والخلاف ، وشاقّه يشاقّه مشاقّة وشقاقا : خالفه.
وقال الزجاج في قوله تعالى : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) (٥٣) [الحج].
الشّقاق : العداوة بين فريقين ، والخلاف بين اثنين ؛ سمّي ذلك شقاقا ، لأنّ كلّ فريق من فريقي العداوة قصد شقّا ، أي ناحية غير شقّ صاحبه.
أقول : والكثير ممّا جاء على «فاعل» من المضاعف أن يدغم في الماضي والمضارع ، غير أن الفعل في الآية قد قرئ بفكّ الإدغام ، وحرّك بالكسر لسكون اللام بعده ، وذلك خير من إبقاء الإدغام ، وتحريكه بكسر أو فتح لوقوع الساكن بعده ، ولو لا هذا لكان الإدغام واجبا ، وهذا شيء من لطائف هذه اللغة الشريفة ، على أن العربية تجيز إبقاء الإدغام في مثل هذه الحال ، وسيأتي شيء من هذا.
٤ ـ وقال تعالى : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الآية ١٦].
المراد بقوله تعالى : (مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) هو الكرّ بعد الفرّ ، يخيّل الى عدوّه أنه منهزم ، ثم يعطف عليه. وهو باب من خدع الحرب ومكايدها.
أقول : و «التّحرّف» بهذه الخصوصية المعنوية من الكلم المفيد ، الذي ينبغي أن يصار إليه في مثل هذه الأحوال والظروف في عصرنا ؛ فهو من الكلم الخاص ، الذي يخص ظرفا خاصا ، كما يخصّ جماعة المعنيين بالقتال.
وطبيعي أن «التحرّف» من معنى الميل ، والعدول إلى جهة ما.
وأما قوله تعالى : (أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) ، أي : منحازا إلى جماعة أخرى من المسلمين ، سوى الفئة التي هو فيها.
والتحوّز والتحيّز سواء وهو التّنحّي.
أقول : و «التّحيّز» في عربيتنا المعاصرة هو الميل إلى جهة ما ، وهي في الكثير الجهة السائرة في طريق الباطل وغير الحق ، فإذا قيل : فلان متحيّز فكأنّهم قالوا : فلان جائر يميل مع الباطل.
وأما التحوّز فلا نعرفه في العربية المعاصرة.
٥ ـ وقال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ) [الآية ٣٠].
المراد بقوله تعالى : (لِيُثْبِتُوكَ) ليسجنوك أو يوثقوك أو يثخنوك بالضرب والجرح ، من قولهم : ضربوه حتى أثبتوه لا حراك به ولا براح ، وفلان مثبت وجعا ، وقرئ : «ليثبّتوك» ، بالتشديد.
وقرأ النّخعي : ليبيتوك من البيات.
وعن ابن عباس : ليقيّدوك ، وهو دليل لمن فسّره بالإيثاق.
٦ ـ وقال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٣١).
و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ما سطره الأوّلون من الأمم السالفة ، أي : ما كتبوه.
ولمّا كانت كتابات هؤلاء وما سطروه وما خلفوه من رموز كذبا ، أطلقت «الأساطير» على الأباطيل والأكاذيب.
وقد جاء (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) في تسع آيات مختلفات بهذا المعنى.
وقال أهل اللغة : الأساطير واحدتها إسطار وإسطارة بالكسر ، وأسطير وأسطيرة وأسطور وأسطورة بالضم.
وقالوا أيضا الأساطير جمع الأسطورة كالأحاديث جمع الأحدوثة.
وقال آخرون : الأساطير جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر ، فكأنه جمع الجمع.
ومنهم من قال : الأساطير لا واحد لها.
أقول : ومن العجيب أننا لم نقف إلا على «الأساطير» بلفظ الجمع ، فلم نجد الأسطور ولا الأسطورة ، ولا الأسطير ، ولا الأسطيرة ، ولا الإسطارة.
وعندي أن هذه المواد استحدثت بعد أن رأى اللغويون الكلمة مجموعة «أساطير» ، فذهبوا إلى هذه المواد المفترضة ، قياسا على نظائره ، فالذي قال : إن مفردها أسطورة قاسها على الأحاديث والأحدوثة ، ومثل هذا سائر ما افترضوه من المفرد ، لهذه الكلمة المجموعة.
وأرى أن من ذهب إلى أنها جمع أسطار ، وأسطار جمع سطر ، مثل السطور على حق ، فالكلمة جمع الجمع وهي تعني ما كتبه الأولون من سطور ، أي : كتابات.
غير أن المعاصرين أجروها مجرى الأحاديث والألاعيب فقالوا : مفردها أسطورة ، فما الأسطورة في اصطلاح أهل عصرنا؟
أقول : إن الكثير من المسمّيات في هذا العصر ، أخذ فحواها ، وعرفت حقائقها من اللغات الأجنبية ، ومن هذه مادة «الميثولوجيا» (١) التي تعني حكايات غريبة فيها أخبار ، وحقائق ، وشخوص ، ومخلوقات ، وسرد يرمي إلى فكرة أخلاقية ، أو دينية ، أو اجتماعية من عادات وتقاليد وغيرها ، وربّما لا ترمي إلى شيء ، وهي تشتمل على أناسيّ ، وحيوانات ، وطيور ، ومخلوقات أخرى غريبة من الإنس والجن ، بعضها إنسان وبعضها حيوان غريب.
وهذه المواد الأدبية التاريخية القديمة حفلت بها الآداب القديمة في العراق ، ومصر ، وسائر بلاد العرب ، واليونان ، والرومان ، والهند ، والصين وغيرها.
وقد أشير إليها في عصرنا هذا لدى الدارسين العرب ، فما ذا يستعيرون لها من الأسماء العربية؟ لقد استعاروا «الأساطير» لهذه المواد بما اشتملت عليه من رسوم وتقاليد وشخوص ، وما يضطرب فيها المخلوقات ، من هنا لزموا المفرد الذي أشارت إليه المعجمات العربية القديمة ، فكانت «الأسطورة» بهذا المعنى المعروف.
ثم حاول نفر من الدارسين إلى الكتابة في الأساطير العربية ، فذهبوا إلى أن «أوابد» العرب في معتقدهم ، وعاداتهم ، وسلوكهم شيء من الأساطير.
٧ ـ وقال تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥].
المكاء من المصادر الدالة على الأصوات ، وهو الصفير ، ومكا الإنسان يمكو مكوا ومكاء : صفر بفيه.
ومنه المكّاء ، كأنه سمّي بذلك لكثرة مكائه ، وهو طائر في ضرب القنبرة يألف الريف ، وجمعه مكاكيّ.
والتصدية تفعلة من الصّدى ، أو من صد يصدّ صديدا ، أي : ضجّ. وهذا يعني أن الصلة واضحة بين المعتلّ والمضاعف. أي : أنّهم جعلوا المكاء
__________________
(١). علم «الميثولوجيا» من الكلمة الاغريقيةZ Mythos z.
والتصدية في موضع الصلاة ، وذلك أنّهم كانوا يطوفون بالبيت عراة : الرجال والنساء ، وهم مشبّكون بين أصابعهم ، يصفرون فيها ويصفّقون ، وكانوا يفعلون نحو ذلك ، إذا قرأ رسول الله (ص) في صلاته ، يخلطون عليه.
أقول : والمكاء والتصدية ، من الكلم ذي الدلالة التاريخية المفيدة.
٨ ـ وقال تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) [الآية ٣٩].
أقول : إن الفعل «تكون» ، فعل على نمط الأفعال التي تكتفي بالمرفوع الفاعل. وهو الذي يدعوه النحاة ، «التام» غير الناقص الذي يقتضي مرفوعا ومنصوبا. وهذا الضرب من الفعل كثير في العربية القديمة ، قليل جدا في العربية المعاصرة ، بل قل : إن المعاصرين يجهلونه ، فلا يرد في كلامهم وأدبهم.
ومثله قوله تعالى : (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) (٧٣).
وقوله تعالى : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) [المائدة : ٧١].
وقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس].
وغير ذلك من الآيات.
وأنت تقف على الفعل التام في الأدب القديم ، وفي أسلوب القصص كأن يقال : فكان اليوم الثالث ، وحدث فيه كذا وكذا.
٩ ـ وقال تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الآية ٤٢].
أقول : هذه هي القراءة المشهورة ، وقرأ أهل المدينة : «ويحيا من حيي عن بينة».
قال الفرّاء : كتابتها على الإدغام بياء واحدة ، وهي أكثر قراءات القراء ، وإنما أدغموا الياء في الياء ، وكان ينبغي ألّا يفعلوا لأن الياء ، الأخيرة لزمها النصب في «فعل» ، فأدغم لمّا التقى حرفان متحرّكان من جنس واحد ، قال : ويجوز الإدغام في الاثنين ، للحركة اللازمة للياء الأخيرة ، فتقول : حيّا ، وحيّيا.
وينبغي للجمع أن لا يدغم إلا بياء ، لأنّ الياء يصيبها الرفع وما قبلها مكسور ، فينبغي لها أن تسكّن فتسقط بواو الجماعة ، وربّما أظهرت العرب الإدغام في الجمع إرادة تأليف
الأفعال ، وأن تكون كلها مشددة ، فقالوا في حييت حيّوا ، وفي عييت عيّوا ، قال وأنشدني بعضهم :
يحدن بنا عن كلّ حيّ كأنّما |
|
أخاريس عيّوا بالسّلام وبالكتب |
قال : وأجمعت العرب على إدغام «التحية» لحركة الياء الأخيرة ، كما استحبّوا إدغام «حيّ» و «عيّ» للحركة اللازمة فيهما ، فأما إذا سكنت الياء الأخيرة فلا يجوز الإدغام مثل : «يحيي ويعيي ، وقد جاء في الشعر الإدغام في مثل هذا الموضع ، وهو قوله :
وكأنّها بين النّساء سبيكة |
|
تمشي بسدّة بيتها فتعيّى |
أقول : ومن الواجب أن نقف قليلا على هذه الألفاظ المشكلة لفائدتها اللغوية التاريخية ، ولنهتدي إلى مكان علم الأصوات من الناحية التطبيقية.
١٠ ـ وقال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ) [الآية ٦١].
السّلم تؤنث تأنيث نقيضها ، وهي الحرب ، قال :
السّلم تأخذ منها ما رضيت به |
|
والحرب يكفيك من أنفاسها جرع |
وقرئ بفتح السين وكسرها.
أقول : والسّلم في العربية المعاصرة مذكر ، يقال السّلم العالمي.
١١ ـ وقال تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٦٧].
أقول : كنا عرضنا للفعل «كان» ، وهي مكتفية بالمرفوع الفاعل ، تلك التي سمّاها النحويون «التامة».
وفي هذا ، تأتي «كان» مرة ثانية في قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍ) ، والمعنى ما صح له وما استقام ، وهذا معنى جديد للفعل يجعلها تامة أيضا مكتفية بالمرفوع نظير «يكون» ، التي تليها في الآية نفسها ، ومعناها الحصول والثبوت ، وهي تامة أيضا مكتفية بالفاعل «أسرى».
١٢ ـ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الآية ٧٣].
أقول : كنت قد عرضت لدلالة «بعض» على الإفراد ، وأتيت بشواهد من لغة التنزيل ، وها أنا أقف على هذه الآية لأشير إلى أن كلمة «بعض» فيها ، تدل على الجمع دلالة صريحة ، وفي هذا ردّ على من زعم أنها تدل على الواحد ليس غير.
المبحث السادس
المعاني الغوية في سورة «الأنفال» (١)
الواحد من «الأنفال» : «النّفل» وقال تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الآية ٥] فهذه الكاف يجوز أن تكون على قوله (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الآية ٤].
(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) (٢) وقال بعض أهل العلم (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) [الآية ١] بإضافة «ذات» إلى «البين» وجعله (ذات) لأن بعض الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث ، وبعضه يذكّر نحو «الدار» و «الحائط» أنّثت «الدار» وذكّر «الحائط» (٣).
وقال تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) [الآية ٧] فقوله تعالى : (أَنَّها) بدل من قوله (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) وقال جلّ شأنه : (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) [الآية ٧] فأنّث لأنه يعني «الطائفة» (٤).
وقال : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ) [الآية ١٢] معناها : «اضربوا الأعناق» (٥) كما تقول : «رأيت نفس زيد» تريد «زيدا».
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). نقله في إعراب القرآن ١ : ٣٩٧ ، والبحر ٤ : ٤٦٢.
(٣). نقله في المزهر ١ : ٥٣٣ ، والصحاح «ذا».
(٤). نقله في زاد المسير ٣ : ٣٢٤.
(٥). نقله في المشكل ١ : ٣١٢ ، وإعراب القرآن ١٥ : ٤٠١ ، وزاد المسير ٢ : ٣٣٠ ، والجامع ٧ : ٣٧٨ ، والبحر المحيط ٤ : ٤٧٠.
(وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) [الآية ١٢] واحد «البنان» «البنانة».
وقال تعالى : (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ) [الآية ١٤] كأنّ (ذلِكُمْ) جعل خبرا لمبتدأ ، أو مبتدأ أضمر خبره حتى كأنه قيل : «ذلكم الأمر» و «الأمر ذلكم». ثم قال تعالى (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) [الآية ١٤] أي : الأمر ذلكم وهذا ، فلذلك انفتحت «أنّ». ومثل ذلك قوله (وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨) وأمّا قول الشاعر (١) [من البسيط وهو الشاهد العشرون بعد المائتين] :
ذاك وإنّي على جاري لذو حدب |
|
أحنو عليه كما (٢) يحنى على الجار |
فإنما كسر «إنّ» لدخول اللام. قال الشاعر (٣) : [من الطويل وهو الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين] :
وأعلم علما ليس بالظنّ أنّه |
|
إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل |
وإنّ لسان المرء ما لم تكن له |
|
حصاة على عوراته لدليل |
فكسر الثانية لأن اللام بعدها. ومن العرب من يفتحها ، لأنه لا يدري أن بعدها لاما ، وقد سمع مثل ذلك من العرب ، في قوله تعالى بقراءة غير صحيحة : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) [العاديات] ففتح وهو غير ذاكر للّام ، فوقع في غلط قبيح في القراءة (٤).
وقال تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) تقول العرب : «والله ما ضربت غيره» وإنما ضربت أخاه كما تقول : «ضربه الأمير» والأمير لم يل ضربه. مثل هذا في كلام العرب كثير.
وقال جلّ وعلا : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا
__________________
(١). هو الأحوص الأنصاري. ديوانه ١٠٨ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٤.
(٢). في الكتاب والتحصيل «بما».
(٣). هو طرفة بن العبد البكري. ديوانه ٨٥ ، والتهذيب ٥ : ١٦٤ «حصا» ، وقيل هو كعب بن سعد الغنوي ، الصحاح «حصا» واللسان «حصا». في الديوان «إنه».
(٤). في إعراب ثلاثين سورة ١٥٨ ، نسبت قراءة مستهجنة إلى الحجاج بن يوسف ، وزاد في الشواذ ١٧٨ أبا السمال ، وكذلك في البحر ٨ : ٥٠٥ ، واقتصر في الجامع ٢٠ : ١٦٣ على أبي السمال. والشاهد في القراءة المغلوطة ، قراءة الآية الثالثة وحدها.
تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الآية ٢٥] فليس قوله سبحانه ؛ والله أعلم ؛ (تُصِيبَنَ) بجواب ، ولكنه نهي بعد أمر ، ولو كان جوابا ما دخلت النون.
وقال جلّ شأنه : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الآية ٣٢] بنصب (الحقّ) لأن (هو) ـ والله أعلم ـ جعلت هاهنا صلة في الكلام ، زائدة توكيدا كزيادة (ما) (١). ولا تزاد إلّا في كل فعل لا يستغني عن خبر ، ليست «هو» بصفة ل «هذا» لأنك لو قلت : «رأيت هذا هو» لم يكن كلاما ، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ، ولكنها تكون من صفة المضمرة ، في نحو قوله تعالى : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦] و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) ([المزّمّل : ٢٠] لأنك تقول «وجدته هو» و «أتاني هو» فتكون صفة ، وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة ، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم ، فيرفع ما بعده إن كان ما قبله ظاهرا أو مضمرا ، في لغة لبني تميم (٢) في قوله تعالى بقراءة من قرأ : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ) (٣) و (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٤) و (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) (٥) كما تقول «كانوا آباؤهم الظالمون» إنما جعلوا هذا المضمر نحو قولهم «هو و «هما» و «أنت» زائدا في هذا المكان. ولم يجعل في مواضع الصفة ، لأنه فصل ، أراد أن يبيّن به أنه ليس بصفة ما بعده لما قبله ، ولم يحتج الى هذا في الموضع الذي يكون له خبر.
وقال تعالى : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الآية ٣٤] ف «أن» هاهنا زائدة ـ
__________________
(١). نقله في إعراب القرآن ١ : ٤٠٤ ، والمشكل ١ : ٣١٤.
(٢). لهجة تميم ٢٨٣.
(٣). القراءة برفع الحق ، هي في البحر ٤ : ٤٨٨ إلى الأعمش وزيد بن علي ، وبنصبها هي في البحر كذلك ، والجامع ٧ : ٣٩٨ ، إلى العامة والجمهور.
(٤). القراءة بالرفع ، في معاني القرآن ٣ : ٣٧ ، إلى عبد الله ، وفي الشواذ ١٣٦ إلى أبي زيد النحوي ، وجمعهما في البحر ٨ : ٢٧ ؛ والقراءة بالنصب في البحر ، كذلك إلى الجمهور.
(٥). القراءة بالرفع في الشواذ ١٦٤ ، نسبت إلى أبي السمال ، وزاد عليه في البحر ٨ : ٣٦٧ ابن السميفع ؛ والقراءة بالنصب في البحر ، كذلك إلى الجمهور.
والله أعلم. وقد عملت (١) وقد جاء في الشعر ، قال (٢) [من البسيط وهو الشاهد السابع والأربعون بعد المائة] :
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها |
|
إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا (٣) |
وقوله تعالى : (وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الآية ٤٢] وأمر الله كله مفعول ؛ ولكن أراد أن يقصّ الاحتجاج عليهم ، وقطع العذر قبل إهلاكهم.
وقال : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥] بالنصب على خبر «كان».
وقرأ بعضهم : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الآية ٣٧] (٤) جعله من «ميّز» مثقلة وخففها آخرون فقالوا (لِيَمِيزَ) (٥) من «ماز» «يميز» وبها نقرأ.
وقرأ بعضهم : (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا) [الآية ٤٢] (٦) وقرأ آخرون : «بالعدوة» (٧) وبالأولى نقرأ ، وهما لغتان (٨). وقال بعض العرب الفصحاء : «العدية» فقلب الواو ياء ، كما تقلب الياء واوا في نحو «شروى» و «بلوى» ، لأنّ ذلك يفعل بها فيما هو نحو من ذا ، نحو «عصيّ» و «أرض
__________________
(١). نقله في إعراب القرآن ١ : ٤٠٥ ، والمشكل ١ : ٣١٤ و ٤ : ٤٩٠.
(٢). هو الفرزدق همّام بن غالب. ديوانه ١ : ٢٨٣ ، والخزانة ٢ : ٨٧.
(٣). في الديوان : لام بدل لامت ، وفي الخزانة «إذن للام» ، وفي الديوان ب «أحلامهم» بدل أحسابها.
(٤). القراءة بالتضعيف ، هي في السبعة ٣٠٦ إلى حمزة والكسائي ، والتشديد لهجة بدو الجزيرة اللهجات العربية ٥٣٦.
(٥). هي قراءة نسبت في السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وأبيّ ؛ وعليها رسم المصحف.
(٦). في الطبري ١٠ : ١٠ إلى عامة قرّاء المدنيين والكوفيين ، حملا على لغة مشهورة. وفي السبعة ٣٠٦ إلى نافع ، وابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ؛ وفي الكشف ١ : ٤٩١ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٤٩٩ إلى غير ابن كثير وأبي عمرو.
(٧). في الطبري ١٠ : ١٠ نسبت إلى بعض المكيين والبصريين حملا على لغة مشهورة ، وفي السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير وأبي عمرو ، وفي الكشف ١ : ٤٩١ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٤٩٩ إلى ابن كثير وأبي عمرو.
(٨). الضم لغة تميم وعليها رسم المصحف. المزهر ٢ : ٢٧٧ ولهجة تميم ١٥٩ واللهجات العربية ١٨٣ ، وأضيف إليها في الأخير البيئات البدوية الأخرى ، كأسد وبكر بن وائل وقيس عيلان ؛ وأما الكسر ، فكما جاء فيها لغة الحجاز وقريش.
مسنيّة» وفي قولهم «قنية» لأنها من «قنوت».
قال تعالى : (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الآية ٤٢] بجعل «الأسفل» ظرفا ، ولو شئت قلت : «أسفل منكم» (١) إذا جعلته صفة «الركب» ولم تجعله ظرفا.
قال تعالى : (وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الآية ٤٢] (٢) بإلزام الإدغام ، إذ صار في موضع يلزمه الفتح ، فصار مثل باب التضعيف. فإذا كان في موضع لا يلزمه الفتح ، لم يدغم نحو (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣ والقيامة : ٤٠] إلّا أن تشاء تخفي ، وتكون في زنة متحرك ، لأنها لا تلزمه ، لأنك تقول «تحيي» فتسكن في الرفع وتحذف في الجزم ، فكل هذا لا يمنعه الإدغام. وقرأ بعضهم : «من حيي عن بيّنة» (٣) ولم يدغم إذا كان لا يدغمه في سائر ذلك. وهذا أقبح الوجهين ، لأنّ «حيي» مثل «خشي» لمّا صارت مثل غير التضعيف ، أجرى الياء الآخرة مثل ياء «خشي».
وتقول للجميع «قد حيوا» كما تقول «قد خشوا» ولا تدغم لأن ياء «خشوا» تعتل هاهنا. وقال الشاعر (٤) [من الطويل وهو الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين] :
وحيّ حسبناهم فوارس كهمس |
|
حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا (٥) |
وقد ثقّل بعضهم وتركها على ما كانت عليه ، وذلك قبيح. قال الشاعر (٦) [من مجزوء الكامل وهو
__________________
(١). في البحر ٤ : ٥٠٠ هي قراءة زيد بن علي.
(٢). القراءة بياء واحدة في «حي» هي في معاني القرآن ١ : ٤١١ قراءة أكثر القراء ، وفي السبعة ٣٠٦ إلى ابن كثير في رواية. وإلى أبي عمرو وابن عامر حمزة والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٤٩٢ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٥٠١ إلى غير نافع والبزي وأبي بكر من السبعة ، وأبدل في الجامع ٨ : ٢٢ أهل المدينة بنافع.
(٣). القراءة بياءين هي في السبعة ٣٠٦ و ٣٠٧ إلى عاصم في رواية ، وفي أخرى إلى ابن كثير ؛ وفي الكشف ١ : ٤٩٢ والتيسير ١١٦ والبحر ٤ : ٥٠١ إلى نافع والبزي وأبي بكر ، وفي الجامع ٨ : ٢٢ أبدل أهل المدينة بنافع.
(٤). هو أبو حزابة الوليد بن حنيفة. الأغاني ١٩ : ١٥٦ ، وهامش ٩١ فهرس شواهد سيبويه.
(٥). في الكتاب وتحصيل عين الذهب ٢ : ٣٨٧ ب «وكنا» بل «وحي». وشرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٦.
(٦). هو عبيد بن الأبرص. ديوانه ١٢٦ ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٣٨٧ وشرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٥ ، واللسان «حيا» و «عيا». وقيل هو ابن مفرّع ، الصحاح «حيا».
الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين] :
عيّوا بأمرهم كما |
|
عيّت ببيضتها الحمامه (١) |
جعلت له عودين من |
|
نشم وآخر من ثمامة (٢) |
وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (٥٠) بإضمار الخبر ، والله أعلم. وقال الشاعر [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائة] :
إن يكن طبّك الدّلال فلو في |
|
سالف الدّهر والسنين الخوالي |
يريد بقوله «فلو في سالف الدهر» أن يقول : «فلو كان في سالف الدهر لكان كذا وكذا» فحذف هذا الكلام كلّه.
قال تعالى : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الآية ٦١] بتأنيث «السّلم» (٣) وهو «الصلح» وهي لغة لأهل الحجاز ، ولغة العرب الكسر.
وفي قوله تعالى : (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) [الآية ٦٢] «حسبك» اسم.
قال تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الآية ٧٢] وهو في الولاء. أما في السلطان ف «الولاية» ؛ ولا أعلم كسر الواو في الأخرى إلّا لغة.
قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) [الآية ٧٥] بجعل الخبر بالفاء كما تقول : «الذي يأتيني فله درهمان» ، فتلحق الفاء لما صارت في معنى المجازاة.
__________________
(١). في الديوان : برمت بنو أسد كما برمت ، وفي المنصف ٢ : ١٩١ ب «النعامة» بدل الحمامة. وهو في المغرب ٢ : ١٥٣.
(٢). في الديوان : «لها» بدل «له». وفي شرح المفصّل لابن يعيش ١٠ : ١١٧ ، وضعت لها عودين من ضعة.
(٣). المذكر والمؤنث للفراء ٨٤ ، والتذكير والتأنيث للسجستاني ١٥.
المبحث السابع
لكل سؤال جواب في سورة «الأنفال» (١)
إن قيل : قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الآية ٢] إلى آخر الآيتين ، يدل على أن من لم يتصف بجميع تلك الصفات ، لا يكون مؤمنا ، لأن كلمة «إنّما» للحصر.
قلنا : فيه إضمار تقديره : إنّما المؤمنون إيمانا كاملا ، وإنّما الكاملون في الإيمان ، كما يقال الرجل من تصبّر على الشدائد ، يعني الرجل الكامل.
فإن قيل : قوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) [الآية ٤] ينفي إرادة ما ذكرتم.
قلنا : معناه أولئك هم المؤمنون إيمانا كاملا حقّا ، وقيل إنّ «حقّا» متعلق بما بعده لا بما قبله ، والمؤمنون تمام الكلام.
فإن قيل : كيف يقال : إن الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان ، وقد قال تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الآية ٢]؟
قلنا : المراد هنا آثار الإيمان من الطمأنينة واليقين والخشية ونحو ذلك ، لأن تظاهر الأدلة على المدلول مما يزيده رسوخا في العقائد وثبوتا ؛ فأما حقيقة الإيمان فهو التصديق والإقرار بوحدانية الله تعالى ، وكما أن الإلهية الوحدانية لا تقبل الزيادة والنقصان ، فكذا الإقرار بها.
فإن قيل : قوله تعالى : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) [الآية ٥] تشبيه ، فأين المشبّه والمشبّه به؟
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
قلنا : معناه : امض على ما رأيته صوابا ، من تنفيل الغزاة في قسمة الغنائم وإن كرهوا ، كما مضيت في خروجك من بيتك للحرب بالحقّ ، وهم كارهون. وقيل معناه : فاتّقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فهو خير لكم ، وإن كرهتم ، كما كان إخراجك من بيتك بالحقّ؟
فإن قيل : لم قال تعالى : (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الآية ٨] وكلاهما متعذّر ، لأنه تحصيل حاصل؟
قلنا : المراد بالحق الإيمان ، والباطل الشرك ، فاندفع السؤال.
فإن قيل ما الحكمة من التكرار في قوله تعالى : (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَ)؟
قلنا : إنّما ذكر أوّلا ، لبيان أن إرادتهم كانت متعلقة باختيار الطائفة ، التي كانت فيها الغنيمة ، وإرادة الله تعالى باختيار الطائفة التي في قهرها نصرة الدين ، فذكره أوّلا للتمييز بين الإرادتين ، ثم ذكره ثانيا لبيان الحكمة في قطع دابر الكافرين.
فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الآية ١٧] ومعلوم أن المؤمنين يوم بدر قتلوا الكفار ، ورماهم النبي (ص) بكفّ من حصا الوادي في وجوههم ، وقال : شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلّا وقع في عينيه شيء من ذلك ، فشغلوا بعيونهم وانهزموا ، فتبعهم المؤمنون يقتلون ويأسرون؟
قلنا : لمّا كان السبب الأقوى في قتلهم ، إنّما هو مدد الملائكة وإلقاء الرعب في قلوب الكافرين ، وتثبيت قلوب المؤمنين وأقدامهم ، وذلك كله فعل الله تعالى ، نفى الفعل عنهم ونسبه إليه ، يعني إن كان ذلك في الصورة منكم فهو في الحقيقة مني ، فسبيلكم الشكر دون العجب والفخر ، وكذلك الرمية أثبتها لرسول الله (ص) لأن صورتها وجدت منه ، ونفاها عنه لأن أثرها الذي لا يوجد مثله عن رمي البشر ، فعل الله تعالى. ونظير هذا ، قولك لمن يصدر عنه قول حسن أو فعل مكروه ، بتسليط من هو أعلى رتبة منه : هذا ليس قولك ولا فعلك. وقيل معنى قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الآية ١٧] وما رميت الرعب في
قلوبهم إذ رميت الحصا في وجوههم ، ولكن الله رمى الرعب في قلوبهم. ولأهل الحقيقة في هذه الآية وفي نظائرها من الكتاب والسنة ، مباحث لا يحتملها هذا المختصر ، وهي مستقصاة في كتب التصوف.
فإن قيل : لم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ) [الآية ٢٠] ثنّى في الأمر ، ثم أفرد في النهي؟
قلنا : كما يذكر في لغة العرب الاسم المفرد ويراد به الاثنان والجمع ، فكذلك يذكر ضمير المفرد ويراد به ضمير الاثنين كقولهم : إنعام فلان ومعروفه يغشيني ، والإنعام والمعروف لا ينفع مع فلان ، وعليه جاء قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢] أي يرضوهما ، فكذا هنا معناه : ولا تولوا عنهما. الثاني أنه إن أفرد باعتبار عود الضمير إلى الله وحده لأنه الأصل ، مع أن طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان ، قال الله تعالى (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] فكان الإعراض عن الرسول (ص) إعراضا عن الله تعالى ، فاكتفي بذكره.
الثالث أن معناه : ولا تولّوا عن هذا الأمر وعن أمثاله فالضمير للأمر لا للرسول (ص). الرابع : إنه إنما لم يقل ولا تولّوا عنهما ، لئلا يلزم منه الإخلال بالأدب من النبي (ص) عند نهيه للكفار ، في قرانه بين اسمه واسم الله تعالى ، في ذكرهما بلفظ واحد ، من غير تقديم اسم الله ، كما روي ، «أن خطيبا خطب فقال : من أطاع الله ورسوله فقد رشد ، ومن عصاهما فقد غوى ، فقال له النبي (ص) : «بئس خطيب القوم أنت ، هلّا قلت : ومن عصى الله ورسوله فقد غوى»؟
فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) [الآية ٢٣]؟
قلنا : معناه ولو علم الله فيهم تصديقا وإيمانا في المستقبل ، لأسمعهم سماع فهم وقبول ؛ أو لأنطق لهم الموتى ، يشهدون بصدق نبوّتك كما طلبوا. وقيل : معنى (لَأَسْمَعَهُمْ) : لرزقهم الفهم والبصيرة ، وأسمعهم وحالهم هذه الحال ، وهو أنه لم يعلم فيهم الخير ، لتولّوا وهم معرضون ، لعنادهم وجحودهم الحق ، بعد ظهوره.
فإن قيل : التولّي والإعراض واحد ،
فما الحكمة في قوله تعالى (لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣)؟
قلنا : معناه لتولّوا عن الإيمان ، وأعرضوا عن البرهان ، فلا تكرار.
فإن قيل : فما الحكمة في ذكر السماء في قوله تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الآية ٣٢] والمطر إنما يكون من السماء؟
قلنا : الجواب الاول المطر المطلق ، إنما يكون من السماء ؛ ولكن المطر المضاف هنا ، وهو مطر الحجارة ، قد يكون من رؤوس الجبال ، ومن حيطان المساكن والقصور وسقوفها ؛ فكان ذكر السماء مفيدا ، لأنّ الحجارة إذا نزلت من السماء ، كانت أشدّ نكاية ، وأكثر ضررا. الجواب الثاني ، أنه لما كانت الحجارة المسوّمة للعذاب ، وهي السّجّيل معهودة النزول من السماء ، ذكر السماء إشارة إلى إرادة المعهود من الحجارة ، كأنه قال : فأمطر علينا حجارة من سجّيل ؛ فوضع قوله من السماء ، موضع قوله من سجيل ، كما يقول : صبّ عليه مسرودة من حديد ، يعني درعا.
فإن قيل : لم قال تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الآية ٣٣] ويوم بدر عذبهم الله تعالى بالقتل والأسر ، وهو فيهم؟
قلنا : معناه وأنت مقيم فيهم بمكة ، وكان كذلك ، لأن النبي (ص) ما دام بمكة لم يعذّبوا ، فلما أخرجوه من مكة وخرجوا لحربه عذّبوا. وقيل معناه : وما كان الله ليعذّبهم عذاب الاستئصال ، وأنت فيهم. وقيل معناه : وما كان الله ليعذّبهم العذاب الذي طلبوه ، وهو إمطار الحجارة ، وأنت فيهم.
فإن قيل : لم قال الله تعالى أوّلا (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) [الآية ٣٣] ، ثم قال جلّ وعلا (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ) [الآية ٣٤] ، وهو يوهم التناقض؟
قلنا : معناه وما لهم أن لا يعذّبهم الله بعد خروجك من بينهم ، وخروج المؤمنين والمستغفرين. وقيل : المراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال ، وبالثاني عذاب غير الاستئصال ، وقيل : المراد بالأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الاخرة.
فإن قيل : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) [الآية ٣٥] والمكاء الصفير ، والتصدية التصفيق ، وهما ليسا بصلاة؟
قلنا : معناه أنهم أقاموا المكاء والتصدية ، مقام الصلاة ، كما يقول القائل زرت فلانا ، فجعل الجفاء صلتي : أي أقام الجفاء مقام صلتي ، ومنه قول الفرزدق :
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه |
|
أداهم سودا أو محدرجة سمرا |
أراد بالأداهم القيود وبالمحدرجة السياط ، ووضعهما موضع العطاء.
فإن قيل : في قوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) (٣٨) لم ينته الكافرون عن الكفر ، فلم قال سبحانه (وَإِنْ يَعُودُوا) [الآية ٣٨] والعود إلى الشيء ، إنّما يكون بعد تركه والإقلاع عنه؟
قلنا : معناه إن ينتهوا عن عداوة رسول الله (ص) ومحاربته ، يغفر لهم ما قد سلف من ذلك ؛ وإن يعودوا إلى قتاله وعداوته ، فقد مضت سنة الأولين منهم ، الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر ، أو فقد مضت سنة الذين تحزّبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية. وقيل معناه : إن ينتهوا عن الكفر بالإيمان ، يغفر لهم ما قد سلف من الكفر والمعاصي ، كما قال النبي (ص) «الإسلام يجبّ ما كان قبله» وإن يعودوا إلى الكفر بالارتداد بعد ما أسلموا ، فقد مضت سنة الأولين من الأمم ، من أخذهم بعذاب الاستئصال.
فإن قيل : الفائدة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة ، وهي زوال الرعب من قلوب المؤمنين ، وتثبيت أقدامهم ، وزيادة اجترائهم على القتال ؛ فما فائدة تقليل المؤمنين في أعين الكفّار ، حتى قال الله تعالى : (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الآية ٤٤] مع أن في ذلك زوال الرعب من قلوب الكافرين ، وتثبيت أقدامهم ، واجتراؤهم على القتال؟
قلنا : فائدته أن لا يستعد الكفّار كلّ الاستعداد ، فيجترءوا على المؤمنين معتمدين على قلتهم ، ثم تفجؤهم الكثرة فيدهشوا ويتحيّروا ؛ وأن يكون ذلك سببا يتنبه به المشركون على نصرة الحق ، إذ رأوا المؤمنين مع قلّتهم في أعينهم ، منصورين عليهم. وفي التقليل من الطرفين معارضة ، تعرف بالتأمل.
فإن قيل : قوله تعالى (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الآية ٤٦] يدلّ على حرمة المنازعة والجدال أيضا ،
لأنه منازعة ، فكيف تجوز المناظرة ، وهي منازعة وجدال؟
قلنا : المراد بالمنازعة هنا : المنازعة في أمر الحرب والاختلاف فيه ، لا المنازعة في إظهار الحق ، بالحجة والبرهان ، والدليل عليه أن ذلك مأمور به.
قال الله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] لكن للجواز شروط ، يندر وجودها في زمننا هذا : أحدها ، أن يكون كل المقصود منها ظهور الحق على لسان أيّ الخصمين ، كما كانت مناظرة السلف ، وعلامة ذلك أن لا يفرح بظهور الحق على لسانه ، أكثر ممّا يفرح بظهوره على لسان خصمه.
فإن قيل : كيف قال إبليس كما ورد في التنزيل (إِنِّي أَخافُ اللهَ) [الآية ٤٨ ، والمائدة : ٢٨] وهو لا يخاف الله ، لأنه لو خافه لما خالفه ثم أضلّ عبيده؟
قلنا : قال قتادة ، لقد صدق وعد الله في قوله كما روى القرآن ذلك ، حكاية عنه : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) [الآية ٤٨] يعني جبريل والملائكة (ع) معه نازلين من السماء لنصرة المسلمين يوم بدر ، وكذب في قوله (إِنِّي أَخافُ اللهَ) والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أنه لا قوة له بهم. وقيل لمّا رأى نزول الملائكة على صورة لم يرها قط ، خاف قيام الساعة التي هي غاية إنظاره ، فيحل به العذاب الموعود. وقيل معنى (أَخافُ اللهَ) : أعلم صدق وعده لنبيّه النصر ، وقد جاء الخوف بمعنى العلم ، ومنه قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) [الآية ٢٢٩] ويحتمل عندي أن يكون خاف أن يحل به الملائكة ما دون الإهلاك من الأذى إذ لم يخف الإهلاك ، ثم أقول : كيف تؤخذ عليه كذبة واحدة وهو أفسق الفسقة ، وأكفر الكفرة ، فلا عجب في كذبه ، وإنما العجب في صدقه.
فإن قيل : أي مناسبة بين الشرط والجزاء في قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩)؟
قلنا : لما أقدم المؤمنون ، وهم ثلاث مائة وبضعة عشر ، على قتال المشركين ، وهم زهاء ألف ، متوكّلين على الله ، وقال المنافقون : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا ، أو أكثر ، قال الله تعالى ردّا على المنافقين ، وتثبيتا للمؤمنين : (وَمَنْ
يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٤٩) أي غالب يسلّط القليل الضعيف ، على الكثير القوي وينصره عليه ، حكيم في جميع أفعاله.
فإن قيل لم قال تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٥١) ولم يقل ليس بظالم ، وهو أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا : قد سبق هذا السؤال ، وجوابه في سورة آل عمران.
فإن قيل : قوله عزوجل (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الآية ٥٣] وذلك إشارة إلى إهلاك كفار مكة وآل فرعون ، ولم تكن لهم حال مرضية غيّروها؟
قلنا : كما تغير الحال المرضية الى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأسوأ ؛ وأولئك كانوا ، قبل بعث الرسول (ص) إليهم ، عباد أصنام. فلما بعث الرسول (ص) إليهم بالآيات البينات ، فكذّبوه ، وعادوه ، وسعوا في قتله ، غيّروا حالهم إلى أسوأ منها ، فغيّر الله تعالى ، ما أنعم به عليهم من الإمهال ، وعاجلهم بالعذاب.
فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى : (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [الآية ٥٥] بعد قوله جلّ وعلا : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٥٥)؟
قلنا مراده ، أن يبيّن أنّ شرّ الكفّار الذين كفروا ، واستمرّوا على الكفر إلى وقت الموت.
فإن قيل : ما الحكمة من تكرار المعنى الواحد في مقاومة الجماعة ، لأكثر منه ، قبل التخفيف وبعده ، في قوله تعالى (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الآية ٦٥] إلى قوله : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (٦٦)؟
قلنا : فائدته ، الدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت ؛ بل كما ينصر الله تعالى العشرين على المائتين ، ينصر المائة على الألف ؛ وكما ينصر المائة على المائتين ، ينصر الألف على الألفين.
فإن قيل : لم أخبر الله تعالى عن هذه الغلبة ، ونحن نشاهد الأمر بخلافها ؛ فإن المائة من الكفار ، قد تغلب المائة من المسلمين ، بل المائتين في بعض الأحوال؟
قلنا : إنما أخبر الله عزوجل عن هذه الغلبة ، بشرط الصبر ، الذي هو
الثبات في موقف الحرب ؛ او الذي هو الموافقة بين المسلمين ظاهرا وباطنا ، فمتى وجد الشرط تحقّقت الغلبة للمسلمين ، مع قلتهم لا محالة. ولقائل أن يقول إن هذه الغلبة ، مخصوصة بطائفة كان النبي (ص) أحدهم ، وسياق الآية يدل عليه.
فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) [الآية ٦٧] مع أنه يريد الدنيا أيضا ، لأنه لو لا إرادته إيّاها لما وجدت ، فما فائدة هذا التخصيص؟
قلنا : المراد بالإرادة هنا الاختيار والمحبة ، لا إرادة الوجود والكون ، فالمعنى أتحبّون عرض الحياة الدنيا وتختارونه ، والله يختار ما هو سبب الجنة ، وهو إعزاز الإسلام ، بالإثخان في القتل.