الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الأنفال» (١)

وقوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الآية ٧].

وهذه استعارة عجيبة : لأن ذات الشوكة هاهنا ، إحدى الطائفتين التي فيها سلاح الأبطال وآلة النزال ؛ وذلك أنّ النبي (ص) خرج بالمسلمين يطلب عير قريش ، المقبلة من الشام مع أبي سفيان بن حرب ، وفيها أموالها وذخائرها وعرفت قريش خروجه (ص) ؛ لذلك فخرجت لتمنع عيرها ، وتقاتل دونها. فلما عرف المسلمون خبر خروج قريش للقتال ، كانوا يتمنّون أن يخالفوهم إلى العير فيغنموها ، ويكون ظفرهم بالطائفة التي فيها الغنم ، لا الطائفة التي فيها الجد والحد. فجمع الله بينهم وبين قريش على بدر ، وكانت الحرب المشهورة التي قتل فيها صناديد المشركين ، واشتدّت أعضاد المؤمنين. والكناية بذات الشوكة ، عن ذات السلاح والعدّة ، من أشرف البلاغة وأوقع الاستعارة ، تشبيها بالشوكة (٢) تخز (٣) ، والمدية التي تخرّ.

وقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) [الآية ٢٤].

وهذه استعارة ، على بعض التأويلات المذكورة في هذه الآية ؛ والمعنى أنّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق : محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). سياق الكلام يقتضي أن يكون : بالشوكة التي تخز ، ولعل لفظة «التي» سها عنها الناسخ.

(٣). من خزّ : خزّه بالرمح أي طعنه.

٢٢١

الله تعالى أقرب إلى العبد من قبله ، فكأنه حائل بينه وبين قلبه من هذا الوجه ؛ أو يكون المعنى : أنه تعالى قادر على تبديل قلب المرء ، من حال الى حال ، إذا كان سبحانه موصوفا ، بأنه مقلّب القلوب ؛ والمعنى انه ينقلها من حال الأمن إلى حال الخوف ، ومن حال الخوف الى حال الأمن ، ومن حال المساءة إلى حال السرور ، ومن حال المحبوب الى حال المكروه.

وقوله تعالى : (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) [الآية ٣٧].

وهذه استعارة ، والمراد بها : العمل الخبيث وهو ما يستحق العقاب ، ولا يصح فيه أن يركم بعضه على بعض ، وإنّما يصح ذلك في الأجسام والأجرام ؛ فالمراد ، إذا وصفت العمل الخبيث بالكثرة ، كثرة فاعله ، ومن صفات الكثرة تراكم الشيء بعضه على بعض ، كالرمل الهيام (١) والسحاب الرّكام ، ومعنى (جعله في جهنم) العقاب ينزل عليه بنار جهنم ؛ وقد قيل في ذلك وجه آخر ، يخرج الكلام من باب الاستعارة ، وهو أن يكون المراد بالخبيث هاهنا المال الذي أخذ من غير حق ، وأنفق في غير حقه. فإنّ الله سبحانه ، يجعله في نار جهنم مع آخذيه ، من الوجوه المحرّمة ، ومنفقيه في الوجوه المذمومة ، على طريق العقوبة لهم ؛ والتجديد لخسرانهم ، كلما كثر إليه نظرهم ، كما قال سبحانه ، في صفة الأموال المكنوزة الممنوعة من إخراج الزكاة : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥) [التوبة].

وقوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الآية ٤٦].

وهذه استعارة ، لأنه لا ريح هناك على الحقيقة ، وإنما ذلك على مخرج قول العرب : «قد هبّت ريح فلان» إذا تجددت له دولة ، أو ظهرت له نعمة ، ويقولون : «الريح مع فلان» أي الإقبال معه ، والأقدار تساعده. وأصل ذلك أن الريح في الحرب ، إذا كان مجراها مع

__________________

(١). الرّمل الهيام : ما لا يتماسك.

٢٢٢

إحدى الطائفتين ، كان عونا لها على أعدائها ، في تفريق جموعهم وتقويض صفوفهم ، وإثارة القتام (١) والغبرة في عيونهم ووجهوهم ؛ وهذه الأحوال كلها ، أعوان عليها مع عدوهم ، فما جاء في هذا المعنى ، قول ضرار بن الخطاب الفهري :

قد أيقنوا يوم لا قونا بأنّ لنا

ريح القتال وأصلاب الذين لقوا

أراد لنا دولة القتال وقوة الاستظهار.

ومما جاء في هذا المعنى :

أتنظران قليلا ريث غفلتهم أم تعدوان فإنّ الريح للعادي وهذا قول بعض حراب (٢) العرب يخاطب صاحبه (٣) كأنه قد تنتظران (٤) غفلة الحي مراقبة ، أم تقدمان على استلاب إبلهم مزالبة (٥). فإن الدولة للمقدم ، والغنيمة للمصمم ، والعدو في الأصل هو السلوك بالظلم والبغي. يقال : عدو وعدوان ، وعلى ذلك قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) [يونس : ٩٠].

وقال بعضهم قول الشاعر : «هاهنا تعدوان» إنما أراد به عدو الأقدام ، فكأنه قال أن تنجوا سالمين ، ولا تتعرضا لشوكة الحي محاصرين ؛ فإنّ الإقبال للناجي بحشاشته ، والرابح بسلامته ، إذ كانت السلامة هي الغنيمة التي حازها ، والطريدة التي استقاها. والقول الأول هو المعتمد ، وهو بغرض الشاعر أليق ؛ ألا ترى إلى البيت الأول كيف حقر فيه شأن علوف (٦) الحي إطماعا لصاحبيه فيهم ، واعتدادا كنا أما عليهم (٧) ، وذلك حيث يقول :

__________________

(١). القتام : الغبار الأسود ، غبار الحرب.

(٢). كذا في النسخة ، ولعل الأصل خراب جمع خارب ، وهم سراق الإبل.

(٣). ربما كانت العبارة في الأصل صاحبية لأن السياق يقتضي ذلك.

(٤). لعل الأصل (كأنه قال).

(٥). كذا في النسخة ، ولعلها «مذاءبة» أخذا من فعل الذئب. ورد في اللسان (مادة زلب) : زلب الصبي بأمّه لزمها ، ولم يفارقها ، عن الجرشي والليث : ازدلب في معنى استلب. قال : وهي لغة رديئة.

(٦). كذا في النسخة ، وقد تكون في الأصل خلوف.

(٧). كذا جاء في النص.

٢٢٣

يا صاحبي ألا لا حيّ بالوادي

إلّا عبيدا (١) وإماء بين أوتادي

وقوله تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الآية : ٦١].

وهذه استعارة ، والمراد بها : فإن مالوا إلى السلم ميل ثبات عليه ، وركون إليه ، لا ميل مكر ومخادعة وإدهان ومواربة ، فسالمهم على هذا الوجه الذي طلبوا السلم عليه ، وأنّث السياق «السّلم» ، لأنه بمعنى المسالمة والمخادعة ، وما يجري مجرى ذلك.

وقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٦٧].

وهذه استعارة ، والمراد بها : تغليظ الحال وكثرة القتل ؛ وذلك مأخوذ من قول القائل : قد أثخنني هذا الأمر ، أي بلغ أقصى المبالغ في الثقل عليّ ، والإيلام لقلبي.

__________________

(١). البيتان لأعشى طرود كما في ديوان الأعشين وقد جاء عجز ثانيهما الذي هو الأول «سوى عبيد وأم بين أذواد» والإماء : جمع أمة. [وعجز البيت كما ورد في المتن ، لا يستقيم وزنه إلّا بحذف الواو ، قبل «إماء».

٢٢٤

سورة التوبة

٩

٢٢٥
٢٢٦

المبحث الأول

أهداف سورة «التوبة» (١)

أسماء السورة

عرفت سورة التوبة من العهد الأول للإسلام بجملة أسماء ، تدل بمجموعها على ما اشتملت عليه من المبادئ والمعاني ، التي يجب مراعاتها في معاملة الطوائف كلها ، مؤمنهم ومنافقهم ، وكتابيّهم ومشركهم.

وأشهر هذه الأسماء «سورة التوبة» ، وهو يشير إلى ما تضمنته السورة من تسجيل توبة الله ، وتمام رضوانه على المؤمنين الصادقين ، الذين أخلصوا في مناصرة الدعوة ، وصدقوا في الجهاد مع النبي (ص) ، حتى وصل بهم إلى الغاية المرجوّة ، وذلك في قوله تعالى :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١١٨).

ولا ريب في أن تسجيل هذه التوبة للمؤمنين ـ بعد أن كابدوا الجهد والمشقات في سبيل نصرة الحق ـ لما يقوّي روح الإيمان في قلوبهم ، ويبعد بهم عن مزالق المخالفة ، أو التقصير.

وقد تخلّف ثلاثة من المسلمين عن الاشتراك في الجهاد ، ولم يسهموا في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٢٧

أعباء جيش العسرة ، فأمر النبي (ص) بمقاطعتهم ومعاقبتهم ، ومكثوا فترة من الزمن في عزلة تامة بغرض تأديبهم وتهذيبهم ، ثم تاب الله عليهم ، وقبل توبتهم. وكان ذلك درسا للمسلمين حتى لا يتخلّفوا عن الجهاد ولا يقصّروا في القيام بأعباء الدين وتعاليمه.

ومن أسماء السورة «براءة» ، وهي تشير الى غضب الله ورسوله على من أشرك بالله ، وجعل له سبحانه ، ندّا ، وشريكا ؛ وإعلام الناس في يوم الحج الأكبر.

(أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الآية ٣].

وقد عرفت السورة بعد ذلك ، بأسماء أخرى ، فكانت تسمّى «الكاشفة» و «المثيرة» و «الفاضحة» و «المنكّلة» ، وغير ذلك مما حفلت به كتب التفسير ، وهي ألفاظ أطلقت عليها ، باعتبار ما قامت به ، من كشف أسرار المنافقين ، وإثارة أسرارهم ، وفضيحتهم بها ، وتنكيلها بهم.

ورد أنّ ابن عباس رضي الله عنه قال : سورة التوبة هي الفاضحة ، ما زالت تنزل في المنافقين وتنال منهم حتّى ظننّا أنّها لا تبقي أحدا إلّا ذكرته بقولها : ومنهم ، ومنهم ، ومنهم.

وهو يشير إلى ما جاء في هذه السورة من أصناف المنافقين مثل :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [الآية ٤٩].

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (٥٨).

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (١٠١).

أين البسملة؟

من خصائص سورة التوبة ، أنه لم يذكر في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لأنها تبدأ بإعلان الحرب الشاملة ، ونبذ العهود كافّة ، والبسملة تحمل روح السلام والطمأنينة ، لذلك لم تبدأ بها سورة الحرب والقتال.

وربما كان سبب عدم وجود البسملة في أولها ، الاشتباه في أنها جزء من

٢٢٨

سورة الأنفال ، خصوصا أن سورة الأنفال تحكي جهاد المسلمين في معركة بدر ، وسورة التوبة تصف جهاد المسلمين في معركة تبوك. فقصة الأنفال شبيهة بقصة سورة التوبة ، من ناحية الهدف العام ، والتحريض على الجهاد ، والتحذير من التخلّف عن أمر الله ورسوله. لذلك تركت سورة التوبة مع سورة الأنفال. ووضع بينهما فاصل السورة ، ولم يكتب في أوّل التوبة «بسم الله الرحمن الرحيم» ، احترازا من الصحابة أن يضيفوا أي شيء إلى رسم القرآن ، إلّا بتوجيه من النبي (ص).

روى الترّمذي بإسناده عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى «الأنفال» وهي من المثاني ، وإلى «براءة» وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر : «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟

فقال عثمان : كان رسول الله (ص) ممّا يأتي عليه الزمان ، وهو ينزل عليه السور ذات العدد ، فكان إذا أنزل عليه الشيء ، دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت «الأنفال» من أوّل ما نزل بالمدينة ، وكانت «براءة» من آخر ما نزل من القرآن ، وكانت قصّتها شبيهة بقصّتها ، وخشيت أنها منها. وقبض رسول الله (ص) ، ولم يبيّن لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ووضعتها في السبع الطوال.

أهداف سورة التوبة

سورة التوبة هي السورة التاسعة في ترتيب المصحف ، وهي من السور المدنية ، وقد نزلت في أواخر السنة التاسعة من الهجرة. وهي السنة التي خرج فيها النبي (ص) بالمسلمين إلى تبوك ، بقصد غزو الروم ، كما خرج أبو بكر في أواخر سنة تسع على رأس المسلمين ، لحجّ بيت الله الحرام.

هدفان أصليان

وقد كان للسورة ، بحكم هذين الحادثين العظيمين ، في تاريخ الدولة

٢٢٩

الإسلامية ، هدفان أصليان :

أحدهما : تحديد القانون الأساسي الذي تشاد عليه دولة الإسلام. وذلك بالتصفية النهائية بين المسلمين ومشركي العرب ، بإلغاء معاهدتهم ، ومنعهم من الحج ، وتأكيد قطع الولاية بينهم وبين المسلمين ، وبوضع الأساس في قبول بقاء أهل الكتاب في جزيرة العرب ، وإباحة التعامل معهم.

ثانيهما : إظهار ما كانت عليه نفوس أتباع النبي (ص) حينما استنفرهم ودعاهم إلى غزو الروم ، وفي هذه الدائرة تحدّثت السورة عن المتثاقلين منهم ، والمتخلّفين والمبطئين ؛ وكشفت الغطاء عن فتن المنافقين ، وما انطوت عليه قلوبهم من أحقاد ، وما قاموا به من أساليب النفاق.

وقد عرضت السورة من أوّلها للهدف الأول. واستغرق ذلك سبعا وثلاثين آية في أول السورة ، وقد تضمنت هذه الآيات ما يأتي :

(أوّلا) تقرير البراءة من المشركين ، ورفع العصمة عن أنفسهم وأموالهم.

(ثانيا) منحهم هدنة ، مقدارها أربعة شهور.

(ثالثا) إعلام الناس جميعا ، يوم الحج الأكبر (وهو يوم عيد الأضحى) بهذه البراءة.

(رابعا) إتمام مدة العهد ، لمن حافظ منهم على العهد.

(خامسا) بيان ما يعاملون به ، بعد انتهاء أمد الهدنة ، أو مدة العهد.

(سادسا) تأمين المستجير حتى يسمع كلام الله.

(سابعا) بيان الأسباب التي أوجبت البراءة منهم ، وصدور الأمر بقتالهم.

(ثامنا) إزالة وساوس قد يخطر في بعض النفوس ، أنها تبرّر مسالمة المشركين ، أو الإبقاء على عهودهم.

رحمة الله بالعباد

لقد برئ الله من المشركين ومن فعالهم ، لأنّ الشرك والكفر ظلم عظيم ، وجحود بحق الله الخالق الرازق ، الذي يستحق العبادة وحده ، لكن الله سبحانه أمهل المشركين مدة أربعة أشهر ، لتمكينهم من النظر والتدبير ، لاختيار ما يرون فيه مصلحتهم ، من الدخول في الإسلام ، أو الاستمرار على العداء.

٢٣٠

ولعل الحكمة في تقدير تلك المهلة ، بأربعة أشهر ، أنها هي المدة التي كانت تكفي لتحقيق ما أبيح لهم من السياحة في الأرض ، والتقلّب في شبه الجزيرة ، على وجه يمكّنهم من التشاور والأخذ والرد ، مع كل من يريدون أخذ رأيه ، في تكوين الرأي الأخير. قال تعالى :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) (٢).

ومن رحمة الإسلام أيضا ، إباحة تأمين المشرك ، وتقرير عصمة المستأمن ، وقد أوجب الله على المسلمين حماية المستأمن ، في نفسه وماله ، ما دام في دار الإسلام ، وجعل لأفراد المسلمين حق إعطاء ذلك الأمان ، (فالمسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم).

والإسلام يبيح ، بهذا الأمان ، التبادل التجاري والصناعي والثقافي ، وسائر الشؤون ما لم يتصل شيء منها بضرر الدولة. وقد كان للإسلام من مشروعية الأمان ، وسيلة قوية لنشر دعوته ، وإيصال كلمة الله إلى كثير من الأقاليم النائية ، من غير حرب ولا قتال. قال تعالى :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (٦).

فالإسلام يمنح الجوار والأمان للمشرك ، الذي يبحث عن الحقيقة ، ويريد أن ينظر في الإسلام نظر تأمل ودراسة ، فيسمح له بالدخول فيما بين المسلمين والتعامل معهم ، والاختلاط بهم ، حتى يفهم حكم الله ودعوته. فإن اطمأن ودخل الإيمان في قلبه ، التحق بالمؤمنين ، وصار في الحكم كالتائبين. وإن لم يشرح صدره للإسلام وأراد الرجوع إلى جماعته ، حرم اغتياله ، ووجبت المحافظة عليه ، حتى يصل مكان أمنه واستقراره.

وبذلك بلغ الإسلام شأوا بعيدا في حماية الفكر والنظر ، وتذليل الطريق أمام الباحثين والمفكّرين ، وحمايتهم حتى يصلوا إلى مواطن الأمان ، أيّا كانت معتقداتهم ، وصدق الله العظيم :

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) [البقرة : ٢٥٦].

غزوة تبوك

في السنة التاسعة من الهجرة ، وصلت للرسول (ص) أنباء ، تفيد أن

٢٣١

الروم قد جمعوا جموعهم ، واعتزموا غزو المسلمين في بلادهم ، فأمر النبي (ص) أن يتجهز المسلمون ، وأن يأخذوا عدّتهم ، ويخرجوا إلى تبوك لقتال الروم في بلادهم ، قبل أن يفاجئوه في بلده.

أعلن النبي (ص) النفير العام ، وكان قلّما يخرج إلى غزوة ، إلا ورّى بغيرها ، مكيدة في الحرب ، إلا ما كان من هذه الغزوة ـ غزوة تبوك ـ فقد صرّح بها لبعد الشّقّة ، وشدة الزمان ، إذ كان ذلك في شدة الحرّ ، حين طابت الظلال ، وأينعت الثمار ، وحبّب إلى الناس المقام.

عندئذ وجد المنافقون فرصة سانحة ، للتخذيل فقالوا : لا تنفروا في الحر ، وخوّفوا الناس بعد الشّقّة وحذّروهم شدّة بأس الروم. وكان لهذا كله ، أثره في تثاقل بعض الناس ، عن الخروج للجهاد.

كذلك أخذ المنافقون يستأذنون في التخلف عن الغزو ، معتذرين بالأعذار الكاذبة الواهنة ، كما دبّر بعضهم المكائد للنبي (ص) في ثنايا الطريق.

ولم يكن بدّ من هذا الامتحان ليكشف الله المنافقين ، ويثبّت المؤمنين الصادقين ، فالشدائد هي التي تكشف الحقائق ، وتظهر الخبايا.

وقد ظهر الإيمان الصادق ، من المؤمنين المخلصين ، فسارعوا إلى تلبية الدعوة بأموالهم وأنفسهم ، يجهّزون الجيش ، ويعدون العدّة ، وقد خرج أبو بكر حينئذ عن كل ما يملك ، كما قام بنصيب الأسد في التجهيز عثمان بن عفان ، بذل الآلاف ، وجهّز المئات من البعير والخيل ، وجهّز هو وغيره الفقراء الأقوياء ، الذين جاءوا إلى النبي (ص) بأنفسهم ، ليحملهم ، فقال لهم كما ورد في التنزيل :

(لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) [الآية ٩٢].

ثم يستمر سياق سورة «التوبة» في الحديث عن المنافقين ، وما يظهر منهم من أقوال وأعمال تكشف عن نواياهم ، التي يحاولون سترها فلا يستطيعون ؛ فمنهم من ينتقد النبي (ص) في توزيع الصدقات ، ويتّهم عدالته في التوزيع ، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم ؛

٢٣٢

ومنهم من يقول هو أذن يستمع لكل قائل ، ويصدّق كل ما يقال. ومنهم من يتخفّى بالقولة الفاجرة الكافرة ، حتى إذا انكشف أمره استعان بالكذب والحلف ، ليبرئ نفسه من تبعة ما قال ؛ ومنهم من يخشى أن ينزل الله على رسوله سورة ، تفضح نفاقهم ، وتكشفهم للمسلمين.

ثم تقارن «السورة» بين المنافقين والمؤمنين ، لتبيّن الفرق الواضح بين صفات المنافقين ، وصفات المؤمنين الصادقين ، الذين يخلصون للعقيدة ولا ينافقون ؛ فقد خرج المؤمنون للجهاد مع رسول الله (ص) وقطعوا مسافة طويلة في الصحراء الجرداء ، تقدر بنحو ٦٩٢ كيلو مترا. وكان المؤمنون يتدافعون إلى الجهاد ، ويشتاقون إلى الشهادة. ولمّا أحس الروم بقدوم المسلمين ، انسحبوا من أطراف بلادهم الى داخلها ، فلمّا وصل المسلمون إلى تبوك ، لم يجدوا للروم أثرا. وقد عقد النبي (ص) معاهدات مع أمراء الحدود ، وعاد إلى المدينة مرهوب الجانب ، محفوظا بعناية الله.

وقد استقبل النبي (ص) المتخلّفين عن الجهاد في غزوة تبوك ، فمنهم أصحاب الأعذار الحقيقية ، وهؤلاء معذورون معفون من التّبعة ؛ ومنهم القادرون الذين قعدوا بدون عذر ، فعليهم تبعة التخلف ، ووزر النكوص عن الجهاد.

ثم تمضي سورة التوبة ، فتتحدث عن الأعراب ، فتذكر طبيعتهم ، وصنوفهم ، ومواقفهم من الإيمان والنفاق.

ثم تقسم الجماعة الإسلامية كلّها عند غزوة تبوك ، وبعدها ، إلى طبقاتها ودرجاتها ، وفق مقياس الإيمان والأعمال :

فهناك السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار ، والذين اتّبعوهم بإحسان ؛ وهناك المنافقون الذين تمرّسوا بالنفاق ، وتعوّدوا عليه ، سواء أكانوا من الأعراب ، أم من أهل المدينة ؛

وهناك الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيّئا ، واعترفوا بذنوبهم ؛ وهناك الذين أخطئوا وأمرهم متروك لله ، إمّا يعذّبهم ، وإمّا يتوب عليهم ؛ وهناك فئة أخلصت لله في الإيمان ، وتخلّفت من غير عذر ، ثم ندمت ندما عميقا ، وضاقت الدنيا في وجهها ، ولجأت إلى

٢٣٣

الله ، تطلب مغفرته ورحمته ، فتاب الله عليهم ، وألهمهم طريق التوبة والسداد ، إن الله هو التواب الرحيم.

علاقات المسلمين بغيرهم

سورة التوبة ، هي آخر سور القرآن نزولا ؛ وفي هذه السورة نجد القول الفصل في علاقات الأمة المسلمة بالمشركين ، وبأهل الكتاب ، وبالمنافقين ؛ وهذا هو موضوعها الذي تدور حوله.

لقد كانت بين المسلمين وبعض المشركين عهود ، ولم يكن المشركون يحافظون على عهودهم ، إلّا ريثما تلوح لهم فرصة ، يحسبونها مؤاتية للكرّة على المسلمين ، وكان المشركون ، حتى بعد فتح مكة ، يطوفون بالبيت عرايا ، على عادتهم في الجاهلية ، ويصفّقون ، ويصفرون ، مخلّين بكرامة البيت العتيق ، فلم يكن بدّ من أن تخلص الجزيرة العربية للإسلام ، وأن تتخلّص من الشرك.

والجهاد ، هو الوسيلة لتطهير الجزيرة من رجس المشركين والمنافقين ؛ ثم تناولت السورة موضوع الجهاد بالنفس ، والمال ، وبيّنت شرفه وأجره. وأنحت على المتخلّفين القاعدين ، واستجاشت وجدان المسلمين الى قتال الكفار المنافقين ، بما صوّرت من كيدهم للمسلمين ، وحقدهم عليهم ، وتمني الشر لهم ، وما تحمله نفوسهم من الخصومة والبغضاء ، وما وقع منهم للرسول (ص) ومن معه من المؤمنين ؛ وبذلك كانت سورة التوبة ، تحمل القول الفصل في علاقات المسلمين بغيرهم ، وتحدّد موقفهم الحاسم الأخير.

وقد لوّنت السورة أساليب الدعوة إلى الجهاد ، فحينا تنكر على المؤمنين تثاقلهم وإخلادهم إلى الأرض ، وحينا آخر تهتمّ بتطهير الجيش من عناصر الفتنة والخذلان ، ومرة أخرى توضح أن سنة الله ماضية لا تتخلّف ؛ وأن من قوانين الحق سبحانه ، أنّ البقاء والعزة والسلطان ، إنّما هو يكون للعاملين المجاهدين ؛ أمّا المتباطئون والمتثاقلون ، الذين يؤثرون حياتهم ، ويضنّون بأنفسهم وأموالهم ، ويخلدون إلى الأرض ، ويعرضون عن دعوة الجهاد في سبيل حريتهم وبقائهم ، فإنهم لا بدّ ذاهبون ، وهم لا محالة مستذلّون مستعبدون.

٢٣٤

فضل الرسول الأمين

تعرّضت سورة التوبة ، لبيان فضل رسول الله (ص) ومكانته السامية ، ومناقبه الكريمة ؛ فذكرت أن الله سبحانه أنزل السكينة عليه ، وأيّده بجنود من الملائكة في يوم «حنين» ، حين انهزم المؤمنون ، وولّوا مدبرين.

ومن كرامة الرسول (ص) أن الله نصره عند الهجرة مع صاحبه الصّدّيق ، وكان الله معهما بتأييده وإنزاله الطمأنينة والأمان عليهما ؛ وحفظهما في الغار ، حتّى عميت عنهما عيون الكفار ؛ وجعل الله كلمة المؤمنين في ارتفاع وانتصار ، وشأن الكافرين في هزيمة واندحار ؛ وقد فرضت سورة التوبة على المؤمنين عدة واجبات ، تجاه نبيهم منها :

١ ـ محبّته (ص) والتزام هديه ، والعمل بسنّته ، كما نجد ذلك في الآية ٢٥.

٢ ـ تحرّي مرضاته ، لأن رضاه من رضا الله سبحانه ، ونجد ذلك في الآية ٦٢.

٣ ـ وجوب طاعته ، والنصح له ، ووجوب نصره.

٤ ـ تحريم إيذائه ، وتحريم معاداته ، وتحريم القعود عن الخروج معه في الجهاد.

وتختم السورة آياتها بذكر صفات رسول الله (ص). فهو الرحمة المهداة ، لتطهير المؤمنين ، وتزكيتهم ، وتعليمهم ، والدعاء لهم ؛ فحبّه فريضة ، وبغضه كفر وحرمان. وقد تكفّل الله بنصر رسوله ، حتى ولو تخلى عنه جميع الناس ، فإن معه الله القوي القدير ، قال تعالى :

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (١٢٩).

٢٣٥
٢٣٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «التوبة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة التوبة بعد سورة المائدة ، وكان نزولها في ذي القعدة أو ذي الحجّة من السنة التاسعة للهجرة ، وكان النبي (ص) أرسل أبا بكر في أخريات ذي القعدة ليحجّ بالناس ، فنزلت هذه السورة بعد سفره ، وفيها نبذ العهود للمشركين جميعهم الذين لم يفوا بعهودهم ، فأرسل بها عليّا ليبلّغها إلى الناس في يوم الحج الأكبر ، فلحق أبا بكر في الطريق ، ثم أبلغها الناس في ذلك اليوم ، ثم نادى : لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. فتكون سورة التوبة ، من السور التي نزلت بين غزوة تبوك ووفاة النبي (ص).

وقد سميت هذه السورة باسم التوبة ، لأنه ذكر في الآيتين : ١١٧ و ١١٨ ، توبة الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتّبعوه في ساعة العسرة ، بعد ما (كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) [الآية ١١٧] ، وعلى الثلاثة الذين خلّفوا في غزوة تبوك ، وتبلغ آياتها تسعا وعشرين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة لتحديد علاقة المسلمين بأعدائهم في آخر عهد النبوّة ، وكان أعداؤهم على ثلاثة أقسام : أوّلها مشركو العرب ، وقد نبذت في هذه السورة عهود الذين لم يفوا بعهودهم منهم ، وأمهلوا فيها أربعة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣٧

أشهر يسيحون في الأرض ، وأتمّ فيها عهد من وفي بعهده إلى مدته ، لتخلص جزيرة العرب للمسلمين وحدهم. وثانيها من حاربهم من اليهود والنصارى ، وقد أمروا فيها بقتالهم وقبول الجزية منهم إذا سالموهم. وثالثها المنافقون ، وقد فضحوا فيها ، وكشفت أسرارهم ، وأمر المسلمون بمقاطعتهم والبعد عنهم. وتنقسم هذه السورة في ذلك الى قسمين : أوّلهما في الكلام على المشركين وأهل الكتاب ، وثانيهما في الكلام على المنافقين ؛ وقد استطرد في أثناء ذلك إلى بعض الحوادث التي وقعت في تاريخ نزول هذه السورة ، كغزوة حنين وغزوة تبوك.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة الأنفال ، لما سبق من أنهما يعدّان كسورة واحدة تتمّم السبع الطوال ؛ وقد ذهب كثير من الصحابة إلى أنهما سورة واحدة ، وجعل هذا هو السبب في ترك التسمية في أول هذه السورة ؛ ومما يذكر في المناسبة بين السورتين ، أن سورة الأنفال ذكرت فيها العهود ، وسورة التوبة ذكر فيها نبذ العهود ؛ وأن سورة الأنفال ، ختمت بفرض الموالاة بين المؤمنين ، وقطعها بينهم وبين الكفار ؛ وقد افتتحت بهذا سورة التوبة ؛ وأن قصة سورة التوبة ، تشبه قصة سورة الأنفال ، لأن كلّا منهما نزل في القتال.

الكلام على المشركين وأهل

الكتاب

الآيات (١ ـ ٣٧)

قال الله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

فأوجب البراءة من عهود المشركين ، وأباح لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر ، وأمر أن يؤذنوا بهذا يوم الحجّ الأكبر ؛ فإن تابوا في مدة إمهالهم فهو خير لهم ، وإن أصرّوا على كفرهم فلن يعجزوا الله في دنياهم ، ولهم في الاخرة عذاب أليم ؛ ثم استثنى منهم الذين كان لهم عهد ولم ينقضوه ، فأمر أن يتمّ لهم عهدهم إلى مدّتهم ، ثمّ أمر بقتالهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم حيث وجدوا ، فإن تابوا كفّ عن قتالهم ؛ ثم أمر النبي (ص) أن يجير من استجاره منهم حتّى يسمع كلامه ، وأن يبلغه بعد هذا مأمنه من دار قومه ، ويكون حكمه في القتال كحكمهم ؛ ثم أنكر السياق أن يكون لأولئك المشركين عهد عند

٢٣٨

النبي (ص) ، واستثنى منهم الذين عاهدهم عند المسجد الحرام ، فأمر سبحانه أن يستقيموا لهم ما استقاموا لهم ، ثم عاد السياق فأنكر أن يكون لأولئك المشركين عهد ، وهم إن يظهروا على المؤمنين لا يرعوا فيهم عهدا ، لأنهم غير مخلصين في عهدهم ، وأكثرهم فاسقون لا قيمة للعهد عندهم ؛ ثم ذكر من فسقهم أنهم آثروا الكفر على الإيمان بثمن قليل من متاع الدنيا ، وأنهم لا يرقبون في مؤمن عهدا ، وأنهم هم المعتدون على المسلمين ؛ ثم ذكر أنهم إن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فهم إخوانهم في الدين ؛ وأنهم ، إن نكثوا أيمانهم من بعدهم وجب قتالهم ونقض عهدهم ، لأنهم لا أيمان لهم.

ثم ذكر في تسويغ قتالهم ، أنهم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول من مكة ، قبل أن يهاجر منها ، وبدءوا المسلمين بالقتال ظلما وعدوانا ؛ ثم أمرهم بقتالهم ليعذّبهم سبحانه بأيديهم ويخزيهم ، وينصرهم عليهم ، ويشفي صدورهم منهم ؛ وذكر أنه لم يكن ليتركهم ، من غير أن يميز بالجهاد بين الصادقين في إيمانهم وغيرهم ، ولم يكن ليترك المشركين يعمرون المسجد الحرام بكفرهم ، لأن الأحقّ بعمارته الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ؛ ثم أنكر على المشركين أن يسوّوا بين ذلك ، وما يقومون به من سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ؛ وحكم بأن المؤمنين أعظم درجة عنده منهم.

ثم نهى المؤمنين بعد البراءة من عهود الكفار ، أن يتّخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء ، إن آثروا الكفر على الإيمان ؛ وأوعدهم إن آثروا آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وأزواجهم وعشيرتهم وأموالهم وتجارتهم ، عليه وعلى رسوله والجهاد في سبيله ، أن يتربّصوا حتى يأتي سبحانه بأمره ؛ ثم ذكر أنه جلّ جلاله نصرهم في مواطن كثيرة ليؤثروه على غيره ؛ وخصّ من هذه المواطن يوم حنين ، إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغن عنهم شيئا ، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت ثم ولّوا مدبرين. ثم أنزل سكينته على النبي ومن ثبت معه ، وهزم أعداءهم ؛ ثم ذكر أنه يتوب على من يشاء منهم ، والله غفور رحيم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ

٢٣٩

آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢٨).

ثم أمرهم أن يقاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ، ولا يدينون دين الحقّ من أهل الكتاب ، حتى يعطوا الجزية ؛ وكانوا قد حاربوهم ، وانضموا إلى المشركين عليهم ؛ ثم أثبت ما ذكره من كفرهم ، بأن اليهود يقولون عزير ابن الله ، والنصارى يقولون المسيح ابن الله ، يضاهئون المشركين قبلهم ، في زعمهم أن له أولادا من الملائكة وغيرهم ؛ وأثبته أيضا باتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا يطيعونهم من دونه سبحانه ، ثم ذكر أنهم يريدون أن يطفئوا نوره ، وهو دين الإسلام ، بأفواههم ، ليسوّغ ما أمر به من قتالهم ؛ ثم ذكر أن كثيرا من أحبارهم ورهبانهم ليأكلون أموال الناس بالباطل ، ويصدونهم عن سبيله ؛ وأن الذين يكنزون منهم الذهب والفضة ، ولا ينفقونها في سبيله ، لهم عذاب أليم (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (٣٥).

ثم ختم الكلام على الفريقين ، ببيان ما يحلّ القتال فيه ، وما يحرم من شهور السنة ، فذكر أن عدة الشهور اثنا عشر شهرا ، وأنّ منها أربعة حرما ، يحرّم القتال عليهم فيها ، ويجب عليهم قتال المشركين كافّة فيما عداها ، كما يقاتلونهم كافة ؛ ثم حرّم عليهم النّسيء ، وهو تأخير الأشهر الحرم عن مواضعها من السنة ، إذا صادفتهم وهم في حرب ، أو لم يوافق الحج فيها موسم تجارتهم ، ليواطئوا عدة ما حرّم الله (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [الآية ٣٧].

الكلام على المنافقين

الآيات (٣٨ ـ ١٢٩)

ثم قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [الآية ٣٨] ، فذكر ما حصل من المنافقين في غزوة تبوك ، وكانت في وقت الصيف وشدّة الحر ؛ وما حصل في غزو

٢٤٠