وفي حق الرسول (ص) علوّ كلمته وإظهار دينه ، وفي حقّ المؤمنين نصرهم على أعدائهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [الآية ٦٥] أراد به العزة الكاملة التي يندرج فيها عزة الإلهية ، والخلق ، والإماتة ، والإحياء والبقاء الدائم ، وما أشبه ذلك فلا تنافي.

فإن قيل : إذا كانت السموات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات ، وما وراءهما كل ذلك لله تعالى ملكا وخلقا ، فما فائدة التخصيص في قوله تعالى في الآية التالية : (مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)؟

قلنا : إنما خص العقلاء المميّزين بالذكر ، وهم الملائكة والثقلان ، ليعلم أن هؤلاء إذا كانوا عبيدا له ، وهو ربّهم ، ولا يصلح أحد منهم للربوبية ، ولا للشركة معه ، فما وراءهم ممّا لا يعقل كالأصنام والكواكب ونحوهما ، أحقّ أن لا تكون له ندّا وشريكا.

فإن قيل : لم ورد قوله تعالى على لسان موسى (ع) (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) [الآية ٧٧] على طريق الاستفهام ، وهم إنّما قالوا ذلك على طريق الإخبار ، أو التحقيق المؤكّد ، بأن واللام ، لا على طريق الاستفهام ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦)؟

قلنا : فيه إضمار تقديره. أتقولون للحق لمّا جاءكم إن هذا لسحر مبين. ثم قال (أَسِحْرٌ هذا) إنكارا لما قالوه ، فالاستفهام من قول موسى (ع) لا مفعول لقولهم.

فإن قيل : لم نوّع الخطاب في قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ

٤٥

قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٨٧) فثنّي أولا ثم جمع ثم أفرد؟

قلنا : خوطب أولا موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتا ، ويختاراها للعبادة ، وذلك ممّا يفوض إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ثم سيق الخطاب عامّا لهما ، ولقومهما ، باتّخاذ المساجد والصلاة فيها ، لأن ذلك واجب على الجمهور ، ثم خصّ موسى (ع) بالبشارة تعظيما لها أو تعظيما له عليه‌السلام.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) [الآية ٨٩] أضافها إليهما ، والدعوة إنما صدرت عن موسى عليه‌السلام ، قال الله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) [الآية ٨٨] إلى آخر الآية؟

قلنا : نقل أن موسى (ع) كان يدعو ، وهارون (ع) كان يؤمّن على دعائه ؛ والتأمين دعاء في المعنى ، فلهذا أضاف الدعوة إليهما. الثاني : أنه يجوز أن يكون هارون دعا أيضا مع موسى ، إلا أن الله تعالى خصّ موسى بالذكر ، لأنه كان أسبق بالدعوة ، وكان أصلا فيها ، فجاء هارون ليعاونه في حملها بدعوة من موسى ، استجاب لها الله تعالى.

فإن قيل : لو كان كذلك ، لقال تعالى دعونا كما بالتثنية؟

قلنا : لما كانت الدعوة مصدرا ، اكتفي بذكرها في موضع الإفراد والتثنية والجمع بصيغة واحدة كسائر المصادر ، ونظيره قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) [البقرة / ٧].

فإن قيل : لم قال تعالى (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [الآية ٩٤] و «إن» إنما تدخل على ما هو محتمل الوجود ، وشك النبي (ص) في القرآن منتف قطعا؟

قلنا : الخطاب ليس للنبي (ص) بل لمن كان شاكّا في القرآن ، وفي نبوة محمد (ص) ، فكأنه قال «فإن كنت أيّها الإنسان في شكّ».

فإن قيل : قوله تعالى : (مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) يدل على أن الخطاب للنبي (ص) لا لغيره.

قلنا : لا يدل ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (١٧٤) [النساء]

٤٦

وقال تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [التوبة / ٦٤]. الثاني أن الخطاب للنبي (ص) والمراد غيره ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) [الأحزاب / ١] ويعضده قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (٩٤) [النساء] ويعضد هذا الوجه قوله تعالى بعده : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) [الآية ١٠٤]. الثالث : أن تكون «إن» بمعنى ما ، تقديره : فما كنت في شكّ مما أنزلناه إليك فاسأل. المعنى لسنا نأمرك أن تسأل أحبار اليهود والنصارى عن صدق كتابك ، لأنك في شكّ منه ، بل لتزداد بصيرة ويقينا وطمأنينة. الرابع : أن الخطاب للنبي (ص) ، مع انتفاء الشك منه قطعا ، أو المراد به إلزام الحجة على الشاكّين الكافرين ، كما يقول لعيسى (ع) (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة / ١١٦] وهو عالم بانتفاء هذا القول منه ، لإلزام الحجّة على النصارى.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [الآية ٩٩] ما الحكمة في ذكر (جَمِيعاً) بعد قوله سبحانه (كُلُّهُمْ) وهو يفيد الشمول والإحاطة؟

قلنا : «كلّ» يفيد الشمول والإحاطة ، ولا يدل على وجود الإيمان منهم بصفة الاجتماع ، و «جميعا» يدل على وجوده منهم في حالة واحدة ، كما تقول جاءني القوم جميعا : أي مجتمعين ، ونظيره قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) [الحجر].

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١٠١] كيف يصح هذا الأمر ، مع أنّا لا نعلم جميع ما فيهما ولا نراه؟

قلنا : هو عامّ أريد به ما ندركه بالبصر ممّا فيهما ، كالشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والمعادن والحيوانات والنبات ، ونحو ذلك ممّا يدل على وجود الصانع وتوحيده وعظيم قدرته ، فيستدلّ به على ما وراءه.

فإن قيل في قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [الآية ١٠٧] ما الحكمة في ذكر المسّ في الضر ، والإرادة في الخير؟

٤٧

قلنا : لاستعمال كل من المسّ والإرادة في كل من الضرّ والخير ، وأنه لا مزيل لما يصيب به منهما ، ولا رادّ لما يريده فيهما ، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ في أحدهما ، والإرادة في الآخر ، ليدلّ بما ذكر على ما لم يذكر ، مع أنه قد ذكر المسّ فيهما في سورة الأنعام ، وإنما عدل هنا عن لفظ المسّ المذكور في سورة الأنعام ، إلى لفظ الإرادة ، لأن الجزاء هنا قوله تعالى : (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) [الآية ١٠٧] والرد إنما يكون في ما لم يقع بعد ، والمسّ إنما يكون في ما وقع ، فلهذا قال تعالى ثمّ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٧) [الأنعام] ومعناه ، فإن شاء أدام ذلك الخير ، وإن شاء أزاله ، فلا يطلب دوامه وزيادته إلّا منه تعالى.

٤٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «يونس» (١)

قوله سبحانه : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الآية ٢] وهذه استعارة. لأن المراد بالقدم هاهنا : السابقة في الإيمان ، والتقدّم في الإخلاص. والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية في البلاغة ، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم. فسمّيت قدما لذلك. وإن كان التأخّر أيضا يكون بها ، كما يكون التقدّم بخطوها ، فإنّما سمّيت بأشرف حالاتها وأنبه متصرّفاتها. وقال بعضهم : إيمانهم في الدنيا هو قدمهم في الآخرة. لأن معنى القدم في العربية : الشيء تقدّمه أمامك ليكون عدّة لك ، حتى تقدم عليه. وقال بعضهم : ذكر القدم هاهنا على طريق التمثيل والتشبيه ، كما تقول العرب : قد وضع فلان رجله في الباطل ، وتخطّى الى غير الواجب. ومعناه أنه انتقل الى فعل ذلك ، كما يتنقّل الماشي ، وإن لم يحرّك قدمه ، ولم ينقل خطاه.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الآية ٣] وهذه استعارة. لأن حقيقة الاستواء إنّما توصف بها الأجسام التي تعلو البساط وتميل وتعتدل. والمراد بالاستواء هاهنا : الاستيلاء بالقدرة والسلطان ، لا بحلول القرار والمكان. كما يقال :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق : محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤٩

استوى (١) فلان الملك على سرير ملكه. بمعنى استولى على تدبير الملك ، وملك مقعد الأمر والنهي. وحسن صفته بذلك ، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه ، ولا مكان عال يشار اليه. وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته ، واستيلاء سلطانه على رعيته.

فإن قيل : فالله سبحانه مستول على كل شيء بقهره وغلبته ، ونفاذ أمره وقدرته ، فما معنى اختصاص العرش بالذكر هاهنا؟ قيل ، كما ثبت ، أنه تعالى ربّ لكل شيء. وقد قال في صفة نفسه ، (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩) [التوبة والمؤمنون / ٨٦ والنمل / ٢٦] فإن قيل : فما معنى قولنا عرش الله ، إن لم يرد بذلك كونه عليه؟ قيل كما يقال : بيت الله وإن لم يكن فيه ، والعرش في السماء تطوف به الملائكة تعبّدا ، كما أن البيت في الأرض تطوف به الخلائق تعبّدا.

وقوله سبحانه : (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) [الآية ١٠] وهذه استعارة على بعض الأقوال. كأنّ المعنى ، أنّ بشراهم بالسلامة من المخاوف عند دخول الجنّة ، تجعل مكان التحية لهم. لأن لكل داخل دارا تحيّة يلقى بها ، ويؤنس بسماعها. والسلام هاهنا من السلامة ، لا من التسليم.

وقوله سبحانه : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) [الآية ٢٤]. وهذه استعارة حسنة ، لأن الزّخرف في كلامهم اسم للزّينة واختلاف الألوان المونقة.

وقوله سبحانه : (أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها). أي لبست زينتها بألوان الأزهار ، وأصابيع الرياض ، كما يقال : أخذت المرأة قناعها. إذا لبسته. وتقول لها : خذي عليك ثوبك. أي البسيه.

وقوله تعالى : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف / ٣١] أي البسوا ثيابكم.

وقوله سبحانه : (فَجَعَلْناها حَصِيداً) [الآية ٢٤]. استعارة أخرى ، لأن

__________________

(١). ومنه قول الراجز :

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

انظر «القرطبي» ج ٧ ص ٢٢٠.

٥٠

الحصيد من صفة النبات ، لا من صفة الأرض. والمعنى : فجعلنا نباتها كذلك. فاكتفى بذكر الأرض من ذكر النبات لأن النبات فيها ، ومنشأه منها.

وقوله سبحانه : (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) [الآية ٢٧]. وهذه استعارة. لأن الليل على الحقيقة لا يوصف بأن له قطعا متفرقة ، وأجزاء متنصفة. وإنما المراد ، والله أعلم ، أن الليل لو كان ممّا يتبعّض وينفصل ، لأشبه سواد وجوههم أبعاضه وقطعه. ونصب سبحانه (مُظْلِماً) على أنه حال من الليل. وفيه زيادة معنى. لأن الليل قد سمّي ليلا وإن كان مقمرا ، فإنما قال سبحانه : مظلما ، على أنّ التشبيه إنما وقع به أسود ما يكون جلبابا ، وأبهم أثوابا.

وقوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) [الآية ٦٧] وهذه استعارة عجيبة. وقد أومأنا الى نظيرها فيما تقدم. وذلك أنه سبحانه ، إنما سمّى النهار مبصرا ، لأن الناس يبصرون فيه ، فكأن ذلك صفة الشيء بما هو سبب له ، على طريق المبالغة. كما قالوا : ليل أعمى وليلة عمياء. إذا لم يبصر الناس فيها شيئا لشدة إظلامها.

وقوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) [الآية ٧١]. (فَأَجْمِعُوا) من الإجماع. وهذه استعارة. والمعنى اشتوروا في أمركم ، وأجمعوا له بالكم ، وبالغوا في قدح الرأي بينكم ، حتى لا يكون أمركم غمة عليكم (١). أي مغطّى تغطية حيرة ، ومبهما إبهام جهالة ، فيكون عليكم كالغمّة العمياء ، والطخية (٢) الظلماء. وذلك مأخوذ من قولهم : غمّ الهلال. إذا تغطى ببعض الموانع التي تمنع من رؤيته. ثم افعلوا بي ما أنتم فاعلون.

وهذه حكاية لقول نوح عليه‌السلام لقومه. ويخرج الكلام منه على الاستقلال لكيدهم ، وقلة الحفل باستجماعهم واحتشادهم.

وقوله سبحانه : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) [الآية ٨٨].

__________________

(١). ومنه قول الشاعر الجاهلي طرفة :

لعمرك ما أمري عليّ بغمّة

نهاري ، ولا ليلي عليّ بسرمد

(٢). الطّخية : الظلمة.

٥١

وهذه استعارة لأنّ حقيقة الطمس محو الأثر. من قولهم : طمست الكتاب. إذا محوت سطوره. وطمست الريح ربع الحيّ. إذا محت رسومه. فكأنّ موسى عليه‌السلام ، إنما دعا الله سبحانه بأن يمحو معارف أموالهم بالمسح لها ، حتى لا يعرفوها ، ولا يهتدوا إليها ، وتكون منقلبة عن حال الانتفاع بها ، لأن الطمس تغيّر حال الشيء الى الدّثور والدّروس.

وقوله تعالى : (وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) استعارة أخرى. إما أن يكون المراد بها ما يراد بالختم والطبع. لأن معنى الشدّ يرجع الى ذلك. أو يكون المراد به تثقيل العقاب على القلوب ، بالإيلام لها ، ومضاعفة الغمّ والكرب عليها. ويكون ذلك على معنى قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشدد وطأتك على مضر» (١) أي غلّظ عليهم عقابك ، وضاعف عليهم عذابك.

وقوله سبحانه : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٥) وهذه استعارة. وقد أومأنا الى مثلها فيما تقدّم. والمراد بها : استقم على دينك ، واثبت على طريقك. وخصّ الوجه بالذكر ، لأنه به يعرّف توجّه الجملة نحو الجهة المقصودة ، وقد يجوز أن يكون المراد بذلك ، والله أعلم ، أقم وجهك أي قوّمه نحو القبلة التي هي الكعبة. مستمرّا على لزومها ، وغير منحرف عن جهتها.

__________________

(١). هذا الحديث في مسند ابن حنبل ج ١٢ ص ٢٥٠ بتحقيق المحدّث الجليل الشيخ أحمد محمد شاكر. وقد ذكر الشيخ أن إسناده صحيح. وقد رواه ابن سعد في الطبقات ، ورواه مسلم والبخاري في صحيحيهما. ونص الحديث في المسند : (لما رفع النبي (ص) رأسه من الركعة الاخيرة من صلاة الصبح ، قال : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكّة. اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف).

٥٢

سورة هود

١١

٥٣
٥٤

المبحث الأول

أهداف سورة «هود» (١)

تمهيد عن الوحدة

الموضوعية للسورة

هود عليه‌السلام هو أول رسول الى قوم عاد ، وعاد أول أمة من نسل سام بن نوح (٢) ، وقد تحدّث القرآن كثيرا عن هود فيمن تحدّث عنهم من رسل الله الكرام وقد ذكر باسمه خمس مرات في هذه السورة التي سميت باسمه.

وسورة هود من السور المكّيّة ، شأنها كشأن السّور المكّيّة الأخرى : تقرير أصول الدين ، وإقامة الأدلة عليها وردّ الشّبه التي كان يثيرها المعارضون حول الدعوة وصاحبها ، والحديث عن اليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب ، وهي الموضوعات نفسها التي تحدثت عنها السورة السابقة ، سورة يونس.

عناصر الدعوة الإلهية

والمتدبّر لسورة هود يرى أنها قررت عناصر الدعوة الإلهية ـ وهي التوحيد والرسالة والبعث ـ من طريق الحجج العقلية ، مع الموازنة بين النفوس المستعدة للايمان ، والنفوس النافرة منه. وقد عرضت لذلك في أربع وعشرين آية يختم بها الربع الأول منها ، ثمّ أخذت السورة تتحدّث عن جملة من الرسل السابقين لبيان وحدة الدعوة الإلهية ، وتسلية الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإنذارا للمكذّبين.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

(٢). محمود شلتوت ، الى القرآن الكريم ص ٧٧.

٥٥

ويستغرق قصص هؤلاء الرسل الكرام معظم السورة ، فتذكر قصة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى (ع). وطريقة العرض هنا تختلف عنها في سورة أخرى ، والحلقات التي تعرض من كل قصة تختلف كذلك لاختلاف السياق ، فيمتنع التكرار ، فيما يخيل أنه تكرار للقارئ العابر للقرآن الكريم.

هذا القصص الذي يستغرق معظم سورة هود : مرتبط كلّ الارتباط بما قبله وما بعده من السورة ، متناسق مع السياق حتى في التعبير اللفظي أحيانا ، فالقصة والمشهد والعظة والتعقيب تتناسق كلها تناسقا عجيبا ، وتكشف عن بعض وظيفة القصة في القرآن الكريم.

تبدأ سورة هود بقوله تعالى.

(الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) (٢).

وهذا المطلع ، يقرر أن المهمة الأولى للنبي هي الدعوة إلى توحيد الله ، وينذر بالعذاب من يكذّب بدعوة الله. ويبشّر بالنعيم من آمن بها. وقصص السورة كله يساق لتوكيد هذين المعنيين ، فيرد في ألفاظ تكاد تكون واحدة يقولها كل رسول. وكأنما يقولها ويمضي ، حتّى يأتي أخوه فيقولها كذلك ويمضي ، والمكذّبون هم المكذّبون.

تبدأ قصة نوح بقوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٥) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ) (٢٦).

ثمّ بقوله جلّ وعلا حكاية على لسان هود وصالح وشعيب (ع) :

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٥٠].

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٦١].

(يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٨٤].

ونهايات القصص كلّها ، هلاك المكذّبين وعقوبة المعتدين ، ووعيد لجميع المتكبّرين عن الإيمان بالحق ، والانقياد للعقيدة الصحيحة ، قال تعالى :

(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢).

* * *

٥٦

وتتضمّن سورة هود إثبات الوحي ، وتنزيل القرآن من عند الله سبحانه ، وتثبيت الرسول (ص) ، وتقوية يقينه مع من آمن به من المؤمنين ، حتّى لا يضيق صدرهم بالمكذّبين والمستهزئين.

ثم يختم القصص في سورة هود بقوله تعالى :

(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (١٢٠).

وهكذا نجد أن القصة في القرآن الكريم ، تؤدّي دورا متناسقا مع موضوع السورة وسياقها ، وتعرض بالطريقة والعبارة اللتين تحققان هذا التناسق الجميل الدقيق.

١ ـ العقيدة والايمان بالله

يتضمّن الدرس الأول من السورة : دعوة المشركين إلى توحيد الله واستغفاره والتوبة ممّا هم فيه ، ويبشّرهم إن فاءوا الى هذا بمتاع حسن وجزاء طيّب ، وينذر المعرضين عن الدعوة بعذاب كبير ، ويقرر عقيدة الإيمان باليوم الآخر ، والرجعة الى الله لتحقيق البشرى والإنذار ، ثم يعرض مشهدا لهم وهم يحاولون التخفّي عن مواجهة الرسول ، وهو يجيبهم بالبيان ، يعقّب عليه بعلم الله الشامل اللطيف الذي يتابعهم وهم أخفى ما يكونون عن العيون ، ويتصل بهذا المعنى علم الله بكلّ دابة في الأرض حيث تكون. كما يتصل به الحديث عن خلق السماوات والأرض.

ثم يعرض صورا من النفس البشرية القلقة المتعجّلة في السراء والضراء. ومع ذلك فهم يستعجلون العذاب إذا ما أخّر عنهم الى حين.

ثم ينتقل الى التحدي بالقرآن الذي يقولون إنه مفترى من دون الله ، وتهديد من لا يؤمنون بالآخرة ، ومن يفترون على الله الكذب ، ويعرض مشهدا من مشاهد القيامة يتجلى فيه مصداق هذا الوعيد ، ومصداق البشرى للمؤمنين.

ومن المعالم البارزة في هذا الدرس ما يأتي :

١ ـ تقرير عقيدة التوحيد ، وسوق الأدلة على قدرة الله سبحانه الذي أبدع الكون على غير مثال سابق.

وقد تتساءل عن سر عناية القرآن بعقيدة التوحيد ، وتكرير الدعوة إليها في كثير من آياته.

٥٧

والجواب أنه ما كان لدين أن يقوم في الأرض ، وأن يقيم نظاما للبشر قبل أن يقرر هذه الدعوة.

فالتوحيد مفترق الطريق بين الفوضى والنظام ، بين الخرافة والإيمان ، بين الهوى واليقين.

والاعتراف بوجود الله ضروري في الفطرة السليمة ، لأنّ الله خلق الإنسان ، وأودعه نفخة مقدسة من الروح ، ولذلك تتجه الفطرة الى الله خالقها وبارئها لتروي ظمأها اليه ، وتلبي نداء الشوق الكامن إليه في أعماقها.

٢ ـ عناية الآيات ، بأن تلفت نظر الإنسان الى ما في الكون من آيات القدرة ، ودلائل الإعجاز ، وعجائب الصنع ، ومواطن الاعتبار. فهذا الكون الفسيح الشاسع الأرجاء وما فيه من قوى منظورة لنا وغير منظورة ، وما يخضع له من نظام لا يحتمل الخلل ، ودقة لا تسمح بالعبث ، دليل على أن هذا الكون لم يوجد من طريق صدفة عمياء ، بل وجد لأنّ خالقا حكيما هو الذي أوجده.

٣ ـ إثبات علم الله بكل صغيرة وكبيرة في هذا الكون ، وتقدير الرزق لكل فرد من أفراد هذا العالم الفسيح ، وتيسير الأسباب للسعي والحركة وعمارة الكون ، ومن الآيات المشهورة بين الناس قوله تعالى :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٦).

وهي تصور علم الله الشامل ، المحيط بكل ما يدب على الأرض ، من إنسان وحيوان وزاحفة وهامة وحشرة وطير. فما من دابة من هذه الدواب إلّا وعند الله علمها ، وعلى الله رزقها ، وهو سبحانه يعلم أين تستقر وأين تكمن ، ومن أين تجيء وأين تذهب. وكل فرد من أفرادها مقيّد في هذا العلم الدقيق. إنها صورة متّصلة للعلم الإلهي في حالة تعلقه بالمخلوقات ، يرتجف لها كيان الإنسان حين يحاول تصوّرها بخياله الإنساني ، فلا يطيق. فسبحان من أحاط بكلّ شيء علما.

٢ ـ إعجاز القرآن

يلمح القارئ لهذه السورة قوة أسلوبها وترابط أفكارها ، وتوالي حملاتها على الكفار ، حتّى كأنها جيش كامل مشتمل على عديد من الكتائب والفصائل والجنود.

٥٨

إنها دعت ، في الدرس السابق ، الى التوحيد ، ولفتت الأنظار الى قدرة الله البالغة وعلمه المحيط بكل شيء.

وهي ، هنا ، تسوق دليلا آخر على صدق عقيدة التوحيد ، وصدق رسالة محمد (ص) ، هذا الدليل هو إعجاز هذا القرآن وروعته وقوته. ويتجلى هذا الاعجاز فيما يلي :

١ ـ إخباره عن الأمم الماضية التي لم يعاصرها محمد (ص) ، ولم يعرف تاريخها ولم يقرأ عنها.

٢ ـ اشتماله على أصول التشريع ، وسياسة الخلق ، وقواعد الحكم ، وآداب المعاملة ، ونظام العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة.

٣ ـ إخباره عن أنباء لاحقة تأكّد صدقها ، وتحقّق وقوعها.

* * *

لقد ادّعى كفّار مكّة أنّ محمّدا (ص) قد اختلق القرآن من عنده ، ولم ينزل عليه من السماء ، فتحدّاهم القرآن أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات. أي ليختلقوا كما اختلق محمد (ص) ، فهم عرب مثله ، وهم أرباب الفصاحة والبيان ، والقرآن مؤلّف من حروف وكلمات وجمل يعرفونها ويؤلفون من مثلها كلامهم ، فالعجز عن الإتيان بمثل القرآن دليل على أنه ليس من صنع بشر ، وليس من افتراء محمد (ص) ، ولكنه كلام الله العليم الخبير.

وقد سمح لهم القرآن أن يستعينوا بمن شاؤوا ، من الشركاء والفصحاء والبلغاء والشعراء والإنس والجن ، ليشاركوهم في تأليف هذه السور ، قال تعالى :

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣).

وقد سبق أن تحدّاهم القرآن بسورة واحدة في سورة يونس ، فلما ذا تحدّاهم بعد ذلك بعشر سور.

قال المفسرون القدامى ، إن التحدي كان على الترتيب : بالقرآن كلّه ثم بعشر سور ، ثم بسورة واحدة.

ولكن هذا الترتيب ليس عليه دليل ، بل الظاهر أن سورة يونس سابقة والتحدي فيها بسورة واحدة ، وسورة هود لاحقة والتحدي فيها بعشر سور.

وترتيب الآيات في النزول ليس من

٥٩

الضروري أن يتبع ترتيب السور ، فقد كانت الآية تنزل فتلحق بسورة سابقة أو لاحقة في النزول ، إلّا أن هذا يحتاج الى ما يثبت هذا الترتيب ، وليس في أسباب النزول ما يثبت أن آية يونس كانت بعد آية هود. والترتيب التحكمي في مثل هذا لا يجوز.

وقد حاول صاحب تفسير المنار ، أن يجد لهذا العدد (عشر سور) علة فأجهد نفسه طويلا ، ليقرّر أنّ المقصود بالتحدي هنا هو القصص القرآني ، وأنه بالاستقراء يظهر أن السور التي كان قد نزل بها قصص مطوّل الى وقت نزول سورة هود كانت عشرا ، فتحدّاهم بعشر سور (١) ، وهو احتمال وجيه.

ويرى بعض المفسرين المحدثين : أنّ التحدي كان يلاحظ حالة القائلين وظروف القول ، فيقول مرة : ائتوا بمثل هذا القرآن. او ائتوا بسورة. أو بعشر سور. دون ترتيب زمني ، لأنّ الغرض كان التحدي في ذاته بالنسبة لأي شيء من هذا القرآن ، لا بمقداره كله ، أو بعضه ، أو سورة منه على السواء ، فالتحدّي كان بنوع هذا القرآن لا بمقداره ، والعجز كان عن هذا النوع ، لا عن المقدار. وعندئذ يستوي الكلّ والبعض والسورة. ولا يلزم ترتيب ، إنما هو مقتضى الحالة التي يكون عليها المخاطبون ، ونوع ما يقولون عن هذا القرآن في هذه الحالة. فهو الذي يجعل من المناسب ان يقول : «سورة» ، أو «عشر سور» ، أو «هذا القرآن». ونحن اليوم ، لا نملك تحديد الملابسات التي لم يذكرها لنا القرآن.

٣ ـ القصص في سورة هود

القصص في هذه السورة هو قوامها ، إذ عدد آياتها (١٢٣) مائة وثلاث وعشرون آية ، يشتمل قصص الأنبياء منها على (٨٩) تسع وثمانين آية.

لكن القصص لم يجئ فيها مستقلا ، بل جاء مصداقا للحقائق الكبرى التي جاءت السورة لتقريرها ، وهي التوحيد والبعث والجزاء.

وقد جال السياق جولات متعددة حول هذه الحقائق : جال في ملكوت السماوات والأرض ، وفي جنبات النفس ، وفي ساحة الحشر ، ثم أخذ

__________________

(١). تفسير المنار ١٢ / ٣٢ ـ ٤١.

٦٠