الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [الآية ٨٢].

وهذه استعارة من مشاهير الاستعارات. والمراد : واسأل أهل القرية التي كنا فيها ، وأصحاب العير التي أقبلنا فيها. ومما يكشف عن ذلك ، قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الأنبياء عليهم‌السلام : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) (٧٤) [الأنبياء]. والقرية هي الأبنية المفروشة ، والخطط المسكونة لا يصحّ منها عمل الخبائث ؛ فعلم أن المراد بذلك أهلها. ومن الشاهد على ذلك أيضا ، قوله سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) (٧٧) [الأنبياء]. وقال بعضهم : إن القرية هي الجماعة المجتمعة ، لا الأبنية المشيدة. وذلك مأخوذ من قولهم : قرى الماء في الحوض. إذا جمعه ؛ والعير : هي الإبل وفيها أصحابها. وإنما أنث السياق ضمير القرية بقوله تعالى : (الَّتِي كُنَّا فِيها) على اللفظ كما يقول القائل : قامت تلك الطائفة ، وتفرّقت تلك الجماعة ، على اللفظ. ويحسن منه أن يقول عقيب هذا الكلام : وأكلوا ، وشربوا ، وركبوا ، وذهبوا ، حملا على المعنى دون اللفظ. كما قال تعالى : (مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ). ثم قال سبحانه : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) على المعنى.

وكذلك القول في العير ، فإنما أنّث ضميرها على اللفظ ، لأنّ العير مؤنثة.

قال تعالى في هذه السورة : (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) [الآية ٩٤].

وقوله سبحانه : (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) [الآية ٨٧] وهذه استعارة. والمراد ولا تيأسوا من فرج الله. والرّوح هو تنسيم الريح ، التي يلذّ شميمها ، ويطيب نسيمها. فشبه تعالى الفرج الذي يأتي بعد الكربة ، ويطرق بعد اللّزبة (١) بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له ، وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء في الخبر : (الريح من نفس الله) (٢) أي من تنفيسه عن خلقه.

__________________

(١). اللّزبة : الشّدة والقحط. يقال سنة لزبة أي شديدة.

(٢). وفي «نهاية الأرب» ج ١ ص ٩٥ روي عن رسول الله (ص) أنه قال (الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب ، فلا تسبّوها ، واسألوا الله خيرها ، واستعيذوا بالله من شرّها) أخرجه البيهقي في سننه.

١٨١

يريد سبحانه أن القلوب تستروح إليها ، كما يستروح المكروب إلى نفسه ، وذو الخناق إلى تنفّسه.

وقوله سبحانه : (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) [الآية ١٠٧]. وهذه استعارة. والمراد بذلك المبالغة في صفة العذاب بالعموم لهم ، والإطباق عليهم ، كالغاشية التي تشتمل على الشيء ، فتجلّله من جميع جنباته ، وتستره عن العيون من كل جهاته.

١٨٢

سورة الرعد

١٣

١٨٣
١٨٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الرّعد» (١)

سورة الرّعد من السور التي اختلف في مكّيّتها ومدنيّتها ، فقال قوم إنها مكّيّة ، لأنها شبيهة بالسور المكّيّة في قصّتها وموضوعاتها ، وقال آخرون إنها مدنيّة ، ولكن موضوعاتها تشبه موضوعات السور المكّيّة. وفي المصحف المطبوع في القاهرة سورة الرعد مدنيّة ، وآياتها ٤٣ ، نزلت بعد سورة محمّد.

وفي تفسير مقاتل بن سليمان ، سورة «الرّعد» مكّية ، ويقال مدنية. وتسمى سورة الرّعد لقوله سبحانه فيها :

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) [الآية ١٣].

وسورة «الرّعد» من أعاجيب السور القرآنية التي تستولي على النفس ، وتثير الوجدان ، وتزحم الحس بالصور والمشاهد. ثم تأخذ النفس من أقطارها جميعا ، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر. وتسلك السورة سبيلها الى القلب وترتاد به آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا ، وهو مستيقظ مبصر ، مدرك ، شاعر بما يموج حوله من المشاهد والصور.

إنّها ليست ألفاظا وعبارات ، ولكنّها صور حية تستولي على الفؤاد ، وتلمس الوجدان وتوحي بالإيمان.

موضوع السورة

موضوع سورة الرعد الرئيس هو العقيدة. وقضاياها هي التوحيد

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٨٥

والبعث ، وهذا الموضوع تكرّر عرضه في سور سابقة ولاحقة.

ولكنه يعرض في كل مرة بطريقة جديدة. وفي ضوء جديد. ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد.

تطوف سورة الرعد بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق ، وتعرض عليه الكون كله في شتّى مجالاته الأخاذة : في السموات المرفوعة بغير عمد ؛ وفي الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمّى ؛ وفي الليل يغشاه النهار ؛ وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية ، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان ، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ، ويسقى بماء واحد ؛ وفي البرق يخيف ويطمع ؛ والرعد يسبّح ويحمد ؛ والملائكة تخاف وتخشع ؛ والصواعق يصيب بها من يشاء ؛ والسحاب الثّقال ؛ والمطر في الوديان ؛ والزّبد الذي يذهب جفاء ، ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.

وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجّه : تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل ، يحيط بالشارد والوارد والمستخفي والسارب ، ويتعقب كلّ حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج. والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوف لعلم الله ، وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، وكل شيء عنده بمقدار.

إنها تقرّب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى ، المحيطة بالكون ظاهره وخافية ، جليله ودقيقه ، حاضره وغيبه. وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوّره هائل مخيف ، ترتجف له القلوب.

وذلك إلى الأمثال المصوّرة ، تتمثل في مشاهد حية ، حافلة بالحركة والانفعال ، الى مشاهد القيامة ، وصور النعيم والعذاب ، وخلجات الأنفس في هذا وذاك ، إلى وقفات على مصارع الغابرين ، وتأملات في سير الراحلين ، وفي سنة الله التي مشت عليهم ، فإذا هم داثرون.

مشاهد الكون في سورة الرعد

تبدأ سورة الرعد بقضية عامة من قضايا العقيدة : قضية الوحي بهذا

١٨٦

الكتاب والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه :

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١).

وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله ، ويشير الى جملة قضاياها ، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة وعجائب الكون الدالة على قدرة الله الخالق وحكمته وتدبيره ؛ وأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس ، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأنّ من مقتضيات تلك القدرة ، أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم الى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم ، وسخّره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.

وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة نظرة الى السماوات ، ونظرة الى الأرضين ، ونظرة الى مشاهد الأرض وكوامن الحياة.

قال تعالى :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣).

وهذه اللفتة الأولى الى مظاهر القدرة الإلهية تحرّك الوجدان ، فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملّاه ، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد ـ أو حتى بعمد ـ إلا الله جلّت قدرته ؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد ، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة ، القابعة في ركن ضيّق من الأرض لا تتعداه ؛ ثم يتحدث الناس عمّا في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد ، وعمّا وراءها من القدرة الحق ، والعظمة الحق ، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.

ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله ، الى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار :

١٨٧

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

أي استولى على ملك الموجودات جميعها ، وأحاطت قدرته الكائنات جميعها.

ومع الاستعلاء والتسخير ، الحكمة والتدبير.

(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدّر.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ).

ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء ، فتجري لأجل لا تتعدّاه.

ومن قدرة الله سبحانه ، أنّه مدّ الأرض وبسطها امام البصر ، وأمدّها بمقومات الحياة :

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).

ليكمل إبداع الخلق وتناسقه ، ثم تابع الله ، جلّت قدرته ، بين الليل والنهار في انتظام عجيب ، ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون ، والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبّره وترعاه :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٣).

أدلة الألوهية في سورة الرعد

نحن في سورة الرعد أمام عدد من أدلة الألوهية يتوارد بعضها وراء بعضها في سياق بديع ، وعرض شائق.

فهناك الأرض التي تزرع بألوان مختلفة من النبات فيها.

(وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) [الآية ٤].

منه ما هو عود واحد ، ومنه ما هو عودان أو أكثر ، في أصل واحد ، وكله :

(يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) [الآية ٤].

والتربة واحدة ، ولكن الثمار مختلفات الطعوم :

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الآية ٤].

فمن غير الخالق المدبّر يفعل ذلك؟

إن القرآن ، بمثل هذه اللفتة ، يبقى جديدا أبدا ، لأنه يجدّد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس ، وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود ، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤).

١٨٨

ومن أدلة الألوهية : إحاطة علم الله بالجنين في بطن أمه ، وبالسر المكنون في الصدور ، وبالحركة الخفية في جنح الليل ، وبكلّ مختف في الليل وظاهر في النهار ، وهو سبحانه محيط بكل من تكلّم همسا ، أو تكلّم جهرا ، فإن كل شيء مكشوف تحت المجهر الكاشف يتبعه شعاع من علم الله ، وتتعقبه حفظة تحصي الخواطر والنوايا.

إلا أنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ الى الله ، تطمئن في حماه ، وهي تتصور علم الله المحيط بكل شيء. ونلاحظ أن بعض الآيات في سورة الرعد ، يلمس آفاق الكون الهائل ، مثل الآيات الأربع الأولى من السورة.

وبعض الآيات ، يلمس أغوار النفس ومجاهل السرائر ، مثل الآيات الممتدة من ٨ الى ١٠ حيث يقول سبحانه :

(اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)). ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر ، تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس ، متداخلة متناسقة.

حيث يقول سبحانه :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ).

والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان ، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس ، حتى اليوم ، وعند الذين يعرفون مزيدا عن طبيعتها. والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة ، وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع ، لتصوير سلطان الله ، المتفرّد بالقهر والنفع والضّرّ.

وقد سميت السورة بسورة الرعد ، لقوله سبحانه :

(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).

والرعد هو ذلك الصوت المقرقع المدوّي ، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله ، أيّا كانت طبيعته وأسبابه ، فهو رجع صنع الله في

١٨٩

هذا الكون ، وهو يحمد ويسبّح بلسان الحال ، للقدرة التي صاغت هذا النظام ، كما أن كل مصنوع جميل متقن ، يسبّح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه ، بما يحمله من جمال وإتقان.

وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد ، اتّباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق ، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة ، لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كلّه ، وقد انضم الى تسبيح الرعد بحمد الله ، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه ، وفي آية أخرى يقول سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى / ٥].

وفي الحديث النبوي يقول الرسول (ص) : «أطّت السماء وحق لها أن تئطّ ، ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبّح الله تعالى». ثم يعبّر السياق عن خضوع الكائنات جميعها لمشيئة الله تعالى بالسجود ، وهو أقصى رمز للعبودية ، فتسجد الكائنات ويسجد ظلها معها عند انكسار الأشعة ، وامتداد الظلال ؛ فإن شخوص الكون كله وظلاله ، جاثية خاضعة من طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء ، كلّها تسجد لله.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٥).

النصف الثاني من سورة الرعد

في النصف الاول من سورة الرعد حدثتنا السورة عن المشاهد الهائلة في آفاق الكون وأعماق الغيب وأغوار النفس.

وفي النصف الثاني من السورة تسترسل الآيات في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رقيقة ، حول قضية الوحي والرسالة ، وقضية التوحيد والشركاء ، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.

وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان وطبيعة الكفر ، فالأول علم والثاني عمّى :

(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الآية ١٩].

وتبيّن الآيات طبيعة المؤمنين وطبيعة

١٩٠

الكافرين ، والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء ، ثم يتلوها مشهد من مشاهد القيامة ، وما فيها من نعيم للأولين وعذاب للآخرين. ويعقب ذلك لمسة في بسط الرزق وتقديره ، وردّ ذلك الى الله سبحانه ، فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله ، فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال ، وتقطّع به الأرض ويكلّم به الموتى ؛ فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم ، أو تحل قريبا من دارهم ، فجدل تهكّمي حول الآلهة المدّعاة ، فلمسة عن مصارع الغابرين ، ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين ؛ يختم هذا كله ، بتهديد الذين يكذّبون برسالة الرسول (ص) بتركهم للمصير المعلوم.

من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول ، تحضّر المشاعر وتهيّئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني وهي على استعداد وتفتّح لتلقّيها ؛ وإنّ شطري السورة متكاملان ، وكلّ منهما يوقع على الحس طرقاته وإيحاءاته ، لهدف واحد وقضية واحدة ، هي الإيمان عن يقين كامل وأدلة مقنعة ، يطمئن لها القلب وتسكن إليها النفس. قال تعالى :

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨).

فقلب الكافر في ضلال ، وقلب الجاحد مضطرب هواء ، وقلب المؤمن يطمئنّ لصلته بالله ، والأنس بجواره ، والأمن في جانبه وحماه ، يطمئن من قلق الوحدة وحيرة الطريق بإدراك الحكمة في الخلق والمبدأ والمصير ، ويطمئنّ بالشعور بالحماية من كل اعتداء ومن كل ضرّ ومن كل شرّ إلّا بما يشاء الله ، مع الرّضا بالابتلاء والصبر على البلاء ؛ ويطمئنّ برحمة الله في الهداية والرزق والستر في الدنيا والآخرة.

وليس أشقى على وجه الأرض ممّن يحرمون طمأنينة الأنس الى الله. ليس أشقى ممّن يعيش لا يدري لم جاء ، ولم يذهب ، ولم يعاني في الحياة؟ ليس أشقى في الحياة ، ممّن يشقّ طريقه فريدا وحيدا شاردا في فلاة ، عليه أن يكافح وحده بلا ناصر ولا هاد ولا معين.

وإن هناك شدائد في الحياة ، لا يصمد لها بشر ، إلّا أن يكون مرتكنا الى الله ، مطمئنّا الى حماه ، مهما أوتي

١٩١

من القوة والثبات والصلابة والاعتداد. ففي الحياة لحظات تعصف بهذا كله ، فلا يصمد لها إلا المطمئنون بالله :

(أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨).

التناسق الفني في سورة الرعد

ممّ نلحظه في سورة الرعد عنايتها بالمقابلة بين الإيمان والكفر ، والهدى والضلال ، والاطمئنان والحيرة. وحين تعرضت السورة لرسم مشاهد الكون ، عنيت بإبراز المشاهد المتقابلة من سماء وأرض ، وشمس وقمر ، وليل ونهار ، وشخوص وظلال ، وجبال راسية ، وأنهار جارية ، وزبد ذاهب ، وماء باق ، وقطع من الأرض متجاورات مختلفات ، ونخيل صنوان وغير صنوان ؛ ومن ثم تطّرد هذه التقابلات في كل المعاني وكل الحركات وكل المصائر في السورة ، لتناسق التقابل المعنوي في السورة مع التقابلات الحسية ، وتتّسق في الجو العام.

ومن ثم يتقابل الاستعلاء في الاستواء على العرش ، مع تسخير الشمس والقمر ، ويتقابل ما تغيض الأرحام مع ما تزداد ، ويتقابل من أسرّ القول مع من جهر به ، ومن هو مستخف بالليل مع من هو سارب بالنهار ؛ ويتقابل الخوف مع الطمع تجاه البرق ، ويتقابل تسبيح الرعد حمدا مع تسبيح الملائكة خوفا ، وتتقابل دعوة الحق لله مع دعوة الباطل للشركاء ، ويتقابل من يعلم مع من هو أعمى ، ويتقابل الذين يفرحون من أهل الكتاب بالقرآن مع من ينكر بعضه ، ويتقابل المحو مع الإثبات في الكتاب. وبالإجمال ، تتقابل المعاني وتتقابل الحركات وتتقابل الاتجاهات ، لتنسيق الجو العام في الأداء. وهذا التناسق الفني ، من بدائع الإعجاز في القرآن الكريم ، هذا القرآن العجيب الذي لو كان من شأن قرآن أن تسيّر به الجبال أو تقطّع به الأرض أو يكلّم به الموتى ، لكان في هذا القرآن من الخصائص والمؤثّرات ما تتحقق معه هذه الخوارق والمعجزات ، ولكنه جاء لخطاب المكلّفين الأحياء ، فإذا لم يستجيبوا له فقد آن أن ييأس منهم المؤمنون ، وأن يدعوهم ويتركوهم ، حتى يأتي وعد الله للمكذّبين ، قال تعالى :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ

١٩٢

الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١).

ولقد صنع هذا القرآن في النفوس التي تلقّته وتكيّفت به ، أكثر من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وإحياء الموتى ، لقد صنع في هذه النفوس ، وبهذه النفوس ، خوارق أضخم وأبعد آثارا في أقدار الحياة ، بل أبعد أثرا في شكل الأرض ، ذاته ، فكم غيّر الإسلام والمسلمون من وجه الأرض الى جانب ما غيّروا من وجه التاريخ؟

وإن طبيعة هذا القرآن ذاتها ، طبيعته في دعوته وفي تعبيره ، طبيعته في موضوعه وفي أدائه ، طبيعته في حقيقته وفي تأثيره ، إنّ طبيعة هذا القرآن لتحتوي على قوة خارقة نافذة يحسّها كل من له ذوق وبصر وإدراك للكلام ، واستعداد لإدراك ما يوجّه إليه ويوحي به. والذين تلقوه وتكيفوا به سيّروا ما هو أضخم من الجبال ، وهو تاريخ الأمم والأجيال. وقطّعوا ما هو أصلب من الأرض ، وهو جمود الأفكار وجمود التقاليد. وأحيوا ما هو أخمد من الموتى ، نعني الشعوب التي قتل روحها الطغيان والأوهام ؛ والتحول الذي حصل في نفوس العرب وحياتهم أضخم بكثير من تحوّل الجبال عن رسوخها ، وتحوّل الأرض عن جمودها ، وتحوّل الموتى عن الموت : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً).

وهو الذي يختار نوع الحركة وأداتها في كل حال. فإذا كان قوم بعد هذا القرآن لم تتحرك قلوبهم ، فما كان أجدر بالمؤمنين الذين يحاولون تحريكها ان ييأسوا من القوم ، وأن يدعوا الأمر لله ؛ فلو شاء سبحانه لخلق الناس باستعداد واحد للهدى ، وهدى الناس جميعا على نحو خلقه الملائكة ، لو كان يريد.

لقد شاء الله جلّ جلاله أن يوجد الإنسان على وجه الأرض ، ومعه العقل والإرادة والاختيار والكسب ، حتى يتميّز المؤمن من الكافر ، والمستقيم من العاصي. وبذلك تتحقّق الحكمة الإلهية في تنوّع الخلق واختلاف مشاربهم :

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١١٩) [هود].

* * *

١٩٣
١٩٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الرّعد» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة «الرعد» بعد سورة «محمّد». ونزلت سورة «محمّد» بعد سورتين من سورة «النساء» ، وكان نزول سورة «النساء» فيما بين صلح الحديبيّة وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة «الرعد» في ذلك التاريخ أيضا ، وعلى هذا تكون سورة «الرعد» من السّور التي نزلت بالمدينة ، وقيل إنها نزلت بمكّة ، لأنها تجري في أغراض السّور التي نزلت بها ، وقال الأصمّ : إنّها مدنيّة بالإجماع. وكأنه لم يقم وزنا لهذا القول ، ولا شيء في أن تجري بعض السور المدنية في أغراض السور المكيّة ، لأن المشركين الذين نزلت فيهم السور المكية لم ينقطع أمرهم بعد الهجرة ، وكان كثير منهم يحيط بالمدينة ، وكانت دعوتهم لا تزال قائمة ، ومما يؤيد أن هذه السورة مدنية ، قوله تعالى : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١).

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في الآية ١٣ منها : (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) وتبلغ آياتها ثلاثا وأربعين آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة إثبات تنزيل القرآن ، كما يقصد من السور الثلاث المذكورة قبلها ، ولهذا ذكرت هذه

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩٥

السورة بعدها ، وقد ابتدئت بمقدمة ذكر فيها أن الذي أنزل إليه من ربه هو الحقّ ، وأن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به ، وقد استطرد فيها الى إثبات هذا التوحيد ، ثم عاد السياق الى المقصود من الكلام على تنزيل القرآن ، فذكر شبهتين لهما عليه وأخذ في إبطالهما ، وبهذا ينحصر المقصود من هذه السورة في هذه الأمور الثلاثة.

المقدمة

الآيات [١ ـ ٦]

قال الله تعالى : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (١) فأقسم سبحانه بهذه الحروف أنّ ما أنزله هو آيات الكتاب ، وأن ما أنزل إليه منه هو الحق ، ولكن الذي يمنعهم من تصديقه أنه يدعو الى التوحيد وهم لا يؤمنون به ؛ ثم استطرد السياق من هذا الى إثبات توحيده جلّ وعلا ، فذكر أنه سبحانه هو الذي رفع السماوات بغير عمد ، وسخّر الشمس والقمر يجريان لأجل مسمّى ، ودبّر أمر خلقه وفصّل آياته لهم لعلّهم بلقائه يؤمنون ؛ ثم ذكر غير هذا من الآيات الدالّة على توحيد الله تعالى ، وأنه لا بد لهم من لقائه ، وعجب من إنكارهم بعد هذا أن يخلقوا من جديد بعد أن يصيروا ترابا ، وهدّدهم عليه بأنهم ستوضع الأغلال في أعناقهم ، وأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ؛ ثم ذكر أنهم يستعجلونه سبحانه بهذا : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) (٦).

رد شبهتهم الأولى على القرآن

الآيات [٧ ـ ٢٦]

ثم قال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٧) فذكر شبهتهم الأولى على القرآن ، وهي إنكارهم له وطلب آية غيره ، وقد ردّ عليهم بأن النبي (ص) إنما هو منذر ، فليس بيده إجابتهم الى تلك الآيات ، وبأن كل قوم لهم هاد يبعث بالآية التي تناسبهم في علمه بأحوالهم ؛ ثم ذكر من علمه بأحوالهم أنه يعلم ما تحمل كلّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد ، الى غير هذا ممّا ذكره في إثبات علمه ليرضوا

١٩٦

بما اختاره لهم من آياته ؛ ثم انتقل السّياق من إثبات علمه تعالى إلى إثبات قدرته على ما يقترحونه من تلك الآيات ، فذكر أنه جلّ شأنه هو الذي يريهم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ، وأنه يسبّح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته ، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ؛ ثم ذكر أنهم يجادلون في وحدانيته سبحانه وهو شديد المحال ، وهو الذي إذا دعي أجاب (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) [الآية ١٤] وشركاؤهم لا يستجيبون لهم بشيء ، إلا كباسط كفّيه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ، لأنه لا يمكنه أن يستجيب له ؛ ثم ذكر تعالى أن له يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، وأمر النبي (ص) أن يسألهم (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الآية ١٦] وأن يجيب عن سؤاله بأنه الله لأنه لا ربّ لها غيره ، وأن ينكر منهم مع هذا أن يتّخذوا من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا ، وأن يذكر لهم أنه لا يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور ، ثم أمره أن يسألهم : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الآية ١٦] وأمر النبي (ص) أن يجيب عنه بأنه خالق كل شيء وهو الواحد القهّار ؛ ثم ضرب مثلا لحقّه وباطلهم بعد تلك الأمثال ، شبّه فيه حالهما بحال ماء أنزله من السماء فسالت به أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ، وبحال ذهب أو قد عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع فاحتمل زبدا أيضا ، فما يبقى تحت الزبد من الماء والذهب الخالص مثل للحقّ ، والزبد مثل للباطل ؛ فأما الزبد فيذهب ويفنى وكذلك الباطل ، وأما الماء والذهب الخالص فيبقى كل منهما لينتفع منهما الناس به ، وكذلك الحقّ.

ثم وعد أهل الحق الذين استجابوا له بأن لهم الحسنى ، وأوعد أهل الباطل الذين لم يستجيبوا له بأن لهم سوء الحساب ، ومأواهم جهنم وبئس المهاد ، ثم ذكر أنه لا يمكن أن يسوّى بين الفريقين في ذلك ، وانه لا يتذكّر هذا إلّا أولو الألباب ، وهم الذين يوفون بعهده ولا ينقضون ميثاقهم ، ويصلون ما أمر به أن يوصل ، ويخشونه ويخافون سوء حسابهم ، ويصبرون ابتغاء وجهه ، ويقيمون الصلاة ، وينفقون ممّا رزقهم سرّا وعلانية ، ويدرءون بالحسنة السيئة. ثم وعدهم بأن لهم عقبى الدار ، جنات

١٩٧

عدن يدخلونها إلخ ، وأوعد الذين ينقضون عهده من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر به أن يوصل ، ويفسدون في الأرض ، بأن لهم اللعنة ولهم سوء الدار (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦).

رد شبهتهم الثانية على القرآن

الآيات [٢٧ ـ ٤٣]

ثم قال تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (٢٧).

فذكر شبهتهم الثانية على القرآن ، وهي شبهتهم الأولى بعينها ، وقد أجابهم أوّلا بأنه يضل من يشاء فلا يؤمن ، ولو أجيب الى ما يقترحه من الآيات ، ويهدي إليه من أناب فيؤمن بغير اقتراح آيات ؛ ثم وصف من أناب بأنهم الذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكره سبحانه ، الى غير هذا مما وصفهم به.

ثم أجابهم ثانيا بأنه أرسل النبي (ص) في أمّة هي آخر الأمم ، فخصّه بمعجزة القرآن ليتلوها عليهم. فيبقى إعجازها قائما بينهم رحمة بهم ، وهم مع هذا يكفرون به ولا يقدّرون رحمته ؛ ثم أمره أن يؤمن به ، ويتوكّل عليه ، ويتوب إليه ، ولا يلتفت إليهم.

ثم أجابهم ثالثا بأنه لو كان هناك قرآن سيّرت به الجبال ، أو قطّعت به الأرض ، أو كلّم به الموتى ، لكان هذا القرآن الذي لا يؤمنون به ، وذكر أنّ الأمر له في إنزال ما ينزّله من الآيات ، وأنه لو شاء سبحانه لهدى الناس جميعا من غير معجزة من المعجزات ، وذكر أنهم لا يزالون تصيبهم ، بتعنّتهم في طلب الآيات ، قارعة من سبي أو قتل ، أو تحلّ قريبا من دارهم ، حتى يأتي وعده تعالى بنصر المؤمنين عليهم ؛ ثم ذكر سبحانه أنه قد استهزأت قبلهم أمم باقتراح الآيات على رسلهم ، فأملى لهم ثم أخذهم بما أخذهم به من العقاب ، وانتقل السياق من هذا إلى إثبات قدرته جلّ شأنه ، عليهم ، وعجز آلهتهم عن دفع شيء عنهم ، فذكر أنه لا يكون من هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن لا يقوم على شيء ، وأمرهم تعالى أمر تعجيز أن يسمّوا هؤلاء الشركاء الذين جعلوهم له ؛ وذكر أنهم يدّعون له شركاء لا يعلمهم لعدم وجودهم ، وإنّما يأخذون في هذا

١٩٨

بظاهر من القول ، وليس عندهم شيء من العلم ، وقد زيّن لهم ما هم فيه ، وصدّوا عن السبيل ، فلا يمكن اهتداؤهم ؛ ثم أوعدهم بأن لهم عذابا في الحياة الدنيا وعذابا أشق منه في الآخرة ؛ ووعد المتقين بأن لهم جنة تجري من تحتها الأنهار ، أكلها دائم وظلّها.

ثم أجابهم رابعا بأن أهل الكتاب يفرحون بهذا القرآن الذين لا يؤمنون به ، وإن كان من أحزابهم من ينكر بعضه لمخالفته لما عندهم ؛ وأمر النبي (ص) أن يعبده ولا يشرك به ، وأن يدعو إليه وحده ؛ ثم ذكر أنه أنزل القرآن حكمة عربية لا يصح طلب آية بعدها ؛ وحذّر النبي (ص) من أن يتّبع أهواءهم فيما يطلبونه من الآيات ، بعد أن جاءه من العلم ما لا يصح معه اتباع أهوائهم.

ثم أجابهم خامسا بأنه أرسل رسلا من قبله ، وكانوا بشرا مثله لهم أزواج وذرّيّة ، فلا يمكنهم أن يأتوا بآية إلا بأذنه ، ولكل أجل قدّره لآياته كتاب ، لا تمكن مخالفته ، وكل ما يحصل من محو أو إثبات يأتي على وفق ما فيه ؛ ثم ذكر للنبي (ص) أنه قد يريه بعض ما يعدهم من العذاب وقد يتوفّاه قبله ، فليس هذا من شأنه ، وإنما عليه أن يبلغهم وعليه هو حسابهم ؛ ثم نبههم إلى أن ما يعدهم به قد حصل بعضه ، فذكر ما حصل من انتقاص المسلمين أطراف أرضهم ، وأنه قد حكم بنصر المؤمنين عليهم ، وهو حكم لا معقب له ولا تأخير فيه ؛ ثم ذكر أنه قد مكر من كان قبلهم فلم يفدهم مكرهم ، لأن له المكر جميعا ، يعلم ما تكسب كل نفس ، وسيعلم الكفّار لمن عقبى الدار : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٤٣).

١٩٩
٢٠٠