الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

١

سورة يونس

١٠

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «يونس» (١)

نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، فتكون سورة يونس من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة ، فهي سورة مكية من أواخر ما نزل من القرآن بمكّة.

وقد سمّيت بهذا الاسم لذكر قصة يونس فيها ، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية.

أهدافها الإجمالية

موضوعات هذه السورة هي موضوعات السور المكّيّة الغالبة ، وهي الجدل حول مسائل العقيدة والتوجيه إلى آيات الله الكونية ، وسنن الله في الأرض ، والعظة بالقرون الخوالي ومصائرها ، وعرض بعض القصص من هذا الجانب الذي تبرز فيه العظة واللمسات الوجدانية ، التي تنتقل بالإنسان من آيات الله في الكون إلى آياته في النفس ، إلى مشاهد القيامة المؤثّرة ، إلى قصص الماضين ومصائرهم ، كأنها جميعا حاضرة معروضة للأنظار.

وهذه السورة تتضمن شيئا من هذا كله ، وينتقل السياق فيها من غرض إلى غرض ، بمناسبات ظاهرة أو خفيّة بين مقاطعها ، ولكن جوهرها كلّه هو هذا الجوّ ، حتّى ليصعب الفصل بين مقطع ومقطع فيها ، في أغلب الأحيان.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

الدرس الأول :

مظاهر قدرة الله

يبدأ القسم الأول من السورة بأحرف ثلاثة هي ألف ، لام ، راء ، كما بدأت سورة البقرة وسورة آل عمران بأحرف مشابهة ، ذكر العلماء أنها أسماء للسورة أو إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته ، أو هي لبيان إعجاز القرآن الكريم ، أو هي مما استأثر الله تعالى بعلمه. ثم تأخذ السورة في عرض عدة أمور ، هي بيان حكمة القرآن وطريقته في تنبيه الغافلين إلى تدبّر آيات الله سبحانه ، في صفحة الكون وتضاعيفه : في السماء والأرض ، وفي الشمس والقمر ، وفي الليل والنهار ، وفي مصارع القرون الأولى ، وفي قصص الرسل فيهم ، وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود.

ثم تشرح السورة ، الحكمة في الإيحاء إلى رجل من البشر ، يعرفه الناس ويطمئنون إليه ، ويأخذون منه ، ويعطونه ، بلا تكلّف ولا جفوة ولا تحرّج ، وتذكر الحكمة من إرسال الرسل.

فالإنسان بطبعه مهيّأ للخير والشر ، وعقله هو أداته للتمييز. ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما اختلط عليه الأمر وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات. وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعته.

وتلفت سورة ، النظر إلى خلق السماوات والأرض وتدبير الأمر فيهما ، وإظهار قدرة الله تعالى :

(الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ) [الآية ٥].

وقدر اختلاف الليل والنهار ، وخلق هذا ودبّره ، فهو سبحانه الذي يليق أن يكون ربّا يعبد ، ولا يشرك به شيء من خلقه.

إن هذا الليل المظلم ، الساكن إلّا من دبيب الرؤى والأشباح ، وهذا الفجر المتفتّح في نهاية الليل كابتسامة الوليد ، وهذه الحركة التي يتنفس بها الصبح فيدب النشاط في الحياة والأحياء ، وهذا الطير الرائح الغادي القافز الواثب الذي لا يستقر على حال ، وهذا النبت النامي المتطلع أبدا إلى النمو والحياة ، وهذه الخلائق الذاهبة الآيبة في تدافع وانطلاق ، وهذه الأرحام التي تدفع ، والقبور التي تبلع ، والحياة ماضية في طريقها كما شاء الله.

٤

إن هذا الحشد من الصور والأشكال ، والحركات والأحوال والرواح والذهاب والبلى والتجدد والذبول والنماء ، والميلاد والممات ، والحركة الدائبة في هذا الكون الهائل التي لا تنسى ولا تتوقف لحظة من ليل أو نهار. إن هذا كله ليستنهض كل همة في كيان البشر ، للتأمل والتدبر والتأثر ، حتى يستيقظ القلب ويتفتح لمشاهدة الآيات المبثوثة في ظواهر الكون وحناياه. والقرآن الكريم يعمد مباشرة إلى إيقاظ القلب ، لتدبّر هذا الحشد من الصور والآيات ، وتأمل قدرة الله في اختلاف الليل والنهار ، بالطول والقصر ، فيطول الليل في الشتاء ، ويقصر في الصيف ، ويطول النهار في الصيف ، ويقصر في الشتاء. ووراء كل إبداع يد الله القدير ، الذي رفع السماء وزيّنها بالنجوم وحفظها من التصدع والوقوع ، وبسط ، سبحانه ، الأرض وثبّتها بالجبال ، وزيّنها بالنبات ، وأحياها بالأمطار.

(إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦).

الدرس الثاني :

الأدلة على وجود الله

يستهل الدرس الثاني من سورة يونس ، بإعلان جزاء المؤمنين ، وعاقبة المكذبين ، حيث يقول سبحانه :

(أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ([الآية ٢٦].

فالجزاء الحق من جنس العمل ، فمن عمل صالحا في الدنيا ، أدخله الله الجنّة ومتّعه بالطيّبات ، ونجّاه من النار.

ثم تستمر الآيات في بيان عقوبة المكذّبين ، وجزاء الخائنين ؛ وتسوق السورة عددا من الأدلة والبراهين تنتهي كلها إلى هدف واحد ، هو إشعار النفس بتوحيد الله وصدق الرسول ، واليقين باليوم الآخر ، والقسط في الجزاء.

تلمس الأدلة أقطار النفس ، وتأخذ بها إلى آفاق الكون في جولة واسعة شاملة ، جولة من الأرض إلى السماء ، ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس ، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر ، ومن الدنيا إلى الآخرة.

وقد لا حظنا في الدرس الماضي لمسات من هذه ، ولكنها في هذا الدرس أظهر. فمن معرض الحشر ،

٥

إلى مشاهد الكون ، إلى ذات النفس ، وإلى التحدي بالقرآن ، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين ، ومن ثم لمحة عابرة عن الحشر في مشهد جديد ، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب ، وإلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يندّ عنه شيء ، إلى بعض آيات الله في الكون ، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب.

إنها مجموعة من اللمسات العميقة الصادقة ، لا تملك نفس سليمة التلقي ، صحيحة الاستجابة ألّا تستجيب لها ، وألّا تتذاوب الحواجز والموانع فيها ، دون هذا الفيض من المؤثّرات المستمدة من الحقائق الواقعة ، ومن فطرة الكون وفطرة النفس ، وطبائع الوجود. لقد كان الكفّار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم ، وهم يتناهون عن الاستماع إليه ، خيفة أن يجرفهم بتأثيره ويزلزل قلوبهم ، وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين.

وإن سورة واحدة كهذه ، أو بعض سورة ، لتحمل من المؤثرات النفسية والعقلية ، ما لا يحمله جمع كبير من قوى الشرك والانحراف والفسوق.

لقد أخذ القرآن على النفوس كل مسلك ، ليسير بها نحو الإيمان ، وساق إليها أدلّة محسوسة ملموسة حيث يقول سبحانه :

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الآية ٣١].

من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع ومن طعام الأرض ونباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها ؛ فمن سطح الأرض أرزاق ، ومن أعماقها أرزاق ، ومن أشعة الشمس أرزاق ، ومن ضوء القمر أرزاق ، حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق.

(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) [الآية ٣١].

يهبهما القدرة على أداء وظائفهما أو يحرمهما ، ويصحّحهما أو يمرضهما ويصرفهما إلى العمل أو يلهيهما. وإن تركيب العين وأعصابها ، وكيفية إدراكها للمرئيات ، أو تركيب الأذن وأجزائها ، وطريقة إدراكها للذبذبات ، لعالم وحده يدير الرؤوس عند ما يقاس هذا الجهاز أو ذاك ، إلى أدق الأجهزة التي يعدّها الناس ، من معجزات العلم الحديث.

(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) [الآية ٣١].

٦

أي النور من الظلام ، والظلام من النور ؛ والنهار من الليل ، والليل من النهار ؛ والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، والنبتة من الحبة ، والحبة من النبتة ؛ والفرخ من البيضة ، والبيضة من الفرخ ... إلى آخر هذه المشاهدات العجيبة ، وإلّا فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة؟ وأين كان يكمن العود ، وأين كانت الجذور والساق والأوراق؟.

(وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ)

كله في هذا الذي ذكر ، وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبّر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر.

(فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٣١).

أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض ، والذي يملك السمع والأبصار ، والذي يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ، الذي يدبّر الأمر كله في هذا وفي سواه.

(فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) [الآية ٣٢].

هو سبحانه صاحب الخلق والأمر ، تبارك الله رب العالمين.

الدرس الثالث :

قصص الأنبياء

اشتملت الآيات (٧١ ـ ٩٣) من سورة يونس على ذكر طرف من قصة نوح (ع) مع قومه وقصة موسى (ع) مع فرعون وملئه. وقد تحقق فيهما عاقبة المكذّبين ، وهلاك المخالفين لأوامر الله وهدى رسله ، والقصص في القرآن يجيء في السياق ليؤدي وظيفة فيه ، ويتكرّر القصص في المواضع المختلفة بأساليب تتفق مع مواضعه من السياق والحلقات التي تعرض منه في موضع تفي بحاجة ذلك الموضع. وتلاحظ فيما عرض من قصتي نوح وموسى (ع) هنا ، وفي طريقة العرض ، مناسبة ذلك لموقف المشركين في مكّة من النبي (ص) والقلة المؤمنة معه ، واعتزاز هذه القلة المؤمنة بإيمانها في وجه الكثرة والقوة والسلطان ، كما تلحظ المناسبة الواضحة بين القصص والتعقيبات التي تتخلله وتتلوه.

قصة نوح

بدأت قصة نوح (ع) من الحلقة الأخيرة ، حلقة التحدي الأخير بعد الإنذار الطويل والتذكير والتكذيب ،

٧

ولا يذكر في هذه الحلقة موضوع السفينة ولا من ركب فيها ولا الطوفان ولا التفصيلات الواردة في سور أخرى. لأن الهدف هنا هو إبراز التحدي الذي واجه نوحا (ع) من قومه ، واستعانته بالله تعالى ، ونجاته ومن معه وهم قلة ، وهلاك المكذبين له وهم كثرة وقوة. لذلك يختصر السياق هنا تفصيلات القصة التي يقصها إلى حلقة واحدة ، ويختصر تفصيلات الحلقة الواحدة إلى نتائجها الأخيرة وهي نجاة نوح (ع) ومن آمن معه في السفينة واستخلافهم في الأرض على قلّتهم ، وإغراق المكذبين على قوّتهم وكثرتهم. قال تعالى :

(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) (٧٣).

وأما قصة موسى (ع) ، فيبدأه السياق من مرحلة التكذيب والتحدي ، وينهيها عند غرق فرعون وجنوده ، وإذا كانت قصة نوح (ع) قد ذكرت في أربع آيات فقط ، هي الآيات [٧١ ـ ٧٤] من سورة يونس ، فإن قصة موسى (ع) قد ذكرت على نطاق أوسع خلال ثماني عشرة آية ، هي الآيات [٧٥ ـ ٩٣].

وقد ألمّت قصة موسى بالمواقف ذات الشبه ، بموقف المشركين في مكة من الرسول (ص) وموقف القلّة المؤمنة التي معه. وهذه الحلقة المعروضة هنا من قصة موسى (ع) ، مقسّمة إلى ثلاثة مواقف يليها تعقيب يتضمّن العبرة من عرضها في هذه السورة ، على النحو الذي عرضت به. وهذه المواقف الثلاثة تتابع في السياق على هذا النحو :

أولا : وصول موسى (ع) إلى فرعون ومعه آيات تسع ذكرت في سورة الأعراف ، ولكنها لم تذكر في سورة يونس ، ولم تفصّل لأن السياق لا يقتضيها ، والإجمال في هذا الموضع يغني ، والمهم هو تلقي فرعون وملئه لآيات الله ، لقد استقبلوها بالظلم والاستكبار قال تعالى :

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) (٧٦) ادّعى فرعون أن معجزة موسى سحر ظاهر ، وجمع له كبار السحرة ، وأرادوا أن يغرقوا الجماهير في صراع السحر ،

٨

بأن تعقد حلقة للسحر يتحدّون بها موسى ، وما معه من آيات ، تشبه السحر في ظاهرها ، ليخرجوا منها في النهاية بأن موسى ليس إلا ساحرا ماهرا.

والموقف الثاني موقف المبارزة بين السحرة وموسى (ع) ، فقد ألقى السحرة حبالهم وعصيّهم ، وتحركت الحبال والعصيّ فبهرت جميع الناس وأرهبتهم ، ثم ألقى موسى عصاه في الأرض ، فانقلبت حية هائلة لها شفتان طويلتان ، شفة في الأرض تبتلع جميع الحبال والعصيّ التي ألقاها السحرة ، وشفة مرفوعة إلى أعلى. ثم أمسك موسى (ع) بعصاه فعادت كما كانت ، وبطل السحر وعلا صوت الحق. ولكن السياق يختصر المشاهد هنا لأنها ليست مقصودة في هذا المجال ، ويسدل الستار ليرفع على موسى (ع) ومن آمن معه وهم قليل ، وهذه إحدى عبر القصة المقصودة :

(فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [الآية ٨٣].

وفي هذا الموضع تفيد الآيات ، أن الذين أظهروا إيمانهم وانضمامهم إلى موسى (ع) من بني إسرائيل ، كانوا هم الفتيان الصغار لا مجموعة الشعب الإسرائيلي ، وأنهم تعرضوا للارهاب من فرعون ، ولكن موسى ثبّتهم على الإيمان ، ودعا موسى ربه أن ينجي المؤمنين ، وأن يهلك الكافرين ، فاستجاب الله دعاءه ، وجاء الموقف الحاسم. والمشهد الثالث والأخير في قصة التحدي والتكذيب ، هو غرق الطغاة الظالمين ، ونجاة من آمن بالمرسلين.

* * *

٩
١٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «يونس» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة يونس بعد سورة الإسراء ، وكان الإسراء قبل الهجرة بسنة ، فتكون سورة يونس من السّور التي نزلت بين الإسراء والهجرة.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة يونس (ع) فيها ، وتبلغ آياتها تسعا ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن ، وهي في هذا تنقسم إلى أربعة أقسام : أولها في إبطال شبههم عليه ، وثانيها في تحديهم به ، وثالثها في دعوتهم إلى تصديقه بطريق الترغيب والترهيب ، ورابعها في خاتمة تناسب مقام هذه السورة.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة التوبة لأنها ختمت كما سبق بترغيبهم في الإيمان برسول جاءهم من أنفسهم ، وقد ابتدأت هذه السورة بإنكار تعجّبهم من أن يوحى إلى رجل منهم ، وهذا إلى أن هذه السورة أولى السّور المئين ، وهي التي تأتي في الترتيب بعد السبع الطوال.

إبطال شبههم على القرآن

الآيات [١ ـ ٣٦]

قال تعالى : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) فأقسم بهذه الحروف أن ما أنزله هو آيات الكتاب الحكيم ، ثم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١

ذكر شبهتهم الأولى على تنزيله ، وهي استنكارهم أن ينزل على رجل منهم ، لينذرهم بما جاء فيه من البعث والعقاب والثواب ، وزعمهم أن هذا سحر باطل لا حقيقة له ؛ ثم أجابهم بإثبات قدرته على بعثهم وعقابهم وثوابهم ، فذكر ، سبحانه ، أنه هو ربهم الذي خلق السماوات والأرض ثم استوى على العرش يدبر أمره وحده ، ولا يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ؛ ولا بدّ من رجوعنا إليه ليجزي المؤمنين بالقسط ، ويعاقب الكافرين على كفرهم ؛ ثم ذكر أنه هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدّره منازل لنعلم عدد السنين والحساب ، وأن في اختلاف الليل والنهار ، وما خلقه في السماوات والأرض لآيات لقوم يتّقون. ثم أوعد الذين لا يؤمنون بلقائه بأن مأواهم النار ، ووعد المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار في جنات النعيم (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠).

ثم ذكر ، جلّ شأنه ، أنه لو يعجّل لهم العقاب في الدنيا ، كما يعجل لهم الخير فيها ، لعجل بهلاكهم ، ولكنه لم يرد هذا ليذرهم في طغيانهم يعمهون. ويكون عقابهم ، بعد إمهالهم ، قطع عذرهم ؛ ثم ذكر أنه إذا مس الإنسان ضرّ ، من جنس ما ينذر به دعاه إلى كشفه ، فإذا كشفه عنه ، عاد إلى كفره ونسي دعاءه له ، ليثبت بهذا أن تعجيل العذاب لهم لا يؤثّر فيهم ؛ ثم ذكر أنه قد عجل العذاب لمن كفر قبلهم ، فلم يؤمنوا وأصرّوا على كفرهم ، وأنه جعلهم خلائف في الأرض ، من بعدهم ، لينظر كيف يعملون.

ثم ذكر تعالى شبهتهم الثانية على تنزيل القرآن ، وهي أنهم إذا تتلى عليهم آياته ، يطلبون أن يأتيهم بقرآن غير هذا ، أو يبدله لهم ، ثم أمره أن يجيبهم بأنه لا يمكنه أن يفعل ذلك من نفسه ، لأنه لا يتّبع إلّا ما يوحى إليه ، ويخاف عذاب يوم عظيم إن عصى ربه ، وبأنه قد لبث فيهم عمرا من قبله ، لا يتلو عليهم كتابا ولا يجلس إلى معلّم ، فلا يمكن أن يكون هذا القرآن منه ؛ ثم ذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه كذبا أو كذّب بآياته كما يفعلون ، وأوعدهم على هذا ، بأنهم لا يفلحون ؛ ثم ذكر أنهم يعبدون ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ، ويزعمون أنهم شفعاؤهم عنده ،

١٢

فيمنعون ما يوعدون به من ذلك ، وأمره أن يجيبهم بأنهم يخبرونه بشفعاء لا يعلمها في السماوات ولا في الأرض ؛ وذكر أن الناس كانوا أمة واحدة على التوحيد ، فاختلفوا فيه بعد اتفاقهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (١٩).

ثم ذكر شبهتهم الثالثة على تنزيل القرآن ، وهي طلبهم آية عذاب تدل على تنزيله ، ثم أمره أن يجيبهم بأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلّا هو ، وأمرهم أن ينتظروه لأنه ينتظره ولا يشك في وقوعه ؛ ثم ذكر أنه إذا آتاهم بآية عذاب ، ثم أذاقهم رحمة بعدها ، مكروا فيها ولم يؤمنوا بها ، فهكذا يكون حالهم إذا أجيبوا إلى ما طلبوه منها ، وهدّدهم على ذلك بأنه أسرع مكرا منهم. وبأن رسله يكتبون ما يمكرون ليحاسبهم عليه ؛ ثم ضرب لهم مثلا على مكرهم في هذا ، فذكر أنه هو الذي يسيّرهم في البر والبحر ، حتّى إذا كانوا في الفلك ، وجرت بريح طيّبة ، وفرحوا بها ، جاءتها ريح عاصف ، وجاءهم الموج من كل مكان ، وظنّوا أنهم أحيط بهم دعوه مخلصين (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (٢٢) فلما أنجاهم عادوا إلى بغيهم ونسوا دعاءهم له ؛ ثم ذكر أن بغيهم لا يعود إلا على أنفسهم ، وأنهم يتمتعون به في هذه الحياة ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ، ثم ضرب لهم مثلا في شأن هذه الدنيا التي يبغون فيها وينسون الآخرة معها ؛ فذكر أن مثلها كماء أنزله من السماء فاختلط به نبات الأرض ، حتى إذا أخذت به زخرفها (وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) [الآية ٢٤] ، أتاها أمره ليلا أو نهارا فجعلها حصيدا كأن لم تكن بالأمس ؛ ثم ذكر أنه يدعو إلى دار السلام التي لا يزول نعيمها كما يزول نعيم الدنيا ، وأنه يهدي من يشاء إلى طريق يوصل إليها ، وأن للذين أحسنوا في دنياهم الحسنى في تلك الدار وزيادة ، والذين كسبوا السيئات جزاؤهم سيئة فيها بمثل سيئاتهم ؛ ثم أمره أن يذكر لهم يوم يحشرهم جميعا ، ثم يأمرهم أن يلزموا مكانهم هم وشركاؤهم ، فيقطع بينهم ويتبرأ شركاؤهم من عبادتهم ، ويشهدون الله على أنهم كانوا عنها غافلين ؛ ثم ذكر أنه هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت ، ويردّون إليه وحده ، ويضل عنهم آلهتهم.

١٣

ثم أمره أن يسألهم من يرزقهم من السماء والأرض؟ ومن يملك السمع والبصر؟ ومن يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحي؟ ومن يدبّر الأمر؟ وذكر أنهم سيقولون الله ، وأنه يجب عليهم حينئذ أن يتّقوه ، وأن من يكون هذا شأنه يكون ربّهم الحق ، وأنه ليس بعد الحق إلّا الضلال فإنّى يصرفون ؛ ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ وأن يجيب عنهم بأنه هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده فإنّى يؤفكون ، ثم أمره أن يسألهم هل من شركائهم من يهدي إلى الحق؟ وأن يجيب عنهم بأنه سبحانه هو الذي يهدي للحق ، وحينئذ يكون هو الأحق بأنّ يتّبع ممّن لا يهدي إلّا أن يهدى فما لهم كيف يحكمون (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٦).

تحديهم بالقرآن

الآيات [٣٧ ـ ٥٦]

ثم قال تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣٧) فانتقل من إبطال شبههم على القرآن إلى تحدّيهم به ، وذكر أنه ما كان أن يفترى من دونه ، ولكنه تصديق لما قبله من الكتاب وتفصيل له ، وأنه لا ريب في تنزيله من عنده ، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله ، وأن يدعوا من استطاعوا من دونه ليساعدهم على الإتيان به ؛ ثم ذكر أنهم يكذبون به من غير أن يحيطوا بعلمه ، ومن قبل أن يأتيهم تأويله ، فكذّبوا به جهلا وعنادا ، كما كذّب الذين من قبلهم ؛ ثم ذكر أن منهم من يؤمن به وينكره عنادا ، ومنهم من لا يؤمن به جهلا ، وأنه أعلم بهم ومجازيهم على كفرهم ، ثم أمره إن كذّبوه بعد تحديهم وعجزهم أن يتركهم ولا يطمع في إيمانهم ، لأن منهم من يستمعون إليه فلا يسمعون ، ولا يمكنه أن يسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ، ومنهم من ينظر إليه فلا ينظر ، ولا يمكنه أن يهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون ؛ ثم ذكر أنه لم يظلمهم بهذا ، ولكن أنفسهم يظلمون.

ثم أتبع ذلك بوعيدهم ، فذكر ، سبحانه ، أنه يوم يحشرهم يكون حالهم كحال من لم يلبث إلا ساعة من النهار في الدنيا ، لأنهم لم ينتفعوا بما مكثوه

١٤

فيها ، وأنهم يتعارفون بينهم ليوبّخ بعضهم بعضا ؛ ثم ذكر أنه إما يرينّه بعض الذي يعدهم من العذاب في الدنيا ، أو يتوفينّه قبل أن يريه له ، فإليه ، تعالى ، مرجعهم ثم هو شهيد على ما يفعلون ، وأن لكل أمة رسولا لا تعذب قبله : (فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٤٧).

ثم ذكر أنهم سألوا مستهزئين : متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن أمر ذلك مفوض إليه ، جل جلاله ، وحده ، لأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا ، ولكل أمة أجل لا تتأخّر عنه ولا تتقدّم ، وبأن يسألهم عن فائدتهم في استعجال هذا العذاب ، لأنهم إذا آمنوا عند وقوعه يكون إيمانهم بطريق الإلجاء ولا ينفعهم ، ثم يقال لهم : (ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٥٢).

ثم ذكر أنهم سألوه عن ذلك العذاب مرة أخرى : أحقّ هو؟ وأمره أن يجيبهم بأنه حق ، وأنهم لا يعجزونه إذا أراد عذابهم ، وأنه إذا أتاهم وكان لهم ملك ما في الأرض لافتدوا به ؛ ثم ذكر أن له ، سبحانه ، ما في السماوات والأرض ، دليلا على قدرته على تحقيق وعيده لهم ، ولكن أكثرهم لا يعلم (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦).

دعوتهم إلى تصديق القرآن

بالترغيب والترهيب

الآيات [٥٧ ـ ٩٨]

ثم قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) فذكر أنه موعظة منه وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين ؛ وأمرهم أن يفرحوا بفضله عليهم به ، لأنه خير مما يجمعون ، ثم أمرهم أن يخبروه عمّا رزقهم به ، فجعلوا منه حراما وحلالا ، أكان بإذنه أم كان افتراء عليه؟ ليبيّن حاجتهم إلى هدايته ؛ وذكر أنه إذا كان افتراء عليه ، فما يكون جزاؤهم عليه يوم القيامة؟ وأنه ذو فضل عليهم بإنزاله هذا القرآن ، الذي يبيّن لهم حرامه وحلاله ، ولكنّ أكثرهم لا يشكرون ، ثم أخذ في وعد النبي (ص) والمؤمنين على الإيمان بما أنزله إليهم ، فذكر أنه ما يكون في شأن وما يتلو منه من قرآن إلا كان شاهدا عليهم ، وأن كل صغيرة وكبيرة ثابتة عنده في كتاب مبين ؛ ثم

١٥

ذكر أن أولياءه منهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) (٦٣).

ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لتكذيبهم لما أنزل عليه ، لأن العزة له وحده ، جلّت قدرته ، وهو يسمع ويعلم تكذيبهم ، وله من في السماوات ومن في الأرض ، وما يتبعون من دونه شركاء فيه ، وإنما يظنون أنهم شركاء من غير أن يكون لهم دليل عليه ؛ ثم ذكر أنه سبحانه ، هو الذي جعل الليل سكنا والنهار مبصرا ، وأن في هذا آية لمن يسمع على أنه لا شريك له ، وأنهم زعموا أنّه اتّخذ ولدا يشاركه في ملكه ، وأبطل هذا بأنه هو الغنيّ الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، فلا يشاركه فيه ولد ولا غيره ؛ ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأن الذين يفترون عليه الكذب من الولد وغيره لا يفلحون (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٧٠).

ثم أخذ السياق في ترهيبهم بما حصل للمكذبين قبلهم ، فأمر تعالى النبي (ص) أن يتلو عليهم نبأ نوح (ع) وما حصل لقومه من هلاكهم بالطوفان ، وقد سبقت قصتهم في سورة الأعراف ، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص ؛ ثم ذكر أنه بعث من بعده رسلا إلى قومهم ، فجاؤوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذّبوا به من قبل ، وأنه كذلك يطبع على قلوب المعتدين ؛ ثم ذكر أنه بعث من بعدهم موسى وهارون ، إلى فرعون وقومه ، وأنهم لم يؤمنوا به فأغرقهم في البحر ، وقد سبقت هذه القصة في سورة الأعراف أيضا ، ولكن ما هنا يخالف ما هناك في السياق والأسلوب والزيادة والنقص ، وقد ختمت هنا بأنه ، سبحانه ، بوّأ بني إسرائيل مبوّأ صدق من الأرض المقدسة ، بعد أن نجّاهم من فرعون وقومه ؛ وذكر أنهم لم يختلفوا في دينهم حتى جاءهم العلم ، وأنه ، جلّ جلاله ، يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

ثم أمر النبي (ص) على سبيل التعريض إن كان في شكّ من هذا القصص أن يسأل أهل الكتاب عنه ، ونهاه أن يكون من الذين يكذّبون بآياته ؛ ثم ذكر أن الذين حقت عليهم كلمته من الأوّلين لا يؤمنون ولو

١٦

جاءتهم كل آية حتى يروا عذابه ، وأنه كان عليهم أن يؤمنوا لينفعهم إيمانهم ، ثم استثنى منهم قوم يونس (ع) (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨).

الخاتمة

الآيات [٩٩ ـ ١٠٩]

ثم قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) فذكر للنبي (ص) أنه لو شاء ، سبحانه ، لآمن بما أنزل إليه من في الأرض جميعا ، وأنه لا يصحّ أن يكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ، ثم أمرهم أن ينظروا في آياته في السماوات والأرض ليؤمنوا بالنظر فيها ؛ وذكر أن هذا لا يغني عنهم لأنهم لا يريدون الإيمان ، وإنما ينتظرون مثل أيام العذاب التي أهلك فيها الأولين ، ثم نجّى رسله والذين آمنوا معهم ، ثم أمره إن استمروا بعد هذا على شكهم في دينه ، أن يخبرهم بأنه لا يعبد ما يعبدون من دونه ، ولكن يعبد الذين يتوفّاهم ، وبأنه أمر أن يكون من المؤمنين ، وأن يقيم وجهه للدين حنيفا ولا يكونّن من المشركين ؛ ثم نهاه أن يدعو من دونه ما لا ينفعه ولا يضرّه ، وذكر له أنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له إلا هو ، وإن يرده بخير فلا رادّ له ، ثم أمره أن يذكر لهم أنه قد جاءهم الحق (القرآن) منه ، وأنّ من اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها ، وأنه ليس عليهم بوكيل (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) (١٠٩).

١٧
١٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «يونس» (١)

أقول : قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في سورة الأنفال. ونزيد هنا : أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف ، وأنه سبحانه قال فيها : (أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الآية ٢] فقدّم الإنذار وعمّمه ، وأخّر البشارة وخصّصها. وقال تعالى في مطلع الأعراف : (لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢). فخص الذكرى وأخّرها ، وقدّم الإنذار ، وحذف مفعوله ليعمّ.

وقال هنا : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الآية ٣]. وقال في الأوائل ، أي أوائل الأعراف مثل ذلك (٢).

وقال هنا : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) [الآية ٣]. وقال هناك : (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الأعراف / ٥٤].

وأيضا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف ، فاختصر ذكر عذابهم ، وبسط في هذه السورة أبلغ بسط (٣). فهي شارحة لما أجمل في سورة الأعراف منه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف / ٥٤].

(٣). في عذاب فرعون قال تعالى في الأعراف : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (١٣٦). وقال في يونس : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ) الى (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) [الآيات ٩٠ ـ ٩١].

١٩
٢٠