الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «يوسف» (١)

قال تعالى : (إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ) [الآية ٥١] وقال بعض أهل العلم : «إنّهن راودنه لا امرأة الملك» ، وقد يجوز ، وإن كانت واحدة أن تقول (راودتنّ) كما ورد في التنزيل : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران / ١٧٣] ها هنا واحد ، يعني بقوله تعالى (لَكُمْ) النبيّ (ص) «أبا سفيان» فيما ذكروا.

وقال تعالى : (وَهَمَّ بِها) [الآية ٢٤] ، فلم يكن همّ بالفاحشة ، ولكن دون ذلك ممّا لا يقطع الولاية.

وقال تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الآية ٣] أي (نَقُصُّ عَلَيْكَ) [الآية ٣] بوحينا (إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [الآية ٣] (٢) بجعل (ما) اسما للفعل وجعل (أوحينا) صلة.

وقال تعالى : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) [الآية ٤] بتكرير الفعل وقد يستغنى بأحدهما. وهذا على لغة الذين قالوا «ضربت زيدا ضربته» ، وهو توكيد مثل قوله تعالى : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٣٠) [الحجر وص / ٧٣].

وأمّا قوله تعالى (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) فإن السياق لمّا جعلهم كمن يعقل في السجود والطواعية ، جعلهم كالإنس في تذكيرهم ، إذا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٢ / ٤٩٩.

١٦١

جمعهم ، كما في قوله تعالى (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) [النمل / ١٦]. وقال الشاعر [من الخفيف ، وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين] :

صدّها منطق الدّجاج عن القصد

وضرب الناقوس فاجتنبا

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل / ١٨] إذ تكلمت نملة فصارت كمن يعقل وقال سبحانه (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣) [الأنبياء / ٣٣ ويس / ٤٠] لمّا جعلهم يطيعون ، شبّههم بالإنس ، مثل ذلك أيضا قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) [فصّلت / ١١] على هذا القياس ، بالتذكير ، وليس مذكرا كما يذكر بعض المؤنث. وقال قوم : إنّما قال تعالى : (طائِعِينَ) لأنهما أتتا وما فيهما ، فتوهّم بعضهم «مذكّرا» أو يكون كما قال سبحانه (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [الآية ٨٢] وهو يريد أهلها. وكما تقول «صلى المسجد» وأنت تريد أهل المسجد ، إلّا أنّك تحمل الفعل على الآخر ، كما قالوا : «اجتمعت أهل اليمامة» وقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ) [فصّلت / ٣٧] لأنّ الجماعة ، من غير الإنس مؤنثة. وقال بعضهم «للّذي خلق الآيات» ولا أراه قال ذلك ، الا لجهله بالعربية. قال الشاعر (١) [من البسيط ، وهو الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين] :

إذ أشرف الديك يدعو بعض أسرته

إلى الصّياح وهم قوم معازيل (٢)

فجعل «الدجاج» قوما في جواز اللغة. وقال الآخر وهو يعني الذيب [من الطويل ، وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين] :

وأنت امرؤ تعدو على كلّ غرّة

فتخطئ فيها مرّة وتصيب

وقال الآخر [من الرجز ، وهو الشاهد الخامس والثلاثون بعد المائتين] :

__________________

(١). هو عبدة بن الطبيب ؛ شعر عبدة بن الطبيب ٧٩ ، والاختيارين ٩٩ ، والمفضليات ١٤٣ ، واللسان «عزل».

(٢). في الصاحبي ٢٥١ «الى الصياح» وكذلك في الصحاح «عزل» واللسان أيضا وفي الاختيارين وفي شعره أيضا : «لدى الصباح».

١٦٢

فصبّحت والطّير لم تكلّم

جابية (١) طمّت بسيل مفعم (٢)

وقال تعالى : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) [الآية ٥] أي : فيتّخذوا لك كيدا.

وليست مثل (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣).

بإيصال الفعل إليها باللام ، كما يوصل ب «الى» ، كما تقول : «قدّمت له طعاما» تريد : «قدّمت إليه». وقال تعالى (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) [الآية ٤٨] ومثله (قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِ) [يونس / ٣٥] وإن شئت كان (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) في معنى «فيكيدوك» ، بجعل اللام مثل اللام في قوله تعالى (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤) [الأعراف] وقوله سبحانه (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (١٥٤) إنّما هو : «لمكان ربّهم يرهبون».

وقال تعالى : (أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ) [الآية ٩] وليس الأرض هاهنا بظرف. ولكن حذف منها «في» ثم أعمل فيها الفعل ، كما تقول «توجّهت مكّة».

وقال تعالى : (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [الآية ١٤] و «العصبة» و «العصابة» جماعة ليس لها واحد (٣) ك «القوم» و «الرّهط».

وقال تعالى : (بِدَمٍ كَذِبٍ) [الآية ١٨] بجعل «الدّم» «كذبا» لأنه كذب فيه كما تقول «الليلة الهلال» فترفع ، وكما قال تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة / ١٦] (٤).

وقال تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ) [الآية ١٩] بالتذكير بعد التأنيث لأنّ «السيّارة» في المعنى للرجال (٥).

وقال تعالى : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي) [الآية ٢٣] أي : أعوذ بالله معاذا. جعله بدلا من اللفظ بالفعل ، لأنه مصدر ، وإن كان غير مستعمل مثل «سبحان» ، وبعضهم يقول «معاذة الله» ، ويقول «ما

__________________

(١). جاء في الهامش : الجابية : الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. يجبى أي : يجمع ، قاله الجوهري.

(٢). الرجز في الصحاح «فعم» واللسان «طمم» و «فعم» و «كلم» وفي أول مواضعه من اللسان ب «خابية» وفي ثالث مواضعه منه ب «حفّت». وهو في الصحاح ١ / ٢٣.

(٣). نقله في التهذيب ٢ / ٤٦ «عصب».

(٤). قد نقله في التهذيب ١٠ / ١٦٧ وزاد المسير ٤ / ١٩٣.

(٥). نقله في زاد المسير ٤ / ١٩٣.

١٦٣

أحسن معناة هذا الكلام» ، يريد المعنى.

وقال تعالى : (إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥) أي «إلّا السجن أو عذاب أليم لأنّ أن» الخفيفة ، وما عملت فيه ، اسم بمنزلة «السّجن».

وقال تعالى : (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (٣٢) [الآية ٣٢] فالوقف عليها (وليكونا) ؛ لأن النون الخفيفة إذا انفتح ما قبلها ، فوقفت عليها ، جعلتها ألفا ساكنة بمنزلة قولك «رأيت زيدا» ، ومثله قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) (١٥) [العلق] الوقف عليها (لَنَسْفَعاً) (١٥).

وقال تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥) بإدخال النون في هذا الموضع ، لأن هذا موضع تقع فيه «أي» ، فلما كان حرف الاستفهام يدخل فيه ، دخلته النون ، لأن النون تكون في الاستفهام ، تقول «بدا لهم أيّهم يأخذون» أي استبان لهم.

وقال تعالى : (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤) فإحدى الباءين لوصل الفعل الى الاسم ، والاخرى دخلت ل «ما» وهي الأخيرة.

وقال تعالى (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [الآية ٤٥] وإنّما هي «افتعل» من «ذكر» فأصلها «اذتكر» ، ولكن اجتمعا في كلمة واحدة ، ومخرجاهما متقاربان ، وأرادوا ان يدغموا ، والأول حرف مجهور ، وإنما يدخل الاول في الآخر ، والآخر مهموس ، فكرهوا أن يذهب منه الجهر ، فجعلوا في موضع التاء حرفا من موضعها مجهورا ، وهو الدال لأن الحرف الذي قبلها مجهور. ولم يجعلوا الطاء ، لأن الطاء مع الجهر مطبقة. وقد قرأ بعضهم (مذّكر) في سورة القمر (١) فأبدل التاء ذالا ثم أدخل الذال فيها. وقد قرئت هذه الآية (أن يصّلحا بينهما صلحا) [النساء / ١٢٨] (٢)

__________________

(١). الآيات : ١٥ و ١٧ و ٢٢ و ٣٢ و ٤٠ و ٥١. وبالذال المضعفة ، المفتوحة هي في الطبري ٢٧ / ٩٦ قراءة عبد الله بن مسعود ، في البحر ٨ / ١٧٨ قراءة قتادة فيما نقل ابن عطية ، وفي معاني القرآن ٣ / ١٠٧ أنّ لغة بعض بني أسد يقولون «مذكر».

(٢). هذه القراءة هي في الطبري ٩ / ٢٧٨ قراءة عامة قراءة أهل المدينة ، بعض أهل البصرة ؛ وفي الشواذ ٢٩ الى الجحدري ، وكذلك في المحتسب ٢٠١ ، وزاد في الجامع ٥ / ٤٠٤ عثمان البتي ، وفي التيسير ٩٧ إلى غير الكوفيين. والقراءة المثبتة في المصحف الشريف (أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً).

١٦٤

وهي «أن يفتعلا» من «الصلح» ، فكانت التاء بعد الصاد ، فلم تدخل الصاد فيها للجهر والإطباق. فأبدلوا التاء صادا ، وقرأ بعضهم (يصطلحا) وهي الجيدة لما لم يقدر على إدغام الصاد في التاء ، حوّل في موضع التاء حرف مطبق.

وقال تعالى (ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) [الآية ٧٦] بالتأنيث ، وقال تعالى (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) [الآية ٧٢] لعودة الضمير الى «الصّواع» و «الصّواع» مذكّر ، ومنهم من يؤنّث «الصّواع» (١) و «أريد» هاهنا «السّقاية» وهي مؤنثة. وهما اسمان لواحد مثل «الثّوب» و «الملحفة» ، مذكّر ومؤنث لشيء واحد. وقال تعالى (خَلَصُوا نَجِيًّا) [الآية ٨٠] بجعل «النجيّ» للجماعة مثل قولك : «هم لي صديق».

وقال تعالى (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [الآية ٨٤] فإذا سكتّ ، ألحقت في آخره الهاء ، لأنّها مثل ألف الندبة.

وقال تعالى (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ) [الآية ٨٥] فزعموا أنّ (تفتأ) «تزال» فلذلك وقعت عليه اليمين ، كأنهم قالوا : «والله لا تزال تذكر يوسف».

وقال تعالى (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [الآية ٩٢] بعد (الْيَوْمَ) وقف ثم ورد الاستئناف (٢) بقوله تعالى : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) [الآية ٩٢] فدعا لهم بالمغفرة مستأنفا.

وقال تعالى (قالَ كَبِيرُهُمْ) [الآية ٨٠] فزعموا أنه أكبرهم في العقل ، لا في السّنّ.

وفي قوله تعالى (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً) [الآية ٨٣] أريد الذي تخلّف عنهم ، معهما ، وهو كبيرهم في العقل.

__________________

(١). انظر المذكر والمؤنث ٩٦ ، وكتاب التذكير والتأنيث ٢٢ ، والبلغة في الفرق بين المذكر والمؤنث ٨٣.

(٢). نقله في الجامع ٩ / ٢٥٨.

١٦٥
١٦٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «يوسف» (١)

إن قيل : لم قال تعالى (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الآية ٤] ولم يقل ثلاثة عشر كوكبا وهو أوجز وأخصر ، والذي رآه كان أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر؟

قلنا : قصد عطفهما على الكواكب تخصيصا لهما بالذكر وتفضيلا لهما على سائر الكواكب ، لما لهما من المزية والرتبة على الكل ، ونظيره تأخير جبريل وميكائيل عن الملائكة عليهم‌السلام ، ثم عطفهما عليهم ، إن قلنا إنهما غير مرادين بلفظ الملائكة ، وكذا قوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة / ٢٣٨] إن قلنا إنها غير مرادة بلفظ الصلوات. فإن قيل : ما الحكمة في تكرار رأيت؟

قلنا : قال الزمخشري : ليس ذلك تكرارا ، بل هو كلام مستأنف وضع جوابا لسؤال مقدر من يعقوب عليه‌السلام ، كأنه قال له بعد قوله تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) [الآية ٤] كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال مجيبا له (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) وقال الزجّاج : إنما كرر الفعل تأكيدا لما طال الكلام كما في قوله تعالى (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) [الروم](وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٣٧) وقال غيره ، إنما كرره تفخيما للرؤية وتعظيما لها.

فإن قيل : لم أجريت مجرى العقلاء في قوله تعالى (رَأَيْتُهُمْ) وفي قوله

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٦٧

(ساجِدِينَ) (٤) وأصله رأيتها ساجدة؟

قلنا : لمّا وصفها بما هو من صفات من يعقل ، وهو السجود أجرى عليها حكمه ، كأنها عاقلة ، وهذا شائع في كلامهم أن يلابس الشيء الشيء من بعض الوجوه ، فيعطى حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة المقارنة ، ونظيره قوله تعالى (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا) [النمل / ١٨] وقوله تعالى في وصف السماء والأرض (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (١١) [فصّلت].

فإن قيل : لم قال تعالى (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [الآية ١٢] وكانوا عاقلين بالغين ، وأنبياء أيضا في قول البعض ، وكيف رضي يعقوب عليه‌السلام لهم بذلك؟

قلنا : على قراءة الياء لا إشكال ، لأن يوسف عليه‌السلام كان يومئذ دون البلوغ فلا يحرم عليه اللعب ، وعلى قراءة النون نقول كان لعبهم المسابقة والمناضلة ، ليعوّدوا أنفسهم الشجاعة لقتال الأعداء لا للهو ، وذلك جائز بالشرع ، ويعضد هذا قولهم كما ورد في التنزيل (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) [الآية ١٧] وإنّما سموه لعبا لأنه في صورة اللعب. ويرد على أصل السؤال أن يقال : كيف يتورّعون عن اللعب وهم قد فعلوا ما هو أعظم حرمة من اللعب ، وأشدّ ، وهو إلقاء أخيهم في الجبّ على قصد القتل.

فإن قيل : لم اعتذر إليهم يعقوب عليه‌السلام بعذرين أحدهما (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) [الآية ١٣] لأنه كان لا يصبر عنه ساعة واحدة ، والثاني خوفه عليه من الذئب ، فأجابوه عن أحد العذرين دون الآخر؟

قلنا : حبه إيّاه ، وإيثاره له ، وعدم صبره على مفارقته ، هو الذي كان يغيظهم ويؤلمهم ، فأضربوا عنه صفحا ، ولم يجيبوا عنه.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) [الآية ١٥] وهو يومئذ لم يكن بالغا ، والوحي إنما يكون بعد الأربعين؟

قلنا : المراد به وحي الإلهام ، لا وحي الرسالة الذي هو مخصوص بما بعد الأربعين ؛ ونظيره قوله تعالى (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص / ٧] وقوله تعالى (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل / ٦٨].

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ

١٦٨

أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [الآية ٢٢] وقال في حق موسى عليه‌السلام (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [القصص / ١٤].

قلنا : المراد ببلوغ الأشدّ دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره ، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين أو الستين ، وكان إيتاء كل واحد منهما ، الحكم والعلم ، في ذلك الزمان ، فأخبر عنه كما وقع.

فإن قيل : لم وحّد الباب في قوله تعالى (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) [الآية ٢٥] بعد جمعه في قوله (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) [الآية ٢٣].

قلنا : لأن إغلاق الباب للاحتياط ، لا يتم إلّا بإغلاق أبواب الدار جميعها ، سواء أكانت كلها في جدار الدار أو لا ، وأمّا هربه منها إلى الباب ، فلا يكون إلا إلى باب واحد ، إن كانت كلها في جدار الدار ، ولأن خروجه في وقت هربه ، لا يتصور إلا من باب واحد منها ، وإن كان بعض الأبواب داخل بعض ، فإنه أول ما يقصد الباب الأدنى لقربه ، ولأن الخروج من الباب الأوسط والباب الأقصى ، موقوف على الخروج من الباب الأدنى ، فلذلك وحّد الباب.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [الآية ٢٦] ولم يكن قوله شهادة؟

قلنا : لمّا أدى معنى الشهادة في ثبوت قول يوسف عليه‌السلام ، وبطلان قولها ، سمي شهادة ، فالمراد بقوله (شَهِدَ) : أعلم ، وبيّن ، وحكم.

فإن قيل : قدّ قميصه من دبر يدلّ على أنها كاذبة ، وأنها هي التي تبعته ، وجذبت قميصه من خلفه فقدّته ، وأما قدّه من قبل ، فكيف يدل على أنها صادقة (١)؟

قلنا : يدل من وجهين : أحدهما أنه إذا طالبها وهي تدفعه عن نفسها بيدها أو برجلها ، فإنها تقد قميصه من قبل بالدفع. الثاني : أنه يسرع خلفها وهي هاربة منه ، فيعثر في مقادم قميصه فيشقه. ويرد على الوجه الثاني أنه مشترك الدلالة من جهة العثار الذي هو نتيجة الإسراع ، لأنه يحتمل أن يكون

__________________

(١). انظر الآيتين ٢٦ و ٢٧ من سورة يوسف.

١٦٩

إسراعا في الهرب منها ، وهي خلفه فيعثر ، فينقدّ قميصه من قبل.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) [الآية ٣١] وإنما يقال خرجت إلى السوق ، وطرقت عليه الباب فخرج إليّ؟

قلنا : إذا كان الخروج بقهر وغلبة ، أو بجمال وزينة ، أو بآية وأمر عظيم ، فإنما يعدّى ب «على» ، ومنه قولهم خرج علينا في السفر قطاع الطريق ، وقوله تعالى (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) [القصص / ٧٩] وقوله تعالى (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) [مريم / ١١].

فإن قيل : كيف شبّهن يوسف عليه‌السلام بالملك ، فقلن كما ورد في التنزيل (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) (٣١) وهنّ ما رأين الملائكة قط؟

قلنا : إن كن ما رأين الملائكة ، فقد سمعن وصفها. الثاني : أن الله تعالى قد ركز في الطباع حسن الملائكة ، كما ركز فيها قبح الشيطان ، ولذلك يشبه كل متناه في الحسن بالملك ، وكل متناه في القبح بالشيطان.

فإن قيل : لم ورد على لسان يوسف عليه‌السلام (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (٣٧) وترك الشيء ، إنما يكون بعد ملابسته والكون فيه ، يقال ترك فلان شرب الخمر ، وأكل الربا ، ونحو ذلك إذا كان فيه ثم أقلع عنه ، ويوسف عليه‌السلام لم يكن على ملّة الكفّار قطّ؟

قلنا : الترك نوعان : ترك بعد الملابسة ويسمى ترك انتقال ، وترك قبل الملابسة ويسمى ترك إعراض ، كقوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف / ١٢٧] وموسى عليه‌السلام ما لابس عبادة فرعون ولا عبادة آلهته في وقت من الأوقات ، وما نحن فيه من النوع الثاني ، وسيأتي نظير هذا السؤال في سورة الأعراف في قوله تعالى (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) (٨٨) [الأعراف / ٨٨].

فإن قيل : لم قال تعالى (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الآية ٤٠] فسّر الأمر بالنهي ، أو بما جزء منه النهي ، وهما ضدّان؟

قلنا : فيه إضمار أمر آخر ، تقديره أمر اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه ، وهو

١٧٠

كقوله تعالى (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦) [العنكبوت] فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) [الفاتحة]. الثاني أن فيه إضمار نهي تقديره : أمر ونهي ، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الآية ٤٠].

الثالث : أن قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا) وإن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ ، فهو مرافق له من حيث المعنى ، فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة ، ويوافقه معنى ، غير جائز بيان موافقته معنى ، من وجهين : أحدهما أن النهي عن الشيء أمر بضده ، وعبادة الله ضد لا عبادة الله. الثاني أن معنى مجموع قوله تعالى (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) أعبدوه وحده ، فيكون تفسيرا للأمر المطلق.

فإن قيل : الأنبياء عليهم‌السلام ، أعظم الناس زهدا في الدنيا ، ورغبة في الآخرة ، فلم ورد على لسان يوسف عليه‌السلام (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [الآية ٥٥] طلب أن يكون معتمدا على الخزائن ، متولّيا لها ، وهو من أكبر مناصب الدنيا؟ قلنا : إنما طلب ذلك ليتوصّل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى ، وإقامة الحق ، وبسط العدل ، ونحوه ، ممّا يبعث له الأنبياء ، ولعلمه أن أحدا غيره ، لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى ، وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم ، لا لحبّ الملك والدنيا ، ونظيره قوله تعالى (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف / ١٨٨] يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط ، لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا ، لا للحرص ، لكن لأتمكّن من إعانة الضعفاء والفقراء ، وقت الضرورة والمضايقة ، ويحتمل أن يكون علم تعيّنه بذلك العمل ، فكان طلبه واجبا عليه.

فإن قيل : كيف جاز ليوسف عليه‌السلام كما ورد في التنزيل أن يأمر المؤذّن أن يقول (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) وذلك بهتان وتسريق بالصواع لمن لم يسرقه ، وتكذيب للبريء ، واتهام من لم يسرق بأنّه سرق؟

قلنا : قوله تعالى (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) (٧٠) تورية عمّا جرى منهم مجرى السرقة ، وتصوّر بصورتها ، من

١٧١

فعلهم بيوسف ما فعلوه أو لا. الثاني : أن ذلك القول كان من المؤذّن بغير أمر يوسف عليه‌السلام ، كذا قاله بعض المفسرين.

الثالث : أنّ حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية ، التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليه‌السلام (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص / ٤٤] وقول إبراهيم عليه‌السلام في حق زوجه هي أختي لتسلم من يد الكافر ، وما أشبه ذلك.

فإن قيل : لم تأسّف يعقوب عليه‌السلام على يوسف دون أخيه بقوله (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [الآية ٨٤] والرّزء الأحدث أشدّ على النفس وأعظم أثرا؟ قلنا : إنما يكون أشدّ إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا ، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشدّ من فقدان أخيه ؛ فإنما خصّه بالذكر ، ليدلّ على أنّ الرّزء فيه مع تقادم عهده ، ما زال غضّا طريّا.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) [الآية ٨٤] والحزن لا يحدث بياض العين لا طبّا ولا عرفا؟

قلنا : قال ابن عباس : أي من البكاء ، لأن الحزن سبب البكاء ، فأطلق اسم السبب وأراد به المسبّب ، وكثرة البكاء ، قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد ، وهكذا حدث ليعقوب عليه‌السلام ، وقيل إذا كثرت الدموع محقت سواد العين ، وقلبته إلى بياض كدر.

فإن قيل : لم قال يعقوب عليه‌السلام (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧) مع أن من المؤمنين من ييأس من روح الله ، أي من فرجه وتنفيسه ، أو من رحمته على اختلاف القولين ، إمّا لشدّة مصيبته ، أو لكثرة ذنوبه ، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله ، إذا مات أن يحرقوه ويذروا رماده في البر والبحر ، ففعلوا به ذلك ، ثم إن الله غفر له ، كما جاء مشروحا في الحديث المشهور ، وهو من الصحاح ، مع أنه يئس من رحمة الله تعالى ، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذري رماده لا يقدر الله على إحيائه وتعذيبه ، ومع هذا كله يغفر له ، فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟

قلنا : إنّما ييأس من روح الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية ، وكل

١٧٢

مؤمن يتحقّق منه اليأس من روح الله ، فهو كافر في الحال ، حتى يعود إلى الإسلام ، بعوده إلى رجاء روح الله ؛ وأمّا الرجل المغفور له في الحديث ، فلا نسلّم أنه لم يكفر ، ثم إن الله تعالى لمّا أحياه في الدنيا ، عاد إلى الإسلام ، بعوده إلى رجاء روح الله تعالى ، فلذلك غفر له ، وقد يكون قد عاد إلى رجاء روح الله تعالى ، قبل موتته الأولى ، ولم يتسع له الزمان أن يرجع عن وصيته التي أوصى بها أهله ، فمات مسلما فلذلك غفر له.

فإن قيل : في قوله تعالى (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [الآية ١٠٠] كيف جاز لهم أن يسجدوا لغير الله تعالى؟

قلنا : لعله كان السجود عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة عندنا.

وقيل : كان انحناء كالركوع ، ولم يكن بوضع الجبهة على الأرض ، إلا أن قوله تعالى (وَخَرُّوا) يأبى ذلك ، لأنّ الخرور عبارة عن السقوط ، ولا يرد عليه قوله تعالى (وَخَرَّ راكِعاً) [ص / ٢٤] لأنهم قالوا أراد به ساجدا ، فعبّر عن السجود بالركوع ، كما عبر عن الصلاة في قوله تعالى (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) [البقرة] أي صلّوا مع المصلين. وقيل له : أي لأجله ، فاللام للسببية لا لتعدية السجود إلى يوسف عليه‌السلام ، فالمعنى وخرّوا لأجل يوسف سجّدا لله تعالى ، شكرا على جمع شملهم به ، وقيل الضمير في له ، يعود إلى الله تعالى ، وهذا الوجه يدفعه قوله تعالى (يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [الآية ١٠٠].

فإن قيل : لم ذكر يوسف عليه‌السلام نعمة الله تعالى في إخراجه من السجن ، فقال كما ورد في التنزيل (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) [الآية ١٠٠] ولم يذكر نعمته عليه في إخراجه من الجبّ وهو أعظم نعمة ، لأن وقوعه في الجبّ كان أعظم خطرا؟

قلنا : إنما ذكر هذه النعمة دون تلك النعمة ، لوجوه : أحدها : أنّ محنة السجن ومصيبته ، كانت أعظم لطول مدتها ، فإنه لبث فيه بضع سنين ، وما لبث في الجبّ إلّا مدّة يسيرة. الثاني : أنه إنما لم يذكر الجب ، كي لا يكون في ذكره توبيخ وتقريع لإخوته ، عند قوله لهم كما ورد في التنزيل (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) [الآية ٩٢].

الثالث : أن خروجه من السجن ،

١٧٣

كان مقدمة لملكه وعزه ، فذلك ذكره ، وخروجه من الجبّ ، كان مقدمة الذل والرق والأسر ، فلذلك لم يذكره.

الرابع : أن مصيبة السجن ، كانت أعظم عنده ، لمصاحبة الأوباش والأراذل وأعداء الدين ؛ بخلاف مصيبة الجب ، فإنه كان مؤنسه فيه جبريل وغيره من الملائكة عليهم‌السلام.

فإن قيل : لم قال تعالى على لسان يوسف (تَوَفَّنِي مُسْلِماً) [الآية ١٠١] وهو يعلم أنّ كلّ نبيّ لا يموت إلّا مسلما؟

قلنا : يجوز أن يكون دعا بذلك ، في حالة غلبة الخوف عليه ، غلبة أذهلته عن ذلك العلم ، في تلك الساعة. الثاني : أنه دعا بذلك ، مع علمه ، إظهارا للعبودية والافتقار وشدة الرغبة ، في طلب سعادة الخاتمة ، وتعليما للأمّة ، وطلبا للثواب.

فإن قلنا : كيف يجتمع الإيمان والشرك ، وهما ضدّان ، حتى قال تعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١٠٦)؟

قلنا : معناه وما يؤمن أكثرهم ، بأن الله تعالى خالقه ورازقه وخالق السماوات والأرض ، قولا إلّا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا. الثاني ، أن المراد بها المنافقون ، يؤمنون بألسنتهم قولا ، ويشركون بقلوبهم اعتقادا. الثالث أن المراد بها تلبية العرب ، كانوا يقولون : لبّيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك ؛ فكانوا يؤمنون بأوّل تلبيتهم بنفي الشريك ، ويشركون بآخرها بإثباته.

فإن قيل : هذه التلبية ، توحيد كلها ولا شرك فيها ، لأن معنى قولهم إلّا شريكا هو لك : إلا شريكا هو مملوك لك ، موصوفا بأنك تملكه ، وتملك ما ملك ، واللام هنا للملك ، لا لعلاقة الشركة ؛ وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيّا ، ويحتمل أن يكون مجازيّا ؛ بيان الأول ، أنّا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها ، وهو الاختصاص ، يكون قولهم : لا شريك لك ، عامّا في نفي كلّ شريك ، يضاف إلى الله تعالى بجهة اختصاص ما ، فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية ، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما ، ثم يقع عليه الاستثناء ، فيكون استثناء حقيقيا ؛ وإن قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة

١٧٤

في موارد استعمالها ، وهي الملك والاستحقاق ، ويقال الاختصاص ، فقولهم : لا شريك لك يكون عامّا أيضا ، عند من يجوّز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة ، فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر ؛ وأما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته ، وهو علاقة الشركة ، فيكون الاستثناء بعده مجازيّا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان ، وشاهده قول الشاعر :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

معناه : إن كان هذا عيبا ففيهم عيب ، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب ، فكذا هنا معناه : إن كان الشريك المملوك لك ، يصلح شريكا فلك شريك ، وهو لا يصلح شريكا لك ، فلا يكون لك شريك ، لأن كلّ ما يدعي أنه شريك لك ، فهو مملوك لك ، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الروم / ٢٨]. قلنا : على الوجه الأول إنه ليس بصحيح ، لأنه لو جعلنا اللام حقيقة في المعنى العام وهو الاختصاص ، يلزم منه الكفر حيث وجد نفي الشريك من غير استثناء ، لأنه يلزم منه نفي ملكه تعالى ، شريك زيد وعمر ونحوهما ، وهو كفر ، واللازم منتف ، لأنه إيمان محض بلا خلاف.

فإن قيل : إنّما لم يكن كفرا مع عمومه ، لأن الحقيقة العرفية عند عدم الاستثناء ، نفي كل شريك يضاف إلى الله تعالى بعلاقة الشريك ، لا نفي كل شريك ، يضاف إليه بجهة ما ، فصارت الحقيقة اللغوية مهجورة بالحقيقة العرفية ، عند عدم الاستثناء ، والجواب عن أصل السؤال ، أنه سؤال حسن محقق ، وأن هذه التلبية توحيد محض على التقديرين ، فإن صح النقل أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها ، فإنما نهى عنها لأنها توهم إثبات الشريك ، لمقتضى الاستثناء عند قاصري النظر ، وهم عوام الناس ، فلهذه المفسدة نهى عنها.

١٧٥
١٧٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «يوسف» (١)

قوله تعالى : (يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤). وهذه استعارة ، لأنّ الكواكب والشمس والقمر ممّا لا يعقل ، فكان الوجه أن يقال. ساجدة. ولكنها لما أطلق عليها فعل من يعقل ، جاز أن توصف بصفة من يعقل ، لأن السجود من فعل العقلاء. وهذا كقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٨) [النمل] ، فلما كانت النمل في هذا القول ، مأمورة أمر من يعقل ، جرى الخطاب عليها جريه على من يعقل. مثل ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) [فصّلت / ٢١] ، لأنها لمّا شهدت عليهم شهادة العقلاء المخاطبين ، أجروا ـ كما في هذا الخطاب ـ مجرى العقلاء المخاطبين. ومن الشاهد على ذلك قول عبدة بن الطبيب :

إذ أشرف الدّيك يدعو بعض أسرته

لدى الصّباح وهم قوم معازيل (٢)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هذا البيت من قصائد «المفضّليات» للضّبيّ ، والقصيدة كلها كاملة في ديوان المفضليات ، بتحقيق الأستاذين أحمد محمد شاكر ، وعبد السلام هارون ـ ص ١٣٣ ـ ١٤٣ ج ١ ، وترجمة عبدة بن الطبيب في اللآلي ، والأغاني ، والإصابة ، والشعر والشعراء لابن قتيبة ، وهو صاحب البيت المشهور في الرثاء :

فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيان قوم تهدّما

١٧٧

فلما جعله بمنزلة الداعي جعل الديكة بمنزلة القوم المدعوّين ، وجعلهم أسرة له ؛ وأسرة الرجل قومه ورهطه. والمعازيل الذين لا سلاح معهم. فكأنه جعله مستنصرا من لا نصرة له ، ولا غناء عنده. وقريب من ذلك قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) (٤) [الشعراء] على أحد القولين. فكأنّ السياق ، ردّ خاضعين إلى أصحاب الأعناق ، لا إلى الأعناق ، لأن الخضوع منهم يكون على الحقيقة.

وقد يجوز أيضا أن يكون قوله تعالى في ذكر الكواكب والشمس والقمر : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤) إنما حسن على تأويل تلك الرؤيا. وتأويلها يتناول من يعقل من إخوة يوسف وأبويه. فجرى الوصف على تأويل الرؤيا ، ومصير العقبى. وهذا موضع حسن ، ولم يمض لي كما تقدم.

وقوله سبحانه : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [الآية ١٨] وهذه استعارة.

لأن الدم لا يوصف بالكذب على الحقيقة. والمراد بذلك ـ والله أعلم ـ بدم مكذوب فيه ، والتقدير بدم ذي كذب.

وإنما يوصف الدم بالمصدر الذي هو (كذب) على طريق المبالغة. لأن الدعوى التي علقت بذلك الدم ، كانت غاية في الكذب.

وقال بعضهم : قد يجوز أيضا أن يكون «كذب» هاهنا ، صفة لقول محذوف يدلّ عليه الحال. فكأنّ التقدير : وجاءوا على قميصه بدم ، وجاءوا بقول كذب ، إذ كانت إشارتهم إلى آثار الدم في القميص ، قد صحبها قول منهم يؤكد تلك الحال ، وهو قولهم : (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) [الآية ١٧]. والقول الأول أصوب. ومن غرائب التفسير ما روي عن أبي عمرو بن العلاء (١) أنه قال : سمعت

__________________

(١). أبو عمرو بن العلاء. واسمه زبّان بن عمار كان إماما في اللغة والأدب ، وكان من أعلم الناس بالأدب والقرآن والشعر ، وأعراب الجاهلية. توفي سنة ١٥٤ ه‍. بالكوفة. وله ترجمة موجزة في «المزهر» للسيوطي. وانظر «الأعلام» للزّركلي.

١٧٨

بعض الرواة يقول : بدم كذب بالإضافة ، من الدال (١). وقال : هو الجدي في كلام الكنعانيين ، وأنشد لبعضهم :

ظلّت دماء بني عوف كأنّهم

عند الهياج رعاة بين أكداب

وقيل : إنهم لطّخوا قميص يوسف عليه‌السلام ، بدم ظبي ذبحوه.

وقوله سبحانه : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [الآية ١٨] وهذه استعارة. وحقيقة التسويل تزيين الإنسان لغيره أمرا غير جميل.

جعل سبحانه أنفسهم ، لمّا قوي فيها الإقدام على ذلك الأمر المذموم ، بمنزلة الغير الذي يحسّن لهم فعل القبيح ، ويحمّلهم على ركوب العظيم.

وقوله سبحانه : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [الآية ٣٠] وهذه استعارة. والمراد بها أن حبّه تغلغل إليها ، حتى أصاب شغافها ، وهو غشاء قلبها. كما تقول : بطنت الرّجل. إذا أصبت بطنه. ويقال : معنى شغفها أي سلب شغاف قلبها ، على طريق المبالغة في وصف حبها له ، كما تقول : سلبت الرّجل ، إذا أخذت سلبه.

وقوله سبحانه : (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) (٤٤) وهذه أبلغ استعارة وأحسن عبارة ، لأن أحد الأضغاث : ضغث. وهو الخليط من الحشيش المضموم بعضه إلى بعض ، كالحزمة وما يجري مجراها ، فشبّه سبحانه اختلاط الأحلام ، ما مرّ به الإنسان من المحبوب والمكروه ، والمساءة والسرور باختلاط الحشيش المجموع من أخياف (٢) عدة ، وأصناف كثيرة.

وقوله سبحانه (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) (٤٨). وهذه استعارة. والمراد بالسّبع الشداد : السّنون المجدبة. ومعنى (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ) أي ينفد فيهن ، ما ادّخرتموه لهن من السنين المخصبة.

__________________

(١). وقرأ الحسن وعائشة «بدم كدب» بالوصف لا بالإضافة ، وبالدال المهملة أي بدم طري. يقال للدم الطري : الكدب.

(٢). الأخياف : جمع خيف ، وهو كلّ هبوط وارتقاء في سفح الجبل ، أو ما ارتفع عن مسيل الماء.

١٧٩

وجرى على ذلك عادة العرب في قولهم : أكلت آل فلان السّنة. يريدون مسّهم الضّر ، في عام الجدب ، وزمان الأزل (١). حتى كأنهم ليسمون السنة المجدبة : الضّبع. فيقولون : أكلتهم الضّبع. أي نهكتهم سنة الجدب.

وقال بعضهم : إنما نسب تعالى الأكل إليهنّ ، لأن الناس يأكلون فيهن ما ادّخروه ، ويستنفدون ما أعدّوه. كما يقال : يوم آمن. وليل خائف. أي يأمن الناس في هذا ، ويخافون في هذا.

وقوله سبحانه : (لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢) (٢).

[وهذه استعارة. لأنه تعالى أقام كيد الخائنين] مقام الخابط في الطريق ، ليصل إلى مضرّة المكيدة وهو غافل عنه ؛ فأعلمنا سبحانه أنه لا يهديه ، بمعنى لا يوفّقه لإصابة الغرض ، ولا يسدّده لبلوغ المقصد ، بل يدعه يخبط في ضلاله ، ويتسكّع في متاهه ، لأنه كالسّاري في غير طاعة الله ، فلا يستحق أن يهدى لرشد ، ولا يتسدّد لقصد.

وقوله سبحانه : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [الآية ٥٣]. وهذه استعارة. لأن النفس لا يصحّ أن تأمر على الحقيقة.

ولكن الإنسان لما كان يتبع دواعيها إلى الشهوات ، وينقاد بأزمّتها إلى المقبّحات ، كانت بمنزلة الآمر المطاع ، وكان الإنسان بمنزلة السامع المطيع. وإنما قال سبحانه : (لَأَمَّارَةٌ). ولم يقل لآمرة ، مبالغة في صفتها بكثرة الدفع في المهاوي ، والقود إلى المغاوي. لأنّ «فعّالا» (٣) من أمثلة الكثير ، كما أن «فاعلا» من أمثلة القليل.

وقوله سبحانه : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الآية ٧٦]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك على الحقيقة بناء يوطّد ، ولا درجات تشيّد. وإنما المراد به تعلية معالم الذكر في الدنيا ، ورفع منازل الثواب في الآخرة.

وقوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي

__________________

(١). الأزل : الضيق ، والشدّة ، والداهية.

(٢). أصل الآية كاملة : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢).

(٣). فعّال : أي الصيغة التي على وزن فعّال. وهذه تدل على الكثرة والمبالغة ، فالرجل القتّال ، هو الكثير القتل.

١٨٠