الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

عَنِتُّمْ) [الآية ١٢٨] بجعل (ما) اسما و (عَنِتُّمْ) من صلته.

وقال تعالى (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [الآية ١٠٢] فيجوز في العربية أن تكون «باخر» كما تقول : «استوى الماء والخشبة» أي : «بالخشبة» و «خلطت الماء والّلبن» أي «باللّبن».

٢٨١
٢٨٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «التوبة» (١)

إن قيل : لأي سبب تركت كتابة البسملة في أول هذه السورة ، بخلاف سائر السور؟

قلنا : لمّا تشابهت ، هي والأنفال ، واختلفت الصحابة في كونهما سورتين أو سورة واحدة ، تركت بينهما فرجة ، عملا بقول من قال هما سورتان ؛ وتركت البسملة بينهما ، عملا بقول من قال هما سورة واحدة. وممّن قال بذلك قتادة رحمه‌الله. الثاني : أن اسم الله تعالى سلام وأمان ، و «براءة» فيها قتل المشركين ، ومحاربتهم ، فلا يناسب كتابتها.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) [الآية ١٢] وخصّ الأمر بالقتال بأئمة الكفر ، مع أنّ النكث والطّعن ليس مخصوصا بهم ، بل هو مسند إلى جميع المشركين؟

قلنا المراد بأئمّة الكفر ، رؤوس المشركين وقادتهم. وقيل كفّار مكة ، لأنهم كانوا قدوة جميع العرب في الكفر ؛ فكأنّ النكث والطعن لم يوجد إلّا منهم ، لمّا كانوا هم الأصل فيه ، فلذلك خصّهم بالذكر.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [الآية ٣٠] ونحن نسأل اليهود والنصارى عن ذلك فينكرونه ويجحدونه؟

قلنا : طائفة من اليهود ، وطائفة من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرخ.

٢٨٣

النصارى ، هم الذين يقولون ذلك لا كلّهم ، فالألف واللام للعهد ، لا للجنس ، ولا للاستغراق ، أو أطلق اسم الكل وأريد البعض ، كما قال تعالى : (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) [آل عمران : ٤٥] وإنّما قال لها جبريل وحده.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) [الآية ٣٠] وقول كل أحد ، إنّما يكون بفمه.

قلنا : معناه أنه قول لا تعضده حجة أو برهان ، إنما هو مجرد لفظ لا أصل له. وقيل ذكر ذلك للمبالغة في الرد عليهم ، والإنكار لقولهم ، كما يقول الرجل لغيره ، أنت قلت لي ذلك بلسانك.

فإن قيل : دين الحق هو من جملة الهدى ، فما الحكمة في عطفه على الهدى في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) [الآية ٣٣]؟

قلنا : المراد بالهدى هنا القرآن ، وبدين الحق الإسلام ، وهما متغايران.

الثاني أنه ، وإن كان داخلا في جملة الهدى ، ولكنّه خصّه بالذكر تشريفا له ، وتفضيلا ، كما في قوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] وقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

فإن قيل : لم قال تعالى (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [الآية ٣٣] ، ولم يقل على الأديان كلّها ، مع أنه أظهره على الأديان كلها؟

قلنا : المراد بالدّين هنا اسم الجنس ، واسم الجنس المعرّف باللام ، يفيد معنى الجمع ، كما في قولهم : كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) [الآية ٣٤] والمذكور الذهب والفضة ، فأعاد الضمير على أحدهما؟

قلنا : أعاد الضمير على الفضّة لأنها أقرب المذكورين ، أو لأنها أكثر وجودا في أيدي الناس ، فيكون كنزها أكثر ؛ ونظيره قوله تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) [البقرة : ٤٥]. الثاني : أنه أعاد الضمير على المعنى ، لأن المكنوز دنانير ودراهم وأموال ، ونظيره قوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] لأنّ كل طائفة مشتملة على عدد كثير ، وكذا

٢٨٤

قوله تعالى (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) [الحج : ١٩] يعني المؤمنين والكافرين. الثالث : أن العرب إذا ذكرت شيئين يشتركان في المعنى ، تكتفي بإعادة الضمير على أحدهما ، استغناء بذكره عن ذكر الاخر ، لمعرفة السامع باشتراكهما في المعنى ، ومنه قول حسان بن ثابت :

إنّ شرخ الشّباب والشعر الأسود

ما لم يعاص كان حنونا

ولم يقل ما لم يعاصيا ؛ وقول الاخر :

فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإني وقيّار بها لغريب

ولم يقل لغريبان ، ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [الآية ٦٢] وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الأنفال : ٢٠] وليس قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) [الجمعة : ١١] وقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) [النساء : ١١٢] من هذا القبيل : لأن الإضمار جعل عن أحدهما لوجود لفظة أو ، وهي لإثبات أحد المذكورين ، فمن جعله نظير هذا فقد سها ، إلا أن يثبت أنّ أو في هاتين الآيتين بمعنى الواو وفي هاتين الآيتين لطيفة ، وهي أن الكلام لما اقتضى إعادة الضمير على أحدهما أعاده في الآية الأولى على التجارة ، وإن كانت أبعد ، ومؤنثة أيضا لأنها أجذب لقلوب العباد عن طاعة الله تعالى من اللهو ، لأن المشتغلين بها أكثر من المشتغلين باللهو ، أو لأنها أكثر نفعا من اللهو ، أو لأنها كانت أصلا ، واللهو تبعا ، وأعاده في الآية الثانية على الإثم رعاية لمرتبة القرب والتذكير.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) [الآية ٣٦] وهي عند الناس أيضا كذلك في كل ملة ، سواء أكانت الشهور قمرية أم شمسية؟

قلنا : الحكمة فيه ، أن يعلم أن هذا التقسيم والعدد ليس مما أحدثه الناس ، وابتدعوه بعقولهم من ذات أنفسهم ، وإنما هو أمر أنزله الله سبحانه ، في كتبه على ألسنة رسله.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [الآية ٣٦] خصّ الأربعة الحرم بذلك ، وظلم النفس منهي عنه في كل زمان؟

قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما ، الضمير في قوله تعالى

٢٨٥

(فِيهِنَ) راجع إلى قوله سبحانه (اثْنا عَشَرَ شَهْراً) لا الأربعة الحرم فقط ، فاندفع السؤال. الثاني : أن الضمير راجع إلى الأربعة الحرم فقط ، إمّا لأنها أقرب ، أو لما قاله الفراء : إن العرب تقول في العشرة وما دونها لثلاث ليال خلون ، وأيام خلون ، فإذا جاوزت العشرة قالت خلت ومضت ، للفرق بين القليل وهو العشرة فما دونها ، وبين الكثير وهو ما زاد عليها ، ولهذا قال في الاثني عشر : منها ، وقال في الأربعة : فيهن. فعلى هذا يكون تخصيصها بالذكر ، إمّا لمزيد فضلها وحرمتها عندهم في الجاهلية ، فيكون ظلم النفس فيها أقبح ، ونظيره قوله تعالى (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧] وإن كان ذلك منهيّا عنه في غير الحجّ أيضا ، أو لأن المراد بالظلم النسيء ، وهو كان مخصوصا بها ، أو قتال الكفار فيها ابتداء ، أو ترك قتالهم إذا ابتدءوا ، وذلك كلّه مخصوص بها؟

فإن قيل : الشهر مذكّر فقياسه فيها؟

قلنا : الضمير بالهاء والنون ، لا يختص بالمؤنّث ، ولو اختص ، فالمراد بقوله (فِيهِنَ) ساعات الأشهر ، وهي مؤنثة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [الآية ٣٦] والإنسان لا يظلم نفسه ، بل يظلم غيره؟

قلنا : لا نسلّم أنه لا يظلم نفسه ، قال الله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [النساء : ١١٠] وقال تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١]. الثاني ، أن معناه فلا يظلم بعضكم بعضا كما قال تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] وقال تعالى (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] وقال تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [الحجرات : ١١]. الثالث ، أن معناه فلا تنقصوا حظ أنفسكم من الاخرة بالمعصية ؛ فإنّ من عصى ، فقد ظلم نفسه بنقصه ثوابها ، وتوجيه العقاب والذم إليها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١]. الرابع ، أنّ كل ظالم لغيره ، فهو ظالم لنفسه في الحقيقة ؛ لأن ضرر ظلمه في حق المظلوم ، ينقطع عن قريب ، لأنه لا يتعدى الدنيا ، وضرر ظلمه في حق

٢٨٦

نفسه ، يراه في الاخرة حيث لا ينقطع ، أو يكون أشد وأدوم.

فإن قيل : قوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) [الآية ٣٧] يدل على قبول الكفر للزيادة والنقصان ؛ فكذلك الإيمان الذي هو ضده ، فيكون حجة للشافعي رحمة الله عليه في قوله : الإيمان يقبل الزيادة والنقصان.

قلنا : معناه زيادة معصية في الكفر.

فإن قيل : قوله تعالى (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [الآية ٤٤] إن كان نهيا فأين الجزم؟ وإن كان نفيا فقد وقع المنفي ، لأنّ كثيرا من المؤمنين المخلصين استأذنوه في التخلّف عن الجهاد لعذر ، ويعضده قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) [النور : ٦٢] فقيل إن المراد به ، كلّ أمر طاعة اجتمعوا عليه ، كالجهاد ، والجمعة ، والعيد ، ونحوها؟

قلنا : هو نهي بصيغة النفي ، كقوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) [البقرة : ١٩٧]. الثاني : قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، هي منسوخة بقوله تعالى (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ). الثالث : أنّ المراد بقوله تعالى (يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ) [الآيتان ٤٤ ـ ٤٥] الاستئذان في التخلّف عن الجهاد من غير عذر ، وكذا المراد بالآية التي بعدها ، وبقوله سبحانه : (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) إباحة الاستئذان في التخلّف عن الأمر الجامع لعذر ، فلا نسخ لإمكان العمل بالآيتين ، لأن محل الحكم مختلف ، وهو وجود العذر وعدمه.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) (٤٦) أخبر أنهم أمروا بالقعود ، وذمهم على القعود ، والتخلف عن الخروج للجهاد ، والاستئذان في القعود؟

قلنا : ليس في الآية ما يدلّ على أن الله تعالى ، هو الأمر لهم ، فقيل الأمر لهم بذلك هو الشيطان بالوسوسة والتزيين. الثاني أنّ بعضهم أمر بعضا. الثالث أن النبي (ص) قال لهم ذلك غضبا عليهم. الرابع أنه أمر توبيخ وتهديد من الله تعالى لهم ، كقوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] يعضده قوله تعالى (مَعَ الْقاعِدِينَ) أي مع

٢٨٧

النساء والصبيان والزّمنى (١) الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت.

فإن قيل : إذا كان الله تعالى ، علم أنّ المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للجهاد ما زادوهم إلّا خبالا : أي فسادا ، ولأوضعوا خلالهم : أي ولأسرعوا السعي بينهم بالنمائم ، فلم أمرهم سبحانه ، بالخروج مع المؤمنين؟

قلنا : أمرهم بالخروج لإلزامهم الحجّة ، ولإظهار نفاقهم.

فإن قيل : قوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) (٥٣) يدل على أن الفسق يمنع قبول الطاعات؟

قلنا : المراد بالفسق هنا ، الفسق بالكفر والنفاق ، لا مطلق الفسق ، وذلك محبط للطاعات ، ومانع من قبولها ؛ ويعضده قوله عزوجل (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ) [الآية ٥٤].

فإن قيل : لم عدل في آية الصدقات (٢) عن اللام إلى «في» في المصارف الأربعة الأخيرة؟

قلنا : للتنبيه على أنهم أقوى في استحقاق الصدقة ممّن سبق ذكره ؛ لأن «في» للظرفية والوعاء ، فنبه بها على أنهم أحقّاء بأن توضع فيهم الصدقات ، ويجعلوا مصبّا لها ، لما ورد في فكّ الرقاب من الكتابة أو الرّقّ أو الأسر ؛ وفي فكّ الغارمين عن الدّين من التخليص والإنقاذ ؛ وفي سبيل الله ، يشمل السياق الغازي الفقير ، أو المنقطع في الحجّ ، والفقير البيّن الفقر ؛ وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال ؛ ولا يرد المؤلّفة قلوبهم ، لأن بعضهم كفّار ، وبعضهم مسلمون ضعيفو النية في الإسلام ، فكيف يعارض بهم من ذكرنا. أو لأن الله تعالى علم أن وجوب إعطائهم سينسخ ، فلذلك جعلهم في القسم المقدم الذي هو أضعف.

فإن قيل : لم كرر : «في» في الأربعة الأخيرة ولم يكرر اللام في الأربعة الأولى؟

قلنا : للتنبيه على ترجيح استحقاق المصرفين الأخيرين على الرقاب

__________________

(١). الزّمنى : مفردها زمين ، وهو الذي أصابه ضعف ، لكبر سنّ ، أو مطاولة علّة.

(٢). هي الآية السّتون ، من سورة التوبة.

٢٨٨

والغارمين ، من جهة أن إعادة العامل تدل على مزيد قوة تأكيد ، كقولك مررت بزيد وبعمرو.

فإن قيل : لم عدّي فعل الإيمان إلى الله تعالى بالباء ، وإلى المؤمنين باللام ، في قوله تعالى : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [الآية ٦١]؟

قلنا : لأنه قصد التصديق بالله الذي هو ضد الكفر به ، فعدّاه بالباء كما يعدّى ضدّه بها ، وقصد التسليم والانقياد للمؤمنين فيما يخبرون به ، لكونهم صادقين عنده ، فعدّاه بما يعدّى به التسليم والانقياد ، ويعضده قوله تعالى (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١٧) [يوسف] وقوله تعالى (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] ، وقوله تعالى (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) [يونس : ٨٣] وقوله تعالى (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) (١١١) [الشعراء] وأمّا قوله تعالى (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [طه : ٧١] فمشترك الدلالة ، لأنه قال في موضع آخر (قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) [الأعراف : ١٢٣] وقال ابن قتيبة في الجواب عن أصل السؤال : إن الباء واللام زائدتان ، والمراد بالإيمان التصديق ، فمعناه يصدق الله ، ويصدق المؤمنين.

فإن قيل : قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً) [الآية ٦٣] يدلّ على تخليد أصحاب الكبائر في النار ، لأن المراد بالمحادّة المخالفة والمعاداة؟

قلنا : قوله تعالى (أَلَمْ يَعْلَمُوا) [الآية ٦٣] خبر عن المنافقين الذين سبق ذكرهم ، فيكون المراد به المحادّة بالكفر والنفاق ، وذلك موجب للتخليد في النار.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ) [الآية ٦٤] ، وسورة القرآن ، إنما تنزل على النبي (ص) لا على المنافقين؟

قلنا : معناه أن تنزل فيهم ، «فعلى» هنا بمعنى «في» كما في قوله تعالى (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) [البقرة : ١٠٢] وقولهم كان ذلك على عهد فلان. الثاني : أنّ الإنزال هنا بمعنى القراءة ؛ فمعناه أن تقرأ عليهم.

فإن قيل : الحذر في هذه الآية واقع

٢٨٩

منهم على إنزال السورة ، فلم قال تعالى : (قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤).

قلنا : قوله تعالى (مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (٦٤) أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم ، بإنزال السورة ؛ وهو مناسب لقوله تعالى (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [الآية ٦٤] الثاني : أن معناه مظهر ومبرز ما تحذرون من إنزال السورة.

فإن قيل : لم قال تعالى (تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) وإنباؤهم بما في قلوبهم ، تحصيل الحاصل ، لأنهم عالمون به فما فائدته؟

قلنا : معناه تنبّئهم بأن أسرارهم وما كتموه من النفاق شائعة ذائعة ، وتفضحهم بظهور ما اعتقدوا أنه لا يعرفه غيرهم ، ولا يطّلع عليه سواهم ، وهذا ليس من تحصيل الحاصل.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [الآية ٦٧] وقال بعده (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الآية ٧١] وكلمة «من» أدل على المشابهة والمجانسة ، من حيث أنها تقتضي الجزئية والبعضية ، فكانت بالمؤمنين أولى وأحرى ، لأنّهم أشدّ تشابها ، وتجانسا في الصفات والأخلاق؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضهم على دين بعض ، أي على عادتهم وخلقهم بإضمار لفظة الدين أو الخلق ونحوه ، لأن «من» تأتي بمعنى على ، ومنه قوله تعالى : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الأنبياء : ٧٧] ؛ وقوله تعالى (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [البقرة : ٢٢٦] ؛ أي : يحلفون على وطء نسائهم ؛ وهذا هو المعنى المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «فمن رغب عن سنّتي فليس مني» وقوله عليه الصلاة والسلام «من غشّنا فليس منا». والمراد بقوله تعالى (بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي أنصارهم وأعوانهم في الدّين ؛ وكل واحدة من العبارتين صالحة ، للفريقين ؛ إلا أنه خصّ المنافقين بتلك العبارة ، تكذيبا لهم في حلفهم السابق ، في قوله تعالى (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ) [الآية ٥٦] وتقريرا لقوله تعالى (وَما هُمْ مِنْكُمْ) [الآية ٥٦].

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) [الآية ٦٩] مع أن

٢٩٠

قوله تعالى (فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ) [الآية ٦٩] بوضع الظاهر موضع الضمير ، مغن عنه ، كما قال تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [الآية ٦٩] من غير تكرار؟

قلنا : الحكمة فيه ، تصدير التشبيه بذم المشبه بهم ، باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا ، واشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة الباقية ، وطلب الفلاح في الاخرة ، وتهجين حالهم ، وتقبيح صفتهم ، ليكون التشبيه بعد ذلك أبلغ في ذم المشبّهين بأولئك الأوّلين ، كما تريد أن تنبّه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول : أنت مثل فرعون ، كان يقتل بغير حق ، ويظلم ويفسق وأنت تفعل مثل فعله. وأمّا قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [الآية ٦٩] ؛ فإنه لمّا كان معطوفا على ما قبله وهو التشبيه المصدّر بتلك المقدّمة ، أغنى ذلك عن إعادة تلك المقدّمة المذكورة ، للتقبيح والتهجين.

فإن قيل : قوله تعالى (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الآية ٦٩] ؛ فحبوط العمل ، إن كان عبارة عن بطلان ثوابه ، فذلك إنّما يكون في الاخرة ، وإن كان عبارة عن بطلان منفعته ، فأعمال المنافقين في الدنيا ليست باطلة المنفعة ، لأنهم ينتفعون بها في حقن دمائهم وأموالهم ، وجريان أحكام المسلمين عليهم؟

قلنا : المراد بالأعمال ، إن كانت نوعي أعمالهم الدينية والدنيوية ؛ فالحبوط في الدنيا راجع إلى أعمالهم الدنيوية ؛ وهي كيدهم ومكرهم وخداعهم ونفاقهم الذي كانوا يقصدون به إطفاء نور الله تعالى ، ودفع آياته وبيّناته. ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون ، فلم ينالوا من ذلك ما أملوه وقصدوه من إبطال دين الله تعالى ، وستر نبوّة محمد (ص). والحبوط في الاخرة ، راجع إلى أعمالهم الدينية ، وهي عباداتهم وطاعاتهم لأنهم فعلوها نفاقا ورياء فبطل ثوابها في الاخرة ، وإن كان المراد بأعمالهم مجرّد الأعمال الدينية ، فحبوطها في الدنيا هو عدم قبولها ، لأن الله تعالى يقبل العبادة في الدنيا ، ثم يثيب عليها في الاخرة ، والمراد بحبوطها في الدنيا ، عدم قبولها ، وعدم إطلاق الأسماء الشريفة عليها ، كالعبادة والقربة والحسنة ، ونحو ذلك ؛ وهذا

٢٩١

ضد قوله تعالى (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) [العنكبوت] فدلّ على أن للطاعات أجرا معجلا في الدنيا ، غير الأجر المؤجل إلى الاخرة ، وهو القبول ، وحسن الثناء ، والذكر ، وإلقاء المحبة في قلوب الخلق ، كما قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦) [مريم] قيل معناه : يحبّهم ، ويحبّبهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب المحبة ، وكذلك على العكس حال العصاة والفساق يبغضهم ، ويبغّضهم إلى عباده من غير سبب بينه وبينهم يوجب البغض.

فإن قيل : قوله تعالى (وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٧٤) لم خصّ الأرض بالنفي ، مع أن المنافقين ليس لهم وليّ ولا نصير ، من عذاب الله في الأرض ، ولا في السماء ؛ في الدنيا وفي الاخرة؟

قلنا : لمّا كان المنافقون لا يعتقدون الوحدانية ولا يصدّقون بالآخرة ، كان اعتقادهم وجود الوليّ والنصير مقصورا على الدنيا ؛ فعبر عن الدنيا ، بالأرض وخصّها بالذكر لذلك. الثاني أنه أراد بالأرض أرض الدنيا والاخرة فكأنه قال : ومالهم في الدنيا من وليّ ولا نصير.

فإن قيل : لم خصّ السبعين بالذكر في قوله تعالى (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [الآية ٨٠] ؛ مع أن الله تعالى لا يغفر للمنافقين ، ولو استغفر لهم الرسول (ص) ألف مرة ، بدليل قوله تعالى (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [المنافقون : ٦] ولأنّهم مشركون ، والله تعالى (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [النساء : ٤٨]؟

قلنا : جرت عادة العرب ، بضرب المثل في الآحاد بالسبعة ، وفي العشرات بالسبعين ، وفي المئات بسبعمائة ، استعظاما لها واستكثارا ؛ لا أنهم يريدون بذكرها الحصر ، فكأنه قال : إن تستغفر لهم أعظم الأعداد وأكثرها ، فلن يغفر الله لهم ، ويحدّده ما ذكره بعد ذلك ، من بيان الصارف عن المغفرة ، في قوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية ٨٠].

فإن قيل : لو كان المراد ما ذكرتم ، لما خفي ذلك على النبي (ص) وهو

٢٩٢

أفصح العرب وأعلمهم بأساليب الكلام وتمثيلاته ، حتّى قال لمّا نزلت هذه الآية : إن الله تعالى قد رخّص لي فسأزيد على السبعين. وفي رواية أخرى. فسأستغفر لهم أكثر من السبعين ، لعلّ الله أن يغفر لهم؟

قلنا : لم يخف عليه ذلك ، وإنّما أراد بما قال إظهار غلبة رحمته ورأفته ، بمن بعث إليهم ، كما وصفه الله تعالى بقوله (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [الآية ١٢٨]. وفي إظهار النبي (ص) الرأفة والرحمة لطف لأمته ، وحثّ لهم على التراحم ، وشفقة بعضهم على بعض ؛ وهذا دأب الأنبياء (ع) ، ألا ترى إلى قول إبراهيم صلوات الله عليه كما ورد في التنزيل (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) [ابراهيم].

فان قيل : لم قال تعالى (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩١) ؛ والمغفرة والرحمة إنما تكون للمسيئين ، لا للمحسنين؟

قلنا : معناه والله غفور رحيم للمسيئين إذا تابوا ، فهو متعلّق بمحذوف لا بالمحسنين ، لأنهم قد سدّوا بإحسانهم طريق العقاب والذم ، فليس عليهم سبيل فيهما. الثاني ، أنّ المحسن من الناس ، وإن تناهى في إحسانه لا يخلو من إساءة بينه وبين الله تعالى ، أو بينه وبين الناس ، لكنه إذا أحسن باجتناب الكبائر ، غفر الله له صغائر سيئاته ، ورحمه ، كما قال تعالى (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) [النساء : ٣١].

فإن قيل قوله تعالى (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) [الآية ١٠٥] أي سيعلم ، لأن السين للاستقبال ، والرؤية من الله تعالى بمعنى العلم ، والله تعالى عالم بعملهم حالا ومالا؟

قلنا : معناه في حقّ الله ، أنه سيعلمه واقعا موجودا كما علمه غيبا ، لأن الله تعالى يعلم كلّ شيء على ما هو عليه ، فيعلم المنتظر منتظرا ، ويعلم الواقع واقعا ؛ وأما في حق الرسول (ع) فهو على ظاهره.

فإن قيل : إن الله تعالى ، قد وصف العرب بالجهل في القرآن ، بقوله سبحانه (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [الآية ٩٧] فكيف يصح الاحتجاج بألفاظهم وأشعارهم ، على كتاب الله وسنة رسوله (ص)؟

٢٩٣

قلنا : هذا وصف من الله لهم ، بالجهل في أحكام القرآن لا في ألفاظه ؛ ونحن لا نحتجّ بلغتهم في بيان الأحكام ، بل نحتج بلغتهم في بيان معاني الألفاظ ، لأن القرآن والسنة جاءا بلغتهم.

فإن قيل لم قال تعالى في صفة المنافقين (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [الآية ١٠١] وقال في موضع آخر (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : ٣٠].

قلنا : هذه الآية ، نزلت قبل تلك الآية ، فلا تناقض ، لأنه نفى علمه لهم في زمان ، ثم أثبته بعد ذلك في زمان آخر.

فان قيل : قوله تعالى (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [الآية ١٠٢] قد جعل كلّ واحد منهما مخلوطا ، فأين المخلوط به؟

قلنا : كلّ واحد مخلوط ومخلوط به ، لأن معناه : خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن ، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه ، وفيه من المبالغة ما ليس في قولك : خلطت الماء باللبن ، لأنك بالباء جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به ، وبالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما ؛ كأنك قلت : لخلطت الماء باللبن ، واللبن بالماء ؛ ويجوز أن تكون الواو بمعنى الباء ، كقولهم : بعت شاة ودرهما ، يعنون شاة بدرهم.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [الآية ١١٢] بالواو ، وما قبلها من الصفات بغير واو؟

قلنا : لأنها صفة ثامنة ، والعرب تدخل الواو بعد السبعة إيذانا بتمام العدد ، فإن السبعة عندهم ؛ هي العقد التام كالعشرة عندنا ؛ فأتوا بحرف العطف الدال على المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه ، ونظيره قوله تعالى (وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) [الكهف : ٢٢] بعد ما ذكر العدد مرّتين بغير واو ؛ وقوله تعالى في صفة الجنة (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧٣] بالواو لأنها ثمانية. وقال في صفة النار ، نعوذ بالله منها ، فتحت أبوابها بغير واو لأنها سبعة. وليس قوله تعالى (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (٥) [التحريم] من هذا القبيل ، لأن الواو لو أسقطت فيه لاستحال المعنى ، لتناقض الصفتين. وقيل إنّما دخلت الواو على الناهين عن المنكر ، إعلاما بأن الأمر بالمعروف ، ناه عن المنكر ، في حال أمره بالمعروف ؛ فهما

٢٩٤

صفتان متلازمتان ، بخلاف باقي الصفات المذكورة ، فإنها ليست متلازمة ؛ ولا ينقض هذا بقوله تعالى (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) [الآية ١١٢] لأنهما ليستا صفتين متلازمتين ، لأن السجود يلزم الركوع ؛ أمّا الركوع ، فلا يلزم السجود ، بدليل سجود التلاوة ، وسجود الشكر ؛ والزمخشري لم يتكلم على هذه الواو.

فإن قيل : لم قال تعالى (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢١) ؛ أي بأحسن الذي كانوا يعملون بإضمار حرف الجر ، مع أنهم يجزون بحسنة أيضا ، لقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٧) [الزلزلة]؟

قلنا : معناه بحسن الذي كانوا يعملون ، وهو الطاعات كلها ، لا بسيّئة وهو المعاصي ، فالأحسن هنا ، بمعنى الحسن ؛ وسيأتي في سورة الروم ، في قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] وما يوضح هذا إن شاء الله تعالى. الثاني : أن معناه ، ليجزيهم الله أحسن من الذي كانوا يعملون.

فإن قيل : قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [الآية ١٢٤] يدل على أن الإيمان يقبل الزيادة؟

قلنا : قال مجاهد : معناه فزادتهم علما ؛ لأن العلم من ثمرات الإيمان ، فجعل مجازا عنه ، والله أعلم.

٢٩٥
٢٩٦

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «التوبة» (١)

.............. (٢)

على الحقيقة هي التقارب بالحدود مثل المسامتة ، وهي المماثلة في السّمت الذي هو الجهة ، وذلك من صفات الأجسام ، وذوات الحدود والأقطار. فالمراد إذن بالمحادّة هاهنا كون الإنسان في غير الحدّ الذي فيه أولياء الله سبحانه. فكأنهم في حدّ ، وأولياء الله سبحانه في حدّ. وكذلك الكلام في مشاقّة الله تعالى على أحد التأويلين ، وهو أن يكون الإنسان في شقّ أعداء الله وحربه ، لا في شقّ أوليائه وحزبه.

وحقيقة الكلام أن يكون المراد به محادّة أولياء الله على الصفة التي ذكرناها فقال تعالى : (يُحادِدِ اللهَ) [الآية ٦٣] كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] أي يؤذون أولياء الله ورسوله ، لأنّ الأذى لا يجوز على من لا تلحقه المنافع والمضار ، والمساآت والمسارّ.

وفي قوله سبحانه : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) [الآية ٦٤] وهذه استعارة. لأن السورة ، نطقها من جهة البرهان ، لا من جهة اللسان. فكأنه سبحانه ، أراد أنّ الناس يعلمون ، بهذه السورة ، النازلة في المنافقين ، بواطن نفوسهم ، وعقائد قلوبهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هنا بداية القسم الموجود من سورة التوبة ، أما ما قبل ذلك فمفقود مع آخر قسم من سورة الأعراف.

٢٩٧

وقوله سبحانه (١) : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) [الآية ٨٧]. [الخوالف النساء (٢)] المقيمات في دار الحي بعد رحيل الرجال. وإنما سمّي النساء خوالف تشبيها لهنّ بالخوالف ، التي واحدتهن خالفة ، وهي الأعمدة تكون في أواخر بيوت الحيّ المضروبة. فشبّهن ـ لكثرة لزوم البيوت ـ بالخوالف التي تكون في البيوت.

وقد قيل إن الخوالف أيضا زوايا البيوت ، واحدتها خالفة ؛ والمعنى واحد. وقد يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ) حقيقة الخوالف التي هي أعمدة البيوت ؛ أي رضوا بأن يكونوا في بيوتهم ، فيكونوا ـ بالملازمة لها ـ كخوالفها وأعمدتها.

وقد يجوز أيضا ، أن يكون الخوالف هاهنا جمع فرقة خالفة. وهي الجماعة التي تقعد عن الغزو ، كالشيوخ ، والنساء ، وذوي العاهات ، والولدان. وممّا يقوي ذلك قوله تعالى أمام هذا الكلام : (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ) (٨٣).

وكنت سمعت شيخنا أبا الفتح عثمان بن جنّي (٣) النحوي ـ رحمه‌الله ـ يقول ذلك ، ويذهب إلى مثله أيضا في قوله سبحانه : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠]. ويقول : هي جمع فرقة كافرة. إلا أنّ الكلام يكون على القول الأول استعارة. ويكون على هذا القول حقيقة.

وفي قوله سبحانه : (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) [الآية ٩٨] استعارة. (٤) .... عليهم أيام السوء ، لأن الأيام والشهور قد تسمى دوائر ، على طريق الاستعارة. فليس لأنها ترجع بأعيانها ، وإنّما تعود أشباهها وأمثالها ، فشهر كشهر ، ويوم كيوم ، وساعة كساعة ، وسنة كسنة. يقال دارت السنون ، ودارت الشهور على

__________________

(١). هذه زيادة ليست بالأصل يقتضيها السياق.

(٢). هذا السطر ممحوّ ، وقد استظهرناه من السياق ، الذي يفسر الخوالف بالنساء المقيمات في دار الحيّ.

(٣). أبو الفتح عثمان بن جنّي ، إمام من أئمّة النحو. وقد اشتهر بشرحه لديوان المتنبّي ، وبكتابه «الخصائص» في اللغة ، وهو مشهور. وكان المتنبي يقول : «ابن جني أعرف بشعري مني» ، وقد كان ابن جني أستاذا للشريف الرّضي ، ونقل هذا عنه كثيرا في كتابه «المجازات النبوية». توفي سنة ٣٩٢ ه‍.

(٤). هنا سطران ممحوان محوا تاما.

٢٩٨

هذا المعنى. إلّا أن هذه اللفظة ، أعني الدائرة والدوائر ، قد اختص ذكرها بالمواضع المكروهة. فيقال : دارت عليهم الدوائر ، إذا أهلكتهم الأيام ، وأفنتهم الأعوام. ويقال : دارت لهم الدنيا. إذا وصفوا بمواتاة الإقبال ، وانتظام الأحوال. فكأنّ التمييز في الخير أو الشرّ ، إنما يقع بقولنا : دارت لهم ، ودارت عليهم.

وفي قوله سبحانه : (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ) [الآية ١٠٩] استعارة. والمراد بها ذكر ما بناه المنافقون من مسجد الضّرار (١) ، بعد ما بنى المؤمنون من المسجد المعروف بمسجد قباء (٢). لأن المؤمنين وضعوا هذا البناء ، وهم مؤمنون متّقون ، عارفون موقنون ، فكأنهم وضعوه على قواعد من الإيمان ، وأساس من الرضوان. والمنافقون ، إنما وضعوا ذلك البناء كيدا للمؤمنين ، وإرصادا للمسلمين. فكأنهم وضعوه على شفا جرف هار متقوّض ، وأساس واه منتقض ؛ فكأنما انهار بهم في نار جهنّم ، أي أسقطهم ذلك الفعل في عذاب النار ، ودائم العقاب. وهذه من أحسن الاستعارات.

وفي قوله تعالى : (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) [الآية ١١٠] استعارة. ومعناها أن ذكر البنيان الذي بنوه لا يزال ريبة في قلوبهم ، يخافون معها إنزال الله بهم ضروب العقاب ، أو بسط المؤمنين عليهم لما ظاهروهم من العناد والشقاق. فهم أبدا بنفوسهم مستريبون ، وعليها خائفون مشفقون. فلا يزالون على ذلك ، إلا أن تقطّع قلوبهم حسرة ، وتزهق نفوسهم خيفة.

وفي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى

__________________

(١). مسجد الضرار ، هو المسجد الذي بناه المنافقون بقباء ، لإضرار المسلمين وتفريق كلمتهم ، وقد سألوا النبي (ص) عند رجوعه من تبوك ، أن يأتي مسجدهم هذا ليصلّي فيه ؛ فأنزل الله فيه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً). وقد أمر النبي (ص) بهدم هذا المسجد ، الظالم أهله ؛ فحرق ، وهدم ، واتخذ موضعه مكانا للقمامة.

(٢). مسجد قباء هو المسجد الذي أسسه النبي (ص) على التقوى من أول يوم نزل فيه قباء ، وهي بلدة على بعد ميلين من جنوب المدينة.

٢٩٩

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [الآية ١١١] استعارة. وذلك أنه سبحانه لمّا أمرهم ببذل نفوسهم وأموالهم في الجهاد عن دينه ، والمنافحة عن رسوله (ص) ، وضمن لهم على ذلك الخلود في النعيم ، والأمان من الجحيم ، كانت نفوسهم وأموالهم بمنزلة العروض المبيعة ؛ وكانت الأعواض المضمونة عنها بمنزلة الأثمان المنقودة ، وكانت الصفقة رابحة ، لزيادة الأثمان على السلع ، وإضعاف الأعواض على القيم.

وجملة هذا الباب ، أنّ العبادات كلّها كالتجارات ، في أنها طلب للمنافع. فالعبادات (٣) طلب لمنافع الاخرة ، والتجارات طلب لمنافع الدنيا.

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [الآية ١١٧] استعارة. لأن حقيقة الزّيغ الاعوجاج والميل. والمراد : من بعد ما كادت قلوبهم تزول من عظم الخيفة ، وتقنط من نزول الرحمة ، فتكون بذلك كالشيء الزائغ بعد الاستقامة ، والمستمال بعد الثبات والرصانة.

ومن الدليل على ذلك ، قوله تعالى ، بعد هذه الآية : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) [الآية ١١٨] فهذه أيضا استعارة. لأن النفس بالحقيقة لا توصف بالضّيق والاتساع ، وإنما المراد بذلك المراد بالقول الأول ، من أنه عبارة عن انضغاط القلوب بشدّة الكرب ، وبلوغها منقطع الصبر.

وقوله سبحانه : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) [الآية ١٢٠] وهذه استعارة. فالمراد بها ، أنهم لا ينبغي لهم أن يكرموا أنفسهم ، عمّا يبذل النبي (ص) فيه نفسه ، ولا يحفظوا مهجهم في المواطن التي تحضر فيها مهجته ، اقتداء به ، واتّباعا لأثره. وهذه لفظة يستعملها أهل اللسان كثيرا ، فيقولون : رغبت بنفسي عن الضيم ، وأرغب بك يا فلان عن القتل ، أي أضنّ بنفسي عن أن تذلّ ، وأنفس بمثلك عن أن يقتل.

__________________

(٣). في الأصل «بالعبادات» ، وهو تحريف من الناسخ.

٣٠٠