الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

وقال الشاعر [من البسيط وهو الشاهد السادس والتسعون بعد المائة] :

قد كنت أعطيهم مالي وأمنحهم

عرضي وعندهم في الصّدر مكنون

لأنّ قيسا تقوله : «كننت العلم» فهو «مكنون». وتقول بنو تميم «أكننت العلم» ف «هو مكنّ» ، و «كننت الجارية ف «هي مكنونة». وفي كتاب الله عزوجل : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) [البقرة : ٢٣٥] وقال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) (٤٩) [الصافات] وقال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد السابع والتسعون بعد المائة] :

قد كنّ يكنن (٣) الوجوه تستّرا

فاليوم (٤) حين بدون (٥) للنّظّار

وقيس تنشد «قد كن يكنن».

وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ) [الآية ٧٦] فهو من «يأفل» «أفولا».

وأما قوله تعالى ، كما ورد في التنزيل حكاية على لسان إبراهيم (ع) يقول للشمس : (هذا رَبِّي) [الآية ٧٨] فقد يجوز على «هذا الشيء الطالع ربّي» (٦).

أو على أنّه ظهرت الشمس وقد كانوا يذكرون الربّ في كلامهم ، قال لهم : (هذا رَبِّي). وإنما هذا مثل ضربه لهم ليعرفوا إذا هو زال أنه ينبغي ألّا يكون مثله إلها ، وليدلّهم على وحدانية الله ، وأنه ليس مثله سبحانه ، شيء. وقال الشاعر [من الرجز وهو الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة] :

مكثت حولا ثمّ جئت قاشرا

لا حملت منك كراع حافرا

قال تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) [الآية ٨٤] يعني : (وَوَهَبْنا لَهُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) (١)

__________________

(١). لم ينسب اللسان والصحاح «كنن» اللغتين ، وإن أشار إليهما.

(٢). هو الربيع بن زياد الشاعر الجاهلي ، أحد الكملة أولاد فاطمة بنت الخرشب ، شعر الربيع بن زياد ٣٩٣ ، والأغاني ١٦ : ٢٨.

(٣). في الخصائص ٣ : ٣٠٠ ، والشعر والأغاني ب «يخبأن» ، وفي مجالس العلماء ١٤٤ ب «يكنن» ، المزيد بالهمزة.

(٤). في الخصائص ومجالس العلماء «فالآن».

(٥). في الخصائص : «بدأن» وفي مجالس العلماء «بدين».

(٦). نقله في زاد المسير ٣ : ٧٦ ، والبحر ٤ : ١٦٧ ، وأشرك معه الكسائي في إعراب القرآن ١ : ٣٢٢ ، والجامع ٧ : ٢٧ و ٢٨.

٦١

وكذلك (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) [الآية ٨٥].

و (وَالْيَسَعَ) [الآية ٨٦] (٢) وقرأ بعضهم : (واللّيسع) (٣) ونقرأ بالخفيفة.

وقال تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الآية ٩٠]. بالوقف على هاء (اقتده) وكلّ شيء من بنات الياء والواو في موضع الجزم ، فالوقف عليه بالهاء ، ليلفظ به كما كان.

وقال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي) [الآية ٩٢] بالرفع على الصفة ، أو بالنصب على الحالية ل (أَنْزَلْناهُ).

وقال تعالى (وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الآية ٩٣] فنراه يريد : يقولون (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) والله أعلم. وكأن في قوله (باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) دليلا على ذلك لأنه قد أخبر أنهم يريدون منهم شيئا.

قرئ قوله تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الآية ٩٦] بجعله مصدرا من «أصبح» (٤). وبعضهم يقرأ (فالق الأصباح) (٥) على أنها جمع «الصّبح».

وقال تعالى (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً) [الآية ٩٦] أي : بحساب. حذفت الباء ، كما من قوله تعالى : (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) [الآية ١١٧] أي : أعلم بمن يضلّ. و «الحسبان» جماعة «الحساب» مثل «شهاب» و «شهبان» (٦) ، ومثله (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٥) [الرحمن] أي : بحساب.

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ١ : ٣٢٤.

(٢). في الطبري ١١ : ٥١٠ قراءة عامة قراء الحجاز والعراق ، وفي السبعة ٣٦٢ إلى ابن كثير ونافع وعاصم وأبي عمرو وابن عامر ، وفي الكشف ١ : ٤٣٨ ، والتيسير ١٠٤ إلى غير حمزة والكسائي ، وفي الجامع ٧ : ٣٢ الى أهل الحرمين وأبي عمرو وعاصم ، وفي البحر ٤ : ١٧٤ إلى الجمهور ، وفي حجة ابن خالويه ١١٩ ، بلا نسبة.

(٣). في معاني القرآن ١ : ٣٤٢ إلى أصحاب عبد الله ، وفي الطبري ١١ : ٥١١ إلى جماعة من قراء الكوفيين ، وفي السبعة ٢٦٢ والكشف ١ : ٤٣٨ والتيسير ١٠٤ إلى حمزة والكسائي ، وفي البحر ٤ : ١٧٤ إلى الأخوين ، وفي الجامع ٧ : ٣٢ و ٣٣ إلى الكوفيين ، إلّا عاصما ، وخص منهم الكسائي ؛ وفي حجة ابن خالويه ١١٩ ، بلا نسبة.

(٤). في الجامع ٧ : ٤٥ نسبها قراءة إلى ابراهيم النخعي برواية الأعمش ، وفي الطبري ١١ : ٥٥٥ ، إلى الضحّاك ومجاهد وقتادة وابن عباس وابن زيد ، وفي معاني القرآن ١ : ٣٤٦ لم ينسب قراءة.

(٥). في الطبري ١١ : ٥٥٦ ، والشواذ ٣٩ ، والكشاف ٢ : ٤٨ ، إلى الحسن البصري ، وفي الجامع ٧ : ٤٥ زاد عيسى بن عمرو ، في البحر ٤ : ١٨٥ زاد أبا رجاء ؛ ولم ينسب هذا الوجه في معاني القرآن ١ : ٣٤٦ قراءة.

(٦). نقله في التهذيب «حسب» ٤ : ٣٣١ ـ ٣٣٣ ، والمشكل ١ : ٢٦٣ ، وإعراب القرآن ١ : ٣٢٨ ، والجامع ٧ : ٤٤٥.

٦٢

وقال تعالى : (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الآية ٩٨] فنراه يعني : فمنها مستقرّ ومنها مستودع ؛ والله أعلم.

وقال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً) [الآية ٩٩] نراه يريد «الأخضر» كقول العرب : «أرنيها نمرة أركها مطرة» (١).

وقال تعالى : (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ) [الآية ٩٩] ثم قال : (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ) [الآية ٩٩] أي : «وأخرجنا به جنّات من أعناب».

ثم قال (وَالزَّيْتُونَ) [الآية ٩٩] وواحد : «القنوان» : قنو ، وكذلك «الصّنوان» واحدها : «صنو».

وقال تعالى : (فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ١٠٨] والأصل من «العدوان». تقول : «عدا عدوا علينا» مثل «ضربه ضربا» (٢).

وقال تعالى : (وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠٩) وفسّر على «لعلّها» (٣) كما تقول العرب : «اذهب إلى السوق أنّك تشتري لي شيئا» أي : لعلّك. وقال الشاعر (٤) [من الرجز وهو الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة] :

قلت لشيبان ادن من لقائه

أنّا نغذّي القوم من شوائه (٥)

في معنى «لعلّنا».

قال تعالى : (وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً) [الآية ١١١] أي : قبيلا قبيلا ، جماعة «القبيل» «القبل». ويقال «قبلا» (١) أي : عيانا. وتقول : «لا قبل

__________________

(١). نقله في الصحاح «خضر» و «مطر» وإعراب القرآن ١ : ٣٢٨ و ٣٢٩ والجامع ٧ : ٤٧ ؛ والقول مثل : انظر مجمع الأمثال ١ : ٢٩٤ مثل ١٥٥٦ ، والمستقصى ١ : ١٤٤ مثل ٥٦٧ ، والاشتقاق ١٨٤.

(٢). في الطبري ١٢ : ٣٥ أنها إجماع الحجة من قراء الأمصار ، وفي الكشاف ٢ : ٥٦ ، والإملاء ١ : ٢٥٧ ، والمراجع السابقة كلها كالسابق بلا نسبة.

(٣). في الطبري ١٢ : ٤١ إلى أبيّ بن كعب ، وعامة قراء أهل المدينة والكوفة ، وفي السبعة ٣٦٥ الى نافع وحمزة والكسائي ، وشكّ في ابن عامر وإلى عاصم في رواية ، وفي الكشف ١ : ٤٤٤ ، والتيسير ١٠٦ إلى أبي بكر في رواية والى غير أبي عمرو وابن كثير ، وفي الجامع ٧ : ٦٤ إلى أهل المدينة والأعمش وحمزة ، وفي البحر ٤ : ٢٠١ الى السبعة غير من قرأ بالثانية ، وفي الكتاب ١ : ٤٦٣ إلى أهل المدينة.

(٤). هو أبو النجم العجلي الراجز المشهور ، الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٠ والإنصاف ٢ : ٣١١.

(٥). في الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٠ ، «كما تغدي الناس» وفي مجالس ثعلب ١٥٤ ب «كما يغدي القوم» وفي الإنصاف ٢ : ٣١١ «كما تغدي القوم».

٦٣

لي بهذا» أي : لا طاقة. وتقول : «لي قبلك حق» أي : عندك.

وقال تعالى : (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [الآية ١١٣] هي من «صغوت» «يصغا» مثل «محوت» «يمحا».

وقال جل شأنه (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الآية ١٠٠] على البدل كما قال (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ) [الشورى]. وقال الشاعر (٢) [من الوافر وهو الشاهد المئتان] :

ذريني إنّ أمرك لن يطاعا

وما ألفيتني حلمي مضاعا

وقال [من البسيط وهو الشاهد الحادي بعد المائتين] :

إنّي وجدتك يا جرثوم من نفر

جرثومة اللّؤم لا جرثومة الكرم

وقال الاخر (٣) [من البسيط وهو الشاهد الخامس والخمسون بعد المائة] :

إنّا وجدنا بني جلّان كلّهم

كساعد الضّبّ لا طول ولا عظم

وقال (٤) [من الرجز وهو الشاهد الثاني بعد المائتين] :

ما للجمال مشيها وئيدا

أجندلا يحملن أم حديدا

ويقال : ما للجمال مشيها وئيدا. كما قيل [من الوافر وهو الشاهد الثالث بعد المائتين] :

فكيف ترى عطيّة حين تلقى

عظاما هامهنّ فراسيات

وقال تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الآية ١١٩] أي ،

__________________

(١). في الطبري ١٢ : ٤٨ الى قراء أهل المدينة ، وفي السبعة ٢٦٦ ، والكشف ١ : ١١١ ، والتيسير ١٠٦ ، إلى نافع وابن عامر ، وفي الجامع ٧ : ٦٦ ، والبحر ٤ : ٢٠٥ إلى ابن عباس وقتادة وابن زيد ونافع وابن عامر.

(٢). هو عدي بن زيد العبادي ، ديوانه ٣٥ ، ومعاني القرآن ٢ : ٤٢٤ ، والخزانة ٢ : ٣٦٨ ، والمقاصد النحوية ٤ : ١٩٢ ؛ أو هو رجل من خثعم : شرح الأبيات للفارقي ١٩٩ ، والكتاب ١ : ٧٧ ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٧٨ ؛ أو رجل من بجيلة : الكتاب ١ : ٧٧.

(٣). قائل الشاهدين واحد ، وكلاهما في الحيوان ٦ : ١١٢ ، والقائل غير معروف ، وقد سبق الاستشهاد قبل بالثاني منهما.

(٤). هو قصير صاحب جذيمة ، الكامل ٢ : ٤٢٨ ؛ وقيل الخنساء بنت عمرو بن الشهيد ؛ المقاصد النحوية ٢ : ٤٤٨ ، وقيل هي الزبّاء ملكة تدمر ، اللسان «واد» و «صرف» ، والمقاصد النحوية ٢ : ٤٤٨ ، والخزانة ٣ : ٢٧٢ ، وشرح سقط الزند للخوارزمي ١٧٨٣ ، ومجمع الأمثال ١ : ٢٣٣ ، والدرر ١ : ١٤١ ، والبيت بعد في معاني القرآن ٢ : ٧٣.

٦٤

والله أعلم ، «وأيّ شيء لكم في ألّا تأكلوا» وكذلك (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) [البقرة : ٢٤٦] يقول : «أيّ شيء لنا في ترك القتال». ولو كانت (أن) زائدة لارتفع الفعل ، ولو كانت في معنى «وما لنا وكذا» لكانت «وما لنا وألّا نقاتل».

في قوله تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ) [الآية ١١٩] أوقع السّياق (أنّ) على النكرة ؛ لأنّ الكلام إذا طال ، احتمل ، ودل بعضه على بعض.

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها) [الآية ١٢٣] فالبناء على «أفاعل» ، وذلك أنه يكون على وجهين يقول «هؤلاء الأكابر» و «الأكبرون» وقال (نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) [الكهف : ١٠٣] وواحداهم «أخسر» مثل «الأكبر».

وقال تعالى (وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ) [الآية ١٣٧] لأن الشركاء زيّنوا.

ثمّ قال سبحانه (لِيُرْدُوهُمْ) [الآية ١٣٧] من «أردى» «إرداء».

وقال (حِجْرٌ لا يَطْعَمُها) [الآية ١٣٨] و «الحجر» «الحرام» وقد قرئت بالضم (حجر) (١) ، وقد يكون اللفظان في معنى واحد. وقد يكون «الحجر» : العقل ، قال الله تعالى : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) [الفجر] أي ذي عقل. وقال بعضهم : «لا يكون في قوله تعالى : (وَحَرْثٌ حِجْرٌ) [الآية ١٣٨] إلا الكسر. وليس ذا بشيء لأنه حرام. وأما «حجر المرأة» ففيه الفتح والكسر ، و «حجر اليمامة» (٢) بالفتح ، و «الحجر» ما حجرته ، وهو قول أصحاب الحجر.

وقوله عزوجل : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ) [الآية ١٣٩]. وقد يجوز الرفع لأنّ المؤنّث قد يذكّر فعله. و (خالصة) أنثت لتحقيق الخلوص ؛ كأنه لما حقّق لهم الخلوص ، أشبه

__________________

(١). الطبري ١٢ : ١٤٢ الى الحسن وقتادة ، واقتصر في الجامع ٧ : ٩٤ على الحسن ، وزاد عليهما في البحر ٤ : ٢٣١ الأعرج.

(٢). انظر معجم البلدان «حجر».

٦٥

الكثرة ، فجرى مجرى «راوية» و «نسّابة» (١).

وقوله تعالى (جَنَّاتٍ) [الآية ١٤١] بالجرّ لأن تاء الجميع في موضع النصب ، مجرورة بالتنوين.

ثم قال تعالى : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) [الآية ١٤٢] أي : وأنشأ من الأنعام حمولة وفرشا.

ثم قال تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الآية ١٤٣] أي : أنشأ حمولة وفرشا ثمانية أزواج. أي : أنشأ ثمانية أزواج ، على البدل (٢) أو التبيان أو على الحال (٣).

وقوله تعالى : (مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) [الآية ١٤٣] أي على تقدير (أنشأ) قبل الآية ، والله أعلم. وإنّما قال (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) لأنّ كلّ واحد «زوج». تقول للاثنين : «هذان زوجان» وقال الله عزوجل (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) [الذاريات : ٤٩] وتقول للمرأة ، «هي زوج» (٤) و «هي زوجة» (٥) و : «هو زوجها».

وقال تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩] يعني المرأة وقال (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) [الأحزاب : ٣٧] وقال بعضهم : «الزوجة» وقال الأخطل [من البسيط وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائة] :

زوجة أشمط مرهوب بوادره

قد صار في رأسه التخويص والنزع

وقد يقال للاثنين أيضا : «هما زوج» و «الزوج» النّمط يطرح على الهودج.

قال لبيد [من الكامل وهو الشاهد السادس والعشرون بعد المائة] :

من كلّ محفوف يظلّ عصيّه

زوج عليه كلّة وقرامها

وأمّا (الضَّأْنِ) [الآية ١٤٣] فمهموز وهو جماع على غير واحد. ويقال (الضئين) مثل «الشعير» وهو جماعة

__________________

(١). نقله في الجامع ٧ : ٩٥ ، وأشرك معه الكسائي فيه.

(٢). نقله في المشكل ١ : ٢٧٥ ، وإعراب القرآن ١ : ٣٤١ ، والجامع ٧ : ١١٣.

(٣). نقله في إعراب القرآن ١ : ٣٤١.

(٤). هي لغة أهل الحجاز ، المخصص ١٧ : ٢٤ ، والبحر ١ : ١٠٩ ، واللسان «زوج» وزاد المسير ١ : ٦٥ ، والمذكّر والمؤنث للفرّاء ٩٥ و ١٠٨ ، ولهجة تميم ٣٢١ ، واللهجات العربية ٥٠٣.

(٥). هي لغة تميم وكثير من قيس وأهل نجد المصادر السابقة ، وفي المذكّر والمؤنث ٩٥ الى أهل نجد ، وفي ١٠٨ الى سائر العرب غير أهل الحجاز.

٦٦

«الضأن» والأنثى «ضائنة» والجماعة : «الضوائن».

و (الْمَعْزِ) [الآية ١٤٣] جمع على غير واحد ، وكذلك «المعزى» ، فأمّا «المواعز» فواحدتها «الماعز» و «الماعزة» والذكر الواحد «ضائن» فيكون «الضأن» جماعة «الضائن» مثل «صاحب» و «صحب» و «تاجر» و «تجر» وكذلك «ماعز» و «معز». وقرأ بعضهم (ضأن) (١) و (معز) (٢) جعله جماعة «الضائن» و «الماعز» مثل «خادم» و «خدم» ، و «حافد» و «حفدة» مثله ، إلّا أنّه ألحق فيه الهاء.

وأمّا قوله تعالى (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) [الآية ١٤٣] فالنصب فيه ب «حرّم».

وقال تعالى : (فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) [الآية ١٤٥] أي : «إلّا أن يكون ميتة أو فسقا فإنّه رجس».

وقال تعالى : (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا) [الآية ١٤٦] فواحد «الحوايا» : «الحاوياء» «والحاوية». ويريد تعالى بقوله ، والله أعلم ، (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) أي : والبقر والغنم حرمنا عليهم. ولكنه أدخل فيها «من» والعرب تقول : «قد كان من حديث» يريدون : «قد كان حديث» وإن شئت قلت «ومن الغنم حرّمنا الشّحوم» كما تقول : «من الدّار أخذ النّصف والثلث» فأضفت على هذا المعنى كما تقول : «من الدّار أخذ نصفها» و «من عبد الله ضرب وجهه».

وقال (هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ) [الآية ١٥٠] لأن «هلمّ» قد تكون للواحد والاثنين والجماعة (٣).

وكأنّ قوله تعالى (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ

__________________

(١). قرأ بفتح الهمزة ، كما جاء في الشواذ ٤١ والمحتسب ٢٣٤ والجامع ٧ : ١١٤ ، طلحة بن مصرف اليماني ، وزاد في الجامع ٤ : ٢٣٩ الحسن وعيسى ابن عمر ، وفي الكشاف ٢ : ٧٤ ، والإملا ١ : ٢٦٣ بلا نسبة. أمّا بسكون الهمزة ، ففي الجامع ٧ : ١١٤ أنها لأبان بن عثمان ، وفي حجة ابن خالويه ١٢٧ ، والشواذ ٤١ ، والكشاف ٢ : ٧٤ ، والإملا ١ : ٢٦٣ ، بلا نسبة.

(٢). نسب فتح العين كما في البحر ٤ : ٢٣٩ الى الابنين وأبي عمرو ، وفي الكشف ١ : ٤٥٦ ، والتيسير ١٠٨ ، الى غير نافع والكوفيين ، وفي الكشاف ٢ : ٧٤ والإملا ١ : ٢٦٣ بلا نسبة. أمّا سكون العين ، فقد قرأ به ، كما في الكشف ١ : ٤٥٦ ، والتيسير ١٠٨ نافع وأهل الكوفة ، وفي الجامع ٧ : ١١٤ ، أن القارئ أبيّ. وفي حجّة ابن خالويه ١٢٧ ، والكشاف ٢ : ٧٤ ، والإملا ١ : ٢٦٣ بلا نسبة.

(٣). نسبت في مجاز القرآن ١ : ٢٠٨ الى أهل العالية.

٦٧

الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [الآية ١٥٦] على (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) [الآية ١٥٤] كراهية (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا) [الآية ١٥٦].

وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً) [الآية ١٥٩] وقرأ بعضهم (فارقوا) (١) من «المفارقة».

وقال تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الآية ١٦٠] على العدد كما تقول : «عشر سود» فان قلت كيف قال (عشر) و «المثل» مذكر؟ فإنّما أنّث لأنه أضيف إلى مؤنث وهو في المعنى أيضا «حسنة» أو «درجة» ، فإن أنّث على ذلك فهو وجه. وقرأ بعضهم (عشر أمثالها) (٢) جعل «الأمثال» من صفة «العشر». وما كان من صفة لا تضاف الى العدد. ولكن يقال «هم عشرة قيام» لا يقال : «عشرة قيام».

__________________

(١). نسبت في معاني القرآن ١ : ٣٦٦ إلى الإمام علي ، وزاد الطبري ١٢ : ٢٦٨ قتادة ، وأهمل في الكشف ١ : ٤٥٨ قتادة ، وزاد النبي الكريم ، وحمزة والكسائي ، ولم يذكر في الجامع ٧ : ١٤٩ ، والبحر ٤ : ٢٦٠ النبي الكريم ، واقتصرت في السبعة ٢٧٤ والتيسير ١٠٨ على حمزة والكسائي ؛ وفي الكشاف ٢ : ٨٣ بلا نسبة ، وكذلك في الإملاء ١ : ٢٦٧.

(٢). قرئ بهذا الوجه كما جاء ذلك منسوبا في الطبري ١٢ : ٢٨١ الى الحسن ، وكذلك في الشواذ ٤١ ، وزاد عليه في الجامع ٧ : ١٥١ سعيد بن جبير والأعمش ، وزاد عليه في البحر ٤ : ٢٦١ عيسى بن عمر ويعقوب والقزاز عن عبد الوارث. وفي حجّة ابن خالويه ١٢٨ بلا نسبة. أمّا القراءة بالإضافة ، فهي في الطبري ١٢ : ٢٨١ إلى قراء الأمصار ، وفي حجّة ابن خالويه ١٢٨ بلا نسبة.

٦٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الأنعام» (١)

إن قيل : لم جمعت الظلمة دون النور في قوله تعالى (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ)؟ [الآية الأولى].

قلنا : ترك جمعه استغناء عنه بجمع الظلمة قبله فإنه يدل عليه ، كما ترك جمع الأرض أيضا استغناء عنه بجمع السماء قبله في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [الآية الأولى]. الثاني أن الظلمة اسم ، والنور مصدر ، والمصادر لا تجمع.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (وَجَهْرَكُمْ) [الآية ٣] بعد قوله سبحانه (يَعْلَمُ سِرَّكُمْ) ومعلوم أن من يعلم السر يعلم الجهر بالطريق الأولى؟

قلنا : إنّما ذكره للمقابلة كما في قوله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٢٠٣] في بعض الوجوه.

فإن قيل : لم خصّ السكون بالذكر دون الحركة في قوله تعالى : (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [الآية ١٣] على قول من فسره بما يقابل الحركة؟

قلنا : لأن السكون أغلب الحالتين على كل مخلوق من الحيوان والجماد ، ولأن الساكن من المخلوقات أكثر عددا من المتحرك ؛ أو لأنّ كلّ متحرّك يصير إلى السكون من غير عكس ؛ أو لأنّ السكون هو الأصل والحركة حادثة عليه وطارئة. وقيل فيه إضمار تقديره : ما سكن وتحرك ، فاكتفى بأحدهما اختصارا لدلالته على مقابله ، كما في قوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي والبرد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرخ.

٦٩

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الآية ١٤] ولم يقل وهو ينعم ولا ينعم عليه ، وهذا أعمّ لتناوله الإطعام وغيره؟

قلنا ؛ لأن الحاجة إلى الرزق أمسّ فخصّ بالذكر. والثاني أن كون المطعم آكلا متغوّطا أقبح من كونه منعما عليه ، فلذلك ذكره.

فإن قيل : في قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣) كيف يكذبون يوم القيامة بعد معاينة حقائق الأمور ، وقد (بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) (١٠) [العاديات]؟

قلنا : المبتلى يوم القيامة ينطق بما ينفعه وبما يضرّه لعدم التمييز بسبب الحيرة والدهشة ، كحال المبتلى المعذّب في الدنيا يكذب على نفسه وعلى غيره ، ويتكلم بما يضرّه ، ألا تراهم يقولون كما ورد في التنزيل (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها) [المؤمنون : ١٠٧] وقد أيقنوا بالخلود فيها ، وقالوا (يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) [الزخرف : ٧٧] وقد علموا أنه (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦].

فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) (٤٢) [النساء]؟

قلنا : القيامة مواقف مختلفة ؛ ففي بعضها لا يكتمون ، وفي بعضها يحلفون كاذبين ، كما قال عزوجل (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) [الحجر] وقال تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٣٩) [الرحمن] وقيل إن حلفهم كاذبين يكون قبل شهادة جوارحهم عليهم (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً) يكون بعد شهادتها عليهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الآية ٣٢] وهو خير لغير المتّقين أيضا كالأطفال والمجانين؟

قلنا : إنّما خصّهم بالذكر ، لأنهم الأصل فيها من حيث أنّ درجتهم أعلى ، وغيرهم تبع لهم.

فإن قيل : ما الحكمة من التعبير في قوله تعالى (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٣٥) مخاطبا الرسول محمدا (ص) ونحن نعلم أنه جلّ وعلا قد خاطب النبي نوحا (ص) بقوله : (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) (٤٦) [هود] أي خاطبه بألين الخطابين ، مع أن

٧٠

محمدا (ص) أعظم رتبة ، وأعلى منزلة منه؟

قلنا : لأن نوحا عليه الصلاة والسلام ، كان معذورا في جهله بمطلوبه ، لأنه تمسّك بوعد الله تعالى في إنجاء أهله ، وظنّ أن ابنه من أهله ؛ وأمّا محمد (ص) فما كان معذورا ، لأنه كبر عليه كفرهم ، مع علمه أن كفرهم وإيمانهم بمشيئة الله تعالى ، وأنهم لا يهتدون إلّا أن يهديهم الله.

فإن قيل : إذا بعث الله تعالى الموتى من قبورهم ، فقد رجعوا إلى الله بالحياة بعد الموت ، فما الحكمة من قوله تعالى : (وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦)؟

قلنا : المراد به وقوفهم بين يديه للحساب والجزاء ، وذلك غير البعث وهو إحياؤهم بعد الموت ؛ فلا تكرار فيه.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) [الآية ٣٧] لو صح من النبي (ص) هذا الجواب لصح لكل من ادّعى النبوة ، وطولب بآية أن يقول إن الله قادر على أن ينزّل آية؟

قلنا : إذا ثبتت نبوته بما شاء الله من المعجزة ، يصح له أن يقول ذلك ، بخلاف ما إذا لم تثبت نبوته ، والنبي (ص) كانت قد ثبتت نبوته بالقرآن ، وانشقاق القمر ، وغيرهما.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٣٨] والدابّة لا تكون إلّا في الأرض ، لأن الدابة في اللغة اسم لما يدبّ على وجه الأرض وما الحكمة في قوله تعالى (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الآية ٣٨] والطيران لا يكون إلا بالجناح؟

قلنا : فيه فوائد : الأولى للتأكيد كقولهم : هذه نعجة أنثى ، وقولهم كلمته بلساني ، ومشيت إليه برجلي ، وكما قال الله تعالى (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) [النحل : ٥١] وقال تعالى : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) [الفتح : ١١]. الثانية نفي توهّم المجاز فإنه يقال : طار فلان في أمر كذا إذا أسرع فيه ، وطار الفرس إذا أسرع الجري. الثالثة زيادة التعميم والإحاطة كأنه قال جميع الدواب الدابة وجميع الطيور الطائرة.

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ)

٧١

[الآية ٤٠] إلى أن قال (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ) [الآية ٤١] ومن جملة ما ذكر الدعاء فيه عذاب الساعة وهو لا يكشف عن المشركين؟

قلنا : لم يخبر عن الكشف مطلقا ، بل مقيّدا بشرط المشيئة ، وعذاب الساعة ، لو شاء كشفه عن المشركين لكشفه.

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الآية ٥٠] كيف ذكر القول في الجملة الأولى والثالثة ، وترك ذكره في الجملة الثانية؟

قلنا : لما كان الإخبار بالغيب كثيرا ممّا يدّعيه البشر كالكهنة والمنجّمين وواضعي الملاحم ، ثم إنّ كثيرا من الجهّال يعتقدون صحة أقاويلهم ويعملون بمقتضى أخبارهم ، بالغ في سلبه عن نفسه بسلب حقيقته عنه بخلاف الإلهية والملكية ، فإن انتفاءهما عنه وعن غيره من البشر ظاهر. فاكتفي في نفيهما ، بنفي القول ، إذ غير الدعوى فيهما لا تتصور في نفس الأمر ولا في زعم الناس ، بخلاف علم الغيب فافترقا ، والمراد بقوله تعالى (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ) [الآية ٥٠] أي لا أدّعي الإلهية ، كذا قاله بعض المفسرين.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥) لم ذكر سبيل المجرمين ولم يذكر سبيل المؤمنين ، وكلاهما محتاج إلى بيانه؟

قلنا : لأنه إذا ظهر سبيل المجرمين ، ظهر سبيل المؤمنين أيضا بالضرورة ؛ إذ السبيل سبيلان لا غير.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الآية ٦٠] أي ما كسبتم ، وهو يعلم ما جرحوا ليلا ونهارا؟

قلنا : لأن الكسب أكثر ما يكون بالنهار لأنه زمان حركة الإنسان ، والليل زمان سكونه ، لقوله تعالى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣] بعد قوله سبحانه (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) [القصص : ٧٢].

فإن قيل : قال تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الآية ٦٢] يعني مولى جميع الخلائق. وقال في موضع آخر (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (١١) [محمّد]؟

قلنا : المولى الأول بمعنى المالك أو

٧٢

الخالق أو المعبود ، والمولى الثاني بمعنى الناصر فلا تنافي بينهما.

فإن قيل : لم خصّ (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) [الآية ٧٣] بيوم القيامة ، فقال تعالى : (قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) [الآية ٧٣] مع أن قوله الحق في كل وقت ، وله الملك في كل زمان؟

قلنا : لأن ذلك اليوم ، ليس لغيره فيه ملك ، بوجه من الوجوه ، وفي الدنيا لغيره ملك ، خلافة عنه أو هبة منه وإنعاما ، بدليل قوله تعالى في حق داود عليه‌السلام (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) [البقرة : ٢٥١] وقوله (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٤٧] وقوله في ذلك اليوم هو الحق الذي لا يدفعه أحد من العباد ، ولا يشك فيه شاكّ من أهل العناد ، لانكشاف الغطاء فيه للكل ، وانقطاع الدعاوى والخصومات ، ونظيره قوله تعالى (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) [الانفطار] وإن كان الأمر له في كل زمان ، وكذا قوله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦]؟

فإن قيل : لم قال تعالى في معرض الامتنان (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) [الآية ٨٤] ولم يذكر إسماعيل مع أنه كان هو الابن الأكبر؟

قلنا : لأن إسحاق وهب له من حرة وإسماعيل من أمة ؛ وإسحاق وهب له من عجوز عقيم ، فكانت المنّة فيه أظهر.

فإن قيل : لم قال تعالى في وصف القرآن (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [الآية ٩٢] وكثير ممّن يؤمن بالآخرة من اليهود والنصارى وغيرهم لا يؤمن به؟

قلنا : معناه والذين يؤمنون بالآخرة إيمانا نافعا مقبولا ، هم الذين يؤمنون به إما تصديقا به قبل إنزاله لما بشّر به موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ، أو اتّباعا له بعد إنزاله والأمر كذلك ، فإن من لم يصدق موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في بشارتهما بمحمد (ص) وبالقرآن ؛ أو كان بعد بعثه ولم يؤمن به ، فإيمانه بالآخرة غير معتدّ به ولا معتبر.

فإن قيل : لم أفرد قوله سبحانه تعالى (أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ) [الآية ٩٣] بعد قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [الآية ٩٣] وذلك أيضا افتراء؟

قلنا : لأنّ الأول عام ، والثاني خاص ، والمقصود الإنكار فيهما ، ولا

٧٣

يلزم من وجود العام وجود الخاص ، ولكن يلزم من الذمّ على العامّ وإنكاره ، الذمّ على الخاصّ وإنكاره لا محالة ؛ وما نحن فيه من هذا القبيل ، والجواب المحقّق أن يقال إن هذا الخاص لمّا كان مخصوصا بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خصّه بالذكر ، تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الآية ١٠٢] بعد قوله سبحانه (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) [الآية ١٠١]؟

قلنا : ذكره أوّلا استدلالا به على نفي الولد ، ثم ذكره ثانيا توطئة وتمهيدا لقوله تعالى : (فَاعْبُدُوهُ) [الآية ١٠٢] فإن كونه خالق كل شيء يقتضي تخصيصه بالعبادة والطاعة ، فكانت الإعادة لفائدة جديدة.

فإن قيل : في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الآية ١٠٣] كيف خص الأبصار بإدراكه لها ، ولم يقل وهو يدرك كل شيء مع أنه أبلغ في التمدح؟

قلنا : لوجهين : أحدهما مراعاة المقابلة اللفظية ، فإنه نوع من البلاغة.

الثاني أن هذه الصفة خاصة بينه وبين الأبصار أنه يدركها ، بمعنى الإحاطة بها وهي لا تدركه ، فأما غيره مما يدرك الأبصار فهي تدركه أيضا ، فلهذا خصها بالذكر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الآية ١١٤] ولم يقل وهو الذي أنزل إليّ مع أنه سبحانه قال في موضع آخر : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [المائدة : ٤٨]؟

قلنا : لمّا كان إنزاله إلى النبي (ص) ليبلغه إلى الخلق ويهديهم به ، كان في الحقيقة منزلا إليهم ، لكن بواسطة النبي (ص) فصلح إضافة الإنزال إليه وإليهم.

فإن قيل : في قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (١١٨) كيف علّق الكون من المؤمنين بأكل الذبيحة المسمّى عليها ، والكون من المؤمنين حاصل ، وإن لم تؤكل الذبيحة أصلا؟

قلنا : المراد إعتقاد الحلّ لا نفس الأكل ، فإن بعض من كان يعتقد حل الميتة من العرب كان يعتقد حرمة الذبيحة.

٧٤

فإن قيل : لم أبهم فاعل التزيين هنا فقال تعالى (كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) وقال سبحانه في آية أخرى (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٤] وقال في آية أخرى (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) [النمل : ٢٤] فمن هو مزيّن الأعمال للكفار في الحقيقة؟

قلنا : التزيين من الشيطان بالإغواء والإضلال والوسوسة وإيراد الشبه ، ومن الله تعالى بخلق جميع ذلك ، فصحّت الإضافتان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الآية ١٣٠] والرسل إنما كانت من الإنس خاصة؟

قلنا : المراد برسل الجن هم الذين سمعوا القرآن من النبي (ص) وولّوا إلى قومهم منذرين ، كما قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩]. الثاني : أنه كقوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢٢) [الرحمن] والمراد من أحدهما ، لأنه إنّما يخرج من الملح. والثالث : أنه بعث إليهم رسل منهم ، قاله الضحّاك ومقاتل.

فإن قيل : لم ذكر شهادتهم على أنفسهم في قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الآية ١٣٠] ، والمعنى فيهما واحد؟

قلنا : المعنى المشهود به متعدّد وإن كان في الشهادة واحدا ، إلا أنهم في الأولى شهدوا على أنفسهم بتبليغ الرسل وإنذارهم ، وفي الثانية شهدوا على أنفسهم بالكفر ، وهما متغايران.

فإن قيل : كيف أقرّوا في هذه الآية بالكفر وشهدوا على أنفسهم به ، وجحدوه في قوله تعالى : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (٢٣)؟

قلنا : مواقف القيامة ومواطنها مختلفة ، ففي بعضها يقرّون وفي بعضها يجحدون ، أو يكون المراد هنا شهادة أعضائهم عليهم حينما يختم على أفواههم ، كما قال تعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ) [يس : ٦٥].

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ١٤٠] والسّفه لا يكون إلا عن جهل؟

قلنا : معنى قوله تعالى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بغير حجة ، وقيل بغير علم ، بمقدار

٧٥

قبحه ومقدار العقوبة فيه ، وعلى الوجهين لا يكون مستفادا من الأوّل.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (١٤٠) بعد قوله سبحانه في الآية نفسها (قَدْ ضَلُّوا)؟

قلنا : الحكمة فيه الإعلام بأنهم بعد ما ضلوا لم يهتدوا مرّة أخرى ، فإنّ من الناس من يضلّ ثمّ يهتدي بعد ضلاله.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (إِذا أَثْمَرَ) [الآية ١٤١] بعد قوله سبحانه (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) [الآية ١٤١] ومعلوم أنه إنما يؤكل من ثمره إذا أثمر؟

قلنا : الحكمة فيه نفي توهّم توقف الإباحة على الإدراك والنضج ، بدلالته على الإباحة من أول إخراج الثمر.

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) [الآية ١٤٥] ، وفي القرآن تحريم أكل الربا ومال اليتيم ومال الغير بالباطل وغير ذلك؟

قلنا : محرّما مما كانوا يحرمونه في الجاهلية.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) [الآية ١٤٧] والموضع موضع العقوبة ، فكان يحسن أن يقال فيه ذو عقوبة شديدة أو عظيمة ونحو ذلك؟

قلنا : إنّما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمته في الاجتراء على معصيته ، وذلك أبلغ في التهديد ومعناه ـ والله أعلم ـ : لا تغترّوا بسعة رحمته ، فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم. وقيل معناه : فقل ربّكم ذو رحمة واسعة للمطيعين ، ولا يرد عذابه عن العاصين.

فإن قيل : لم قال تعالى (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ) [الآية ١٥١] ثم فسره بعشرة أحكام خمسة منها واجبة ، والتلاوة وصف للفظ لا للمعنى ، كي لا يقال أضدادها محرمة؟

قلنا : قوله تعالى : (أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) لا ينفي تلاوة غيره فقد تلا ما حرم وتلا غيره أيضا. الثاني أن فيه إضمارا تقديره : أتل ما حرم ربكم عليكم وأوجب.

فإن قيل : لم خصّ مال اليتيم بالنهي عن قربانه بغير الأحسن ، ومال البالغ أيضا كذلك؟

قلنا : إنّما خصه بالنهي لأن طمع الطامعين فيه أكثر ، لضعف مالكه

٧٦

وعجزه ، وقلة الحافظين له والناصرين ، بخلاف مال البالغ. الثاني : أن التخصيص لمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن ، ووجوب قربانه بالأحسن ، أو جواز قربانه بالأحسن بغير إذن مالكه ، ومجموع الحكمين مختص بمال اليتيم ، وهذا هو الجواب عن كونه مغيّبا ببلوغ الأشد ، لأن المجموع ينتفي ببلوغ الأشد لانتفاء الحكم الثاني ؛ وقيل إن الغاية لمحذوف ، تقديره : حتى يبلغ ، فسلّموه إليه.

فإن قيل : لم خصّ العدل بقوله تعالى : (وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الآية ١٥٢] ولم يقل : وإذا فعلتم فاعدلوا ، والحاجة إلى العدل في الفعل أمسّ ، لأن الضرر الناشئ من الجور الفعلي ، أقوى من الضرر الناشئ من الجور القولي؟

قلنا : إنّما خصه بالقول ليعلم وجوب العدل في الفعل بالطريق الأولى ، كما قال تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) [الإسراء : ٢٣] ولم يقل : ولا تشتمهما ولا تضربهما لما قلنا.

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الآية ١٦٤] (١) وقوله سبحانه (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وقوله عزّ وعلا (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] وقد جاء في الحديث المشهور «من عمل سيئة ، فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، إلى يوم القيامة».

قلنا : المراد بالآية الأولى وزر لا يكون مضافا إليها بمباشرة أو تسبّب ، لتحقيق إضافته إلى غيرها على الكمال. أما إذا لم يكن كذلك فهو وزرها من وجه فتزره. وقيل معناه : لا تزره طوعا كما زعم المشركون بقولهم للنبي (ص) : ارجع إلى ديننا ونحن كفلاء بما يلحقك من تبعة في دينك. وقول الذين كفروا للذين آمنوا كما ورد في التنزيل (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] إلى قوله تعالى : (عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣) [العنكبوت] ومعنى باقي النصوص أنها تحمله كرها ، فلا تنافي بينهما.

__________________

(١). ورد القول الكريم نفسه في أكثر من موضع في القرآن الكريم.

٧٧
٧٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الأنعام» (١)

في قوله تعالى : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٥) استعارة. لأن الأصل في هذه اللفظة : دابرة الفرس ، وجمعها دوابر ، وهي ما يلي حافره من خلفه. ودابرة الطائر : هي الشاخصة التي خلف رجله ، وتدعى الصّيصيّة (٢) أيضا.

فالمراد بقوله سبحانه : (فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) والله أعلم : أي قطعت عنهم الأمداد اللاحقة بهم من خلفهم ، والتالون لهم في غيّهم وضلالهم. أو قطع خلفهم من نسلهم ، فلم تثبت لهم ذرّيّة ، ولم يبق لهم بقية.

وفي قوله سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) [الآية ٤٦] استعارة. والمراد بالأخذ هاهنا ، إبطال حواسّهم. وإذا بطلت ، فكأنّها قد أخذت منهم ، وغيّبت عنهم.

وفي قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) [الآية ٥٩] واستعارة. والمراد : وعنده الوصلة إلى علم الغيب ، فإذا شاء فتحه لأنبيائه وملائكته ، وإن شاء أغلق عنهم علمه ، ومنعهم فهمه. وعبّر تعالى عن ذلك بالمفاتح ، وهي أحسن عبارة ، وأوقع استعارة. لأنّ كل ما يتوصل به إلى فتح المبهم ، وبيان المستعجم سمّي بذلك. ألا ترى إلى قول الرجل لصاحبه إذا أشكل عليه أمر ، أو اختلّ له حفظ :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). الصيصية والصيصة : شوكة الحائك ، وشوكة الديك أو الطائر. والجمع صياص.

٧٩

افتح عليّ ، أي : بيّن لي ، وفهّمني ما غرب عنّي.

وفي قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الآية ٦٨] استعارة. والمراد بها إثارة أحاديث الآيات ليستشفّوا بواطنها ، ويعلموا حقائقها ، كالخابط في غمرة الماء ، لأنه يثير قعرها ، ويسبر غمرها. وقد مضى الكلام على نظير ذلك في (النساء).

وفي قوله سبحانه : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) [الآية ٨٠] استعارة. لأن صفة الشيء بأنه يسع غيره ، لا يطلق إلّا على الأجسام التي فيها الضّيق والاتّساع ، والحدود والأقطار. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فالمراد أن علمه سبحانه يحيط بكل شيء ، فلا تخفى عليه خافية ، ولا تدقّ عنه غامضة.

وفي قوله سبحانه : (وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الآية ٩٢] استعارة. والمراد بأمّ القرى مكّة ، وإنّما سماها سبحانه بذلك ، لأنها كالأصل للقرى ، فكلّ قرية فإنما هي طارئة عليها ، ومضافة إليها.

وفي قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ) [الآية ٩٣] استعارة عجيبة. لأنه سبحانه شبه الذين يعتورهم كرب الموت وغصصه ، بالذين تتقاذفهم غمرات الماء ولججه. وقد سميت الكربة غمرة لأنها تغمر قلب الإنسان ، آخذة بكظمه ، وخاتمة على متنفسه. والأصل في جميع ذلك غمرة الماء.

وفي قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) [الآية ٩٥] استعارة على بعض الأقوال ، ومعناها أنه سبحانه يشق الحبة الميتة ، والنواة اليابسة ، فيخرج منها ورقا خضرا (١) ، ونباتا ناضرا ، ويخرج الحبّ اليابس الذاوي من النبت الحي النامي. وقال بعضهم : يخرج الإنسان الحي من النطفة وهي موات ، ويخرج النطفة الموات من الإنسان الحيّ. والله أعلم بالصواب.

وقوله سبحانه : (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الآية ١٠٠] استعارة.

__________________

(١). الورق الخضر هو الأخضر. ووزنها مثل فرح.

٨٠