الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «إبراهيم» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) [الآية ٦].

قالوا : سامه الأمر سوما : كلّفه إيّاه ، وقال الزجّاج : أولاه إيّاه ، وأكثر ما يستعمل في العذاب والشرّ والظلم.

وجاء في كتاب العين : السّوم أن تجشّم إنسانا مشقّة ، أو سوءا ، أو ظلما.

أقول : وأصل السّوم من قولهم : سامت الناقة سوما ، والسّوم عرض السلعة على البيع ، والسّوم في المبايعة.

غير أن ما في لغة التنزيل هو ضرب من المجاز اللطيف ؛ وهو من لطفه ، كأنه يبتعد عن الأصل.

٢ ـ وقال تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) [الآية ٧].

قوله تعالى : (تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) ، أي : أذّن ربكم ، ونظير تأذّن : توعّد وأوعد وتفضّل وأفضل.

أقول : الغالب في بناء «تفعّل» مجيئه لازما ، نحو تكسّر ، وتحطّم ، وتستّر ، وغيره كثير ، وهو في هذا قد يأتي مطاوعا للمتعدي ، نحو : هدمه فتهدّم.

غير أنه قد يأتي متعدّيا ، وليس مجيئه متعدّيا من الندور ، نحو تعلّم وتعجّل ، وغير ذلك.

٣ ـ وقال تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤).

أقول : والأصل «وعيدي» واجتزئ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٤١

بالكسرة عن ياء المتكلم لأن «وعيدي» نهاية الآية التي يوقف عليها ، فإذا وقف كان الوقف بالسكون ، وطيّ الكسرة لأجل الوقف أسهل من طيّ المدّ الطويل الذي يكون بإثبات الياء.

وقد مر بنا شيء من هذا في آيات أخرى.

٤ ـ وقال تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) [الآية ٢١].

أقول : جاء رسم «الضعفاء» في المصحف الشريف الضّعفاوء بواو قبل الهمزة ، وهذا الرسم يشير إلى من يفخّم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو.

ونظيره : علماؤا بنى إسرائيل (١٩٧) [الشعراء].

وفي هذا فائدة ، في أنّ رسم المصحف يهدي إلى فوائد تاريخية تتصل بأصوات القرآن ، وكيف أعرب عنها لدى طائفة من أهل التلاوة.

٥ ـ وقال تعالى : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١). أقول : المحيص هو المنجى والمهرب ، والفعل حاص يحيص.

وهو اسم مكان أو مصدر كالمغيب والمشيب.

ومن المفيد أن نشير إلى أن الفعل من هذا الاسم لم يبق شيء منه في العربية المعاصرة ، بل احتفظت به العاميّة في العراق ولا سيما في الحواضر ، يقال : هو لا يحيص أو ما يحيص ، أي : ما يتحرك وليس له أن يفلت.

٦ ـ وقال تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١).

قال الزمخشري (١) :

أي : أن الناس يخرجون في ذلك اليوم أموالهم في عقود المعاوضات ، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله ، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها ؛ وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله تعالى :

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (٢٠) [الليل] ، فلا

__________________

(١). «الكشاف» ٢ / ٥٥٦.

٢٤٢

يفعله إلّا المؤمنون الخلّص ، فبعثوا عليه ، ليأخذوا بدله ، في يوم لا بيع فيه ولا خلال ؛ أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالّة ، ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات.

٧ ـ وقال تعالى : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [الآية ٣٧].

وقوله تعالى : (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أي : تسرع إليهم ، وتطير نحوهم شوقا ونزاعا ، كقول أبي كبير الهذلي :

وإذا رميت به الفجاج رأيته

يهوي مخارمها هويّ الأجدل

وقرئ : تهوى إليهم ، على البناء للمفعول.

أقول : واستعمال «تهوي» في الآية استعمال في المجاز ، ذلك أنّ الأفئدة تميل وتجنح إليهم شوقا ، وليس «الهويّ» على حقيقته ، وهو السقوط.

والذي بقي من استعمال هذا الفعل ، هو المعنى الحقيقي.

٨ ـ وقال تعالى : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣). والإهطاع أن تقبل ببصرك على المرئيّ ، تديم النظر إليه لا تطرف.

و «مقنعي رؤوسهم» أي : رافعيها.

«وأفئدتهم هواء» ، أي : خلاء لم تشغله الأجرام ، فوصف به فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جبانا لا قوة في قلبه ولا جرأة ، قال حسان يهجو أبا سفيان :

ألا أبلغ أبا سفيان عنّي

فأنت مجوّف نخب هواء

فكون الأفئدة هواء أي : صفرا من الخير.

٩ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) (٤٦).

«إن» هنا في الآية نافية ، واللام مؤكّدة لها.

والمعنى : ومحال أن تزول الجبال بمكرهم.

وهذه الآية شاهد آخر في مجيء «إن» النافية التي أشرنا إليها ، وبسطنا فيها القول.

٢٤٣
٢٤٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «إبراهيم» (١)

قرئ قوله تعالى : (يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) [الآية ٣] بوصل الفعل ب «على» كما قالوا «ضربوه في السيف» يريدون «بالسيف». وذلك أن هذه الحروف يوصل بها كلّها ، وتحذف نحو قول العرب : «نزلت زيدا» تريد «نزلت عليه».

وقال تعالى : (مِنْ وَرائِهِ) [الآية ١٦] أي : من أمامه. وإنما قال : وراء أي : أنه وراء ما هو فيه ، كما تقول للرجل : «هذا من ورائك» أي : «سيأتي عليك» و «هو من وراء ما أنت فيه» لأنّ ما أنت فيه قد كان مثل ذلك ، فهو وراؤه. وقال سبحانه : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) [الكهف / ٧٩] في هذا المعنى. أي : كان وراء ما هم فيه (٢).

وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ١٨] أي : «وممّا نقصّ عليكم مثل الذين كفروا» ثم فسّر سبحانه كما في قوله : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرّعد / ٣٥ ومحمّد / ١٥] وهذا كثير.

وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) [الآية ٢٢] وهذا استثناء خارج ، كما تقول : «ما ضربته إلّا أنّه أحمق» وهو الذي في معنى «لكنّ».

وقال تعالى : (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) [الآية ٢٢] فتحت ياء الإضافة لأنّ قبلها ياء الجميع الساكنة التي كانت في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). ورد في مجاز القرآن ١ / ٣٣٧.

٢٤٥

«مصرخيّ» ، فلم يكن من حركتها بدّ لأنّ الكسر من الياء.

وقرأ (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) [الآية ٢٤] منصوبة على (ضَرَبَ) كأنّ الكلام «وضرب الله كلمة طيّبة مثلا».

وقال تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١) وفي موضع آخر (وَلا خُلَّةٌ) [البقرة / ٢٥٤] وإنّما «الخلال» لجماعة «الخلّة» كما تقول : «جلّة» و «جلال» ، و «قلّة» و «قلال». وقال الشاعر [من المتقارب ، وهو الشاهد الخامس والعشرون] :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب

ولو شيت جعلت «الخلال» مصدرا لأنها من «خاللت» مثل «قاتلت» ومصدر هذا لا يكون إلا «الفعال» أو «المفاعلة».

وقال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [الآية ٣٤] أي : آتاكم من كلّ شيء سألتموه شيئا» بإضمار الشيء ، كما في قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) [النمل / ٢٣] أي : «أوتيت من كلّ شيء في زمانها شيئا» (١) قال بعضهم : «إنما ذا على التكثير» نحو قولك : «هو يعلم كلّ شيء» و «أتاه كلّ الناس» وهو يعني بعضهم : وكذلك (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) [الأنعام / ٤٤]. وقال بعضهم : «ليس من شيء إلّا وقد سأله بعض الناس ، فقال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أي : «من كلّ ما سألتموه قد آتى بعضكم منه شيئا ، وآتى آخر شيئا ممّا قد سأل».

وكذلك قوله تعالى : (إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ) [الآية ٣٧] أي : «أسكنت من ذرّيّتي أناسا» (٢) ودخلت الباء على «واد» كما تقول : «هو بالبصرة» و «هو في البصرة».

ونوّن بعضهم (مِنْ كُلِ) [الآية ٣٤] (٣) فقرأ (من كلّ) ثم قال «لم

__________________

(١). نقله في زاد المسير ٤ / ٣٦٤ ، وإعراب القرآن ٢ / ٥٤٤ ، والجامع ٩ / ٣٦٧.

(٢). نقله في إعراب القرآن المنسوب للزجاجي ٢ / ٤٧٥.

(٣). في الطبري ١٣ / ٢٢٦ الى الضحّاك بن مزاحم وقتادة ، وفي الشواذ ٦٨ الى ابن عباس والحسن وجعفر بن محمد وسلام بن المنذر ، وفي المحتسب ١ / ٣٦٣ الى ابن عباس والضحّاك والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمرو بن فائد ويعقوب ، وفي الجامع ٩ / ٣٦٧ الى ابن عباس والضحّاك والحسن وقتادة ، وفي البحر ٥ / ٤٢٨ الى ابن عباس والضحاك والحسن والإمام محمد بن علي والإمام جعفر بن محمد وعمر بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في رواية.

٢٤٦

تسألوه إيّاه» كما تقول : «قد سألتك من كلّ» و «قد جاءني من كلّ» لأن «كلّ» قد تفرد وحدها.

وقال تعالى : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) [الآية ٢٥] ومثل ذلك (أُكُلُها دائِمٌ) [الرعد / ٣٥] و «الأكل» هو : الطعام و «الأكل» هو : «الفعل».

وقال تعالى : (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [الآية ٣٧] منصوب ، زعموا أنه في التفسير «تهواهم».

وقوله تعالى : (مُهْطِعِينَ) [الآية ٤٣] على الحال وكذلك (مُقْنِعِي) [الآية ٤٣] كأنّ السياق : «تشخص أبصارهم مهطعين» ؛ وجعل «الطرف» (١) للجماعة ، كما في قوله سبحانه : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥)) [القمر].

وقرئ قوله تعالى : (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) [الآية ٤٧] بالإضافة الى الأول ونصب الآخر على الفعل ، ولا يحسن أن نضيف إلى الآخر لأنه يفرق بين المضاف والمضاف إليه ، وهذا لا يحسن. ولا بدّ من إضافته لأنه قد ألقى الألف ، ولو كانت «مخلفا» نصبهما جميعا ، وذلك جائز في الكلام. ومثله «هذا معطي زيد درهما» و «معط زيدا درهما».

وواحد (الْأَصْفادِ (٤٩)) صفد.

__________________

(١). من قوله تعالى في الآية نفسها (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ).

٢٤٧
٢٤٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «إبراهيم» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [الآية ٤] هذا في حق غير النبي (ص) من الرسل مناسب ، لأن غيره لم يبعث إلى الناس كافّة بل إلى قومه فقط ، فأرسل بلسانهم ليفقهوا عنه الرسالة ولا تبقى لهم الحجّة بأنا لم نفهم رسالتك. فأما النبي (ص) فإنه بعث إلى الناس كافّة ، قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [الأعراف / ١٥٨] ، (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) [سبأ / ٢٨].

فإرساله بلسان قومه إن كان لقطع حجّة العرب ، فالحجة باقية لغيرهم من أهل الألسن الباقية ، وإن لم يكن لغير العرب حجّة ، أن لو نزل القرآن بلسان غير العرب يكن للعرب الحجة.

قلنا : نزوله على النبي (ص) بلسان واحد كاف ، لأن الترجمة لأهل بقية الألسن تغني عن نزوله لجميع الألسن ، ويكفي التطويل كما جرى في القرآن العزيز. الثاني : أن نزوله بلسان واحد أبعد عن التحريف والتبديل ، وأسلم من التنازع والخلاف. الثالث : أنه لو نزل بألسنة كل الناس وكان معجزا في كلّ واحد منها ، وكلّم الرسول العربي كلّ أمة بلسانها كما كلم أمته التي هو منها لكان ذلك أمرا قريبا من القسر والإلجاء ؛ وبعثة الرسل لم تبن على القسر والإلجاء ، بل على التمكين من الاختيار ، فلما كان نزوله بلسان واحد

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٤٩

كافيا ، كان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ، لأنهم أقرب إليه وأفهم عنه.

فإن قيل : لم قال تعالى في سورة البقرة (يُذَبِّحُونَ) [الآية ٤٩] وفي سورة الأعراف (يُقَتِّلُونَ) [الآية ١٤١] بغير واو فيهما ، وقال هنا (وَيُذَبِّحُونَ) [الآية ٦] بالواو ، والقصة واحدة؟

قلنا : حيث حذف الواو جعل التذبيح والتقتيل تفسيرا للعذاب وبيانا له ، وحيث أثبتها جعل التذبيح كأنه جنس آخر غير العذاب ، لأنه أوفى على بقية أنواعه ، وزاد عليها زيادة ظاهرة ، فعلى هذا يكون إثبات الواو أبلغ.

فإن قيل : ما معنى التبعيض في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الآية ١٠]؟

قلنا : ما جاء هذا إلا في خطاب الكافرين ، كقوله تعالى في سورة نوح عليه‌السلام : (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الآية ٤] وقوله تعالى في سورة الأحقاف : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) [الآية ٣١] وقال تعالى في خطاب المؤمنين في سورة الصفّ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) [الآية ١٠] إلى قوله تعالى من الآية نفسها : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الصفّ / ١٢] وقال تعالى في آخر سورة الأحزاب : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) وكذا باقي الآيات في خطاب الفريقين إذا تتبعتها ، وما ذلك إلا للتفرقة بين الخطابين لئلا يسوّى بين الفريقين في الوعد مع اختلاف رتبتهما ، لا لأنه يغفر للكفّار مع بقائهم على الكفر بعض ذنوبهم ؛ والذي يؤيد ما ذكرناه من العلة ، أنه في سورة نوح عليه‌السلام ، وفي سورة الأحقاف ، وعدهم مغفرة بعض الذنوب بشرط الإيمان مطلقا. وقيل معنى التبعيض أنه يغفر لهم ما بينهم وبينه ، لا ما بينهم وبين العباد من المظالم ونحوها. وقيل «من» زائدة.

فإن قيل : لم كرر تعالى الأمر بالتوكّل ، ولم قال أوّلا (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١١) وقال ثانيا : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (١٢)؟

قلنا : الأمر الأول لاستحداث التوكّل ، والثاني لتثبيت المتوكّلين على ما استحدثوا من توكلهم ؛ فلهذا كرره ،

٢٥٠

وقال أولا «المؤمنون» وثانيا «المتوكلون».

فإن قيل : لم قالوا لرسلهم كما ورد في التنزيل : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الآية ١٣] والرسل لم يكونوا على ملّة الكفار قطّ ؛ والعود هو الرجوع إلى ما كان فيه الإنسان؟

قلنا : العود في كلام العرب يستعمل كثيرا بمعنى الصيرورة ، يقولون : عاد فلان يكلّمني ، وعاد لفلان مال وأشباه ذلك ، ومنه قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩) [يس]. الثاني : أنهم خاطبوا الرسل بذلك بناء على زعمهم الفاسد واعتقادهم أن الرسل كانوا أوّلا على ملل قومهم ثم انتقلوا عنها. الثالث : أنهم خاطبوا كل رسول ومن آمن به فغلّبوا في الخطاب الجماعة على الواحد ، ونظير هذا السؤال ما سبق في سورة الأعراف من قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الآية ٨٨] وفي سورة يوسف (ع) من قوله تعالى : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) [الآية ٣٧].

فإن قيل : كيف طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [الآية ٢١].

قلنا : لما كان قول الضعفاء توبيخا وتقريعا وعتابا للذين استكبروا على استتباعهم إياهم واستغوائهم ، أحالوا الذنب على الله تعالى في ضلالهم وإضلالهم ، بقولهم كما ورد في التنزيل : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام / ١٤٨] ، (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [النحل / ٣٥] يقولون ذلك في الآخرة ، كما كانوا يقولونه في الدنيا ، كما حكى الله تعالى عن المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) [المجادلة / ١٨]. وقيل معنى جوابهم : لو هدانا الله في الآخرة طريق النجاة من العذاب ، لهديناكم : أي لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة ، كما سلكنا بكم طريق الهلكة في الدنيا.

فإن قيل : كيف اتّصل وارتبط القول (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) [الآية ٢١] بما قبله؟

قلنا : اتصاله به من حيث إن عتاب الضعفاء للذين استكبروا كان جزعا مما هم فيه وقلقا من ألم العذاب ، فقال

٢٥١

لهم رؤساؤهم كما ورد في التنزيل (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١) يريدون أنفسهم وإياهم ، لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين عليها في الدنيا ، كأنهم قالوا للضعفاء : ما هذا الجزع والتوبيخ ، ولا فائدة فيه كما لا فائدة في الصبر ، فإن الأمر أعظم من ذلك وأعمّ.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) [الآية ٢٢] عبر عنه بلفظ الماضي ، وذلك القول من الشيطان لم يقع بعد ، وإنما هو مترقّب منتظر ، يقوله يوم القيامة؟

قلنا : يجوز وضع المضارع موضع الماضي ، ووضع الماضي موضع المضارع إذا أمن اللبس ، قال الله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة / ١٠٢] أي ما تلت ، وقال تعالى : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة / ٩١]. قال الحطيئة الشاعر :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالغدر

فقوله تعالى : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) نفي للّبس ، وكذا قول الحطيئة «يوم يلقى ربه» ، وقوله تعالى : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) لأن قضاء الأمر إنما يكون يوم القيامة.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [الآية ٢٧] وقد رأينا كثيرا من الظالمين هداهم الله بالإسلام وبالتوبة وصاروا من الأتقياء؟

قلنا : معناه أنه لا يهديهم ماداموا مصرّين على الكفر والظلم ، معرضين عن النظر والاستدلال. الثاني : أن المراد منه ، الظالم الذي سبق له القضاء في الأزل ، أنه يموت على الظلم ؛ فالله تعالى يثبته على الضلالة لخذلانه ، كما يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت وهو كلمة التوحيد. الثالث أن معناه : أن يضل المشركين عن طريق الجنة يوم القيامة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) [الآية ٣٠] والضلال والإضلال لم يكن غرضهم في اتّخاذ الأنداد وهي الأصنام ، وإنّما عبدوها لتقرّ بهم إلى الله تعالى ، كما حكى الله تعالى عنهم ذلك ، بقوله : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزّمر / ٣]؟

قلنا : قد شرحنا ذلك في سورة «يونس» عليه‌السلام ، إذ قلنا هذه لام

٢٥٢

العاقبة والصيرورة ، وليست لام الغرض ، والمقصود كما في قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص / ٨] ؛ وقول الشاعر :

لدوا للموت وابنوا للخراب

وقول الآخر :

فللموت تغذو الوالدات سخالها

كما لخراب الدّهر تبنى المساكن

والمعنى فيه أنهم لما أفضى بهم اتخاذ الأنداد إلى الضلال ، أو الإضلال ، صاروا كأنهم اتّخذوها لذلك ؛ وكذا الالتقاط والولادة والبناء ، ونظائره كثيرة في القرآن العزيز ، وفي كلام العرب.

فإن قيل : كيف طابق الأمر بإقامة الصلاة وإنفاق المال ، وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟

قلنا : معناه قل لهم يقدّموا ، من الصلوات والصدقة ، متجرا يجدون ربحه يوم لا تنفعهم متاجر الدنيا من المعاوضات والصدقات التي يجلبونها بالهدايا والتحف ، لتحصيل المنافع الدنيوية ، فجاءت المطابقة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) (٣١) أي لا صداقة ، وفي يوم القيامة خلال ، لقوله تعالى :

(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزخرف] ولقوله (ص) «المرء مع من أحبّ»؟

قلنا : لا خلال فيه لمن لم يقم الصلاة ولم يؤدّ الزكاة ؛ فأما المقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة فهم الأتقياء ، وبينهم الخلال يوم القيامة لما تلونا من الآية.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٣٣)؟ والمسخّر للإنسان هو الذي يكون في طاعته يصرفه كيف شاء في أمره ونهيه كالدابة والعبد والفلك ، كما قال تعالى : (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) [الزخرف / ١٣] وقال تعالى : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف / ٣٢] وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) [الآية ٣٢] ويقال فلان مسخّر لفلان إذا كان مطيعا له ، وممتثلا لأوامره ونواهيه؟

قلنا : لما كان طلوعهما وغروبهما وتعاقب الليل والنهار لمنافعنا متّصلا مستمرّا ، اتّصالا لا تنقطع علينا فيه المنفعة ولا تنخرم ، سواء أشاءت هذه المخلوقات أم أبت ، فقد أشبهت

٢٥٣

المسخّر المقهور في الدنيا كالعبد والفلك ونحوهما.

والثاني : أن معناه أنها مسخّرة لله لأجلنا ومنافعنا : فإضافة التسخير إلى الله تعالى : بمعنى أنه فاعل التسخير ، وإضافة التسخير إلينا بمعنى عود نفع التسخير إلينا ؛ فصحّت الإضافتان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) [الآية ٣٤] والله تعالى لم يعطنا كل ما سألناه ، ولا بعضا من كلّ فرد ، ممّا سألناه؟

قلنا : معناه : وآتاكم بعضا من جميع ما سألتموه لا من كل فرد.

فإن قيل : لا يصح هذا المحمل لوجهين : أحدهما : أنه لا يحسن الامتنان به. الثاني : أنه لا يناسبه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) [الآية ٣٤]؟

قلنا : إذا كان البعض الذي أعطانا هو الأكثر من جميع ما سألناه ، وهو الأصلح والأنفع لنا في معاشنا ومعادنا ، بالنسبة إلى البعض الذي منعه عنا لمصلحتنا أيضا ، لا يحسن الامتنان به ويكون مناسبا لما بعده.

وجواب آخر : عن أصل السؤال : أنه يجوز أن يكون قد أعطى جميع السائلين بعضا من كل فرد ممّا سأله جميعهم ، وبهذا المقدار يصح الإخبار في الآية ، وإن لم يعط كلّ واحد من السائلين بعضا من كلّ فرد ممّا سأله ؛ وإيضاح ذلك أن يكون هذا قد أعطي شيئا ممّا سأله ذاك ، وأعطي ذاك شيئا مما سأله هذا على ما اقتضته الحكمة والمصلحة في حقّهما ؛ كما أعطي النبي (ص) الرؤية ليلة المعراج ، وهي مسؤول موسى عليه‌السلام ، وما أشبه ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) والإحصاء والعدّ بمعنى واحد ، كذا نقله الجوهري ؛ فيكون المعنى وإن تعدوا نعمة الله لا تعدوها ، وهو متناقض كقولك : إن تر زيدا لا تبصره ، إذ الرؤية والإبصار واحد؟

قلنا : بعض المفسّرين فسّر الإحصاء بالحصر ، فإن صح ذلك لغة اندفع السؤال ، ويؤيّد ذلك قول الزمخشري لا تحصوها : أي لا تحصروها ولا تطيقوا عدّها وبلوغ آخرها ، وعلى القول الأول فيه إضمار تقديره : وإن تريدوا عد نعمة الله لا تعدوها.

٢٥٤

فإن قيل : لم قال تعالى : (لا تُحْصُوها) ، وهو يوهم أن نعم الله غير متناهية ، وكل نعمة ممتنّ بها علينا فهي مخلوقة ، وكل مخلوق متناه؟

قلنا : لا نسلّم أنه يوهم أنها لا تتناهى ، وذلك لأن المفهوم منه منحصر في أنّا لا نطيق عددها أو حصر عددها ، ويجوز أن يكون الشيء متناهيا في نفسه ، والإنسان لا يطيق عدده ، كرمل القفار وقطر البحار وورق الأشجار ، وما أشبه ذلك.

فإن قيل : لم قال إبراهيم عليه‌السلام كما ورد في التنزيل (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (٣٥) وعبادة الأصنام كفر ، والأنبياء معصومون عن الكفر بإجماع الأمّة ، فكيف حسن منه هذا السؤال؟

قلنا : إنّما سأل هذا السؤال في حالة خوف أذهله عن ذلك العلم. لأن الأنبياء (ع) أعلم الناس بالله تعالى ، فيكونون أخوفهم منه ، فيكون معذورا بسبب ذلك. وقيل إن في حكمة الله تعالى وعلمه ، أن لا يبتلي نبيا من الأنبياء بالكفر ، بشرط أن يكون متضرّعا إلى ربه طالبا منه ذلك ؛ فأجرى على لسانه هذا السؤال لتحقيق شرط العصمة.

فإن قيل : قال تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [الآية ٣٦] فجعل الأصنام مضلة ؛ والمضلّ ضار. وقال في موضع آخر : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) [يونس / ١٨] ونظائره كثيرة ، فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : إضافة الإضلال إليها مجاز بطريق المشابهة. ووجهه ، أنهم ، لمّا ضلوا بسببها ، فكأنها أضلّتهم ، كما يقال فتنتهم الدنيا وغرتهم : أي افتتنوا بسببها واغترّوا ، ومثله قولهم : دواء مسهّل ، وسيف قاطع ، وطعام مشبع ، وماء مرو ، وما أشبه ذلك. ومعناه : حصول هذه الآثار بسبب هذه الأشياء ، وفاعل الآثار هو الله تعالى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) [الآية ٣٧] ولم يقل أفئدة الناس ، وقوله قلوب الناس أظهر استعمالا من قوله قلوبا من الناس؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، لو قال إبراهيم عليه‌السلام في دعائه «أفئدة الناس» ، لحجّت جميع الملل وازدحم عليه الناس ، حتى لم

٢٥٥

يبق لمؤمن فيه موضع ، مع أن حج غير الموحّدين لا يفيد ، والأفئدة هنا القلوب في قول الأكثرين ، وقيل الجماعة من الناس.

فإن قيل : إذا كان الله تعالى قد ضمن رزق العباد ، فلم سأل إبراهيم عليه‌السلام الرزق لذرّيّته ، فقال كما ورد في التنزيل : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) [الآية ٣٧]؟

قلنا : الله تعالى ضمن الرزق والقوت الذي لا بد للإنسان منه ما دام حيّا ، ولم يضمن كونه ثمرا أو حبّا أو نوعا معينا ؛ فالسؤال كان لطلب الثمر عينا.

فإن قيل : قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) [الآية ٣٩] شكر على نعمة الولد ، فكيف يناسبه بعده في الآية نفسها : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩)؟

قلنا : لمّا كان قد دعا ربّه لطلب الولد بالقول : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠٠) [الصافّات] فاستجاب له ناسب قوله بعد الشكر : (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) (٣٩) أي لمجيبه من قولهم : سمع الملك قول فلان إذا أجابه وقبله ، ومنه قولهم في الصلاة «سمع الله لمن حمده» أي أجابه وأثابه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) [نوح / ٢٨] استغفر إبراهيم لوالديه وكانا كافرين ، والاستغفار للكافرين لا يجوز ، ولا يقال إن هذا موضع الاستثناء المذكور في قوله تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [التوبة / ١١٤] ، لأن المراد بذلك استغفاره لأبيه خاصة ، بقوله (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء / ٨٦] والموعدة التي وعدها إيّاه إنما كانت له خاصة ، بقوله تعالى : (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [يوسف / ٩٨] ولهذا قال الله تعالى : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) [الممتحنة / ٤]؟

قلنا : هذا الاستغفار لهما كان مشروطا بإيمانهما تقديرا ، كأنه قال ولوالديّ إن آمنا. الثاني : أنه أراد بهما آدم وحوّاء صلوات الله عليهما ، وقرأ ابن مسعود وأبي والنخعي والزهري رضي الله عنهم (ولولديّ) يعني إسماعيل وإسحاق ، ويعضد هذه القراءة سبق ذكرهما ، ولا إشكال على هذه القراءة ، وقيل إن هذا الدعاء على القراءة المشهورة ، وإلى ذلك أشير بقوله تعالى (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢) [الشعراء].

٢٥٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «إبراهيم» (١)

قوله سبحانه : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٥) وهذه استعارة. والمراد بها ـ والله أعلم ـ التذكير بأيام نقم الله التي أوقعها بالماضين ، كعاد وثمود ومن جرى مجراهم. وهذا كقولنا : أيام العرب. وإنما تريد به الأيام التي كانت فيها الوقائع المشهورة والملاحم العظيمة. وقد يجوز أن تكون الأيام هاهنا عبارة عن أيام النعم ، كما قلنا إنها عبارة عن أيام النقم. فيكون المعنى : فذكّرهم بالأيام التي أنعم الله فيها عليهم وعلى الماضين من آبائهم بوقم (٢) الأعداء ، وكشف اللّأواء (٣) ، وإسباغ النعماء. ألا ترى أن أيام العرب التي هي عبارة عن الوقائع يكون فيها لبعضهم الظهور على بعض ، فذلك من النّعم ، وعلى بعضهم السوء والدائرة ، وتلك من النقم؟ فالأيام إذن تذكرة لمن أراد التذكرة بالإنعام والانتقام.

وقوله سبحانه : (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [الآية ٩] وهذا استعارة ، على وجه واحد من وجوه التأويلات التي حملت عليها هذه الآية. وذلك أنّ يكون المعنى ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأيدي هاهنا عبارة عن حجج الرسل عليهم‌السلام ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). وقم العدو : قهره وأذله ، ووقم الرجل : ردّه عن حاجته أقبح ردّ.

(٣). اللّأواء : ضيق المعيشة ، وشدّة المرض.

٢٥٧

والبيّنات التي جاءوا بها قومهم ، وأكدّوا بها شرعهم. لأن بذلك يتم لهم السلطان عليهم والتدبير لهم ، وقد سمّوا السلطان يدا في كثير من المواضع ، فقالوا : ما لفلان على فلان يد ، أي سلطان. ويقولون : قد زالت يد فلان الأمير إذا عزل عن ولايته ، بمعنى زال سلطانه عن رعيته. ويقولون : أخذت هذا الأمر باليد ، أي بالسلطان. فالحجج التي جاء بها الأنبياء أممهم قد تسمّى أيديا على ما ذكرناه ، فلما وصف الكفار على هذا التأويل بأنهم ردّوا أيدي الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في أفواههم ، كان المراد بذلك ردّ حججهم من حيث جاءت ، وطريق مجيئها أفواههم ؛ فكأنهم ردّوا عليهم أقوالهم ، وكذّبوا دعواهم.

وفي هذا التأويل بعد وتعسّف ، إلا أننا ذكرناه لحاجتنا إليه ، لمّا ذهبنا مذهب من حمل قوله سبحانه : (بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) على الاستعارة لا على الحقيقة.

فإذا حملت الآية على حقيقة الأيدي التي هي الجوارح كان المراد بها مختلفا فيه. فمن العلماء من قال : المراد بذلك أنهم كانوا يعضّون أناملهم تغيظا على الرسل عليهم‌السلام ، كما يفعل المغيظ المحنق ، والواجم المفكّر.

وقال بعضهم : المراد بذلك أن المشركين أومئوا إلى أفواه الأنبياء ، بالتسكيت لهم ، والقطع لكلامهم.

وقال بعضهم : بل المراد بذلك ضرب من الهزء يفعله المجّان والسفهاء ، إذا أرادوا الاستهزاء ببعض الناس ، وقصدوا الوضع منه ، والإزراء عليه. فيجعلون أصابعهم في أفواههم ويتبعون هذا الفعل بأصوات تشبهه وتجانسه ، يستدل بها على قصد السخف ، وتعمد الفحش. وهذا عندي بعيد من السداد ، وغيره من الأقوال أولى منه بالاعتماد.

وقد يجوز أيضا أن يكون المراد بذلك أن الكفار كانوا إذا بدأ عليهم الرسل بالكلام سدّوا بأيديهم أسماعهم دفعة ، وأفواههم دفعة ، إظهارا منهم لقلة الرغبة في سماع كلامهم وجواب مقالهم ، ليدلّوهم ـ بهذا الفعل ـ على أنهم لا يصغون لهم إلى مقال ، ولا

٢٥٨

يجيبونهم عن سؤال ، إذا قد أبهموا طريقي السماع والجواب ، وهما الآذان والأفواه. وشاهد ذلك قوله سبحانه حاكيا عن نوح عليه‌السلام ، يعني قومه : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) (٧) [نوح] فيكون معنى رد أيديهم في أفواههم على القول الذي قلنا ، أن يمسكوا أفواههم بأكفهم ، كما يفعل المظهر الامتناع عن الكلام. ويكون إنما ذكر تعالى ردّ الأيدي هاهنا ـ وهو يفيد فعل الشيء ثانيا بعد أن فعل أوّلا ـ لأنهم كانوا يكثرون هذا الفعل عند كلام الرسل عليهم‌السلام. فوصفوا في هذه الآية بما قد سبق لهم مثله ، وألف منهم فعله ، فحسن ذكر الأيدي بالرد على الوجه الذي أومأنا إليه. وأيضا فقد يقول القائل لغيره : أردد إليك يدك. بمعنى اقبضها وكفّها. لا يريد غير ذلك.

وقوله سبحانه : (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) (١٤). وهذه استعارة. لأن المقام لا يضاف إلّا الى من يجوز عليه القيام. وذلك مستحيل على الله سبحانه ، فإذن المراد به يوم القيامة ، لأن الناس يقومون فيه للحساب ، وعرض الأعمال على الثواب والعقاب ، فقال سبحانه في صفة ذلك اليوم : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطفّفين].

وإنما أضاف تعالى هذا المقام إلى نفسه في هذا الموضع ، وفي قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٤٦) [الرحمن] لأن الحكم في ذلك اليوم له خالصا ، لا يشاركه فيه حكم حاكم ، ولا يحادّه أمر آمر. وقد يجوز أن يكون المقام هاهنا معنى آخر ، وهو أن العرب تسمي المجامع التي تجتمع فيها لتدارس مفاخرها ، وتذاكر مآثرها «مقامات» و «مقاوم». فيجوز أن يكون المراد بالمقام هاهنا الموضع الذي يقصّ فيه سبحانه على بريّته محاسن أعمالهم ، ومقابح أفعالهم ، لاستحقاق ثوابه وعقابه ، واستيجاب رحمته وعذابه. وقد يقولون : هذا مقام فلان ومقامته ، على هذا الوجه ، وإن لم يكن الإنسان المذكور في ذلك المكان قائما ، بل كان قاعدا أو مضطجعا. ومن الشاهد على ذلك قوله تعالى في قصة سليمان عليه‌السلام : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ

٢٥٩

مِنْ مَقامِكَ) [النمل / ٣٩] أي من مجلسك. سمّاه مقاما ـ مع ذكره أنّ سليمان عليه‌السلام كان جالسا فيه ـ لأنه قال : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ). وإنما سمّاه مقاما ، لأن القاعد إذا قام بعد قعوده ففيه يكون قيامه. وهذا من غرائب القرآن الكريم.

وقوله سبحانه : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١٧) فهذه استعارة. لأن المراد بذلك لو كان الموت الحقيقي ولم يكن (١) سبحانه ليقول : (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) ، وإنما المعنى أن غواشي الكروب ، وحوازب الأمور تطرقه من كل مطرق ، وتطلع عليه من كل مطلع. وقد يوصف المغموم بالكرب ، والمضغوط بالخطب بأنه في غمرات الموت ، مبالغة في عظيم ما يغشاه ، وأليم ما يلقاه.

وقوله سبحانه : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [الآية ١٨] في هذه الآية استعارتان إحداهما قوله تعالى : (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) (٢) ........

وقوله سبحانه : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [الآية ٣٧]. وهذه من محاسن الاستعارة. وحقيقة الهويّ النزول من علو إلى انخفاض كالهبوط. والمراد به هاهنا المبالغة في صفة الأفئدة بالنّزوع إلى المقيمين بذلك المكان. ولو قال سبحانه : تحنّ إليهم ، لم يكن فيه من الفائدة ما في قوله سبحانه : تهوي إليهم ، لأن الحنين قد يوصف به من هو مقيم في مكانه ، والهوي يفيد انزعاج الهاوي من مستقرّه.

وقوله تعالى : (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (٤٣) وهذه استعارة. والمراد بها صفة قلوبهم بالخلوّ من عزائم الصبر والجلد ، لعظيم الإشفاق والوجل. ومن عادة العرب أن يسمّوا الجبان يراعة جوفاء ، أي ليس بين جوانحه قلب.

وعلى ذلك قول جرير ، يهجو قوما ويصفهم بالجبن :

__________________

(١). هذه العبارة غير واضحة كما هي ، والمقصود أن الموت هنا مجاز لا حقيقة ، ولو كان الموت هنا حقيقة لم يكن سبحانه ليقول : (وما هو بميت). ولعل الواو زائدة في قوله «ولم يكن».

(٢). هنا ورقة ضائعة من الأصل. من الآية ١٨ إلى الآية ٣٧.

٢٦٠