الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الرّعد» (١)

أقول : وجه وضعها بعد سورة «يوسف» : أنه سبحانه قال في آخر تلك : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) (١٠٥) [يوسف]. فذكر الآيات السمائية والأرضية مجملة ، ثم فصّل في مطلع هذه السورة.

فقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤) تفصيل الآيات الأرضية.

هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب ، ووصفه بالحق ، وافتتاح هذه بمثل ذلك (٢) ، وهو من تشابه الأطراف.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). ختام سورة «يوسف» : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١١١) وافتتاح «الرعد» : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

٢٠١
٢٠٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الرّعد» (١)

١ ـ (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) [الآية ١٣].

نزلت في أربد بن قيس ، وعامر بن الطّفيل. كما أخرجه الطبراني (٢) وغيره.

٢ ـ (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣).

قال عكرمة : هو عبد الله بن سلام. قال سعيد بن جبير : هو جبريل. أخرجهما ابن أبي حاتم.

وقال ابن عباس : هم اليهود والنّصارى. أخرجه ابن جرير (٣) ؛ وأخرج عن قتادة ، قال : كنّا نحدّث أنّ منهم عبد الله بن سلام ، وسلمان الفارسي ، وتميما الدّاري (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). في «الأوسط» و «الكبير» بنحوه ، وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران ، وهو ضعيف. قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ / ٤٢.

(٣). ١٣ / ١١٨.

(٤). والأثر في «الطبري» ١٣ / ١١٩.

٢٠٣
٢٠٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الرّعد» (١)

١ ـ قاله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣).

أقول : أراد تعالى بقوله : (جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أنه سبحانه خلق فيها من أنواع الثّمرات جميعها زوجين حين مدّها ، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت.

وقيل : أريد بالزّوجين : الأسود والأبيض ، والحلو والحامض ، والصغير والكبير ، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة.

وأمّا قوله جلّ وعلا : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) فالمراد يلبسه مكانه ، فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا. وقرئ : يغشّي ، بالتشديد.

وظاهر الحال أن الفعل «يغشي» ينصب مفعولين ؛ وحقيقة ذلك ، أنه مجاوز الى مفعول واحد ، وأما الثاني فبالخافض ، وعرض له الحذف ، ثم وصل.

٢ ـ وقال تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الآية ٦].

والمراد بقوله سبحانه : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) عقوبات أمثالهم من المكذّبين ، فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزءوا.

والمثلة : العقوبة بوزن السّمرة. والمثلة لما بين العقاب والمعاقب عليه من المماثلة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠٥

أقول : وهذه من موادّ القرآن التي لا نعرفها في عربية معاصرة.

٣ ـ وقال تعالى : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠).

والمعنى : سواء عنده من استخفى ، أي : طلب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته ، ومن يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كلّ أحد.

أقول : وليس لنا في العربية المعاصرة إلا المزيد «سرّب» ، و «تسرّب» ومعناهما شيء آخر ذو خصوصية أخرى ، فيقال مثلا : سرّب خبرا ، وتسرّب الخبر ، وكلّه شي مولّد جديد.

٤ ـ وقال تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢).

و(السّحاب) في الآية يفيد الجمع بدلالة الوصف (الثّقال).

ومن المفيد أن نعرض لكلمة «السحاب» في لغة التنزيل ، لنرى تصاقب الجمع والإفراد فيها ، قال تعالى : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [البقرة / ١٦٤].

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) (٤٤) [الطور].

(حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) [الأعراف / ٥٧].

فالسحاب في الآية الأولى مفرد بدلالة الوصف (المسخّر) ، ومثله في الآية الثانية ؛ وأما الآية الثالثة ففيها شيء آخر ، فقد وصف السحاب بصفة الجمع (الثقال) ، ثم عاد الضمير عليه في (سقناه) فعدّ مفردا.

وحقيقة الأمر أن «السحاب مفرد كسائر أسماء الجمع ، كالنخل والشجر وغيرهما ، ولكن هذه الأسماء ذات معان تؤدّي الجمع. على أن الشيء يكون مفردا مرةّ وجمعا أخرى باعتبار لفظه ، وباعتبار معناه ، وهذا من خصائص لغة التنزيل.

٥ ـ وقال تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (١٣).

المحال والمماحلة سواء ، وهما مصدر الفعل «ماحل» ، ويعنيان شدة المماكرة والمكايدة.

أقول : مصدر «فاعل» قياسي ، فهو الفعال والمفاعلة ، مثل سابق سباقا ومسابقة ، ولكن قد يشيع بناء من هذين المصدرين ويكاد الآخر ينسى فلا يرد

٢٠٦

في نثر المعربين وشعرهم وكلامهم. ألا ترى أنهم يقولون «نفاق» ولا يقولون : منافقة ويقولون : مجاراة ومباراة ولا يقولون : جراء وبراء ، ويقولون مراسلة وملاعنة ، وقلّما تجد رسالا ولعانا. وهذا كله من خصائص هذه اللغة العريقة.

٦ ـ وقال تعالى : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) [الآية ١٧].

قالوا : معنى (جفاء) باطلا.

قال الفرّاء : أصله الهمزة ، والجفاء ، ما نفاه السّيل.

وجفأ الوادي : مسح غثاءه ، وقيل : الجفاء كما يقال الغثاء.

أقول : والجفاء بهذا المعنى من الكلم المفيد الذي حسن استعماله في لغة التنزيل.

٧ ـ وقال تعالى : (لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) [الآية ١٨].

والمراد ب (الحسنى) الجزاء الحسن.

والحسنى ضدّ السّوأى ، وهو مصدر كالنّعمى والبؤسى وغيرهما.

وقد يكون أصل هذا المصدر الصفة ، فهو مؤنّث أحسن ، مثل أعلى وعليا ، وأقصى وقصيا ، ثم حوّله الاستعمال الكثير الى المصدر كتحوّل العافية والعاقبة الى المصدر ، وأصلهما اسم الفاعل.

وهذا كلّه من سعة هذه العربية التي تفنّن بها أهل اللّسن والفصاحة.

٨ ـ وقال تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦).

أقول : والمعنى : وما الحياة الدنيا في جنب نعيم الآخرة إلّا شيء يسير كعجالة الراكب ، وهو ما يتعجّله من تميرات ، أو شربة سويق ، أو نحو ذلك (١).

وقوله تعالى : (فِي الْآخِرَةِ) ضرب من الإيجاز الجميل ، والمعنى كما أشرنا من قول الزمخشريّ.

ثم إنّ جعل الحياة الدنيا متاعا ، إشارة الى أن نعيمها زائل ، وأنها لا تدوم ، وأنها تافهة قليلة الغناء كغلّة المتاع الذي يتزوّد به المسافر ، وهو بلغة يتبلّغ بها مدة سفره. وما زال «المتاع» زاد الراكب والمسافر في عصرنا ، وإن أخذ يزول بسبب من تقدّم

__________________

(١). «الكشاف» ٢ / ٥٢٨.

٢٠٧

الحضارة ، وتهيؤ الوسائل المتقدّمة في السفر وما يتصل به.

ومن عجيب ، أن مواد هذه الكلمة تدل على القلة ذلك أن «المتعة» (مثلّثة الميم) هي البلغة ، ويقول الرجل لصاحبه ، أبغني متعة أعيش بها ، أي : ابغ لي شيئا آكله ، او زادا أتزوّد به ، أو قوتا اقتاته.

٩ ـ وقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩).

قرئت : (طوبى لهم وحسن مآب) برفع (طوبى) ونصبها.

أقول : والنّصب على معنى الدّعاء.

وطوبى : مصدر كالبشرى والنّعمى ونحو ذلك ، وقوله تعالى : (طُوبى لَهُمْ) ، أي : أصبتم خيرا وطيبا على إرادة الدعاء. واستعمال اللام في (لَهُمْ) مؤذن بذلك كقولهم سلاما لك ، كما تقول أيضا سلام لك ، وكله دعاء.

١٠ ـ وقال تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٣٩).

وقوله تعالى : (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، أي : أصل كل كتاب ، وهو اللوح المحفوظ.

أقول : واستعمال (أمّ) وإضافتها للكتاب لتوليد هذا المعنى ، أو قل هذا المصطلح يؤيّده ما درج عليه العرب من النظر الى كلمة (أمّ) ، التي أضافوها الى كلمات لا حصر لها لتوليد مسمّيات كثيرة ، يأخذك العجب إذا ما أردت أن تعرف طرائق إدراكهم للأشياء ، واختيار الكلم لذلك.

وحسبك أن تنظر في كتاب «المرصّع» لمجد الدين ابن الأثير (١) وهو في الآباء والأمهات والأبناء والذوات والذوين ، لتدرك آفاق هذه اللغة البعيدة المرامي.

١١ ـ وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) [الآية ٣١].

قال الزمخشري (٢) في (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً) جوابه محذوف ، كما تقول

__________________

(١). انظر : «المرصّع» ، لابن الأثير ، من مطبوعات وزارة الأوقاف في العراق.

(٢). «الكشاف» ٢ / ٥٢٩.

٢٠٨

لغلامك : لو أنّي قمت إليك ، وتترك الجواب.

والمعنى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) عن مقارّها ، وزعزعت عن مضاجعها ، (أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ) حتّى تتصدّع وتتزايل قطعا ، (أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) فتسمع وتجيب ، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف ؛ كما قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر / ٢١].

أقول : وهذا الأسلوب من حذف الجواب يخدم الغرض البلاغي ، وهو أن يدع السامع يتفكّر في عظم ما يريد الله سبحانه أن يفعله.

أما قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) فالمراد بها : أفلم يعلم.

قيل : هي لغة قوم من النّخع. وقيل : إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمّنه معناه ، لأنّ اليائس عن الشيء عالم بأنّه لا يكون ، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في معنى الترك لتضمّن ذلك ، قال سحيم بن وثيل الرياحي :

أقول لهم بالشّعب إذ ييسرونني

ألم تيأسوا أنّي ابن فارس زهدم

ويدل عليه أنّ عليّا وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرءوا : أفلم يتبيّن ، وهو تفسير (أَفَلَمْ يَيْأَسِ).

١٢ ـ وقال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١)).

وقوله تعالى : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) ، أي : لا رادّ لحكمه ، والمعقّب الذي يكرّ على الشيء فيبطله ، وحقيقته : الذي يعقبه أي : يقفّيه بالردّ والإبطال. ومنه قيل لصاحب الحقّ : معقّب لأنه يقفّي غريمه بالاقتضاء والطلب ، قال لبيد :

حتى تهجّر في الرّواح وهاجها

طلب المعقّب حقّه المظلوم

والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال ، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس.

أقول : وهذه كلمة فنّيّة هي من أوائل ما عرف من المصطلح القضائي.

٢٠٩
٢١٠

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الرّعد» (١)

قال تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي) [الآية ٢] يعني كلّه كما تقول «كلّ منطلق» أي : كلّهم.

وقال تعالى : (رَواسِيَ) [الآية ٣] فواحدتها «راسية».

وقال تعالى : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الآية ٥]. وفي موضع آخر : (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) (٦٧) [النمل] فالآخر هو الذي وقع عليه الاستفهام والأول حرف ، كما تقول «أيوم الجمعة زيد منطلق». ومن أوقع استفهاما آخر جعل قوله تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) [المؤمنون / ٨٢ ، والصافّات / ١٦ و ٥٣ ، وق / ٣ ، والواقعة / ٤٧] ظرفا لشيء مذكور قبله ، ثم جعل هذا الذي استفهم عنه استفهاما آخر ، وهذا بعيد. وإن شئت لم تجعل في (أإذا) استفهاما وجعلت الاستفهام في اللفظ على (أإنّا) ، كأنك قلت «يوم الجمعة أعبد الله منطلق» وأضمرت فيه. فهذا موضع قد ابتدأت فيه (إذا) وليس بكثير في الكلام. ولو قلت «اليوم إنّ عبد الله منطلق» لم يحسن وهو جائز. وقد قالت العرب «ما علمت إنّه لصالح» يريد : إنّه لصالح ما علمت.

وقال تعالى : (مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠) فقوله سبحانه : (مُسْتَخْفٍ) أي : ظاهر. و(السارب) : المتواري.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢١١

وأمّا (المعقّبات) في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) [الآية ١١] فإنما أنّثت لكثرة ذلك منها نحو «النّسابة» و «العلّامة» ، ثم ذكّر السياق لأن المعنى مذكّر ، فقال تعالى : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١) [الآية ١١].

وقال تعالى : (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥) و (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (٤١) [آل عمران، وغافر / ٥٥] (٢) بجعل (بِالْغُدُوِّ) يدل على الغداة وإنما «الغدوّ» فعل. وكذلك (الإبكار) إنما هو من «أبكر» «إبكارا». والذين قالوا (الأبكار) (٣) احتجّوا بأنهم جمعوا «بكرا» على «أبكار». و «بكر» لا تجمع لأنه اسم ليس بمتمكّن ، وهو أيضا مصدر مثل «الإبكار» ؛ فأما الذين جمعوا فقالوا إنما جمعنا «بكرة» و «غدوة». ومثل «البكرة» و «الغدوة» لا يجمع هكذا. لا تجيء «فعلة» و «أفعال» وانما تجيء «فعلة» و «فعل».

وقال تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الآية ١٦] فهذه (أم) التي تكون منقطعة من أول الكلام.

وقال تعالى : (فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) [الآية ١٧] تقول : «أعطني قدر شبر» وقدر شبر» وتقول : «قدرت» و «أنا أقدر» «قدرا» فأما المثل ففيه «القدر» و «القدر».

وقال تعالى : (أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ) [الآية ١٧] أي : «ومن ذلك الذي يوقدون عليه زبد مثل هذا».

وقال تعالى : (يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) (٢٣) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الآية ٢٤] أي : يقولون «سلام عليكم».

وقال سبحانه : (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (٢٩) ف (طُوبى) في موضع رفع يدلّك على ذلك رفع (وَحُسْنُ مَآبٍ) وهو يجري مجرى «ويل لزيد» لأنك قد تضيفهما بغير لام تقول «طوباك» ، ولو لم تضفها لجرت مجرى «تعسا لزيد». وإن قلت : «لك طوبى» لم

__________________

(١). نقله في التهذيب ١ / ٢٧٣ عقب ، وزاد المسير ٤ / ٤١٢.

(٢). في البحر ٢ / ٣٥٣ قراءة كسر الهمزة الى الجمهور.

(٣). في الشواذ ٢٠ الى بعضهم.

٢١٢

يحسن ، كما لا تقول : «لك ويل».

وقال تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) [الآية ٣٣] فهذا في المعنى «أفمن هو قائم على كلّ نفس مثل شركائهم» ، وحذف ، فصار (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) يدلّ عليه.

٢١٣
٢١٤

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الرّعد» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠) ولم يقل ومن هو سارب بالنهار ، ليتناول معنى الاستواء المستخفي والسّارب ، وإلّا فقد تناول واحدا هو مستخف وسارب : أي ظاهر ، وليتناسب لفظ الجملة الأولى والثانية ، فإنه قال في الجملة الأولى (مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) [الآية ١٠].

قلنا : قوله تعالى : (وَسارِبٌ) معطوف على (وَمَنْ) لا على مستخف ، فيتناول معنى الاستواء اثنين. الثاني : أنه وإن كان معطوفا على مستخف ، إلا أن (من) هنا في معنى التثنية كقوله :

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

فكأن المعنى : سواء منكم اثنان :

مستخف بالليل ، وسارب بالنهار.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) (١٤) أي في ضياع وبطلان ، والكفّار يدعون الله تعالى في وقت الشدائد والأهوال ، ومشارفتهم الغرق في البحر ، فيستجيب لهم؟

قلنا : المراد : وما عبادة الكافرين الأصنام إلّا في ضلال ، ويعضده قوله تعالى قبله في الآية نفسها : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي يعبدون.

فإن قيل : كيف طابق قولهم كما ورد في التنزيل (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس / ٢٠] قوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٥

قلنا : هو كلام جرى مجرى التعجّب من قولهم ، لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله (ص) لم يؤتها نبيّ قبله ، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية ؛ فإذا جحدوا آياته ولم يعتدّوا بها ، وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط ، كان موضعا يتعجّب منه ؛ فكأنه قيل لهم : ما أعظم عنادكم وما أشدّ تصميمكم على كفركم.

فإن قيل : كيف المطابقة بين قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الآية ٣٣] وقوله سبحانه بعد ذلك في الآية نفسها : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ).

قلنا : فيه محذوف تقديره : أفمن هو رقيب على كل نفس صالحة وطالحة ، يعلم ما كسبت من خير وشر ، ويعدّ لكل جزاء ، كمن ليس كذلك وهو الصنم؟ ثم ابتدأ السياق بقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أو تقديره : أفمن هو بهذه الصفة لم يوحّدوه وجعلوا له شركاء ، أو التقدير : أفمن كان بهذه الصفة يغفل عن أهل مكّة وأقوالهم وأفعالهم ، وجعلوا لله شركاء. فإن قيل : كيف اتصل قوله تعالى في الآية نفسها : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) بما قبله ، وهو قوله تعالى (وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) [الآية ٣٦].

قلنا : هو جواب للمنكرين ، معناه : قل إنما أمرت فيما أنزل اليّ بأن أعبد الله ولا أشرك به. فإنكارهم لبعضه إنكار لعبادة الله تعالى وتوحيده ، كذا أجاب به الزمخشري ، وفيه نظر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أثبت لهم مكرا ، ثم نفاه عنهم ، بقوله تعالى في الآية نفسها : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [الآية ٤٢]؟

قلنا : معناه أن مكر الماكرين مخلوق له ، ولا يصير إلا بإرادته ؛ فبهذه الجهة ، صحت إضافة مكرهم إليه سبحانه. الثاني : أنه جعل مكرهم كلا مكر بالإضافة الى مكره ، لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون ، فيعكس مكرهم عليهم ، فإثباته لهم باعتبار الكسب ، ونفيه عنهم باعتبار الخلق.

٢١٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الرّعد» (١)

قوله تعالى : (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [الآية ٥]. و(جديد) استعارة. لأن أصله هاهنا مأخوذ من الجدّ ، وهو القطع. يقال : قد جدّ الثوب ، فهو جديد بمعنى مجدود. إذا قطع من منسجه ، أو قطع لاستعمال لابسه. والمراد ، والله أعلم ، إنّا لفي خلق جديد ، أي قد فرغ من استئنافه ، وأعيد الى موضع ثوابه وعقابه ، فصار كالثوب الذي قطع (٢) منسجه بعد الفراغ من عمله.

وقوله سبحانه وتعالى : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) [الآية ٦]. وهذه استعارة. والمراد بها مضيّ المثلاث ، وهي «العقوبات» للأمم السالفة من قبلهم ، وتقدّمها أمامها. وقولهم : خلت الدار. أي مضى سكانها عنها. وخلوا هم. أي مضوا عن الدار وتركوها. وقولهم : القرون الخالية ، أي الماضية.

والعقوبات على الحقيقة لم تمض (٣) ، وإنما مضى المعاقبون بها. فكأنهم ذكّروا بالعقوبات الواقعة قبلهم ، ليعتبروا بها.

وقوله سبحانه : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هكذا بالأصل ولعلّها. قطع من منسجه.

(٣). في الأصل : لم يمض وهو تحريف من الناسخ. والعقوبات هي المثلات التي قال الله فيها إنها قد خلت من قبلهم.

٢١٧

كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) [الآية ٨]. وهذه استعارة عجيبة. لأن حقيقة الغيض إنما يوصف بها الماء دون غيره. يقال : غاض الماء وغضته (١) ، ولكن النطفة لمّا كانت تسمّى ماء ، جاز أن توصف الأرحام بأنها تغيضها في قرارتها ، وتشتمل على نفاعاتها (٢). فيكون ما غاضته من ذلك الماء سببا لزيادة ، بأن يصير مضغة ، ثم علقة ثم خلقة مصوّرة. فذلك معنى قوله تعالى : (وَما تَزْدادُ). وقيل أيضا : معنى (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ). أي ما تنقص بإسقاط العلق ، وإخراج الخلق. ومعنى : (وَما تَزْدادُ) أي ما تلده لتمام ، وتؤدي خلقه على كمال. فيكون الغيض هاهنا عبارة عن النقصان ، والازدياد عبارة عن التمام.

وقوله سبحانه : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الآية ١٣]. وهذه استعارة. لأن التسبيح في الأصل تنزيه الله سبحانه عن شبه المخلوقات ، وتبرئته من مدانس الأعمال ، وقبائح الأفعال. وهذا لا يتأتّى من الرعد ، الذي هو إصكاك أجرام السحاب بعضها ببعض. فالمراد ، والله أعلم ، أنّ أصوات الرعود تقوى بها الدلالة على عظيم قدرة الله سبحانه ، وبعده عن شبه الخليقة المقدّرة ، وصفات البرية المدبّرة. إذ كان الرعد كما قلنا إنما تغلظ أصواته ، وتعظم هزّاته على حسب تعاظم صفحات السحاب الممتدّة ، وتراكم الغيوم المطبقة. وهي مع هذه الأحوال ، من ثقل أجرامها ، وتكاثف غمامها معلّقة بمناطات الهواء الرقيق ، لولا دعائم القدرة وسماكها ، وعلائق الجبريّة ومساكها ، لما حمل عشر معشارها ، ولا استقل ببعض أجزائها.

ومن عجيب أحواله أنه أيضا مع ما ذكرنا من تثاقل أردافه ، وتعاظل (٣) التفافه ينفشّ (٤) انفشاش الهباء

__________________

(١). غاض الماء : نقص. وغضته أنا أي نقصته.

(٢). النفاعات : جمع نفاعة وهو الشيء الذي ينتفع به.

(٣). التعاظل : هو تكاثر الشيء وركوب بعضه فوق بعض. ومنه المعاظلة في الكلام أي تعقيده وموالاة بعضه فوق بعض.

(٤). انفشّ : أي سكن ولان بعد شدة.

٢١٨

المتداعي ، والغثاء المتلاشي. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

ومعنى تسبيح الرعد بحمده سبحانه : دلالته على أفعاله التي يستحق بها الحمد ، كما يقول القائل : هذه الدار تنطق بفناء أهلها. أي تدل على ذلك بخلاء ربوعها ، وتهدّم عروشها.

وقد يجوز أن يكون معنى : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أن الرعد يضطر الناس الى تسبيح الله سبحانه عند سماعه ، فحسن وصفه بالتسبيح لأجل ذلك ، إذ كان هو السبب فيه. وهذا معروف في كلامهم.

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥). وهذه استعارة. لأن أصل السجود في اللغة الخضوع والتذلّل. إمّا باللسان الناطق عن الجملة أو بآثار الصنعة وعجائب الخلقة. ثم نقل فصار اسما لهذا العمل المخصوص الذي هو من أركان الصلاة ، لأنه يدل على تذلّل الساجد لخالقه ، بتطامن شخصه ، وانحناء ظهره. وقد ذكر في بعض الأخبار أن جدنا جعفر (١) بن محمد عليهما‌السلام سئل عن العلّة فيما كلف الله سبحانه من أعمال الصلاة وسائر العبادات ، فقال : أراد الله سبحانه بذلك إذلال الجبّارين. فإذا تمهّد ما ذكرنا ، كان في ذكر «الضلال» فائدة حسنة ، وهو أن الظل الذي هو في سجود الشخص وهو غير قائم بنفسه ، إذا ظهرت فيه أعلام الخضوع للخالق تعالى ، بما فيه من دلائل الحكمة وعجائب الصنعة ، كان ذلك أعجب من ظهور هذه الحال في البنية القائمة بنفسها ، والمعروفة بشخصها.

وقوله سبحانه : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧). وهذه استعارة. والمراد بضرب الأمثال ، والله أعلم ، معنيان : أحدهما أن يكون تعالى أراد

__________________

(١). جعفر بن محمد ، هو أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهم. وهو سادس الأئمة الاثني عشر. وكان واسع العلم ، أخذ عنه أبو حنيفة ومالك وجابر بن حيّان. ولقب بالصادق لأنه لم يعهد عليه كذب قطّ. توفي سنة ١٤٨ ه‍ بالمدينة.

٢١٩

بضربها تسييرها في البلاد ، وإدارتها على ألسنة الناس. من قولهم : ضرب فلان في الأرض. إذا توغّل فيها وأبعد في أقاصيها. ويقوم قوله تعالى : (يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (١٧) مقام قوله ضرب بها في البلاد.

والمعنى الآخر في ضرب المثل ، أن يكون المراد به نصبه للنّاس بالشهرة ، لتستدل عليه خواطرهم ، كما تستدل على الشيء المنصوب نواظرهم. وذلك مأخوذ من قولهم : ضربت الخباء ؛ إذا نصبته ، وأثبت طنبه (١) ، وأقمت عمده ، ويكون قوله سبحانه : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) [الآية ١٧]. الى هذا الوجه. أي ينصب منارهما ، ويوضح أعلامهما ، ليعرف المكلّفون الحق بعلاماته فيقصدوه ، ويعرفوا الباطل فيجتنبوه.

وقوله سبحانه : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الآية ٣٣] وهذه استعارة. والمراد به أنه تعالى محص على كل نفس ما كسبت ، ليجازيها به. وشاهد ذلك قوله سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) [آل عمران / ٧٥]. أي ما دمت له مطالبا ، ولأمره مراعيا ، لا تمهله للحيلة ، ولا تنظره للغيلة (٢).

وإذا لم يصح إطلاق صفة القيام على الله سبحانه حقيقة ، فإن المراد بها قيام إحصائه على كل نفس بما كسبت ، ليطالبها به ، ويجازيها عنه بحسبه. والقيام والدوام هاهنا بمعنى واحد. والماء الدائم هو القائم الذي لا يجري.

وقوله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) [الآية ٤١]. وهذه استعارة. وقد اختلف الناس في المراد بها ، فقال قوم : معنى ذلك نقصان أرض المشركين ، بفتحها على المسلمين. وقال آخرون : المراد بنقصانها موت أهلها ، وقيل موت علمائها.

وعندي في ذلك قول آخر ، وهو أن يكون المراد بنقص الأرض ، والله

__________________

(١). الطّنّب : حبل طويل يشد به سرادق البيت. والجمع أطناب.

(٢). الغيلة بكسر الغين : الخديعة والاحتيال.

٢٢٠