الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٤

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٤

ثمانين فرسخا. أخرج ذلك ابن أبي حاتم (١).

١٩ ـ (الْبَشِيرُ) [الآية ٩٦].

قال مجاهد : هو ابنه يهوذا. أخرجه ابن جرير.

٢٠ ـ (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) [الآية ٩٨].

قال ابن مسعود : أخّرهم إلى السّحر. أخرجه ابن أبي حاتم.

وفي حديث مرفوع : إلى ليلة الجمعة. أخرجه التّرمذي من حديث ابن عباس.

٢١ ـ (آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) [الآية ٩٩].

هما أبوه ، وأمه : راحيل. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة. وأخرج عن السّدّي قال : خالته ، واسمها : ليّا.

٢٢ ـ (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) [الآية ١٠٠].

قال سلمان : كان بين رؤياه وتأويلها أربعون عاما.

وقال قتادة : خمسة وثلاثون عاما. أخرجه ابن أبي حاتم.

وأخرج عن الحسن : أن يوسف ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة ، وعاش في العبودية والملك ثمانين سنة ؛ ثم جمع الله له شمله بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة.

٢٣ ـ (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [الآية ١٠٠].

قال عليّ بن أبي طلحة : من فلسطين. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). المصدر نفسه ١٣ / ٤١.

قلت : وقد روى الحديث أيضا الحاكم في «المستدرك» ١ / ٣١٦ في كتاب الصلاة ، وتعقّبه الذهبي فقال : «هذا حديث منكر شاذ ، أخاف أن يكون موضوعا». وقال الذهبي أيضا في «سير أعلام النبلاء» ٩ / ٢١٨ في ترجمة الوليد بن مسلم ، بعد أن أورد الحديث : «قلت : هذا عندي موضوع ، والسلام».

١٤١
١٤٢

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «يوسف» (١)

١ ـ قال تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) [الآية ٣].

قال الزمخشري :

القصص على وجهين : يكون مصدرا بمعنى الاقتصاص ، وتقول : قصّ الحديث يقصّه قصصا ، كقولك شلّه يشلّه شللا ، إذا طرده ، ويكون «فعلا» بمعنى «مفعول» ، كالنّفض والحسب. ونحوه النّبأ والخبر : في معنى المنبأ به والمخبر به.

ويجوز أن يكون من تسمية المفعول بالمصدر ، كالخلق والصّيد.

وإن أريد المصدر فمعناه : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) ، أي : بإيحائنا إليك هذه السورة ، والمقصوص محذوف لأنّ قوله تعالى : (بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) مغن عنه.

ويجوز أن ينتصب «هذا القرآن» ب «نقصّ» ، كأنه قيل : نحن نقصّ عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بايحائنا إليك.

والمراد بأحسن الاقتصاص : أنه اقتصّ على أبدع طريقة وأعجب أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتصّ في كتب الأوّلين ، وفي كتب التواريخ ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن؟

وإن أريد بالقصص المقصوص ، فمعناه : نحن نقصّ عليك أحسن ما يقصّ من الأحاديث.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٤٣

واشتقاق «القصص» من قولهم : قصّ أثره إذا أتبعه ، لأن الذي يقصّ الحديث يتبع ما حفظ منه ، شيئا فشيئا.

والقصّة الخبر ، وهو القصص ، وقصّ عليّ خبره ، والخبر هو المقصوص.

والقصّة : الأمر والحديث ، واقتصصت الحديث : رويته على وجهه.

والقصّ : البيان ، والقصص الاسم.

والقاصّ : الذي يأتي بالقصّة على وجهها ، كأنّه يتتبّع معانيها وألفاظها.

والقصص : جمع القصّة ، (بالكسر) التي تكتب.

أقول : ولما كانت القصة الخبر ، أو الأمر يقصه صاحبه أو يكتبه ، توصّل المعربون في العصر العباسيّ إلى أن تكون القصّة لديهم ما يكتبه صاحب الحاجة ، على رقعة يقدّمها إلى الخليفة ، أو الأمير ، أو صاحب المظالم وغيرهم من أولي الأمر ، يطلب فيها حقا له اغتصب مثلا ، أو ظلامة أخرى لحقته. وهذه الرقعة دعيت قصّة ، فكان صاحب الأمر ينظر في جلسة خاصة ، أو يوم مخصوص في القصص بين يديه ، ويوقّع فيها الجواب.

ويحسن بنا أن نقول : إن المعاصرين قد اصطلحوا على القصّة الجديدة ، فاتّخذوها مقابلا لRoman عند الإفرنج ، وهي نمط أدبيّ شاع في عصرنا الحاضر ، منذ أواخر القرن الماضي ، تقليدا ومحاكاة لما عند الغربيين من هذا الفن.

وقد يقال : إنه كان للعرب حكايات ومقامات ، فهل هي أصل هذا الفن الجديد؟ أو أن المعاصرين اتخذوها بداية يستوحون منها؟

الجواب : ليس شيئا من هذا اعتمده أهل هذا العصر ، الذين يكتبون «القصة المعاصرة».

وقد نشأت لديهم القصة القصيرة ، وربما أقصر منها ، أي : القصرى ، والقصة الطويلة ، أي : الرواية.

٢ ـ وقال تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤).

وقوله تعالى : (يا أَبَتِ) قرئ بالحركات الثلاث.

ولنبسّط القول في هذه المسألة

١٤٤

اللغوية التاريخية ، فنسرد أقوال المفسّرين ، واللغويين الأقدمين ، كما جاء بها الزّمخشري في الكشاف» ، ثم نعقّب القول فيها ، وما يبدو لنا من هذه المواد التاريخية.

قال الزمخشري (١) : التاء في «يا أبت» ، تاء تأنيث وقعت عوضا من ياء الإضافة ، والدليل على أنها تاء تأنيث قلبها هاء في الوقف.

فإن قلت : كيف جاز إلحاق تاء التأنيث بالمذكّر؟ قلت : كما جاز نحو قولك : حمامة ذكر ، وشاة ذكر ، ورجل ربعة ، وغلام يفعة. فإن قلت : فلم ساغ تعويض تاء التأنيث من ياء الإضافة؟

قلت : لأن تاء التأنيث والإضافة يتناسبان ، في أنّ كلّ واحد منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره.

فإن قلت : فما بال الكسرة لم تسقط بالفتحة التي اقتضتها التاء ، وتبقى التاء ساكنة؟

قلت : امتنع ذلك فيها ، لأنّها اسم ، والأسماء حقّها التحريك لأصالتها في الإعراب ، وإنّما جاز تسكين الياء ، وأصلها أن تحرّك تخفيفا ، لأنها حرف لين. وأما التاء ، فحرف صحيح نحو كاف الضمير ، فلزم تحريكها.

فإن قلت : يشبه الجمع بين التاء وبين هذه الكسرة ، الجمع بين العوض والمعوّض منه ، لأنها في حكم الياء ، إذا قلت : يا غلام ، فكما لا يجوز «يا أبتي» لا يجوز «يا أبت».

قلت : الياء والكسرة قبلهما شيئان ، والتاء عوض من أحد الشيئين وهو الياء ، والكسرة غير متعرّض لها ، فلا يجمع بين العوض والمعوض منه ، إلّا إذا جمع بين التاء والياء لا غير. ألا ترى إلى قولهم : «يا أبتا» مع كون الألف فيه بدلا من التاء ، كيف جاز الجمع بينها وبين التاء ، ولم يعدّ ذلك جمعا بين العوض والمعوّض منه ، فالكسرة أبعد من ذلك.

فإن قلت : فقد دلّت الكسرة في يا «غلام» على الإضافة ، لأنّها قرينة الياء ولصيقتها.

فإن دلّت على مثل ذلك في : «يا أبت» ، فالتاء المعوّضة لغو ، وجودها كعدمها. قلت : بل حالها مع التاء

__________________

(١). «الكشاف» : ٢ / ٤٤٢ ـ ٤٤٣.

١٤٥

كحالها مع الياء ، إذا قلت : يا أبي. فإن قلت : فما وجه من قرأ بفتح التاء وضمّها؟ قلت : أمّا من فتح فقد حذف الألف من «يا أبتا» ، واستبقى الفتحة قبلها ، كما فعل من حذف الياء في «يا غلام» ، ويجوز أن يقال : حرّكها بحركة الياء المعوّض منها في قولك : «يا أبي».

وأمّا من ضمّ ، فقد رأى اسما في آخره تاء تأنيث ، فأجراه مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء ، فقال : «يا أبت» كما تقول : «يا تبّة» ، من غير اعتبار لكونها عوضا من ياء الإضافة.

أقول : هذا النمط من المعالجة يكثر عند اللغويين ، حينما يعرضون لمسائل صرفية ، فيرتكبون من الشطط ما يرتكبون ، ويتعسّفون تعسفا في سبيل الوصول إلى ما يريدون.

قالوا : إنّ «التاء» في «يا أبت» عوض من ياء الإضافة في قولهم : «يا أبي».

أقول : ولم كانت التاء وهي صوت ساكن CONSONNE في علم الأصوات ، عوضا من صوت مصوّت هو الياء الليّنة الممدودة ؛ وطبيعة هذه ، تختلف كل الاختلاف عن طبيعة تلك؟

وإذا كانت هذه التاء ، كما زعموا ، عوضا من ياء الإضافة ، فهلّا قالوا في التاء في «ربّت» ، و «ثمّت» أنها عوض من صوت آخر هو الياء أو غيره؟ لم يقولوا شيئا من ذلك ، وإنما أشاروا إلى زيادتها في تلك المواد.

وقالوا في التاء من «لات» في قوله تعالى : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣) [ص].

إنها تاء التأنيث ، وقيل ، للمبالغة ، وقيل لهما جميعا (١).

أقول : إذا كانت التاء للتأنيث فكيف تلزم الكسر؟ وما رأينا تاء للتأنيث تلزم الكسر. وتاء التأنيث يوقف عليها بالهاء ، وقالوا إنّ «أبت» يوقف عليها فتكون التاء هاء ، فهل وقف على هذه التاء فصارت هاء؟ لم يؤثر شيء من ذلك.

وماذا نقول في جواز فتحها وضمّها؟ ولم يؤثر عن بعضهم أنه قرأ بالفتح او

__________________

(١). كيف تكون التاء في «لات» للتأنيث وللمبالغة؟ هذا منطق غريب. وقد أدرك ضعف هذا القول اللغويون ، فنظروا إلى المسألة نظرا آخر ، فقالوا : تزاد التاء في أول كلمة «حين» فتصبح «تحين» وكأن التاء أداة تعريف ، وعلى هذا تكون «لات حين» هي «لا تحين». ومثل حين «الآن» فقالوا : تلان.

١٤٦

الضم. وإذا كسرت أو ضمّت فهل تكون للتأنيث؟ ولم نعرف لهذا الضرب من تاء التأنيث نظائر.

وإذا كان الأب مذكرا فما فائدة تاء التأنيث؟ وإذا قالوا لنا إن «أبت» مع التاء نظير : حمامة ذكر ، ورجل ربعة ، فالردّ عليهم أن التاء في «حمامة» هي للتأنيث ، ولكنها وصفت بذكر لإبعاد التأنيث الحقيقي. أما التاء في «ربعة» ، فهي ليست تاء تأنيث وإن كان اللفظ مؤنثا ، وهو كالتأنيث في «حمزة» ، و «عرفة» من أعلام الذكور ، وعلى هذا فقولهم : إن «أبت» والتاء فيها مثل حمامة ذكر ، ورجل ربعة ، قول متهافت.

وأما قولهم : إن «يا أبت» هي مثل «يا أبي» ، ولكن الياء امتنعت ، لأنّ التاء عوض منها ، ولا يجتمع عوض ومعوّض منه.

قلت : إن التاء ليست عوضا ، وأشرت إلى اختلاف الصوتين طبيعة ومخرجا وحيّزا ، ولكني أقول الآن : إن الياء كأنها موجودة ، اجتزئ منها بالكسرة ، فلم تحذف. ومثل هذا قولنا : يا قوم ويا ربّ ، فحذفنا الياء ، أي : المدّ الطويل ، واجتزأنا منه بالحركة القصيرة ، التي هي شيء من الياء الليّنة ، وهذا يعني أن «يا قوم» هي «يا قومي» ؛ وقصر المدّ يؤدّي غرضا صوتيا ، هو تخفيف الطول.

إذن فكيف نقول الآن في «يا أبت» ، بعد أن بينّا ضعف الأقوال الصرفية ، المتكلّفة التي يرفضها العلم اللغوي من نواح عدة.

أقول : إن «التاء» في «يا أبت» زيادة ، وهذه الزيادة قد كانت من إحساس العربي القديم ، أن الأسماء الثنائية أسماء ناقصة ، فلا بد من أن تكون ثلاثية ، ألا ترى أنهم في الجمع والنسب والتصغير جعلوا : «شفة» ، و «سنة» ، و «أب» ، و «أم» ، كلمات ثلاثية ، فجاءوا بالواو تارة ، وبالهاء تارة أخرى ، فقالوا : سنوات ، وسنهات ، وسنويّ ، وسنيّة ، وشفويّ ، وشفهيّ ، وشفاه ، وشفهية ، وآباء ، وأمّهات ، وأبويّ ، وأمويّ.

وإذا زيدت التاء في «أب» على هذا النحو في اللغة القديمة ، فقد زيدت في «ربّ» ، و «ثمّ» ، و «ثمّ» ، على أنها صارت ثلاثية بالتضعيف. وإلى هنا ، آمل أن تكون المسألة قد اكتسبت الإيضاح الكافي.

١٤٧

٣ ـ وقال تعالى : (إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [الآية ٤].

القول في «رأيت» ، أي : رأى في نومه حلما.

الفعل رأى في العربية ، يكون رؤية ورأيا بالعين ، ويكون رأيا بالعقل ، بمعنى علم واعتقد ، كقولهم : فلان يرى العقل خير سلاح ، ويكون رأى رؤيا في النوم ، كما في الآية. ويفرّق بينها في المصدر. كما بيّنا.

٤ ـ وقال تعالى : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) [الآية ٦].

ما التأويل؟

التأويل في الآية هو «تأويل الأحاديث» ، والأحاديث الرؤيا ، وتأويلها عبارتها وتفسيرها ، وكان يوسف (ع) أعبر للرؤيا وأصحّهم عبارة لها ؛ ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث ؛ معاني كتب الله وسنن الأنبياء.

وفي التنزيل : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) [الآية ١٠٠] ، أي : عبارتها.

وقال أهل اللغة : التأويل تفسير ما يؤول إليه الشيء ، وقد أوّلته تأويلا وتأوّلته بمعنى.

وأمّا قول الله ـ عزوجل ـ : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) [الأعراف / ٥٣].

فقال أبو إسحاق : معناه ، هل ينظرون إلّا ما يؤول إليه أمرهم من البعث.

وهذا التأويل هو قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران / ٧] ، أي : لا يعلم متى يكون أمر البعث.

أقول : هذا هو التأويل في القرآن ، فأين نحن منه الآن؟

التأويل في لغة عصرنا يعني التفسير والشرح بشيء خاص ، وهذا الشيء الخاص قد يجعل للمسألة تفسيرين أو أكثر ، وإن منها ما فيه افتئات على الحقيقة.

وكأن التأويل أحيانا في استعمال المعاصرين ، ضرب من التحريف والتزوير المقبول على علّاته ، ولم يفطن المعاصرون إلى أن «التأويل» ، هو الرجوع إلى «الأوّل».

٥ ـ وقال تعالى : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) [الآية ٩].

١٤٨

قوله تعالى : (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) أي : يقبل عليكم إقبالة واحدة ، لا يلتفت عنكم إلى غيركم. والمراد سلامة محبّته لهم ، ممّن يشاركهم فيها وينازعهم إيّاها.

أقول : وهذا من مجازات القرآن البديعة ، واستعمال الوجه وخلوّه ، لمعنى الإقبال من كون الرجل يقبل بوجهه ، وهو كقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن / ٢٧].

٦ ـ وقال تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠).

المعنى : بعض السيارة ، أي : بعض الأقوام الذين يسيرون في الطريق. بالتاء على المعنى ، لأن بعض السيّارة سيارة.

وقرئ : «تلتقطه» بالتاء على المعنى ، لأن بعض السيارة سيارة.

أقول : وعلى هذا تكون «بعض» دالة على الجمع ، وليس الواحد ، كما ذهب غير واحد من أهل عصرنا.

ثم إن «السيارة» اسم جمع ، وبناء «فعّالة» من أبنية الجمع القديم ، كالبغّالة ، والجمّالة ، والحمّارة لأصحاب البغال والجمال والحمير ، ومنه الرجّالة ، والجلّابة ، والميّارة.

أقول : وهذا بناء من أبنية الجمع القديم ، ولا سيما لأصحاب الحرف كالطّحّانة ، والدّهّانة ، والصّبّاغة ، وغيرهم ، للعاملين في حرف الطحن للحبوب ، والعاملين في بيع الدهان ، والعاملين في الصباغة.

وما زال هذا الجمع واسع الاستعمال في العربية السائرة ، كالسّمّاكة لباعة السّمك ، والسفّانة للعاملين في السفن ، والحصّانة لأصحاب الخيل ، وغير ذلك كثير.

٧ ـ وقال تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) [الآية ١٧].

والمعنى : وما أنت بمصدّق لنا.

أقول : وهذا غير بعيد من «المؤمن» ، وهو واحد المؤمنين ، كالمؤمن بالله فهو مصدّق لله ، مقرّ بحقيقته ، وعدله ، ووحدانيته ، وسائر صفاته ، جلّ شأنه.

٨ ـ وقال تعالى : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [الآية ١٨].

والمعنى : بدم ذي كذب. أو وصف بالمصدر مبالغة ، كأنه نفس الكذب

١٤٩

وعينه ، كما قالوا للكذّاب : هو الكذب بعينه والزّور بذاته (١).

أقول : وقولهم : شاهد عدل ، هو من هذا الباب ، أي شاهد ذو عدل ، أو من باب الوصف بالمصدر مبالغة ، كما قلنا في الآية.

٩ ـ وقال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [الآية ٢٢].

أي : آتيناه حكمة وعلما.

ودلالة الحكم على الحكمة ، ممّا أثبتته لغة التنزيل ، وذلك لأن «الحكم» في غير لغة القرآن قد يفيد الحكمة ، ولكنّه نادر كل النّدرة ؛ والغالب فيه مصدر الفعل «حكم» ، وهذا الفعل مشهور معروف في دلالته الكثيرة.

١٠ ـ وقال تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [الآية ٢٣].

المراودة : مفاعلة من «راد يرود» ، إذا جاء وذهب ، كأنّ المعنى : خادعته عن نفسه ، أي فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء ، الذي لا يريد أن يخرجه من يده ، يحتال أن يغلبه عليه ، ويأخذه منه ، وهي عبارة عن التحمّل ، لمواقعته إيّاها.

أقول : وغلبت «المراودة» على محاولة خداع المرأة ، لأجل النيل من شرفها وعفّتها ، وذلك لأن المعربين لم يعرفوا استعمالات راود الأخرى ، التي تبتعد عن هذه المحاولة الدنيئة ، وهذا الضيق في المعنى من سمات لغة العصر.

ومن هذه الدلالات لهذا الفعل ، قوله تعالى : (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) (٦١).

والمراودة هنا هي المخادعة أيضا ، ولكنها لا تتصل بالاعتداء على العفة والشرف ، كما رأينا في الآية : ٢٣.

والمراودة هنا في هذه الآية الأخيرة ، هي ضرب من الاجتهاد والاحتيال ، لانتزاع إخوة يوسف لأخيهم ، الذي سأل عنه يوسف ، وهو أخو يوسف وشقيقه «بنيامين».

وقوله تعالى : (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) قيل : كانت سبعة ، ومن أجل كثرة الأبواب استعمل الفعل المضاعف ، فالتضعيف يفيد الكثرة.

__________________

(١). «الكشاف» : ٢ / ٤٥١.

١٥٠

و «هيت» قرئ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء ، وبناؤه كبناء أين وعيط.

و «هيت» كجير. وهيت كحيث. وهئت بمعنى تهيّأت ، ويقال : هاء يهيء ، مثل جاء يجيء : إذا تهيّأ. وهيّئت لك.

وأما في الأصوات فللبيان ، كأنه قيل : لك أقول هنا ، كما تقول : هلمّ لك.

أقول : لعلّي أميل إلى تفسير من يقول هئت بمعنى تهيّأت ، فهذا تفسير يؤيد ما نعرف من معاني الفعل «هيا» ، فهو يفيد «الكون» و «الوجود» كما في مادة «هيئة» في العربية ، وهي بهذا المعنى في اللغة العبرانية ، ومعنى «هئت» ، أي : كنت ووجدت أي : «ها أنا ذا».

١١ ـ وقال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [الآية ٢٤].

همّ بالأمر إذا قصده وعزم عليه ، قال :

هممت ولم أفعل وكدت وليتني

تركت على عثمان تبكي حلائله

ومنه قولك : لا أفعل ذلك ولا كيدا ولا همّا ، أي ولا أكاد أن أفعله كيدا ، ولا أهمّ بفعله همّا.

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) ، أي : همّت بمخالطته ، (وَهَمَّ بِها) أي وهمّ بدفعها عنه.

أقول : إن فعل الهمّ بالنسبة إلى امرأة العزيز في هذه الآية يعني القصد والعزيمة على فعل الشّرّ ، ولعل انصراف «الهم» إلى القصد إلى الشر في هذه الآية ، قد حمل الضيم على «الهمّ» في معناه العام ، وهو القصد دون أن يعيّن مسراه ، أشرّ أريد به أم خير. وهذا الانصراف لم يكن إلا لدى غير العارفين بمعاني العربية.

وفي اللغة المعاصرة ، الكثير من هذا النوع الذي تنصرف فيه المادة اللغوية إلى شيء خاص لم يكن لها في الحقيقة ، ألا ترى أن قول المعاصرين : إن هذا الشيء ممتاز ، يريدون به الجيد والغاية في الجودة ، وهو في الحقيقة ممتاز بصفة أو بشيء ، قد يكون حسنا وقد يكون غير حسن.

١٢ ـ وقال تعالى : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) [الآية ٢٥].

والمعنى : وتسابقا إلى الباب على

١٥١

حذف الجار وإيصال الفعل ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) [الأعراف / ١٥٥] على تضمين «استبقا» معنى «ابتدرا».

أقول : وليس لنا في العربية المعاصرة الفعل «استبق» ، أي : تسابق ، والثاني هو المتداول المتعالم.

١٣ ـ (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [الآية ٣٠].

قالوا : النّسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللّمّة ، ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث.

أقول : لا أرى أن النسوة اسم مفرد لجمع المرأة ، والذي أراه أنه جمع ؛ وهو على أبنية الجمع نظير نساء سواء بسواء.

وأما مسألة عدم لحوق تاء التأنيث للفعل ، فهذا يتصل بلغة القرآن التي ورثت خصائص العربية. ومن خصائص العربية التاريخية ، أنّ علامة التأنيث فيها لم تأخذ مكانها الثابت ، ومن أجل إثبات هذه الحقيقة التاريخية ، تعالوا معنا لنستقري كلمة «طائفة» في لغة التنزيل لنتبيّن لحوق تاء التأنيث وعدمه ؛ قال تعالى : (وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) [آل عمران / ٦٩].

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا) [آل عمران / ٧٢].

(فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) [النساء / ١٠٢].

(وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا) [النساء / ١٠٢].

(وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) [الأعراف / ٨٧].

(فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) [التوبة / ١٢٢].

(وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا) [الأعراف / ٨٧].

(وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران / ١٥٤].

فأنت تجد أن التاء لحقت الفعل في آيات ، وعرّي الفعل عنها في آيات أخرى ، كما تجد آيات أخرى أسند الفعل فيها إلى ضمير الجمع المذكر ؛ وهو من غير شكّ ، مراعاة للمعنى ، على جهة التغليب للمذكر.

١٥٢

وإذا قرأنا قوله تعالى :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات / ٩].

فالمراعاة في هذه الآية لجمع الذكور في قوله تعالى : (اقْتَتَلُوا) ، ثم جاء قوله تعالى : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فعاد ضمير الاثنين مراعاة للفظ المثنى ، وهو «طائفتان».

أقول : هذا كله من خصائص هذه اللغة الشريفة ، التي سجّلت الكثير من خصائص هذه اللغة التاريخية.

١٤ ـ وقال تعالى : (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) [الآية ٣٠].

قوله تعالى : (شَغَفَها) ، أي خرق حبّه شغاف قلبها ، حتى وصل إلى الفؤاد ، والشّغاف حجاب القلب ، قال قيس بن الخطيم :

إنّي لأهواك غير ذي كذب

قد شفّ منّي الأحشاء والشّغف

وقال النابغة :

وقد حال همّ دون ذلك والج

مكان الشّغاف تبتغيه الأصابع

وقرئ : شغفها بمعنى تيّمها ، وشغفه الهوى إذا بلغ منه ، وفلان مشغوف بفلانة ، وقراءة الحسن : شعفها ، بالعين المهملة ، هو من قولهم : شعفت بها ، كأنه ذهب بها كلّ مذهب.

وشعفه الحبّ : أحرق قلبه ، وقيل : أمرضه.

وقال الليث : وشعفة القلب : رأسه عند معلّق النّياط.

أقول : إذا كان الفعل بالغين المعجمة ، فأصله من «شغاف القلب» أي : حجابه ، وإذا كان بالعين المهملة ، فأصله من «شعفة القلب» أي رأسه ، وفي كلا الوجهين ، برعت العربية في توليد الأفعال ، ذات الدلالات المعنوية العقلية ، من الأصول الحسّية.

١٥ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) (٣٥).

قوله تعالى : (بَدا لَهُمْ) فاعله مضمر ، لدلالة ما يفسّره عليه ، وهو : (لَيَسْجُنُنَّهُ) ، والمعنى :

بدا لهم بداء ، أي : ظهر لهم رأي فقالوا ليسجننّه ، والضمير في «لهم» للعزيز وأهله.

ومن هذا قولهم : وبدا لي بداء ، أي : تغيّر رأيي على ما كان عليه.

١٥٣

أقول : وليس من هذا قول المعاصرين : وبدا لي أن أفعل كذا وكذا ، ويبدو لي أنّ الأمر كذا وكذا ، فالفاعل فيها ظاهر ، وهو المصدر من أن والفعل ، وأن واسمها وخبرها.

١٦ ـ وقال تعالى : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) [الآية ٣٨].

قوله تعالى : (ما كانَ لَنا) أي : ما صحّ لنا معشر الأنبياء ، أن نشرك بالله.

أقول : وهذا من معاني «كان» ، وقد مرّ بنا نظيره في آيات أخرى.

١٧ ـ وقال تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [الآية ٤٠].

قوله تعالى : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي : ما أنزل الله بتسميتها من حجّة.

أقول : أساء المعاصرون استعمال هذه الآية ، واقتباسها في مواطن يمتنع اقتباسها امتناعا مطلقا ، فيقولون مثلا : هذه أخبار ما أنزل الله بها من سلطان ، أي : محض كذب وباطل.

والكذب والباطل لا يمكن بأي حال أن ينزل بها حجة من الله ، وليس هذا كحال الأمم السالفة ، التي أشار إليها الله في آياته ، فقد كانوا يعبدون أصناما وأوثانا ، ما أنزل الله بها حجّة ، توجب عبادتها ، فليس هذا مثل ذاك.

١٨ ـ وقال تعالى : (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) [الآية ٤٣].

القول في هذه الآية على «البقرات والسنبلات واليابسات» فكلّها جمع مؤنث بالألف والتاء ، وهذا الجمع من الجموع التي تنصرف إلى القلة في الغالب. أقول في الغالب ، لأنه قد يأتي من الأسماء المؤنّثة وغيرها ، ما لا يجمع إلّا بالألف والتاء ، فلا يمكن في هذه الحالة أن ينصرف إلى القلة إلّا بقرينة كالعدد وغيره ، فإذا قلنا مثلا : حمامات ، فهي جمع كثرة إلّا إذا قلنا : سبع حمامات. أمّا الجموع في الآية ، فهي للقلة من غير أن تكون مقيّدة بالعدد «سبع» ، ألا ترى الى قوله تعالى : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [البقرة / ٧٠].

(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) [الأنعام / ١٤٦].

ولو أريد الكثرة أيضا لقيل «سنابل» ،

١٥٤

إلّا أن تقيد «السنابل» بعدد كما جاء في الآية :

(كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة / ٢٦١].

١٩ ـ وقال تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (٤٣).

و : «تعبرون» للرؤيا.

قالوا : عبر الرؤيا يعبرها عبرا وعبارة ، وعبرها : فسّرها ، وأخبر ما يؤول إليه أمرها.

وعدّي الفعل باللام في الآية ، كما في : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) [النمل / ٧٢]. أي : ردفكم.

وقال الزجّاج : هذه اللام أدخلت على المفعول للتبيين ، والمعنى إن كنتم تعبرون وعابرين ، وتسمّى هذه اللام لام التعقيب ، لأنّها عقّبت بالإضافة.

وقال الجوهري : أصل الفعل باللام ، كما يقال : إن كنت للمال جامعا.

أقول : وجيء بهذه اللام ، لأن المفعول قد تقدّم الفعل ، وهذا يحسن في كل جملة ، حصل فيها هذا التقديم ، ألا ترى أنك تقول : إنّي للخبز آكل ، وعلى هذا يكون ما قاله الجوهري سديدا ؛ ولعل اللام قد جيء بها ، لأن المفعول معرّف بالألف واللام ، وهذه اللام تقوّي المفعولية.

٢٠ ـ وقال تعالى : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [الآية ٤٥].

قرئ : (وَادَّكَرَ) بالدال.

قال الزمخشري ، وهو الفصيح (١).

وكان ينبغي أن يكون جواب الزمخشري : أن «ادّكر» بالدال هي القراءة المشهورة ، والقراءة سنّة متّبعة ، فقد تخرج عن المشهور الشائع من الأبنية والأقيسة.

وقال الزمخشري : إن أصل «اذّكر» هو «تذكّر» ، والصحيح أن الأصل هو «اذتكر» أي : أن الفعل «ذكر» قد بني على «افتعل» ، فيكون «اذتكر» ، فيبدل من التاء دالا ، فيكون «اذدكر» ، كما تقول في «زحم» ازدحم. وقد يحصل الإدغام ، أي : إدغام الذال في الدال ، فيكون «اذّكر» ، كما تقول «ادّعى» ، والأصل «ادتعى». فأما أن يدغم «الدال» الذي أصله التاء في الذال ،

__________________

(١). «الكشاف» ٢ / ٤٧٥.

١٥٥

ويكون «ادّكر» فهو شيء لا نعرفه إلّا في «ادّخر» ، والأصل «ذخر».

وقوله تعالى : (بَعْدَ أُمَّةٍ) ، أي : بعد مدّة طويلة ، وكما تكون الأمّة قوما وتكون زمنا ، ومثله القرن والجيل ، وغير ذلك.

٢١ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) (٤٩).

قوله تعالى : (يُغاثُ النَّاسُ) من الغوث أو من الغيث ، يقال غيثت البلاد إذا مطرت. هذا هو قول الزمخشري.

ولنبسط القول في هذه الكلمة المفيدة.

يقال : غاث الغيث الأرض : أصابها ، ويقال : غاثهم الله ، وأصابهم غيث ، وغاث الله البلاد يغيثها غيثا إذا أنزل بها الغيث.

ومنه الحديث : فادع الله يغيثنا (بفتح الياء).

وغيثت الأرض ، تغاث غيثا ، فهي مغيثة ومغيوثة : أصابها الغيث. وغيث القوم : أصابهم الغيث.

قال الأصمعي : أخبرني أبو عمرو بن العلاء ، قال : سمعت ذا الرّمة يقول : قاتل الله أمة بني فلان ، ما أفصحها! قلت لها : كيف كان المطر عندكم؟ فقالت : غثنا ما شئنا.

أقول : هذا هو معنى الغيث ، وهو المطر يراد به الرحمة والخير والحياة ، ومن هنا صارت العربية إلى الغوث ومنه الإغاثة ، والغوث بمعنى النجدة والمعونة والمساعدة. وكأنّ التحوّل من الياء إلى الواو ، وسيلة ، لاستحداث معنى جديد ، بينه وبين الأصل القديم وشيجة رحم. ألا ترى أن من هذا بين وبون ، وعين وعون ، وغير هذا.

أمّا قوله تعالى : (يَعْصِرُونَ) ، فقد ذكر الزمخشري ، أنهم يعصرون العنب والزيتون والسّمسم.

أقول : ومن قرأ «يعصرون» بالبناء إلى المفعول كانت قراءته وجيهة ، وهو من عصره إذا أنجاه ، وهو مطابق للإغاثة. ويجوز أن يكون المبني للفاعل بمعنى ينجون ، كأنّه قيل : يغاث الناس وفيه يغيثون أنفسهم ، أي : يغيثهم الله ، ويغيث بعضهم بعضا.

وقيل : «يعصرون» يمطرون ، من

١٥٦

أعصرت السّحابة. وفيه وجهان : إمّا أن يضمّن أعصرت معنى مطرت ، فيعدّى تعديته ، وإما أن يقال : الأصل أعصرت عليهم ، فحذف الجارّ ، وأوصل الفعل.

أقول : وبين قوله تعالى : (يُغاثُ) ، وقوله : (يَعْصِرُونَ) على الوجهين حسن مناسبة فيها إصابة للمعنى.

٢٢ ـ وقال تعالى : (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ) [الآية ٥١].

وقوله تعالى : (حَصْحَصَ الْحَقُ) أي : ثبت واستقرّ.

٢٣ ـ وقال تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [الآية ٥٣].

قالوا في قوله تعالى : (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) ، إلّا البعض الذي رحمه ربّي بالعصمة ، كالملائكة.

ويجوز أن يكون «ما رحم» في معنى الزمن ، أي : إلّا وقت رحمة ربي ، يعني أن النفس أمّارة بالسوء في كل وقت وأوان.

أقول : وهذا الوجه الأخير حسن ، وهو أن يثبت أنه قد يلمح إلى وجه من وجوه استعمال «ما» ، هذا الوجه المبهم الذي يفيد الزمن.

٢٤ ـ وقال تعالى : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) (٥٤).

وقوله تعالى : (مَكِينٌ) أي : ذو مكانة.

وهذه من باب الاشتقاق من الاسم ، فكلمة «مكان» هي الأصل الذي جاء منه هذا الوصف ، وجاء منه جميع ما يتصل بهذه الكلمة من فعل واسم مثل : مكن ، ويمكن ، وأمكن ، وإمكان ، ومكنة ، ومكّن ، وتمكين وغير ذلك.

أقول : إن «المكان» أصل في جميع ما يتصل بهذه المادة ، لمنزلة «المكان» في العربية فكرا ، وواقعا ، وسلوكا.

ومن المفيد أن نشير إلى أن «المكان» جاء من «الكون» ، بمعنى الوجود والهيئة ، ولمنزلته التي أخذها في تفكير العرب ، صار أصلا لحاجات كثيرة.

٢٥ ـ وقال تعالى : (وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) [الآية ٥٩].

أقول : أراد الجهاز عدّة السفر من الزاد ، وما يحتاج إليه المسافرون من الميرة. والجهاز بهذا المعنى غير معروف في العربية الفصيحة المعاصرة ، ولكن شيئا منه معروف في عامية

١٥٧

[بعض البلاد العربية] ، فهم يقولون : جهاز العروس لما تزوّد به من أمتعة ، وأثاث ، ورياش ، وملبس وغير ذلك ، وكأن الكلمة أوشك أن يمحي ظلّها. ولكننا في عصرنا نقول : الجهاز الإداري ، والجهاز الفني في الحكومة وغير ذلك ، وهذا كله من العربية الجديدة. على أن «الجهاز» بكسر الجيم من أسماء الأدوات والآلات في العصر الحديث ، فالجديد من المخترعات الميكانيكية يسمى كله جهازا ، وجمعه أجهزة.

وهذا مولّد جديد بني على «فعال» جريا على كثير من آلاتهم وأدواتهم.

٢٦ ـ وقال تعالى : (وَنَمِيرُ أَهْلَنا) [الآية ٦٥].

والميرة الطعام يمتاره الإنسان. وجلب الطعام للبيع.

وقالوا : وهم يمتارون لأنفسهم ، ويميرون غيرهم ميرا.

أقول : وقد ورث العراقيون أصولا عربية في العصر الحديث ، ممّ استعمله الأتراك في الشؤون العسكرية ، فكان في تنظيمات الجيش العراقي مديرية الميرة.

٢٧ ـ وقال تعالى : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) [الآية ٦٦].

أقول : اجتزئ بكسرة النون عن الياء في «تؤتوني» ، وذلك أحفل في السماع في التلاوة المستجادة ، من المدّ الطويل الذي يكون في الياء.

لقد مرت بنا نظائر لهذا الاجتزاء بالكسرة ، وكان آخرها قوله تعالى :

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) (٦٠).

ولكن السبب في هذا الاجتزاء بالكسرة ، في هذه الآية ، أنّها فاصلة ، وآخر كلمة في الآية يحسن الوقف عليها ، فتطوى الكسرة ، ويبقى النون ساكنا.

ومثل هذا كثير في الوقف.

٢٨ ـ وقال تعالى : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦٩).

قوله تعالى : (فَلا تَبْتَئِسْ) معناه فلا تحزن ولا تستكن.

١٥٨

ابتأس الرجل ، إذا بلغه شيء يكرهه.

وليس بعيدا أن يكون الفعل ابتأس بهذه الدلالة ، إذا كان البأس هو الشدة والعذاب والحرب ، والبأساء كالبؤس أيضا.

٢٩ ـ وقال تعالى : (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) [الآية ٧٢].

قالوا : الصّواع هو السّقاية التي وردت في الآية التي قبلها في قوله تعالى : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ). والسّقاية ، هي المشربة التي كان يشرب منها الملك ، ثم جعل صاعا في السنين الشّداد القحاط ، يكال به الطعام.

وقرأ أبو هريرة : نفقد صاع الملك.

وقرأ يحيى بن يعمر : صوغ الملك.

وقرأ سعيد بن جبير : صواغ الملك.

أقول : والقراءة بالعين مرة وبالغين أخرى ، دليل تعاقب الصوتين في طائفة من كلمات العربية ، مسايرة للّغات الخاصة ، وهو ما ندعوه ب «اللهجات» في عصرنا ، وسيأتي من هذا الباب قراءات في آيات أخرى سنشير إليها.

١٥٩
١٦٠