الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

والمراد أنهم دعوا له سبحانه بنين وبنات بغير علم ، وذلك مأخوذ من «الخرق» وهي الأرض الواسعة ، وجمعها خروق ، لأنّ الريح تتخرّق فيها ، أي تتسع. والخرق من الرجال : الكثير العطاء ، فكأنّه يتخرق. «والخرقة» جماعة الجراد مثل الحرقة ، والخريق : الريح الشديدة الهبوب. فكأنّ معنى قوله تعالى : (وَخَرَقُوا لَهُ) أي اتّسعوا في دعوى البنين والبنات له ، وهم كاذبون في ذلك. والاختراق ، والاختراع ، والانتسال بمعنى واحد ، وهو الادعاء للشيء على طريق الكذب والزور.

وفي قوله سبحانه : (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الآية ١١٢] استعارة. لأن الزخرف في لغة العرب : الزينة. ومن ذلك قولهم : دار مزخرفة أي مزيّنة. فكأنه تعالى قال : يزيّنون لهم القول ليغترّوا به ، وينخدعوا بظاهره ، كما يستغرّ بظاهر جميل ، على باطن مدخول.

وفي قوله تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الآية ١١٠] استعارة. لأن تقليب القلوب والأبصار على الحقيقة وإزالتها عن مواضعها ، وإقلاقها عن مناصبها لا يصحّ ، والبنية صحيحة والجملة حيّة متصرّفة. وإنما المراد ، والله أعلم ، أنّا نرميها بالحيرة والمخافة ، جزاء على الكفر والضلالة. فتكون الأفئدة مسترجعة لتعاظم أسباب المخاوف ، وتكون الأبصار منزعجة لتوقّع طلوع المكاره. وقد قيل : إنّ المراد بذلك تقليبها على قراميص (١) الجمر في نار جهنم ، وذلك يخرج الكلام عن حيّز الاستعارة إلى حيز الحقيقة.

وفي قوله تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الآية ١١٣]. وهذه استعارة. والمعنى : ولتميل إليه أفئدة هؤلاء المذكورين. ويقال : صغى فلان إلى فلان. أي مال إليه. وصغوه معه : أي ميله. ومنه أصغى بسمعه إلى الكلام. إذا أماله إلى جهته ، ليقرب من استماعه. وميل القلب إلى المعتقدات ، كميل السمع إلى المسموعات.

وفي قوله تعالى : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ

__________________

(١). القراميص : جمع قرماص ، وهو في الأصل الحفرة الواسعة الجوف الضيقة الرأس ؛ أو هي موضع خبز الملّة.

٨١

عِنْدَ رَبِّهِمْ) [الآية ١٢٧]. استعارة. والمراد : لهم محل الأمنة والسلامة والمنجاة من المخافة. وتلك صفة الجنة. والسلام هاهنا : جمع سلامة (١).

وفي قوله تعالى : (قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الآية ١٣٠] استعارة. لأنهم لمّا اغترّوا بالحياة الدنيا ، حسن أن يقال إنها غرّتهم. ولما كان فيها ما تميل إليه شهواتهم ، جاز أن يقال : إنّها استمالت شهواتهم.

وفي قوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الآية ١٥٣] استعارة. والسّبل التي هي الطرق لا تتفرّق بهم ، وإنما هم الذين يفارقون نهجها ، ويتّبعون عوجها.

وفي قوله سبحانه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الآية ١٦٤] استعارة. والمعنى : ولا تحمل حاملة حمل أخرى. يريد تعالى في يوم القيامة. أي لا يخفف أحد عن أحد ثقلا ، ولا يشاطره حملا. لأنّ كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه ، ومفدوح (٢) بحمله. وليس أن هناك على الحقيقة أحمالا على الظهور ، وإنما هي أثقال الآثام والذنوب.

ونظير ذلك قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا) [البقرة : ٤٨ و ١٢٣] (٣).

__________________

(١). ويصح أن يكون السلام اسما من اسم الله تعالى. فتكون دار السلام دار الله. كما يقال للكعبة بيت الله.

(٢). المفدوح : الذي يحمل حملا فادحا ، فيعيا به.

(٣). وهذه الآية من المتشابه.

٨٢

سورة الأعراف

٧

٨٣
٨٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الأعراف» (١)

سورة الأعراف هي السورة السابعة في الترتيب المصحفي وهي إحدى السور التي بدئت ببعض حروف التهجي (المص) (١) ، ولم يتقدم عليها ، من هذا النوع ، سوى ثلاث سور سبقتها في تاريخ النزول وهي : ن ، ق ، ص.

ويبلغ عدد السور التي بدئت بحروف التهجي تسعا وعشرين سورة ، وكلّها سور مكية ما عدا البقرة وآل عمران. وعدد آيات سورة الأعراف مائتان وست آيات ، عدد كلماتها ٣٣١٥ كلمة.

١ ـ معنى فواتح السور

ليس لهذه الفواتح في اللغة العربية معان مستقلة ، ولم يرد من طريق صحيح عن النبيّ (ص) ، بيان للمراد منها. بيد أنه قد أثرت عن السلف آراء متعددة في معاني هذه الحروف. وهذه الآراء ، على كثرتها ، ترجع إلى رأيين اثنين.

أحدهما : أنها جميعا مما استأثر الله به ولا يعلم معناه أحد سواه ، وهذا رأي كثير من الصحابة والتابعين.

وثانيهما : أن لها معنى. وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى :

١ ـ فمنهم من قال : إنها أسماء للسّور التي بدئت بها ، أو أن كلّا منها علامة على انتهاء سورة والشروع في أخرى.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٨٥

٢ ـ ومنهم من قال : إنها «رموز» لبعض أسماء الله تعالى وصفاته.

٣ ـ ومنهم من قال : إن المقصود منها هو تنبيه السامعين وإيقاظهم ، وسياسة النفوس المعرضة عن القرآن ، واستدراجها للاستماع إليه ، واستمالة العقول بشيء غريب على السمع للانتباه والإصغاء للقرآن.

وأشهر آراء علماء البلاغة والبيان : أن هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان إعجاز القرآن ، وأن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مركّب من هذه الحروف المقطّعة التي يتخاطبون بها ، وفي هذا دلالة على أنه ليس من صنع بشر ، بل تنزيل من حكيم حميد.

ويرى ابن جرير الطبري أن أفضل الآراء في معنى فواتح السور هو اشتمالها على جميع الوجوه التي ذكرها العلماء في معانيها. فهي أسماء للسورة ، وهي رموز ، وهي حروف للتنبيه والتحدي ... إلخ.

وسورة الأعراف هي السورة المكية الثانية في ترتيب المصحف ، وهي تتسم بتلك السمات العامة التي أسلفنا إليها في الحديث عن سورة الأنعام.

ثم تتميز بطابعها الخاص بعد ذلك من ناحية الموضوعات التي تعالجها والسياق الذي تسير فيه.

وموضوع السورة الرئيس هو الإنذار ، إنذار من يتولون غير الله ، ومن يكذبون بآيات الله ، ومن يستكبرون عن طاعة الله ، ومن ينسون الله ، ومن لا يشكرون نعمته ، إنذارهم بهلاك الدنيا وعذاب الاخرة ، وذلك فوق الخزي والهوان والنسيان.

تبدأ السورة بالإنذار ، ثم تسلك بهذا المعنى سبلا شتى وتتصرف فيه تصرفات كثيرة ، وترسم له صورا متعددة ، وتلمس به المشاعر لمسات مختلفة. فتارة يتّخذ السياق شكل القصة : قصة آدم مع إبليس ، ثم قصص نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ، مع أقوامهم لتنتهي كل قصة بالعذاب والنكال لمن يخالفون أمر الله ؛ وتارة يتّخذ شكل مشهد من مشاهد القيامة أو مشاهد الاحتضار تنكشف فيه مصائر المكذّبين ، والمتكبّرين ، ومصائر الطائعين ، لله ربّ العالمين.

ويتخلل القصص والمشاهد ما يتّسق مع الجو العام من توجيه الأنظار والقلوب ، والدعوة إلى التوبة والإنابة ،

٨٦

قبل أن يحلّ العقاب ، ويتحقق الإنذار ، والإشارة إلى عواقب المكذبين من الأمم الخالية التي حقّ عليها النذير.

كل ذلك يرد في تناسق مطلق ، بين السياق والقصة ، أو السياق والمشهد ، أو السياق والتوجيهات ، فتبدو القصص والمشاهد والتوجيهات كلها أجزاء من هذا السياق العام ملوّنة بلونه ، مظلّلة بجوّه ، محقّقة للغرض الذي يتجه إليه موضوع السورة الرئيس من البدء حتى الختام.

٢ ـ مقاصد السورة ومزاياها

مهّدت سورة الأعراف لمقاصدها ببيان عظمة الكتاب ، وجلال هدايته ، وقوة حجته في توضيح الدعوة ، وإنذار المخالفين بها.

ثم تناولت أهداف الدعوة في مكة ، وهي تقرير رسالة الإسلام وبيان أصول هذه الدعوة : توحيد الله في العبادة والتشريع ، وتقرير البعث والجزاء ، وتقرير الوحي والرسالة بوجه عام ، وتقرير رسالة محمد (ص) بوجه خاص. وتلك هي أصول الدعوة الدينية التي كانت لأجلها جميع الرسالات الإلهية.

وقد سلكت السورة ، في طريقة عرض هذه الحقائق ، أسلوبين بارزين ، أحدهما أسلوب التذكير بالنعم ، والاخر أسلوب التخويف من العذاب والنّقم.

أمّا أسلوب التذكير بالنعم ، فتراه واضحا في لفتها أنظار الناس إلى ما يلمسونه ويحسّونه من نعمة تمكينهم في الأرض ، ونعمة خلقهم وتصويرهم في أحسن تقويم ، ونعمة تمتّع الإنسان بما في هذا الكون من خيرات ، سخّرها الله له.

أمّا أسلوب الإنذار والتخويف ، فهو ظاهر في جو السورة ، وفي قصص الأنبياء فيها. وقد استغرق هذا القصص أكثر من نصفها ، وقد ساقت لنا السورة ما دار بين الأنبياء وأقوامهم ، وسجّلت السورة جزاء المكذبين بأمر الله الخارجين على دعوة رسله وهدايتهم ، وهي ظاهرة تكررت الإشارة إليها في سور القرآن المكية ، تحذيرا لأهل مكة أن يصيبهم ما أصاب الأمم من قبلهم.

٣ ـ عرض إجمالي لأجزاء السورة

سورة الأعراف أول سورة طويلة نزلت من القرآن الكريم ، وهي أطول

٨٧

سورة في المكّيّ. وهي أول سورة عرضت لتفصيل في قصص الأنبياء مع أممهم. وقد نزلت بين جملتين من السور المكية : يكثر في الجملة التي نزلت قبلها السور القصيرة ، التي تعرف بسور «المفصّل» (١) ويكثر في الجملة التي نزلت بعدها السور المتوسطة التي تعرف بسور «المئين» (٢).

وتطالعنا سورة الأعراف بالحديث عن عظمة القرآن. وتأمرنا باتّباعه وتحذّرنا من مخالفته. وتحثّنا على العمل الذي تثقل به موازيننا يوم القيامة (٣) في بداية تعدّ براعة استهلال أو عنوان لما تشتمل عليه السورة. وهي سمة غالبة في سور القرآن حيث نجد الآيات الأولى منها عنوانا معبّرا عن أهدافها وسماتها.

وفي أول سورة الأعراف يقول سبحانه :

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣).

ثم ساقت لنا السورة بأسلوب منطقي بليغ قصة آدم مع إبليس. وكيف أن إبليس قد خدعه بأن أغراه بالأكل من الشجرة المحرّمة. فلمّا أكل منها هو وزوجته ، (بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الآية ٢٢].

ثمّ وجهت إلى بني آدم نداء ، في أواخر هذا الرّبع ، نهتهم فيه عن الاستجابة لوسوسة الشيطان. قال تعالى :

(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٢٧).

وفي الرّبع الثاني منها ، نراها تأمرنا بأن نأخذ زينتنا عند كل مسجد ، وتخبرنا بأن الله ـ تعالى ـ قد أباح لنا أن نتمتّع بالطيّبات التي أحلّها لنا ،

__________________

(١). تسمّى سور «المفصّل» لكثرة الفصل بينها بالبسملة مثل «الضحى».

(٢). هي السور التي يكون عددها قرابة المائة آية.

(٣). تفسير سورة الأعراف ، لفضيلة الدكتور أحمد السيد الكوفي والدكتور أحمد سيّد طنطاوي ، صفحة ٦ وما بعدها.

٨٨

وتبشّرنا بحسن العاقبة متى اتّبعنا الرسل الذين أرسلهم الله لهدايتنا ؛ ثمّ تسوق لنا ، في بضع آيات ، عاقبة المكذبين لرسل الله ، وكيف أن كلّ أمّة من أمم الكفر ، عند ما تقف بين يدي الله للحساب ، فإنها تلعن أختها.

قال تعالى :

(كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) (٣٩).

ثم تبيّن السورة بعد ذلك عاقبة المؤمنين فتقول :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٤٢).

وفي أواخر هذا الرّبع ، وأوائل الرّبع الثالث منها ، نراها تسوق لنا تلك المحاورات التي تدور بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، وتحكي لنا ما يحصل بينهم من نداءات ومجادلات ، تنتهي بأن يقول أصحاب النار لأصحاب الجنة على سبيل التذلل والتوسل ، كما ورد في التنزيل :

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٥٠). فيجيبهم أصحاب الجنة كما ورد في التنزيل أيضا :

(إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

ثم تسوق لنا السورة بعد ذلك جانبا من مظاهر نعم الله على خلقه ، وتدعونا إلى شكره عليها لكي يزيدنا من فضله.

وفي الرّبع الرابع منها ، وفي أواخر الثالث تحدثنا عن قصة نوح مع قومه. ثمّ عن قصّة هود مع قومه ، ثمّ عن قصة صالح مع قومه. ثمّ عن قصة لوط مع قومه ، ثمّ عن قصّة شعيب مع قومه ، ولقد ساقت لنا ، خلال حديثها عن هؤلاء الأنبياء مع أقوامهم ، من العبر والعظات ، ما يهدي القلوب ، ويشفي الصدور ، ويحمل العقلاء على الاستجابة لهدى الأنبياء والمرسلين.

أمّا في الرّبع الخامس منها ، فقد

٨٩

بيّنت لنا سنن الله في خلقه ، ومن مظاهر هذه السنن أنه ـ سبحانه ـ لا يعاقب قوما إلا بعد الابتلاء والاختبار ؛ وأنّ الناس لو آمنوا واتقوا لفتح ـ سبحانه ـ عليهم بركات من السماء والأرض ؛ وأن الذين يأمنون مكر خالقهم ، هم القوم الخاسرون.

قال تعالى :

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢).

ثم عقبت على ذلك ، ببيان أن الله تعالى قد ساق قصص السابقين للعظة والاعتبار.

ثم أسهبت السورة في الحديث عن قصة موسى (ع) فقصّت علينا في زهاء سبعين آية ، استغرقت الربع السادس والسابع والثامن ، ما دار بينه وبين فرعون من محاولات ومناقشات ، وما حصل بينه وبين السّحرة من مجادلات ومساجلات انتهت بأن قال السحرة كما روى القرآن حكاية عنهم :

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢).

ثم حكت لنا ما لقيه موسى من قومه بني إسرائيل من تكذيب وجهالات ، ممّا يدلّ على أصالتهم في التمرد والعصيان ، وعراقتهم في الكفر والطغيان.

وفي الرّبع التاسع منها ، حدّثتنا عن العهد الذي أخذه الله على البشر بأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ؛ ثمّ حدثتنا عن التفكير والتدبير في ملكوت السماوات والأرض ، وبينت لنا أن موعد قيام الساعة لا يعلمه سوى علّام الغيوب ، وأن الرسل الكرام وظيفتهم تبليغ رسالات الله ، ثم هم بعد ذلك لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

أما في الربع العاشر والأخير ، فقد اهتمّت السورة الكريمة بإقامة الأدلة على وحدانية الله ، وأنكرت على المشركين شركهم ، ودعت الناس إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم :

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩).

وأمرتهم بأن يكثروا من التضرع والدعاء :

٩٠

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦).

٤ ـ قصة آدم

ذكرت قصة آدم في سورة البقرة ، ثم أكملت سورة الأعراف حلقات هذه القصة. وذكرت أنّ الله تعالى خلق آدم (ع) وأمر الملائكة بالسجود له إظهارا لفضله ، وتنويها بما يكون له من شأن ، بعد أن سألوا عن الحكمة في خلقه ، وقد ركّبت فيه الشهوة والغضب ، وبهما يفسد في الأرض ويسفك الدماء.

وذكرت السورة موقف إبليس وإباءه السجود والامتثال لأمر الله ، كما ذكرت قصة تأثّر آدم بوسوسة الشيطان ، وإغرائه إيّاه بالأكل من الشجرة ، وكيف كانت عاقبة آدم في الهبوط من الراحة والاطمئنان إلى الكدّ والتعب ، وإلى مكافحة عوامل الشر التي بنيت الحياة عليها ، وعلى ما يقابلها من عوامل الخير ؛ ومطالبة الإنسان بأن يقف مع جانب العقل والرسالة الإلهية ، اللذين يشدّان أزره في التغلب على عوامل الشر.

لقد كان آدم في نعيم الجنة يتمتّع بما فيها من كل ما تشتهي الأنفس ، وتلذّ به الأعين ، ويتنقّل بين أشجارها ، ويتفيّأ ظلالها ، ويتفكّه بثمارها ، ويرتوي من عذب مياهها ، وشاركته زوجته هذه المتعة. ولكنّ الشيطان أغراهما بالأكل من الشجرة وأقسم لهما بأنه من الناصحين. فلمّا أطاعا الشيطان ، وأكلا من الشجرة ، سلب الله عنهما نعمته وحرمهما جنته :

(وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٢).

وقد ندم آدم وحواء أشد الندم ، وتابا إلى الله توبة نصوحا ، فتاب الله عليهما وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض ليكدحا ويعملا ، فتعمر الأرض وتنتشر الحياة في جنباتها. وقد حذّر الله آدم وذرّيّته من الشيطان وإغرائه ؛ وبيّن سبحانه أن على المؤمن أن يلجأ إلى ربه ، وأن يستعين بهداه ، وألّا يخلد الى الهوى وألا ييأس من رحمة الله. فقد فتح الله باب التوبة على مصراعيه حتّى يتوب إليه التائبون ويلجأ إليه المؤمنون. فكلّ

٩١

بني آدم خطّاؤون وخير الخطّائين التوّابون.

والمؤمن يتسامى بغرائزه ، وينتصر على شهواته ، وينهى نفسه عن الهوى ، ويحملها على طريق الفلاح والاستقامة. قال تعالى :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠) [الشمس].

٥ ـ نعمة الثياب والزينة

تحدثت سورة الأعراف عن نعم الله تعالى على بني آدم ، ومن هذه النعم نعمة الملبس الذي يستر الناس به عورتهم ويجمّلون به أنفسهم ، هيّأ الله لهم مادّته من القطن والصوف والحرير وما إليها ، وألهمهم ، بما خلق فيهم من غرائز ، طرق استنباتها ، وطرق صناعتها ، بالغزل والنسيج والخياطة ؛ ولفت أنظارهم إلى أن تقوى الله في الانتفاع بتلك النعمة ، واستخدامها في طاعة الله وشكره. وبذلك تستر الثياب العورة ، وتكون مصدر نعمة لا نقمة.

قال تعالى :

(يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦).

وفي هذا تنبيه إلى ان الحضارة الحقّة ليست في كشف المفاتن ، ولا في إظهار العورات ، وإنّما الحضارة الحقّة في السير على سنّة الله ، وهدى رسله وتعاليم أنبيائه.

توسّط الإسلام في شأن الزينة

من الآيات المشهورة قوله تعالى :

(يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١).

ومن هذه الآية تلمح سماحة الإسلام ويسره ، فهو يأمر بالنظافة ، ويدعو إلى التجمّل والتزيّن ، ويحث على التمتّع بالطيبات. وفي الحديث الشريف يقول النبي (ص) :

«إنّ الله نظيف يحبّ النّظافة ، جميل يحبّ الجمال ، طيّب يحبّ الطّيبين».

وقد جاء الإسلام دينا وسطا ، فقد نهى عن التبذير والإسراف ، وحذّر من الشح والبخل ، وأمر بالقصد والاعتدال قال تعالى :

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ

٩٢

لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ) [الآية ٣٢].

فهو سبحانه خلق الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وفضّله على كثير من المخلوقات ، وسخّر له الكون بما فيه من سماء مرفوعة ، وأرض مبسوطة ، وجبال راسية ، وبحار جارية ، وليل مظلم ، ونهار مضيء ؛ وأمره أن يستمتاع بالطيّبات ، وأن يبتعد عن المحرّمات ؛ فهناك حدود بيّنها الله ، فالحلال بيّن ، والحرام بيّن وظاهر ، وبينهما أمور مشتبهات فيها شبهة وإثم ؛ فمن ابتعد عن الشبهات فقد سلم عرضه ودينه ؛ ومن وقع في الشبهات ، كانت الشبهات طريقا إلى الحرام ، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. وصدق الله العظيم :

(قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الآية ٣٣].

٩٣
٩٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأعراف» (١)

تاريخ نزولها

ووجه تسميتها

نزلت سورة الأعراف بعد سورة «ص» وقبل سورة «الجنّ» ، وكان نزول سورة «الجنّ» مع رجوع النبي (ص) من الطائف ، وكان قد سافر إليها سنة عشر من بعثته ليعرض الإسلام على أهلها ، فيكون نزول سورة الأعراف فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) (٤٨) وتبلغ آياتها ستّا ومائتي آية.

الغرض منها وترتيبها

يقصد من هذه السورة الإنذار والاعتبار بقصص الأولين وأحوالهم ، وقد أخذ المشركون في هذا الترهيب والترغيب ، بعد أن أخذوا في سورة الأنعام بطريق النظر والدليل ، ولهذا ذكرت هذه السورة بعدها ، ولأنها أيضا تشبهها في الطول ، وقد فصّل فيها من أخبار الأولين ما أجمل في سورة الأنعام.

وقد ابتدئت هذه السورة بمقدّمة في إنذار المشركين إجمالا بما حصل لأولئك الأولين ، ثم أتبع هذا بتفصيل أخبارهم وبيان ما حصل لهم ، ثم ختمت ببيان أنّ الهدى والإضلال بيد الله ، فمن يهده ينتفع بهذا القصص ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩٥

ومن يضلله لا ينتفع به ، إلى غير هذا مما يأتي في هذه الخاتمة.

المقدمة

الآيات [١ ـ ٩]

قال الله تعالى : (المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) فذكر أن القرآن كتاب أنزل الى النبي (ص) ، ونهاه أن يضيق صدره من تكذيب المشركين له ، لينذر به المشركين ويذكّر المؤمنين ، وفي هذا براعة مطلع للغرض المقصود من هذه السورة ، ثم أمرهم أن يتّبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ولا يتّبعوا غيره من أوليائهم ، وأنذرهم إجمالا بأنه كم أهلك قبلهم من قرية بعذاب جاءهم بياتا أو هم قائلون ، فلما جاءهم العذاب اعترفوا بظلمهم فلم ينفعهم اعترافهم ، ثم ذكر أنه سيجمعهم ومن أرسلوا إليهم فيسألهم عن أمرهم ، ويقصّ عليهم ما يعلمه من أعمالهم ، ويزن أعمالهم بالحقّ (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩).

قصة آدم وإبليس

الآيات [١٠ ـ ٥٨]

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (١٠) ، فذكر نعمته عليهم بالتمكين لهم في الأرض تمهيدا لقصة آدم. لأنه أول من مكّن له فيها ، ثم ذكر أنه خلقه ثم صوّره ثمّ أمر الملائكة بالسّجود له تكريما لخلقه ، وأن إبليس امتنع عن السجود له عنادا واستكبارا ، وأنه جازاه على هذا باللعن والطرد من الجنة ، وجعل وظيفته أقبح وظيفة وهي الوسوسة بالشر ، ثم ذكر أنه أسكن آدم وزوجته الجنة ونهاهما ، عن الأكل من شجرة منها عيّنها لهما ، وأنّ إبليس احتال عليهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة حياء ، ثم ذكر أنه ناداهما بنهيه لهما فاعترفا بذنبهما ، فأمرهما بأن يهبطا من الجنة إلى الأرض ، وأوقع العداوة فيها بين ذرّيتهم وبين إبليس ، وجعل لهم فيها مستقرّا ومتاعا إلى أن يرجعهم إليه.

ثم ذكر أنه أنزل عليهما وعلى ذريتهما ، بعد هبوطهما إلى الأرض ، لباسا يواري سوآتهم ، وأن لباس التقوى

٩٦

خير من ذلك اللباس ، ثم حذرهم أن يفتنهم إبليس كما فتن أبويهم في الجنة ، وذكر أنه ، هو وقبيله ، يأتونهم من حيث لا يرونهم ، وأنه قد جعلهم أولياء للذين لا يؤمنون ، وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وزعموا أن الله أمرهم بها ، ثم أمر النبي (ص) أن يخبرهم بأنه لا يأمر بالفحشاء ، وإنما يأمر بالقسط وأن يقيموا وجوههم عند كل مسجد ويدعوه مخلصين له ، ثم ذكر أنه سيعيدهم كما بدأهم فريقين : فريقا هداه ، وفريقا حقّت عليه الضّلالة لأنهم اتّخذوا الشياطين أولياء من دونه ويحسبون أنهم مهتدون ، ثم أمرهم أن يأخذوا ما أنزل عليهم من اللباس عند كل مسجد ، وأن يأكلوا ويشربوا ولا يسرفوا في لباسهم وأكلهم وشربهم ، وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة بالبيت ، الرجال بالنهار والنساء بالليل. ويقولون لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب ، وكان منهم متنسكون لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما ؛ ثمّ أمر النبي (ص) أن يسألهم سؤال تعجيز عمّن حرّم عليهم الزينة والطيّبات من الرزق ، وذكر لهم أنه إنما حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، والإثم والبغي والشرك والكذب عليه ، في تحريم ما حرموه على أنفسهم ، وهدّدهم بأنه إذا كان يمهلهم على ذلك فلأنّ كل أمّة لها أجل (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٣٤).

ثم ذكر أنه أوحى إلى آدم (ع) وذريته حين هبطوا الى الأرض ، أنه إذا أتاهم رسل يقصّون عليهم آياته ، فمن آمن بهم فلا خوف عليه ، ومن كذّب واستكبر فجزاؤه الخلود في النار ؛ ثم فصّل وعيدهم ، فذكر أنه لا يوجد أظلم ممّن افترى عليه وكذّب بآياته ، وأنهم ينالون نصيبهم في الحياة من العمر والرزق ، ثم يتوفّاهم ملائكة الموت ، ويسألونهم عن شركائهم ليدفعوا عنهم ، فيجيبون بأنهم ضلّوا عنهم ، ويعترفون بكفرهم ؛ وهناك يأمرهم بأن يدخلوا النار فيمن دخلها قبلهم من أمم الجن والإنس ، فيتلاومون فيها بما ذكره من تلاومهم ؛ ثم ذكر أنهم لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة ، حتى يلج الجمل في سمّ الخياط ، والى غير هذا ممّا ذكر في وعيدهم.

ثم أخذ السياق في تفصيل وعد المؤمنين ، فذكر من نعيمهم في الجنة ما ذكر ، ثم ذكر أنهم ينادون أصحاب

٩٧

النار أنهم وجدوا ما وعدهم ربّهم حقّا ، فهل وجدوا ما وعدوا به من العذاب حقّا؟ فيجيبونهم بأنهم وجدوه حقّا ؛ ثم ذكر أنه يوجد على الأعراف بين الجنة والنار رجال يعرفون كلّا من أهل الجنة والنار بسيماهم وينادونهم بما ذكره في ندائهم ، وأن أصحاب النار ينادون أصحاب الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء ، أو بما رزقهم الله ، فيجيبونهم بأن الله حرّمهما على الكافرين الذين اغترّوا بدنياهم ، وأنه ينساهم في آخرتهم كما نسوا لقاءها ؛ ثم ذكر سبحانه أنه جاءهم بكتاب فصّله على علم وجعله هدى ورحمة فقطع به عذرهم ، ووبّخهم على انتظارهم تأويل ما أنذرهم به من العذاب ؛ وذكر أنه يوم يأتي تأويله ، يعترفون بأنّ ما أنذروا به حق ، ثم يسألون عن شفعاء يشفعون لهم ، أو أن يردّوا ليعملوا أعمالا غير أعمالهم.

ثم أخذ السّياق في إبطال اعتقادهم في أولئك الشفاء ، فذكر أنه سبحانه ربّهم الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام إلخ ، وأمرهم أن يدعوه جلّ شأنه تضرّعا وخفية ، ولا يفسدوا في الأرض بعد أن أصلحها ومكّن لهم فيها ؛ وأن يدعوه خائفين عذابه ، راجين رحمته ، لأن رحمته قريب من المحسنين ؛ ثم ذكر تعالى أنه هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ، لتحمل السحاب الى البلد الميّت فتحييه ، وأنه كذلك يحيي الموتى لعلهم يتذكرون (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) (٥٨).

قصة نوح وقومه

الآيات [٥٩ ـ ٦٤]

ثم قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٥٩) فذكر أن نوحا أمر قومه بأن يعبدوا الله وحده وأنذرهم ، إن لم يطيعوه ، بعذاب يوم عظيم ؛ وأنهم أجابوه بأنهم يرونه في ضلال مبين ، وأنه أجابهم بأنه لا ضلالة به ، ولكنّه رسول من الله إليهم ، وأنه ينصح لهم ويعلم من الله مالا يعلمون ؛ ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه ، والذين معه في الفلك (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) (٦٤).

٩٨

قصة هود وقومه

الآيات [٦٥ ـ ٧٢]

ثم قال تعالى : (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) (٦٥) ، فذكر أنّ هودا أمر قومه بعبادة الله وحده ، وأنهم أجابوه عن ذلك بتسفيهه وتكذيبه ، وأنه أجابهم بأنه ليس به سفاهة ، ولكنه رسول من الله ناصح لهم أمين ؛ ثم وبخهم أن يعجبوا أن جاءهم ذكر من ربهم على رجل منهم لينذرهم ويذكّرهم بنعمته عليهم ، إذ جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح ، وزادهم في الخلق بسطة ، ثم ذكر أنهم أصرّوا على تكذيبه فأنجاه سبحانه ، والذين معه رحمة منه (وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) (٧٢).

قصة صالح وقومه

الآيات [٧٣ ـ ٧٩]

ثم قال تعالى (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٧٣] فذكر أن صالحا أمر قومه بعبادة الله وحده ، وأنّه جاءهم بناقة الله آية لهم ، وأنّه حذّرهم أن يمسّوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم ، وأنه ذكّرهم بنعمة الله عليهم إذ جعلهم خلفاء من بعد عاد ، ثم ذكر أنهم أصروا على تكذيبه ، فأخذتهم الرجفة ، فأهلكتهم (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩).

قصة لوط وقومه

الآيات [٨٠ ـ ٨٤]

ثم قال تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) (٨٠) ، فذكر أن لوطا استنكر من قومه الفاحشة التي لم يسبقهم أحد إليها وهي إتيانهم الرجال من دون النساء ، وأنهم أجابوه بتامرهم على إخراجه هو وأهله من قريتهم ، فأنجاهم الله إلّا امرأته كانت من الغابرين (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) (٨٤).

قصة شعيب وقومه

الآيات (٨٥ ـ ١١٢)

ثم قال تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) [الآية ٨٥] فذكر أن شعيبا أمر قومه أن يعبدوا الله وحده

٩٩

ويوفوا الكيل والميزان ، ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، ولا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ؛ ثم ذكر أن بعضهم استكبر ، وأراد أن يخرج شعيبا هو ومن آمن به من قريتهم ، وأنه سبحانه أخذهم بالرجفة فأهلكهم وكانوا هم الخاسرين (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) (٩٣).

ثم عقّب على هذه القصص ، ببيان أنّ هذا شأنه في كلّ قرية أرسل فيها نبيّا ، فلا يأخذها بعذاب الاستئصال دفعة واحدة ، بل يأخذها أوّلا بالشدائد والأمراض ، ثم يزيل عنهم ذلك ، ويأتيهم بالخصب والرخاء ، فلا يؤثّر فيهم شيء من ذلك وينسبون ما أصابهم منه إلى عادة الزمان ، فيأخذهم بغتة وهم لا يشعرون ؛ ولو أنهم آمنوا ، لفتح عليهم بركات السماء والأرض بالمطر والنبات.

ثمّ وبّخ أهل القرى الحاضرة على أمنهم أن يصيبهم ما أصاب تلك القرى من بأسه بياتا وهم نائمون ، أو ضحًى وهم يلعبون ؛ وعلى أمنهم مكره بهم ، فلا يأمنه إلا القوم الخاسرون ؛ وعلى أنه لم يتبيّن لهم بعد أن ورثوا أرضهم وقصّ عليهم أخبارهم ، أنه لو يشاء أصابهم كما أصابهم ، ولكنّه طبع على قلوبهم فهم لا يسمعون ؛ ثمّ ذكر أنه قصّ عليه من أنباء تلك القرى ، وأنّهم كانوا سواء في أنهم يكذبون بعد نزول المعجزات كما كذبوا من قبلها ، وينسون عهدهم أن يؤمنوا بعد نزولها (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) (١٠٢).

قصة موسى وفرعون

وبني إسرائيل

الآيات [١٠٣ ـ ١٧٤]

ثم قال تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٠٣) فذكر أنه بعث موسى إلى فرعون وقومه بآياته ، وأنّهم كذّبوا بها فأهلكهم ؛ ثمّ فصّل ذلك ، فذكر أن موسى أخبر فرعون بأنه رسوله إليه ، وطلب منه أن يرسل معه بني إسرائيل إلى الأرض التي وعدوا بها ؛ وأنّ فرعون طلب منه آية تدل على صدقه ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ، فلما رأى قومه ذلك زعموا أنه سحر ، وطلبوا منه

١٠٠