الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

والخلاف ، وشاقّه يشاقّه مشاقّة وشقاقا : خالفه.

وقال الزجاج في قوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) [الحج].

الشّقاق : العداوة بين فريقين ، والخلاف بين اثنين ؛ سمّي ذلك شقاقا ، لأنّ كلّ فريق من فريقي العداوة قصد شقّا ، أي ناحية غير شقّ صاحبه.

أقول : والكثير ممّا جاء على «فاعل» من المضاعف أن يدغم في الماضي والمضارع ، غير أن الفعل في الآية قد قرئ بفكّ الإدغام ، وحرّك بالكسر لسكون اللام بعده ، وذلك خير من إبقاء الإدغام ، وتحريكه بكسر أو فتح لوقوع الساكن بعده ، ولو لا هذا لكان الإدغام واجبا ، وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الشريفة ، على أن العربية تجيز إبقاء الإدغام في مثل هذه الحال ، وسيأتي شيء من هذا.

٤ ـ وقال تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الآية ١٦].

المراد بقوله تعالى : (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو الكرّ بعد الفرّ ، يخيّل الى عدوّه أنه منهزم ، ثم يعطف عليه. وهو باب من خدع الحرب ومكايدها.

أقول : و «التّحرّف» بهذه الخصوصية المعنوية من الكلم المفيد ، الذي ينبغي أن يصار إليه في مثل هذه الأحوال والظروف في عصرنا ؛ فهو من الكلم الخاص ، الذي يخص ظرفا خاصا ، كما يخصّ جماعة المعنيين بالقتال.

وطبيعي أن «التحرّف» من معنى الميل ، والعدول إلى جهة ما.

وأما قوله تعالى : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ، أي : منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين ، سوى الفئة التي هو فيها.

والتحوّز والتحيّز سواء وهو التّنحّي.

أقول : و «التّحيّز» في عربيتنا المعاصرة هو الميل إلى جهة ما ، وهي في الكثير الجهة السائرة في طريق الباطل وغير الحق ، فإذا قيل : فلان متحيّز فكأنّهم قالوا : فلان جائر يميل مع الباطل.

وأما التحوّز فلا نعرفه في العربية المعاصرة.

٢٠١

٥ ـ وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الآية ٣٠].

المراد بقوله تعالى : (لِيُثْبِتُوكَ) ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح ، من قولهم : ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ، وفلان مثبت وجعا ، وقرئ : «ليثبّتوك» ، بالتشديد.

وقرأ النّخعي : ليبيتوك من البيات.

وعن ابن عباس : ليقيّدوك ، وهو دليل لمن فسّره بالإيثاق.

٦ ـ وقال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣١).

و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ما سطره الأوّلون من الأمم السالفة ، أي : ما كتبوه.

ولمّا كانت كتابات هؤلاء وما سطروه وما خلفوه من رموز كذبا ، أطلقت «الأساطير» على الأباطيل والأكاذيب.

وقد جاء (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في تسع آيات مختلفات بهذا المعنى.

وقال أهل اللغة : الأساطير واحدتها إسطار وإسطارة بالكسر ، وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة بالضم.

وقالوا أيضا الأساطير جمع الأسطورة كالأحاديث جمع الأحدوثة.

وقال آخرون : الأساطير جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر ، فكأنه جمع الجمع.

ومنهم من قال : الأساطير لا واحد لها.

أقول : ومن العجيب أننا لم نقف إلا على «الأساطير» بلفظ الجمع ، فلم نجد الأسطور ولا الأسطورة ، ولا الأسطير ، ولا الأسطيرة ، ولا الإسطارة.

وعندي أن هذه المواد استحدثت بعد أن رأى اللغويون الكلمة مجموعة «أساطير» ، فذهبوا إلى هذه المواد المفترضة ، قياسا على نظائره ، فالذي قال : إن مفردها أسطورة قاسها على الأحاديث والأحدوثة ، ومثل هذا سائر ما افترضوه من المفرد ، لهذه الكلمة المجموعة.

وأرى أن من ذهب إلى أنها جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر ، مثل السطور على حق ، فالكلمة جمع الجمع وهي تعني ما كتبه الأولون من سطور ، أي : كتابات.

٢٠٢

غير أن المعاصرين أجروها مجرى الأحاديث والألاعيب فقالوا : مفردها أسطورة ، فما الأسطورة في اصطلاح أهل عصرنا؟

أقول : إن الكثير من المسمّيات في هذا العصر ، أخذ فحواها ، وعرفت حقائقها من اللغات الأجنبية ، ومن هذه مادة «الميثولوجيا» (١) التي تعني حكايات غريبة فيها أخبار ، وحقائق ، وشخوص ، ومخلوقات ، وسرد يرمي إلى فكرة أخلاقية ، أو دينية ، أو اجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها ، وربّما لا ترمي إلى شيء ، وهي تشتمل على أناسيّ ، وحيوانات ، وطيور ، ومخلوقات أخرى غريبة من الإنس والجن ، بعضها إنسان وبعضها حيوان غريب.

وهذه المواد الأدبية التاريخية القديمة حفلت بها الآداب القديمة في العراق ، ومصر ، وسائر بلاد العرب ، واليونان ، والرومان ، والهند ، والصين وغيرها.

وقد أشير إليها في عصرنا هذا لدى الدارسين العرب ، فما ذا يستعيرون لها من الأسماء العربية؟ لقد استعاروا «الأساطير» لهذه المواد بما اشتملت عليه من رسوم وتقاليد وشخوص ، وما يضطرب فيها المخلوقات ، من هنا لزموا المفرد الذي أشارت إليه المعجمات العربية القديمة ، فكانت «الأسطورة» بهذا المعنى المعروف.

ثم حاول نفر من الدارسين إلى الكتابة في الأساطير العربية ، فذهبوا إلى أن «أوابد» العرب في معتقدهم ، وعاداتهم ، وسلوكهم شيء من الأساطير.

٧ ـ وقال تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥].

المكاء من المصادر الدالة على الأصوات ، وهو الصفير ، ومكا الإنسان يمكو مكوا ومكاء : صفر بفيه.

ومنه المكّاء ، كأنه سمّي بذلك لكثرة مكائه ، وهو طائر في ضرب القنبرة يألف الريف ، وجمعه مكاكيّ.

والتصدية تفعلة من الصّدى ، أو من صد يصدّ صديدا ، أي : ضجّ. وهذا يعني أن الصلة واضحة بين المعتلّ والمضاعف. أي : أنّهم جعلوا المكاء

__________________

(١). علم «الميثولوجيا» من الكلمة الاغريقيةZ Mythos z.

٢٠٣

والتصدية في موضع الصلاة ، وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة : الرجال والنساء ، وهم مشبّكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفّقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك ، إذا قرأ رسول الله (ص) في صلاته ، يخلطون عليه.

أقول : والمكاء والتصدية ، من الكلم ذي الدلالة التاريخية المفيدة.

٨ ـ وقال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الآية ٣٩].

أقول : إن الفعل «تكون» ، فعل على نمط الأفعال التي تكتفي بالمرفوع الفاعل. وهو الذي يدعوه النحاة ، «التام» غير الناقص الذي يقتضي مرفوعا ومنصوبا. وهذا الضرب من الفعل كثير في العربية القديمة ، قليل جدا في العربية المعاصرة ، بل قل : إن المعاصرين يجهلونه ، فلا يرد في كلامهم وأدبهم.

ومثله قوله تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣).

وقوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١].

وقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس].

وغير ذلك من الآيات.

وأنت تقف على الفعل التام في الأدب القديم ، وفي أسلوب القصص كأن يقال : فكان اليوم الثالث ، وحدث فيه كذا وكذا.

٩ ـ وقال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الآية ٤٢].

أقول : هذه هي القراءة المشهورة ، وقرأ أهل المدينة : «ويحيا من حيي عن بينة».

قال الفرّاء : كتابتها على الإدغام بياء واحدة ، وهي أكثر قراءات القراء ، وإنما أدغموا الياء في الياء ، وكان ينبغي ألّا يفعلوا لأن الياء ، الأخيرة لزمها النصب في «فعل» ، فأدغم لمّا التقى حرفان متحرّكان من جنس واحد ، قال : ويجوز الإدغام في الاثنين ، للحركة اللازمة للياء الأخيرة ، فتقول : حيّا ، وحيّيا.

وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء ، لأنّ الياء يصيبها الرفع وما قبلها مكسور ، فينبغي لها أن تسكّن فتسقط بواو الجماعة ، وربّما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف

٢٠٤

الأفعال ، وأن تكون كلها مشددة ، فقالوا في حييت حيّوا ، وفي عييت عيّوا ، قال وأنشدني بعضهم :

يحدن بنا عن كلّ حيّ كأنّما

أخاريس عيّوا بالسّلام وبالكتب

قال : وأجمعت العرب على إدغام «التحية» لحركة الياء الأخيرة ، كما استحبّوا إدغام «حيّ» و «عيّ» للحركة اللازمة فيهما ، فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام مثل : «يحيي ويعيي ، وقد جاء في الشعر الإدغام في مثل هذا الموضع ، وهو قوله :

وكأنّها بين النّساء سبيكة

تمشي بسدّة بيتها فتعيّى

أقول : ومن الواجب أن نقف قليلا على هذه الألفاظ المشكلة لفائدتها اللغوية التاريخية ، ولنهتدي إلى مكان علم الأصوات من الناحية التطبيقية.

١٠ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ) [الآية ٦١].

السّلم تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب ، قال :

السّلم تأخذ منها ما رضيت به

والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

وقرئ بفتح السين وكسرها.

أقول : والسّلم في العربية المعاصرة مذكر ، يقال السّلم العالمي.

١١ ـ وقال تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٦٧].

أقول : كنا عرضنا للفعل «كان» ، وهي مكتفية بالمرفوع الفاعل ، تلك التي سمّاها النحويون «التامة».

وفي هذا ، تأتي «كان» مرة ثانية في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍ) ، والمعنى ما صح له وما استقام ، وهذا معنى جديد للفعل يجعلها تامة أيضا مكتفية بالمرفوع نظير «يكون» ، التي تليها في الآية نفسها ، ومعناها الحصول والثبوت ، وهي تامة أيضا مكتفية بالفاعل «أسرى».

١٢ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الآية ٧٣].

أقول : كنت قد عرضت لدلالة «بعض» على الإفراد ، وأتيت بشواهد من لغة التنزيل ، وها أنا أقف على هذه الآية لأشير إلى أن كلمة «بعض» فيها ، تدل على الجمع دلالة صريحة ، وفي هذا ردّ على من زعم أنها تدل على الواحد ليس غير.

٢٠٥
٢٠٦

المبحث السادس

المعاني الغوية في سورة «الأنفال» (١)

الواحد من «الأنفال» : «النّفل» وقال تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الآية ٥] فهذه الكاف يجوز أن تكون على قوله (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الآية ٤].

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) (٢) وقال بعض أهل العلم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الآية ١] بإضافة «ذات» إلى «البين» وجعله (ذات) لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضه يذكّر نحو «الدار» و «الحائط» أنّثت «الدار» وذكّر «الحائط» (٣).

وقال تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الآية ٧] فقوله تعالى : (أَنَّها) بدل من قوله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) وقال جلّ شأنه : (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) [الآية ٧] فأنّث لأنه يعني «الطائفة» (٤).

وقال : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الآية ١٢] معناها : «اضربوا الأعناق» (٥) كما تقول : «رأيت نفس زيد» تريد «زيدا».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ١ : ٣٩٧ ، والبحر ٤ : ٤٦٢.

(٣). نقله في المزهر ١ : ٥٣٣ ، والصحاح «ذا».

(٤). نقله في زاد المسير ٣ : ٣٢٤.

(٥). نقله في المشكل ١ : ٣١٢ ، وإعراب القرآن ١٥ : ٤٠١ ، وزاد المسير ٢ : ٣٣٠ ، والجامع ٧ : ٣٧٨ ، والبحر المحيط ٤ : ٤٧٠.

٢٠٧

(وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الآية ١٢] واحد «البنان» «البنانة».

وقال تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) [الآية ١٤] كأنّ (ذلِكُمْ) جعل خبرا لمبتدأ ، أو مبتدأ أضمر خبره حتى كأنه قيل : «ذلكم الأمر» و «الأمر ذلكم». ثم قال تعالى (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الآية ١٤] أي : الأمر ذلكم وهذا ، فلذلك انفتحت «أنّ». ومثل ذلك قوله (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨) وأمّا قول الشاعر (١) [من البسيط وهو الشاهد العشرون بعد المائتين] :

ذاك وإنّي على جاري لذو حدب

أحنو عليه كما (٢) يحنى على الجار

فإنما كسر «إنّ» لدخول اللام. قال الشاعر (٣) : [من الطويل وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين] :

وأعلم علما ليس بالظنّ أنّه

إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل

وإنّ لسان المرء ما لم تكن له

حصاة على عوراته لدليل

فكسر الثانية لأن اللام بعدها. ومن العرب من يفتحها ، لأنه لا يدري أن بعدها لاما ، وقد سمع مثل ذلك من العرب ، في قوله تعالى بقراءة غير صحيحة : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) [العاديات] ففتح وهو غير ذاكر للّام ، فوقع في غلط قبيح في القراءة (٤).

وقال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) تقول العرب : «والله ما ضربت غيره» وإنما ضربت أخاه كما تقول : «ضربه الأمير» والأمير لم يل ضربه. مثل هذا في كلام العرب كثير.

وقال جلّ وعلا : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا

__________________

(١). هو الأحوص الأنصاري. ديوانه ١٠٨ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٤.

(٢). في الكتاب والتحصيل «بما».

(٣). هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه ٨٥ ، والتهذيب ٥ : ١٦٤ «حصا» ، وقيل هو كعب بن سعد الغنوي ، الصحاح «حصا» واللسان «حصا». في الديوان «إنه».

(٤). في إعراب ثلاثين سورة ١٥٨ ، نسبت قراءة مستهجنة إلى الحجاج بن يوسف ، وزاد في الشواذ ١٧٨ أبا السمال ، وكذلك في البحر ٨ : ٥٠٥ ، واقتصر في الجامع ٢٠ : ١٦٣ على أبي السمال. والشاهد في القراءة المغلوطة ، قراءة الآية الثالثة وحدها.

٢٠٨

تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الآية ٢٥] فليس قوله سبحانه ؛ والله أعلم ؛ (تُصِيبَنَ) بجواب ، ولكنه نهي بعد أمر ، ولو كان جوابا ما دخلت النون.

وقال جلّ شأنه : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الآية ٣٢] بنصب (الحقّ) لأن (هو) ـ والله أعلم ـ جعلت هاهنا صلة في الكلام ، زائدة توكيدا كزيادة (ما) (١). ولا تزاد إلّا في كل فعل لا يستغني عن خبر ، ليست «هو» بصفة ل «هذا» لأنك لو قلت : «رأيت هذا هو» لم يكن كلاما ، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ، ولكنها تكون من صفة المضمرة ، في نحو قوله تعالى : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ([المزّمّل : ٢٠] لأنك تقول «وجدته هو» و «أتاني هو» فتكون صفة ، وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة ، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم ، فيرفع ما بعده إن كان ما قبله ظاهرا أو مضمرا ، في لغة لبني تميم (٢) في قوله تعالى بقراءة من قرأ : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) (٣) و (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٤) و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) (٥) كما تقول «كانوا آباؤهم الظالمون» إنما جعلوا هذا المضمر نحو قولهم «هو و «هما» و «أنت» زائدا في هذا المكان. ولم يجعل في مواضع الصفة ، لأنه فصل ، أراد أن يبيّن به أنه ليس بصفة ما بعده لما قبله ، ولم يحتج الى هذا في الموضع الذي يكون له خبر.

وقال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الآية ٣٤] ف «أن» هاهنا زائدة ـ

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ١ : ٤٠٤ ، والمشكل ١ : ٣١٤.

(٢). لهجة تميم ٢٨٣.

(٣). القراءة برفع الحق ، هي في البحر ٤ : ٤٨٨ إلى الأعمش وزيد بن علي ، وبنصبها هي في البحر كذلك ، والجامع ٧ : ٣٩٨ ، إلى العامة والجمهور.

(٤). القراءة بالرفع ، في معاني القرآن ٣ : ٣٧ ، إلى عبد الله ، وفي الشواذ ١٣٦ إلى أبي زيد النحوي ، وجمعهما في البحر ٨ : ٢٧ ؛ والقراءة بالنصب في البحر ، كذلك إلى الجمهور.

(٥). القراءة بالرفع في الشواذ ١٦٤ ، نسبت إلى أبي السمال ، وزاد عليه في البحر ٨ : ٣٦٧ ابن السميفع ؛ والقراءة بالنصب في البحر ، كذلك إلى الجمهور.

٢٠٩

والله أعلم. وقد عملت (١) وقد جاء في الشعر ، قال (٢) [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] :

لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها

إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا (٣)

وقوله تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الآية ٤٢] وأمر الله كله مفعول ؛ ولكن أراد أن يقصّ الاحتجاج عليهم ، وقطع العذر قبل إهلاكهم.

وقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥] بالنصب على خبر «كان».

وقرأ بعضهم : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الآية ٣٧] (٤) جعله من «ميّز» مثقلة وخففها آخرون فقالوا (لِيَمِيزَ) (٥) من «ماز» «يميز» وبها نقرأ.

وقرأ بعضهم : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) [الآية ٤٢] (٦) وقرأ آخرون : «بالعدوة» (٧) وبالأولى نقرأ ، وهما لغتان (٨). وقال بعض العرب الفصحاء : «العدية» فقلب الواو ياء ، كما تقلب الياء واوا في نحو «شروى» و «بلوى» ، لأنّ ذلك يفعل بها فيما هو نحو من ذا ، نحو «عصيّ» و «أرض

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ١ : ٤٠٥ ، والمشكل ١ : ٣١٤ و ٤ : ٤٩٠.

(٢). هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه ١ : ٢٨٣ ، والخزانة ٢ : ٨٧.

(٣). في الديوان : لام بدل لامت ، وفي الخزانة «إذن للام» ، وفي الديوان ب «أحلامهم» بدل أحسابها.

(٤). القراءة بالتضعيف ، هي في السبعة ٣٠٦ إلى حمزة والكسائي ، والتشديد لهجة بدو الجزيرة اللهجات العربية ٥٣٦.

(٥). هي قراءة نسبت في السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبيّ ؛ وعليها رسم المصحف.

(٦). في الطبري ١٠ : ١٠ إلى عامة قرّاء المدنيين والكوفيين ، حملا على لغة مشهورة. وفي السبعة ٣٠٦ إلى نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ؛ وفي الكشف ١ : ٤٩١ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٤٩٩ إلى غير ابن كثير وأبي عمرو.

(٧). في الطبري ١٠ : ١٠ نسبت إلى بعض المكيين والبصريين حملا على لغة مشهورة ، وفي السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير وأبي عمرو ، وفي الكشف ١ : ٤٩١ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٤٩٩ إلى ابن كثير وأبي عمرو.

(٨). الضم لغة تميم وعليها رسم المصحف. المزهر ٢ : ٢٧٧ ولهجة تميم ١٥٩ واللهجات العربية ١٨٣ ، وأضيف إليها في الأخير البيئات البدوية الأخرى ، كأسد وبكر بن وائل وقيس عيلان ؛ وأما الكسر ، فكما جاء فيها لغة الحجاز وقريش.

٢١٠

مسنيّة» وفي قولهم «قنية» لأنها من «قنوت».

قال تعالى : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الآية ٤٢] بجعل «الأسفل» ظرفا ، ولو شئت قلت : «أسفل منكم» (١) إذا جعلته صفة «الركب» ولم تجعله ظرفا.

قال تعالى : (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الآية ٤٢] (٢) بإلزام الإدغام ، إذ صار في موضع يلزمه الفتح ، فصار مثل باب التضعيف. فإذا كان في موضع لا يلزمه الفتح ، لم يدغم نحو (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣ والقيامة : ٤٠] إلّا أن تشاء تخفي ، وتكون في زنة متحرك ، لأنها لا تلزمه ، لأنك تقول «تحيي» فتسكن في الرفع وتحذف في الجزم ، فكل هذا لا يمنعه الإدغام. وقرأ بعضهم : «من حيي عن بيّنة» (٣) ولم يدغم إذا كان لا يدغمه في سائر ذلك. وهذا أقبح الوجهين ، لأنّ «حيي» مثل «خشي» لمّا صارت مثل غير التضعيف ، أجرى الياء الآخرة مثل ياء «خشي».

وتقول للجميع «قد حيوا» كما تقول «قد خشوا» ولا تدغم لأن ياء «خشوا» تعتل هاهنا. وقال الشاعر (٤) [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين] :

وحيّ حسبناهم فوارس كهمس

حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا (٥)

وقد ثقّل بعضهم وتركها على ما كانت عليه ، وذلك قبيح. قال الشاعر (٦) [من مجزوء الكامل وهو

__________________

(١). في البحر ٤ : ٥٠٠ هي قراءة زيد بن علي.

(٢). القراءة بياء واحدة في «حي» هي في معاني القرآن ١ : ٤١١ قراءة أكثر القراء ، وفي السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير في رواية. وإلى أبي عمرو وابن عامر حمزة والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٤٩٢ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٥٠١ إلى غير نافع والبزي وأبي بكر من السبعة ، وأبدل في الجامع ٨ : ٢٢ أهل المدينة بنافع.

(٣). القراءة بياءين هي في السبعة ٣٠٦ و ٣٠٧ إلى عاصم في رواية ، وفي أخرى إلى ابن كثير ؛ وفي الكشف ١ : ٤٩٢ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٥٠١ إلى نافع والبزي وأبي بكر ، وفي الجامع ٨ : ٢٢ أبدل أهل المدينة بنافع.

(٤). هو أبو حزابة الوليد بن حنيفة. الأغاني ١٩ : ١٥٦ ، وهامش ٩١ فهرس شواهد سيبويه.

(٥). في الكتاب وتحصيل عين الذهب ٢ : ٣٨٧ ب «وكنا» بل «وحي». وشرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٦.

(٦). هو عبيد بن الأبرص. ديوانه ١٢٦ ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٣٨٧ وشرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٥ ، واللسان «حيا» و «عيا». وقيل هو ابن مفرّع ، الصحاح «حيا».

٢١١

الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين] :

عيّوا بأمرهم كما

عيّت ببيضتها الحمامه (١)

جعلت له عودين من

نشم وآخر من ثمامة (٢)

وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠) بإضمار الخبر ، والله أعلم. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] :

إن يكن طبّك الدّلال فلو في

سالف الدّهر والسنين الخوالي

يريد بقوله «فلو في سالف الدهر» أن يقول : «فلو كان في سالف الدهر لكان كذا وكذا» فحذف هذا الكلام كلّه.

قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الآية ٦١] بتأنيث «السّلم» (٣) وهو «الصلح» وهي لغة لأهل الحجاز ، ولغة العرب الكسر.

وفي قوله تعالى : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الآية ٦٢] «حسبك» اسم.

قال تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الآية ٧٢] وهو في الولاء. أما في السلطان ف «الولاية» ؛ ولا أعلم كسر الواو في الأخرى إلّا لغة.

قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) [الآية ٧٥] بجعل الخبر بالفاء كما تقول : «الذي يأتيني فله درهمان» ، فتلحق الفاء لما صارت في معنى المجازاة.

__________________

(١). في الديوان : برمت بنو أسد كما برمت ، وفي المنصف ٢ : ١٩١ ب «النعامة» بدل الحمامة. وهو في المغرب ٢ : ١٥٣.

(٢). في الديوان : «لها» بدل «له». وفي شرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٧ ، وضعت لها عودين من ضعة.

(٣). المذكر والمؤنث للفراء ٨٤ ، والتذكير والتأنيث للسجستاني ١٥.

٢١٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الآية ٢] إلى آخر الآيتين ، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات ، لا يكون مؤمنا ، لأن كلمة «إنّما» للحصر.

قلنا : فيه إضمار تقديره : إنّما المؤمنون إيمانا كاملا ، وإنّما الكاملون في الإيمان ، كما يقال الرجل من تصبّر على الشدائد ، يعني الرجل الكامل.

فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الآية ٤] ينفي إرادة ما ذكرتم.

قلنا : معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا ، وقيل إنّ «حقّا» متعلق بما بعده لا بما قبله ، والمؤمنون تمام الكلام.

فإن قيل : كيف يقال : إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ، وقد قال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الآية ٢]؟

قلنا : المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك ، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا ؛ فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى ، وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان ، فكذا الإقرار بها.

فإن قيل : قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الآية ٥] تشبيه ، فأين المشبّه والمشبّه به؟

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٣

قلنا : معناه : امض على ما رأيته صوابا ، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحقّ ، وهم كارهون. وقيل معناه : فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فهو خير لكم ، وإن كرهتم ، كما كان إخراجك من بيتك بالحقّ؟

فإن قيل : لم قال تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الآية ٨] وكلاهما متعذّر ، لأنه تحصيل حاصل؟

قلنا : المراد بالحق الإيمان ، والباطل الشرك ، فاندفع السؤال.

فإن قيل ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَ)؟

قلنا : إنّما ذكر أوّلا ، لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة ، التي كانت فيها الغنيمة ، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين ، فذكره أوّلا للتمييز بين الإرادتين ، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الآية ١٧] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار ، ورماهم النبي (ص) بكفّ من حصا الوادي في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا وقع في عينيه شيء من ذلك ، فشغلوا بعيونهم وانهزموا ، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟

قلنا : لمّا كان السبب الأقوى في قتلهم ، إنّما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم ، وذلك كله فعل الله تعالى ، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه ، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني ، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر ، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله (ص) لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر ، فعل الله تعالى. ونظير هذا ، قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه ، بتسليط من هو أعلى رتبة منه : هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل معنى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الآية ١٧] وما رميت الرعب في

٢١٤

قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ، ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم. ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة ، مباحث لا يحتملها هذا المختصر ، وهي مستقصاة في كتب التصوف.

فإن قيل : لم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الآية ٢٠] ثنّى في الأمر ، ثم أفرد في النهي؟

قلنا : كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع ، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغشيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان ، وعليه جاء قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] أي يرضوهما ، فكذا هنا معناه : ولا تولوا عنهما. الثاني أنه إن أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل ، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان ، قال الله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] فكان الإعراض عن الرسول (ص) إعراضا عن الله تعالى ، فاكتفي بذكره.

الثالث أن معناه : ولا تولّوا عن هذا الأمر وعن أمثاله فالضمير للأمر لا للرسول (ص). الرابع : إنه إنما لم يقل ولا تولّوا عنهما ، لئلا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي (ص) عند نهيه للكفار ، في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى ، في ذكرهما بلفظ واحد ، من غير تقديم اسم الله ، كما روي ، «أن خطيبا خطب فقال : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له النبي (ص) : «بئس خطيب القوم أنت ، هلّا قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى»؟

فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الآية ٢٣]؟

قلنا : معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل ، لأسمعهم سماع فهم وقبول ؛ أو لأنطق لهم الموتى ، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا. وقيل : معنى (لَأَسْمَعَهُمْ) : لرزقهم الفهم والبصيرة ، وأسمعهم وحالهم هذه الحال ، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير ، لتولّوا وهم معرضون ، لعنادهم وجحودهم الحق ، بعد ظهوره.

فإن قيل : التولّي والإعراض واحد ،

٢١٥

فما الحكمة في قوله تعالى (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)؟

قلنا : معناه لتولّوا عن الإيمان ، وأعرضوا عن البرهان ، فلا تكرار.

فإن قيل : فما الحكمة في ذكر السماء في قوله تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الآية ٣٢] والمطر إنما يكون من السماء؟

قلنا : الجواب الاول المطر المطلق ، إنما يكون من السماء ؛ ولكن المطر المضاف هنا ، وهو مطر الحجارة ، قد يكون من رؤوس الجبال ، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها ؛ فكان ذكر السماء مفيدا ، لأنّ الحجارة إذا نزلت من السماء ، كانت أشدّ نكاية ، وأكثر ضررا. الجواب الثاني ، أنه لما كانت الحجارة المسوّمة للعذاب ، وهي السّجّيل معهودة النزول من السماء ، ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة ، كأنه قال : فأمطر علينا حجارة من سجّيل ؛ فوضع قوله من السماء ، موضع قوله من سجيل ، كما يقول : صبّ عليه مسرودة من حديد ، يعني درعا.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الآية ٣٣] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر ، وهو فيهم؟

قلنا : معناه وأنت مقيم فيهم بمكة ، وكان كذلك ، لأن النبي (ص) ما دام بمكة لم يعذّبوا ، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذّبوا. وقيل معناه : وما كان الله ليعذّبهم عذاب الاستئصال ، وأنت فيهم. وقيل معناه : وما كان الله ليعذّبهم العذاب الذي طلبوه ، وهو إمطار الحجارة ، وأنت فيهم.

فإن قيل : لم قال الله تعالى أوّلا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الآية ٣٣] ، ثم قال جلّ وعلا (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الآية ٣٤] ، وهو يوهم التناقض؟

قلنا : معناه وما لهم أن لا يعذّبهم الله بعد خروجك من بينهم ، وخروج المؤمنين والمستغفرين. وقيل : المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وبالثاني عذاب غير الاستئصال ، وقيل : المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الاخرة.

فإن قيل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥] والمكاء الصفير ، والتصدية التصفيق ، وهما ليسا بصلاة؟

٢١٦

قلنا : معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية ، مقام الصلاة ، كما يقول القائل زرت فلانا ، فجعل الجفاء صلتي : أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :

أخاف زيادا أن يكون عطاؤه

أداهم سودا أو محدرجة سمرا

أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.

فإن قيل : في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨) لم ينته الكافرون عن الكفر ، فلم قال سبحانه (وَإِنْ يَعُودُوا) [الآية ٣٨] والعود إلى الشيء ، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟

قلنا : معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته ، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ؛ وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته ، فقد مضت سنة الأولين منهم ، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان ، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، كما قال النبي (ص) «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا ، فقد مضت سنة الأولين من الأمم ، من أخذهم بعذاب الاستئصال.

فإن قيل : الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة ، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين ، وتثبيت أقدامهم ، وزيادة اجترائهم على القتال ؛ فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار ، حتى قال الله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الآية ٤٤] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين ، وتثبيت أقدامهم ، واجتراؤهم على القتال؟

قلنا : فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد ، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا ؛ وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق ، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم ، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة ، تعرف بالتأمل.

فإن قيل : قوله تعالى (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الآية ٤٦] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا ،

٢١٧

لأنه منازعة ، فكيف تجوز المناظرة ، وهي منازعة وجدال؟

قلنا : المراد بالمنازعة هنا : المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه ، لا المنازعة في إظهار الحق ، بالحجة والبرهان ، والدليل عليه أن ذلك مأمور به.

قال الله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] لكن للجواز شروط ، يندر وجودها في زمننا هذا : أحدها ، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين ، كما كانت مناظرة السلف ، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه ، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه.

فإن قيل : كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الآية ٤٨ ، والمائدة : ٢٨] وهو لا يخاف الله ، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟

قلنا : قال قتادة ، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك ، حكاية عنه : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) [الآية ٤٨] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر ، وكذب في قوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط ، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره ، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى (أَخافُ اللهَ) : أعلم صدق وعده لنبيّه النصر ، وقد جاء الخوف بمعنى العلم ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [الآية ٢٢٩] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك ، ثم أقول : كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة ، وأكفر الكفرة ، فلا عجب في كذبه ، وإنما العجب في صدقه.

فإن قيل : أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)؟

قلنا : لما أقدم المؤمنون ، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر ، على قتال المشركين ، وهم زهاء ألف ، متوكّلين على الله ، وقال المنافقون : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا ، أو أكثر ، قال الله تعالى ردّا على المنافقين ، وتثبيتا للمؤمنين : (وَمَنْ

٢١٨

يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩) أي غالب يسلّط القليل الضعيف ، على الكثير القوي وينصره عليه ، حكيم في جميع أفعاله.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١) ولم يقل ليس بظالم ، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال ، وجوابه في سورة آل عمران.

فإن قيل : قوله عزوجل (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الآية ٥٣] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون ، ولم تكن لهم حال مرضية غيّروها؟

قلنا : كما تغير الحال المرضية الى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ ؛ وأولئك كانوا ، قبل بعث الرسول (ص) إليهم ، عباد أصنام. فلما بعث الرسول (ص) إليهم بالآيات البينات ، فكذّبوه ، وعادوه ، وسعوا في قتله ، غيّروا حالهم إلى أسوأ منها ، فغيّر الله تعالى ، ما أنعم به عليهم من الإمهال ، وعاجلهم بالعذاب.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الآية ٥٥] بعد قوله جلّ وعلا : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٥٥)؟

قلنا مراده ، أن يبيّن أنّ شرّ الكفّار الذين كفروا ، واستمرّوا على الكفر إلى وقت الموت.

فإن قيل : ما الحكمة من تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة ، لأكثر منه ، قبل التخفيف وبعده ، في قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الآية ٦٥] إلى قوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)؟

قلنا : فائدته ، الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ؛ بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين ، ينصر المائة على الألف ؛ وكما ينصر المائة على المائتين ، ينصر الألف على الألفين.

فإن قيل : لم أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة ، ونحن نشاهد الأمر بخلافها ؛ فإن المائة من الكفار ، قد تغلب المائة من المسلمين ، بل المائتين في بعض الأحوال؟

قلنا : إنما أخبر الله عزوجل عن هذه الغلبة ، بشرط الصبر ، الذي هو

٢١٩

الثبات في موقف الحرب ؛ او الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا ، فمتى وجد الشرط تحقّقت الغلبة للمسلمين ، مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة ، مخصوصة بطائفة كان النبي (ص) أحدهم ، وسياق الآية يدل عليه.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الآية ٦٧] مع أنه يريد الدنيا أيضا ، لأنه لو لا إرادته إيّاها لما وجدت ، فما فائدة هذا التخصيص؟

قلنا : المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة ، لا إرادة الوجود والكون ، فالمعنى أتحبّون عرض الحياة الدنيا وتختارونه ، والله يختار ما هو سبب الجنة ، وهو إعزاز الإسلام ، بالإثخان في القتل.

٢٢٠