الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الحجر» (١)

١ ـ قال تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥).

أقول : عوملت «الأمة» في الآية على وجهين ، الأول أنها مؤنث ، بدلالة التاء في الفعل الذي يسبقها ، والثاني جمع مذكّر ، بدلالة الفعل بعدها «يستأخرون».

وهذا من باب مراعاة اللفظ أولا ، ومراعاة المعنى ثانيا. ومثل هذا له نظائر في لغة القرآن.

٢ ـ وقال تعالى : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٧).

«لو» ركّبت مع «لا» و «ما» لمعنيين : معنى امتناع الشيء لوجود غيره ، ومعنى التحضيض ، وأمّا «هل» فلم تركب إلّا مع «لا» وحدها للتحضيض ، قال ابن مقبل :

لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري والمعنى : هلّا تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ، ويعضدونك على إنذارك ، كقوله تعالى : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) (٧) [الفرقان].

أقول : «لو لا» و «لو ما» من أدوات التحضيض من مواد العربية القديمة ، التي لا نشعر بوجودها في اللغة المعاصرة ، ولا سيما «لو ما».

٣ ـ وقال تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٨١

وقوله تعالى : (نَسْلُكُهُ) من سلكت الخيط في الإبرة ، وأسلكته إذا أدخلته فيها ، ونظمته.

وقرئ : نسلكه ، للذكر ، أي : مثل ذلك السلك ، ونحو : نسلك الذكر في «قلوب المجرمين» على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذّبا مستهزئا به غير مقبول.

أقول : على أننا نعرف السلك في عصرنا لضرب من الخيط المعدني ، إلا أننا لا نعرف الفعل «سلك» المتعدّي بمعنى أدخل السلك «الخيط» في الإبرة ، فالسلك في عصرنا غير السلك أي الخيط.

فأما الفعل «سلك» في عصرنا فهو متعد وقاصر ، فتقول من الأوّل سلكت السبيل المستقيم ، ومن الثاني سلك الرجل سلوكا مقبولا.

٤ ـ وقال تعالى : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) [الآية ١٥].

وقوله تعالى : (سُكِّرَتْ) أي : حيّرت أو حبست من الإبصار ، من السّكر أو السّكر.

وقرئ بالتخفيف «سكرت» بالتخفيف ، أي حبست كما يحبس النهر من الجري ، وقرئ : «سكرت» من السّكر ، أي حارت كما يحار السكران.

والذي قرأ بالتخفيف هو الحسن وفسرها : سحرت.

وقال أبو عمرو بن العلاء : معناها غطّيت وغشّيت ، وقيل : معناها سدّت بالسحر.

وقال أبو عمرو بن العلاء : سكّرت أبصارنا ، مأخوذ من سكر الشراب ، كأنّ العين لحقها ما يلحق شارب المسكر إذا سكر.

وقال أبو عبيدة : سكّرت أبصار القوم إذا دير بهم وغشيهم كالسمادير فلم يبصروا ، وقال الفرّاء : معناه حبست ومنعت من النظر.

أقول : وقولهم : حبست من الإبصار من السّكر كما يحبس النهر من الجري ، هو المعنى الكثير في هذه المادة ، وما زال يقام لحبس مجرى صغير أو كبير يدعى «سكرا» في لهجة الفلاحين في جنوبي العراق.

وقوله طائفة من العرب في عصرنا بلهجتهم الدارجة «سكّر الباب» أي سدّه وأغلقه.

٢٨٢

وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢٦).

قالوا : «مسنون» بمعنى متغيّر.

وقال الزمخشري : بمعنى مصوّر ، كأنه أفرغ الحمأ ، فصوّر منه تمثال إنسان أجوف فيبس ؛ حتى إذا نقر ، صلصل.

أقول :

إن قول من قال : إن «المسنون» المتغيّر ، كأنه أدرك أن «المسنون» جاءت عليه «السنون» فغيرته!

٦ ـ وقال تعالى : (قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٣٦).

الإنظار بمعنى الإمهال ، وهذا يعني أن زيادة الهمزة أفادت خصوصية دلالية ليست في الأصل «نظر».

وجوابه سبحانه وتعالى على سؤال إبليس : (قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (١٥) [الأعراف / ١٥].

٧ ـ وقال تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) (٥٢).

أريد أن أشير إلى أن كلمة «ضيف» من الأسماء التي تكون مفردا وجمعا ، وهي في كلام الله قد وردت جمعا في آيات عدة.

على أن من المفيد أن نشير إلى أن «الضيف» في العربية المعاصرة ، يدل على الإفراد ، وجمعه ضيوف وأضياف.

٨ ـ وقال تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠).

أريد ب «الغابرين» الباقين في المدينة ، أي قضى أن يهلكها كما يهلك الآخرين من أهل المدينة.

أقول والفعل غبر قد مرّ بنا ، وأشرنا إليه بما فيه الكفاية ، ولكننا عدنا ثانية لنشير إلى هذا المعنى وهو البقاء والمكوث.

٩ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩).

أصحاب الأيكة هم قوم شعيب (ع) ، «وإنهما» يعني قوم لوط (ع) والأيكة. وقيل : الضمير للأيكة ومدين ، لأنّ شعيبا كان مبعوثا إليهما ، فلما ذكر الأيكة دلّ بذكرها على مدين فجاء بضميرهما.

وقوله تعالى : (لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) (٧٩)

٢٨٣

أي : لطريق واضح. والإمام اسم لما يؤتم به فسمي به الطريق ، ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه ، لأنه ممّا يؤتمّ به.

أقول : دلالة الإمام معروفة ، وهو الرجل الذي يؤتمّ به في الصلاة ، أو من يتّخذ قائدا ، ومرشدا ، ودليلا ، فصاحب المذهب ، الذي يتمذهب به جماعة ، إمام لهم ، والخليفة إمام ، والرئيس إمام.

وكذلك يقال : المصحف الإمام ، وهو المصحف الذي انتهى إليه عثمان بن عفان ، ونسخت به كل المصاحف الأخرى.

و «الكتاب» الإمام وصفا ونعتا على المدح ل «كتاب» سيبويه.

١٠ ـ وقال تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨).

أي : لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له.

والخطاب إلى الرسول (ص) أي : أنه قد أوتي النعمة العظمى ، وهي القرآن العظيم فلا تمدّنّ عينيك إلى متاع الدنيا.

أقول : ومدّ العين لمعنى طموح البصر من المجاز البديع ، الذي قلّما يرد في نثر المعربين في عصرنا ، ولعله موجود في مجازات اللهجة العامية في العراق. وأمر اللغة عجيب فقد تلقى من فرائدها ولآلئها ما هو في نثر العامة ولا تلقاه في الفصيح.

وقوله تعالى : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) استعارة جميلة ، يراد بها أن يتواضع الرسول لمن معه من الفقراء المؤمنين وضعفائهم ، وأن يطيب نفسا عن إيمان الأغنياء والأقوياء.

١١ ـ وقال تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١).

المقتسمون : هم أهل الكتاب (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١) ، فقد كانوا يقتسمون القرآن استهزاء فيقول بعضهم : سورة البقرة لي ، ويقول الآخر : سورة آل عمران لي ، ويجوز أن يراد ب «القرآن» ما يقرءونه من كتبهم ، وقد اقتسموه بتحريفهم.

وقوله تعالى : (عِضِينَ) أي : أجزاء ، جمع عضة ، وأصلها عضوة «فعلة» من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء ، قال رؤبة :

٢٨٤

وليس دين الله بالمعضيّ

وقيل : هي فعلة ، من عضهته إذا بهتّه.

أقول : وقد وردت «عضة» في كتب النحو في باب ما يجمع جمع مذكر سالما ، وليس منه ، وذلك جملة أسماء بعضها مؤنث وبعضها غير عاقل ، وهي : مائة ، وسنة ، وفئة ، وقلة ، وكرة ، ورئة ، وابن ، ووابل ، وأرض ، وعالم ، وذو ، وغير هذا. وهي في حقيقة الأمر جموع بالواو والنون ، ولعلّها تدلّ على أن هذا الجمع كان عامّا قبل أن يتقيّد بالعلم المذكّر العاقل الخالي من التاء والتركيب ، وصفة العلم المذكر العاقل الخالية من التاء ، ولا من باب فعلان فعلى ...

وعلى هذا ، فما نجده في اللغة مما ليس فيه الشروط المطلوبة ، فهو من البقايا اللغوية القديمة.

٢٨٥
٢٨٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الحجر» (١)

في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) تدخل مع «ربّ» (٢) «ما» ليتكلّم بالفعل بعدها. وإن شئت جعلت (ما) بمنزلة «شيء» فكأنّك قلت : «وربّ شيء يودّ» أي «ربّ ودّ يودّه الذين كفروا» (٣)

وفي قوله سبحانه : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) [الآية ١٨] استثناء خارج كما قال «ما أشتكي إلا خيرا» يريد «أذكر خيرا».

وقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) [الآية ٢٢]. كأن الرياح لقحت لأن فيها خيرا ، فقد لقحت بخير أي اتّصفت بالفاعليّة. وقال بعضهم «الرّياح تلقح السّحاب» فقد يدل على ذلك المعنى ، لأنها إذا أنشأته وفيها خير ، وصل ذلك إليه.

وقوله تعالى : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الآية ٣٩] أي : «بإغوائك إيّاي» (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ) [الآية ٣٩] على القسم كما تقول : «بالله لأفعلنّ».

وقوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) (٤٤) لأنه من «جزّأته» و «منهم» يعني : من الناس.

وقوله تعالى : (قالُوا لا تَوْجَلْ) [الآية

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). النص المثبت في المصحف الشريف ورد بباء غير مشدّدة في قوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

(٣). نقله في المشكل ١ / ٤٠٩ ، وزاد المسير ٤ / ٣٨٠ ، وإعراب القرآن ٢ / ٥٤٩ ، والبحر ٥ / ٤٤٢.

٢٨٧

٥٣] من «وجل» «يوجل» وما كان على «فعل» ف «هو يفعل» تظهر فيه الواو ولا تذهب كما تذهب من «يزن» لأنّ «وزن» «فعل» وأمّا بنو تميم فيقولون : «تيجل» (١) لأنّهم يقولون في فعل «تفعل» فيكسرون التاء في «تفعل» والألف من «أفعل» والنون من تفعل» ولا يكسرون الياء لأنّ الكسر من الياء ، فاستثقلوا اجتماع ذلك. وقد كسروا الياء في باب «وجل» لأنّ الواو قد تحوّلت الى الياء مع التاء والنون والألف. فلو فتحوها استنكروا الواو ، ولو فتحوا الياء لجاءت الواو ، فكسروا الياء فقالوا «ييجل» ليكون الذي بعدها ياء إذ كانت الياء أخف مع الياء من الواو مع الياء ، لأنه يفرّ الى الياء من الواو ولا يفرّ الى الواو من الياء. قال بعضهم (ييجل) فقلبها ياء وترك التي قبلها مفتوحة كراهة اجتماع الكسرة والياءين.

وفي قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ) [الآية ٦٦] «أنّ دابر» بدل من «الأمر».

وقوله سبحانه : (قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ) [الآية ٥٦] من «قنط يقنط» (٢) مثل «علم يعلم» ؛ وقال بعضهم «يقنط» مثل «يقتل» (٣) ، وقال بعضهم «يقنط» .. مثل «ينزل» (٤).

وقوله تعالى : (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلَّا آلَ لُوطٍ) استثناء من المجرمين أي لا يدخلون في الاجرام.

وفي قوله سبحانه : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي) [الآية ٧٢] يعني ب (لَعَمْرُكَ) ـ والله أعلم

__________________

(١). اللهجات العربية ٤٥٩.

(٢). في الطبري ١٣ / ٤٠ الى عامة قراء المدينة والكوفة ، وفي السبعة ٣٦٧ الى ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة ، وفي الكشف ٢ / ٣١ والتيسير ١٣٦ الى غير أبي عمرو والكسائي ، وفي البحر ٥ / ٤٥٩ إلى السبعة غير النحوي والأعمش.

(٣). في الشواذ ٧١ نسبت إلى يحيى بن يعمر والأشهب العقيلي وأبي عمرو وعيسى ، وفي المحتسب ٢ / ٥ إلى الأشهب وحده ، وفي البحر ٥ / ٤٥٩ زاد عليه زيد بن علي.

(٤). في الطبري ١٤ / ٤٠ نسبت إلى أبي عمرو بن العلاء والأعمش والكسائي ، وفي السبعة ٣٦٧ والكشف ٢ / ٣١ ، والتيسير ١٣٦ ، أسقط الأعمش ، وذكره في البحر ٥ / ٤٥٩ معهما.

٢٨٨

ـ و «وعيشك» يريد به العمر (٥) ؛ و «العمر» و «العمر» لغتان.

وقوله تعالى : (عِضِينَ) (٩١) وهو من «الأعضاء» وواحده «العضة» مثل «العزين» واحده «العزة». وقوله سبحانه : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) (٤١) أي : عليّ دلالته. نحو قول العرب «عليّ الطريق الليلة» أي : علي دلالته.

__________________

(٥). نقله في التهذيب ٢ / ٣٨٢ «عمر».

٢٨٩
٢٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الحجر» (١)

إن قيل : لم قالوا كما ورد في التنزيل : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) (٦).

اعترفوا بنبوّته ، إذ الذكر هو القرآن الذي نزل عليه ، ثم وصفوه بالجنون؟

قلنا : إنما قالوا ذلك استهزاء وسخرية لا تصديقا واعترافا ، كما روى القرآن الكريم أيضا ، حكاية على لسان فرعون لقومه : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) [الشعراء] ، وكما روى القرآن الكريم حكاية على لسان قوم شعيب (ع) : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) (٨٧) [هود] ونظائره كثيرة. الثاني : أن فيه إضمارا تقديره : يا أيها الذي تدّعي أنك نزل عليك الذكر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) (٢٣) والوارث هو الذي يتجدّد له الملك بعد فناء المورث ، والله تعالى إذا مات الخلائق لم يتجدد له ملك ، لأنه لم يزل مالكا للعالم بجميع ما فيه ومن فيه؟

قلنا : الوارث في اللغة عبارة عن الباقي بعد فناء غيره ، سواء أتجدد له من بعده ملك أو لا ، ولهذا يصحّ أن يقال لمن أخبر أن زيدا مات وترك ورثة : هل ترك لهم مالا أو لا؟ فيكون معنى الآية : ونحن الباقون بعد فناء الخلائق. الثاني أن الخلائق لمّا كانوا يعتقدون أنهم مالكون يسمون بذلك أيضا ، إما مجازا أو خلافة عن الله تعالى ، كالعبد المأذون المكاتب ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٩١

ويدل عليه قوله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران / ٢٦] فإذا مات الخلائق كلّهم سلمت الأملاك كلّها لله تعالى عن ذلك القدر من التعلّق ، فبهذا الاعتبار كانت الوراثة ، ونظير هذا قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر / ١٦] والملك له سبحانه أزلا وأبدا.

فإن قيل : قوله تعالى (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) دلّ على الشمول والاحاطة وأفاد التوكيد ، فما الحكمة في قوله سبحانه : (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠).

قلنا : قال سيبويه والخليل : هو توكيد بعد توكيد ، فيفيد زيادة تمكين المعنى وتقريره في الذهن ، ولا يكون تحصيل الحاصل بل تكون نسبة «أجمعون» كنسبة «كلّهم» إلى أصل الجملة. وقال المبرد : قوله تعالى : (أَجْمَعُونَ) يدل على اجتماعهم في زمان السجود ، وكلهم يدل على حصول السجود من الكلّ ، فكأنه قال : فسجد الملائكة كلّهم معا في زمان واحد. واختار ابن الأنباري هذا القول ، واختار الزجّاج وأكثر الأئمة قول سيبويه ، وقالوا : لو كان الأمر كما زعم المبرّد لكان «أجمعون» حالا لوجود حدّ الحال فيه ؛ وليس بحال لأنه مرفوع ، ولأنه معرفة ، كسائر ألفاظ التوكيد.

فإن قيل : ما وجه ارتباط قوله تعالى (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) (٥١) بما قبله من قوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي) [الآية ٤٩]؟

قلنا : لمّا أنزل الله عزوجل (نَبِّئْ عِبادِي) ولم يعيّن أهل المغفرة وأهل العذاب ، غلب الخوف على الصحابة رضي الله عنهم ، فأنزل الله تعالى بعد ذلك قصّة ضيف إبراهيم (ع) ليزول خوف الصحابة وتسكن قلوبهم ؛ فإنّ ضيف إبراهيم عليه‌السلام جاءوا ببشارة للولي وهو ابراهيم ، وبعقوبة للعدوّ ، وهم قوم لوط (ع) وكذلك تنزل الآيتان المتقدّمتان على الولي والعدو لا على الولي وحده. ووجه الارتباط كذلك ، أنّ العبد ، وإن كان كثير الذنوب والخطايا ، غير طامع في المغفرة ، فانه لا يبعد أن يغفر الله تعالى له على يأسه ، كما رزق إبراهيم الولد على يأسه ، بعد ما شاخ وبلغ مائة سنة أو قريبا منها.

فإن قيل : لم قال تعالى على لسان

٢٩٢

الملائكة (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) (٦٠) أي قضينا والقضاء لله تعالى لا لهم؟

قلنا : إسناد التقدير للملائكة مجاز ، كما يقول خواصّ الملك : دبّرنا كذا وأمرنا بكذا ونهينا عن كذا ، ويكون الفاعل لجميع ذلك هو الملك وليس هم ، وإنما يظهرون بذلك مزيد قربهم واختصاصهم بالملك.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) (٨٠).

وأصحاب الحجر قوم صالح ، والحجر اسم واديهم أو مدينتهم على اختلاف القولين ، وقوم صالح لم يرسل إليهم غير صالح فكيف يكذّبون المرسلين؟ قلنا : من كذّب رسولا واحدا فكأنما كذب الكل ، لأن كل الرسل متفقون في دعوة الناس إلى توحيد الله تعالى.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) ، وقال في سورة الرحمن : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩))؟

قلنا الجواب عنه من وجهين : أحدهما قد ذكرناه في مثل هذا السؤال في سورة هود. والثاني أن المراد هنا ، أنّهم يسألون سؤال توبيخ وهو سؤال : لم فعلتم؟ أو المراد : أنهم لا يسألون سؤال استعلام واستخبار وهو سؤال : هل فعلتم ، أو يقال : إن في يوم القيامة مواقف ، ففي بعضه يسألون ، وفي بعضها لا يسألون ، وتقدّم نظيره.

٢٩٣
٢٩٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الحجر» (١)

قوله سبحانه : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) (٧٢). وهذه استعارة. والمراد بها صفتهم بالتردّد في غيهم ، والتسكّع في ضلالهم. فشبّه تعالى المتلدّد (٢) في غمرات الغيّ ، بالمتردّد في غمرات السّكر.

وقوله سبحانه : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٨) وهذه استعارة. والمراد بها : ألن كنفك لهم ، ودم على لطفك بهم. وجعل سبحانه خفض الجناح ، هاهنا ، في مقابلة قول العرب إذا وصفوا الرجل بالحدّة عند الغضب : قد طار طيره ، وقد هفا حلمه وقد طاش وقاره ؛ فإذا قيل : قد خفض جناحه ، فإنما المراد به وصف الإنسان بلين الكنف ، والكظم عند الغضب. وذلك ضد وصفه بطيرة المغضب ، ونزوة المتوثّب.

وقوله سبحانه : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١) وهذه استعارة على أحد التأويلين. وهو أن يكون المعنى أنهم جعلوا القرآن أقساما مجزّأة ، كالأعضاء المعضّاة (٣) فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. وقيل : جعلوه أقساما ، بأن قالوا هو سحر وكهانة وكذب وإحالة.

وأما التأويل الآخر في معنى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). المتلدد في المكان : المتلبث به. أو المتحيّر المتلفّت يمينا وشمالا.

(٣). المعضّاة : أي المجزّأة المقسّمة.

٢٩٥

«عضين» فيخرج به اللفظ عن أن يكون مستعارا ، وذلك أن يكون معناها على ما قاله بعض المفسّرين معنى الكذب. قال : وهو جمع عضة ، كما كان في القول الأول ، إلا أن العضة هاهنا معناها الكذب والزور ، وفي القول الأول معناها التجزئة والتقسيم. وقد ذكر ثقات أهل اللغة في العضة وجوها. فقالوا العضة النميمة ، والعضة الكذب ، وجمعه عضون. مثل عزة وعزون ، والعضة السّحر ، والعاضه الساحر.

وقد يجوز أن يكون (جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٩١) جمع عضة ، من السحر. أي جعلوه سحرا وكهانة ، كما قال سبحانه حاكيا عنهم (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢٤) [المدّثّر] و (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧) ([الأنعام ، هود / ٧ ، سبأ / ٤٣ ، الصافات / ١٥].

وقوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤). وهذه استعارة. لأن الصّدع على الحقيقة إنّما يصح في الأجسام لا في الخطاب والكلام. والفرق ، والصدع ، والفصل ، في كلامهم بمعنى واحد. ومن ذلك قولهم للمصيب في كلامه : قد طبّق المفصل. ويقولون : فلان يفصل الخطاب. أي يصيب حقائقه ، ويوضح غوامضه. فكأن المعنى في قوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أي أظهر القول وبيّنه في الفرق بين الحق والباطل. من قولهم صدع الرّداء ، إذا شقّه شقّا بيّنا ظاهرا. ومن ذلك صدع الزجاجة. إذا استطار فيها الشق ، واستبان فيها الكسر. وإنما قال سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ولم يقل : فبلّغ ما تؤمر ، لأن الصدع هاهنا أعمّ ظهورا وأشدّ تأثيرا.

وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك ـ والله أعلم ـ أن بالغ في إظهار أمرك ، والدعاء إلى ربك ، حتى يكون الدين في وضح الصبح ، لا يشكّك نهجه ، ولا يظلم فجه. مأخوذا ذلك من (١) «الصّديع» لشأنه ووضوح إعلانه.

__________________

(١). الصديع : الصبح. سمّي بذلك ، لانصداعه عن ظلمات الليل.

٢٩٦

الفهرس

سورة يونس

المبحث الأول

أهداف سورة «يونس»............................................................ ٣

أهدافها الإجمالية................................................................. ٣

الدرس الأول

مظاهر قدرة الله.................................................................. ٤

الدرس الثاني

الأدلة على وجود الله............................................................. ٥

الدرس الثالث

قصص الأنبياء................................................................... ٧

قصة نوح....................................................................... ٧

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «يونس».................................................. ١١

تاريخ نزولها ووجه تسميتها....................................................... ١١

الغرض منها وترتيبها............................................................. ١١

إبطال شبههم على القرآن....................................................... ١١

تحديهم بالقرآن................................................................. ١٤

دعوتهم إلى تصديق القرآن بالترغيب والترهيب...................................... ١٥

٢٩٧

الخاتمة......................................................................... ١٧

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «يونس»...................................................... ١٩

المبحث الرابع

مكنونات سورة «يونس»........................................................ ٢١

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «يونس»..................................................... ٢٣

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «يونس».................................................. ٣٣

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «يونس».............................................. ٤١

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «يونس»................................................... ٤٩

سورة هود

المبحث الأول

أهداف سورة «هود»........................................................... ٥٥

تمهيد عن الوحدة الموضوعية للسورة................................................ ٥٥

عناصر الدعوة الإلهية............................................................ ٥٥

١ ـ العقيدة والإيمان بالله......................................................... ٥٧

٢ ـ إعجاز القرآن............................................................... ٥٨

٣ ـ القصص في سورة «هود».................................................... ٦٠

قصة نوح (ع)................................................................. ٦١

قصة هود..................................................................... ٦٢

٢٩٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «هود».................................................... ٦٥

تاريخ نزولها ووجه تسميتها....................................................... ٦٥

الغرض منها وترتيبها............................................................. ٦٥

إثبات تنزيل القرآن.............................................................. ٦٥

تثبيت النبي بالقصص على تكذيبهم.............................................. ٦٧

الخاتمة......................................................................... ٦٩

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «هود»....................................................... ٧١

المبحث الرابع

مكنونات سورة «هود».......................................................... ٧٣

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «هود»...................................................... ٧٧

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «هود».................................................... ٨٥

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «هود»................................................ ٩١

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «هود».................................................. ١٠٥

سورة يوسف

المبحث الأول

أهداف سورة «يوسف»....................................................... ١١٧

قصة يوسف................................................................. ١١٩

٢٩٩

يوسف بين إخوته وأبيه........................................................ ١٢٠

رؤيا يوسف.................................................................. ١٢١

يوسف وامرأة العزيز........................................................... ١٢٢

يوسف عزيز مصر............................................................ ١٢٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «يوسف»................................................ ١٢٧

تاريخ نزولها ووجه تسميتها...................................................... ١٢٧

الغرض منها وترتيبها........................................................... ١٢٧

المقدمة...................................................................... ١٢٧

قصة يوسف (ع)............................................................. ١٢٨

الخاتمة....................................................................... ١٣٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «يوسف»................................................... ١٣٥

المبحث الرابع

مكنونات سورة «يوسف»...................................................... ١٣٧

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «يوسف».................................................. ١٤٣

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «يوسف»................................................ ١٦١

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «يوسف»............................................ ١٦٧

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «يوسف»................................................ ١٧٧

٣٠٠