الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

بآذانهم ، ولكنهم لا يسمعون بقلوبهم ، لأنهم لا يستجيبون ولا يهتدون.

ثم تدعو السورة إلى الاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ، ولو خيّل إليهم أن فيه القتل والموت ، وتذكّرهم كيف كانوا قليلا مستضعفين يخافون أن يتخطّفهم الناس ، فأعزّهم الله ونصرهم ، وأنهم ، إذا اتقوا الله جعل لهم فرقانا من النصر الكامل ، ذلك فوق تكفير السيئات وغفران الذنوب ، وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه المغانم والأموال.

وكما وضعت سورة الأنفال صفحة في كتاب الإسلام عن الجهاد ، فإنها قابلتها بصفحة أخرى عن السلم لمن يجنح إليه ويختار الهدنة. ويتّضح لنا من السورة ، أن السلم هو القاعدة في الإسلام ، أما الحرب فطارئة لدفع الباطل وإقرار الحق ؛ ثم يدعو الإسلام إلى السلم دعوته إلى الجهاد ، ويحافظ على العهد ما وفي به المعاهدون ، ويؤمّن المخالفين للإسلام في العقيدة من كل اعتداء غادر ، ويحصر الحروب في أضيق نطاق تقضي به ضرورة تأمين السلم والحق والعدل.

يقول سبحانه وتعالى :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦١).

والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح ، تعبير لطيف ، يلقي ظل الدعة الرقيق ، فهي حركة جناح يميل إلى السلم ، ويرخي ريشه في وداعة واطمئنان ، فإذا الجوّ من حوله طمأنينة وسلام.

وهناك حالة استثنائية واحدة ، هي حالة جزيرة العرب ، التي سيجيء في سورة براءة ، نبذ عهود المشركين فيها جميعا ، وتخليصها من الشرك كافّة ، لتكون موطنا خالصا للإسلام.

صفات المؤمنين

تعرّضت سورة الأنفال لبيان صفات المؤمنين ، كما ورد تحديد هذه الصفات في أول سورة «البقرة» وأول سورة «المؤمنون» ، وفي سورة «الفرقان» وفي كثير من السور.

وإذا استوعبنا هذه الآيات ، وجدناها تدور حول تحديد المؤمن ـ الذي يريده الله ـ بمن يجمع بين سلامة العقيدة وسلامة الخلق ، وصلاح العمل ، وبمن يكون في ذلك كله ، مثالا صادقا ، وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته.

١٨١

وقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بخمس صفات هي : وجل القلوب عند ذكر الله ، وزيادة الإيمان عند تلاوة آياته ، والتوكل على الله وحده ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق مما رزق الله. ثم بيّن أنهم بهذه الصفات يكونون أهل الإيمان حقا ، ويكون لهم عند الله درجات عالية في الجنة.

فالمؤمن حقّا يراقب مولاه ، ويرجو رحمته ، ويخشى عقابه ، ويخشع عند تذكّر آياته ؛ وهو في خشوعه وخضوعه وعبادته ، مخلص القلب ، ثابت اليقين.

ومن صفات المؤمن ، زيادة إيمانه ورسوخ عقيدته عند تلاوة القرآن وتدبر آياته ، ومعرفة أحكامه وأسراره ؛ كما أن إقامته للصلاة وأداءه للزكاة ، تقتضيان هذا الإيمان سلوكا وتطبيقا ، ممّا يزيّن الإيمان في القلب ويزيده ثقة ويقينا.

فالصلاة في حقيقتها ، مناجاة ، ومناداة ، وخشوع ، وخضوع ، وقراءة ، ودعاء. ومن ثمرتها ، طهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر ، وتهذيب الغرائز ، وتقويم السلوك ، وتربية الضمير. والزكاة فيها تكافل المجتمع ، وترابط الأغنياء والفقراء.

وفي سورة الأنفال ، حثّ على الإنفاق من كل ما رزق الله ، وهو يشمل ، كما فصّل الفقهاء ، زكاة الأموال ، وزكاة الزروع والثمار ، وزكاة الماشية ، وزكاة الرّكاز وكل ما يستخرج من باطن الأرض ، وزكاة التجارة. ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة ، إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله. كما أنا لا نكاد نجد آية تعرضت لأوصاف المؤمنين ، وتهملهما أو تهمل أحدهما.

فقد جعل الله إقامة الصلاة ، مثالا لبذل النفس في سبيله ، وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيله.

وبذلك يتّسم الإيمان بطابع تهذيب النفس وطهارة القلب ، كما يتّسم بأنه دافع عملي إلى السلوك النافع ، والعمل الصالح الذي يؤدي إلى إصلاح المجتمع ، وتماسك الأمة ، وتقوية روابط المودة والرحمة والألفة بين الناس.

نداءات إلهية للمؤمنين

أخذت سورة الأنفال تنادي المؤمنين ست مرات بوصف الإيمان. في النداء الأول : تأمرهم بالثبات في الميدان ، والشجاعة في القتال ؛ وتنهاهم عن الفرار من المعركة ، وتتوعد الفارّ من

١٨٢

ميدان القتال بعذاب السعير ، وغضب الله العليّ القدير. والنداء الثاني : يشتمل على الأمر بطاعة الله ورسوله ؛ وقد امتثل المسلمون لذلك الأمر فانقادوا لأحكام الله ، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيله سبحانه. وهذا الطريق هو طريق النصر للسابقين واللاحقين :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الآية ٢٠].

والنداء الثالث : الاستجابة لله وللرسول ، وتغليب أمرهما على كل ما سواهما ، من أوامر ، وفي الحديث الشريف :

«ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما ، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار».

النداء الرابع : دعوة إلى ترك الخيانة ، والبعد عن إفشاء أسرار الأمة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٧).

النداء الخامس : دعوى إلى تقوى الله في أحكامه وسننه ، وبيان أن التقوى شجرة مثمرة ، وأعظم ثمارها النور الذي يبصّر صاحبه بالحق ، والعدل ، وطريق الصلاح والهدى.

النداء السادس : يأمر بذكر الله ، وتلاوة كتابه ، وينهى عن الفرقة والتنازع والاختلاف ، ويحثّ على الصبر والتمسّك بالوحدة والجماعة ، حيث يقول سبحانه وتعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤٥).

١٨٣
١٨٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأنفال» (١)

تاريخ نزول السورة

ووجه تسميتها

نزلت سورة الأنفال بعد سورة البقرة ، وكان نزولها بعد غزوة بدر ، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة ، فتكون سورة الأنفال من السّور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) والأنفال هي الغنائم ، وتبلغ آياتها خمسا وسبعين آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر لتشرح وقائعها ، وتستخلص وجوه العبر منها ، وكانوا قد تنازعوا بعدها في قسمة الأنفال ، لأن النبي (ص) قسم على من حضرها وبعض من لم يحضرها ، فأعطى ممن لم يحضرها عثمان بن عفان ، لأنه تركه على ابنته رقيّة زوجه وكانت مريضة ، وأعطى طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد ، وكان قد بعثهما للتجسس على العير ، وثلاثتهم من المهاجرين ، وكذلك أعطى خمسة من الأنصار ، وقيل إن من باشر القتال فقتل وأسر نازع من كان يقف مع النبي (ص) ، فقال الأولون : الغنائم لنا لأننا قتلنا وهزمنا. وقال الآخرون كنا ردءا لكم ، ولو انهزمتم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكميّة الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٨٥

لا نحزتم إلينا ، فلا تذهبوا بالغنائم دوننا.

فسألوا النبي (ص) عن حكمها ، فنزلت هذه السورة تجيبهم في أولها بأن قسمة الأنفال لله ورسوله ، لأن الله هو الذي نصرهم ومكّنهم منها ، فدبّر لهم ما دبّر في هذه الغزوة ، وأمدّهم بما أمدّهم به من الملائكة ، إلى غير هذا ممّا ذكره في هذا السياق ؛ ثم تجيبهم بعد هذا ببيان مصرف الأنفال ، وقد فصلت في هذا قسمتها ، وبيّن السياق أنّ خمسها لله وللرسول ولذي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل ، وأيد حقهم في خمسها بمثل ما أيد به حق الله والرسول في قسمتها ، ومضى السياق في هذا إلى آخر السورة.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة «الأعراف» ، لأن فيها تحقيق ما أنذر به المشركون في هذه السورة ، ولأنها تعدّ هي وسورة التوبة ، كسورة واحدة متممة للسبع الطوال.

تفويض قسمة الأنفال لله والرسول

الآيات (١ ـ ٤٠)

قال الله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١) فذكر جلّ وعلا أن قسمة الأنفال من حقه وحق رسوله ، وأمرهم أن يتقوه ويصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا ما يؤمرون به ، إن كانوا مؤمنين ، لأن المؤمنين هم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ، إلى غير هذا مما ذكره من صفاتهم.

ثم ذكر سبحانه أنه لا يفعل في تقسيم الأنفال إلا ما فيه مصلحتهم ، وإن خفيت عليهم. كما أخرجه من بيته يوم بدر بوعده الحق من النصر على المشركين ، وإنّ فريقا منهم لكارهون لقتالهم ، ثم ذكر إذ يعدهم إحدى الطائفتين وهي النفير أنّها لهم ، وأنهم ودّوا أن غير ذات الشوكة وهي العير تكون لهم ، وأنه يريد أن يحق الحق بتسليطهم على ذات النفير ، وأن يقطع دابر الكافرين.

ثم ذكر إذ يستغيثونه فأمدّهم بألف من الملائكة مردفين ، وأنه لم يجعل هذا الإمداد إلا بشرى لهم ، ولتطمئن به قلوبهم ، وما النصر إلا من عنده وحده سبحانه ، وليس بالملائكة ولا بغيرهم ،

١٨٦

ثم ذكر إذ يغشّيهم النوم ليحصل لهم به الأمن ، وما أنزل عليهم من المطر ليطهّرهم به ويذهب عنهم وسوسة الشيطان ، وكان المشركون قد سبقوا إلى الماء وغلبوا عليه ، وطمعوا أن تكون لهم الغلبة به ، وقد عطش المؤمنون وخافوا ، وأعوزهم الماء للشرب والطهارة.

ثم ذكر إذ يوحي إلى الملائكة أنه معهم ، وأمره لهم بتثبيت المؤمنين ، وإخباره لهم بأنه سيلقي الرعب في قلوب المشركين ، وأمره لهم بأن يضربوهم فوق الأعناق ويضربوا منهم كل بنان ، لأنهم شاقّوا الله ورسوله ، والله شديد العقاب ، فليذوقوا هذا العذاب في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب النار ، ثم ذكر نهيه للمؤمنين أن يولّوهم الأدبار عند لقائهم ، ووعيده لمن يفعل هذا منهم.

ثم ذكر أنه مع هذا لا يكون المؤمنون هم الذين قتلوهم ، ولكنه هو الذي قتلهم بتدبيره لهم ، وقد أراد ذلك ليبلي المؤمنين بلاء حسنا على ما أصابهم من المشركين قبل هذه الغزوة ، ويوهن كيدهم بمن قتل من صناديدهم ، ثم ذكر للمشركين أنهم إن يستنصروا بالهتهم فقد جاءهم استنصارهم بنصر المؤمنين عليهم ، وإن ينتهوا عن القتال فهو خير لهم ، وإن يعودوا إليه يعد إليهم بمثل ذلك النصر ، ولن تغني عنهم فئتهم شيئا ولو كثرت.

ثم أخذ السياق في وعظهم بما يناسب مقام هذه الوقائع ، فأمرهم سبحانه أن يستجيبوا له ولرسوله ، ولا يتنازعوا فيما يدعوهم إليه ، كما تنازعوا في تقسيم الأنفال ، وفي دعوتهم إلى القتال ، ثم حذّرهم أن يصيبهم بالخلاف والتنازع فتنة تعمّ الظالم وغيره منهم ، وأمرهم أن يذكروا وهم قليل مستضعفون بمكة ، فاواهم في المدينة ونصرهم بفضل طاعتهم ، وإذعانهم له ولرسوله.

ثم نهاهم أن يخونوا الله ورسوله بالتّجسّس للأعداء وغيره ، وأمرهم أن يعلموا أن أموالهم وأولادهم فتنة لهم ، فلا يقاتلوا لأجل الغنائم ، ولا يفتتنوا بها ، كما افتتنوا في غنائم بدر ، ثم ذكر لهم أنهم إن يتقوه ينصرهم على الكفار ، ويغفر لهم ما حصل منهم.

ثمّ ذكر ما كان من مكر المشركين

١٨٧

بالنبي (ص) في ليلة الهجرة ، وأنه سبحانه مكر بهم فدبّر أمره حتى نجّاه منهم. وأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته في إنذارهم ووعيدهم ، لم يؤمنوا بها ، وسألوه أن يمطرهم حجارة من السماء ، أو يأتيهم بعذاب أليم إن كانت من عنده ، وأنه ما كان ليعذّبهم والنبي معهم في مكة ، وهم يستغفرونه ، ويتوبون إليه ، واحدا بعد واحد.

ثم ذكر أنهم يستحقون ما طلبوه من العذاب ، لأنهم يصدّون عن المسجد الحرام ، ولم تكن صلاتهم فيه إلا صفيرا وتصفيقا ، ثم ذكر أنه أذاقهم ما طلبوه من العذاب يوم بدر ، وأنهم سيغلبون بعد هذا ، ثم يحشرون إلى جهنّم ، فيذوقون عذابها بعد عذاب الدنيا ، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم ، أنهم إن ينتهوا عن كفرهم يغفر لهم ما سلف منهم ، وإن يعودوا إلى القتال فسيصيبهم ما أصاب أمم الكفر قبلهم ؛ وأمر المؤمنين أن يستمرّوا في قتالهم حتى لا يفتنوهم في دينهم ، ويكون الدين كله لله ، فإن انتهوا عن الكفر والقتال فإن الله بما يعلمون بصير (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠).

مصرف الأنفال

الآيات (٤١ ـ ٧٥)

ثم قال تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الآية ٤١] ، فذكر أن خمس الأنفال يصرف لمن ذكرهم ، والباقي ، وهو أربعة أخماسها ، يصرف للغانمين ؛ ثم أيد حقه وحق المذكورين في الخمس ، بأنه جلّ وعلا الذي أنزل النصر يوم بدر ، وقد نزلوا بالعدوة الدّنيا بعيدين عن الماء ، ونزل المشركون بالعدوة القصوى قريبين منه ، ولو تواعد الفريقان على القتال لاختلفوا في الميعاد ، لقلّة المسلمين وكثرة المشركين ، ولكنّ الله جمع بينهم على هذا الحال ليكون النصر معجزة من المعجزات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الآية ٤٢] ثم أيده أيضا بأنه الذي أراهم للنبي (ص) في منامه قليلا ليقدموا على قتالهم ، ثم قلّلهم في أعين المؤمنين بعد التقائهم بهم لتقوى قلوبهم ، ثم ذكر ما كان من أمره لهم أن يثبتوا ويستعينوا به ويطيعوا رسوله ، وما كان من نهيه لهم أن يتنازعوا ويخرجوا كالمشركين بطرا

١٨٨

ورئاء الناس ، وقد غرّهم الشيطان وأخبرهم بأنه جار لهم ، فلما تراءت الفئتان للقتال فرّ منهم ، لأنه رأى ما لم يروه من مدد الملائكة للمؤمنين ؛ ثم ذكر ما كان من استحقار المنافقين واليهود ، لقلّة عددهم ورميهم لهم بالغرور لخروجهم بهذا العدد القليل ، مع أن من يتوكل على الله ينصره ولو كان قليل العدد ، ثم ذكر ما كان من الملائكة الذين سلّطهم على المشركين يتوفّونهم ويضربون وجوههم وأدبارهم ، ويأمرونهم أن يذوقوا عذاب الحريق بما قدمت أيديهم ؛ ثم ذكر أنه أخذهم بهذا أخذ آل فرعون والذين كفروا من قبلهم بذنوبهم ، لأنه لا يغيّر نعمة أنعمها على قوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم.

ثم ذكر أن أولئك المنافقين واليهود الذين رموا المؤمنين بالغرور لقلة عددهم شر الدوابّ عنده ، لجهلهم ونقضهم عهودهم عهدا بعد عهد ؛ ثم أمر النبي (ص) إذا وجدهم في الحرب ، أن يفعل بهم ما يشرد به من خلفهم من أعدائه ، وإذا خاف منهم خيانة أن ينبذ إليهم عهدهم نبذا ظاهرا ، بألّا يبادرهم بالحرب قبل علمهم بنبذ العهد.

ثم أوعد الكفار جميعا ، بأنه لا يعجزه أن يصيبهم بمثل ما أصابهم يوم بدر ، وأمر المؤمنين أن يعدّوا لقتالهم ما استطاعوا من آلات الحرب ليرهبوهم بذلك ، ويرهبوا من يبطن لهم العداوة من المنافقين واليهود ، ثم أمره إذا جنحوا بعد ذلك للسلم أن يجنح لها ؛ وذكر أنهم إن يريدوا خداعه بها فإنه هو حسبه ، وهو الذي أيّده بنصره وبالمؤمنين ، ثم أمره أن يحرّضهم دائما على القتال ، ووعدهم بأنهم إن يكن منهم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ، وإن يكن منهم مائة صابرة تغلب ألفا ، ثم خفف عنهم وأمرهم أن يثبتوا المائة منهم لمائتين ، والألف لألفين.

ثم عاتب النبي (ص) والمسلمين على اتخاذهم الأسرى في غزوة بدر ، لأنه لا يصح له اتخاذ الأسرى من الكفار إلا بعد أن يثخن فيهم بالقتل ، ليضعف جمعهم ، ويقلّ عددهم ؛ ثم ذكر أنهم آثروا الأسر طمعا في الفداء ، ولو لا أنه لا يعذب إلّا بعد الإنذار لمسّهم فيما أخذوا عذاب عظيم ؛ ثم أباح لهم بأن يأكلوا ممّا أخذوه من الفداء ، لئلّا يفهموا من ذلك أنه محرّم عليهم ؛ ثم أمره أن يذكر لمن قاتل مع

١٨٩

المشركين من مسلمي مكة وأسر معهم ، أنه إن يعلم في قلوبهم خيرا يؤتهم خيرا ممّا أخذ منهم، وأنهم إن يريدوا خيانته بعد إطلاقهم فقد خانوه من قبل فأمكن منهم ؛ ثمّ رغّبهم في الهجرة ، فجعل ولاية الإسلام للمهاجرين والأنصار ، وقطع الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر منهم ، وأجاز للمهاجرين والأنصار إن استنصروهم أن ينصروهم إلا على من عاهدوهم من المشركين ؛ وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض ، فلا يصح للمسلمين أن يوالوهم ويقاتلوا معهم ؛ وذكر أن المهاجرين والأنصار ، هم المؤمنون حقّا لا غيرهم ممّن لم يهاجر ، وأن الذين آمنوا من بعد ذلك وهاجروا ، فهم من المؤمنين حقّا أيضا ؛ ثم أبطل الإرث بسبب الهجرة والنصرة ، وجعله لذوي القرابة ، فقال جلّ شأنه (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الآية ٧٥].

١٩٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الأنفال» (١)

اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة هنا ، ليس بتوقيف من الرسول (ص) والصحابة ، كما هو الراجح في سائر السور ، بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه.

وقد كان يظهر في بادئ الرأي : أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود ، لاشتراك كل منها في اشتمالها على قصص الأنبياء ، وأنها مكية النزول ، خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال ، وعدّوا السابعة يونس ، وكانت تسمّى بذلك ، كما أخرجه البيهقي في الدلائل (٢). ففي فصلها من الأعراف ، بسورتين هما الأنفال وبراءة ، فصل للنظير عن سائر نظائره ، هذا مع قصر سورة الأنفال ، بالنسبة إلى الأعراف وبراءة.

وقد استشكل ابن عباس حبر الأمة قديما ذلك. فأخرج أحمد وأبو داود والتّرمذي والنّسائي وابن حبّان والحاكم ، عن ابن عباس ، قال ، قلت لعثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني (٣) ، وإلى براءة وهي من المئين (٤) ، فقرنتم بينهما ، ولم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). السبع الطوال كما أخرج النسائي : ١ : ١١٤ عن ابن عباس : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والانعام ، والأعراف. وأورد السيوطي نقلا عن ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير : أن السابعة يونس (الإتقان : ١ : ٢٢٠).

(٣). المثاني : إما أنها من الثناء. أو فيها الثناء والدعاء. أو لأنها تثنى بغيرها. (الإتقان : ١ : ١٩٠) وقيل : لأنها ثانية للمئين ، تالية لها وقبل : لتثنية الأمثال فيها بالعبر. حكاه السيوطي عن النّكزاوي (الإتقان : ١ : ٢٢٠).

(٤). المئين : ما زادت آياتها على المائة أو قاربتها ، وهي ما وليت الطول (الإتقان : ١ : ٢٢٠).

١٩١

تكتبوا بينهما «بسم الله الرحمن الرحيم» ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان : كان رسول الله (ص) ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب ، فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصّتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها ، فقبض رسول الله (ص) ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم (١) ، ووضعتها في السبع الطوال (٢).

فانظر إلى ابن عباس رضي الله عنه ، كيف استشكل على عثمان رضي الله عنه أمرين : وضع «الأنفال» و «براءة» في أثناء السبع الطوال ، مفصولا بهما بين السادسة والسابعة ، ووضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة. وانظر كيف أجاب عثمان رضي الله عنه ، أولا بأنه لم يكن عنده في ذلك توقيف ، فإنه استند إلى اجتهاد ، وأنه قرن بين «الأنفال» و «براءة» لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على القتال ، ونبذ العهود ، وهذا وجه بيّن المناسبة جليّ ، فرضي الله عن الصحابة ، ما أدقّ أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم!

وأقول : يتم بيان مقصد عثمان رضي الله عنه في ذلك بأمور فتح الله بها :

الأول : أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها ، لكونها مشتملة على البسملة ، فقدّمها لتكون لفظة منها ، وتكون «براءة» بخلوّها من البسملة كتتمّتها وبقيّتها ، ولهذا قال جماعة من السلف : إن «الأنفال» و «براءة» سورة

__________________

(١). قال الباقلاني : إنّما لم تكتب البسملة أول براءة ، لأن النبي (ص) أراد أن يعلم من بعده أن كاتبي فواتح السور لم يكتبوها برأيهم ، وإنّما اتبعوا ما سنّ وشرع ، وإلّا فلا فرق بين براءة وغيرها لو كان من طرق الرأي. وأيضا فإن براءة نزلت بالسيف وبعض العهود ، وفي البسملة رأفة ورحمة وأمان ، فتركت لأجل ذلك (نكت الانتصار لنقل القرآن : ٧٧ ، ٧٨).

(٢). أخرجه احمد في المسند : ١ : ٥٧ وأبو داود في الصلاة : ١ : ٢٠٨ ، والترمذي في التفسير : ٨ : ٤٧٧ ـ ٤٧٨ ، والحاكم في المستدرك : ٢ : ٣٣٠ ، وانظر الدر المنثور : ٢ : ٢٠٧ ، وعزاه السيوطي لابن أبي شبية والنسائي ، ولم أجده في النسائي.

١٩٢

واحدة ، لا سورتان (١). الثاني : أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول ، فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ل «يونس» منها ، وذلك كاف في المناسبة.

الثالث : أنه خلّل بالسورتين (الأنفال وبراءة) أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول ، للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف ، وإلى أن رسول الله (ص) قبض قبل أن يبيّن محلهما ، فوضعا كالموضع المستعار بين السبع الطوال ، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال ، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم (٢).

فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها ، ولا يغوص عليها إلّا غوّاص.

الرابع : أنه لو أخّرهما وقدّم «يونس» ، وأتى بعد «براءة» ب «هود» ، كما في مصحف أبيّ بن كعب ، لمراعاة مناسبة السبع الطوال ، وإيلاء بعضها بعضا ، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة. فإنّ الأولى بسورة يونس أن تولّى بالسور الخمس التي بعدها ، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص ، ومن الافتتاح بالذكر ، وبذكر الكتاب ، ومن كونها مكّيات ، ومن تناسب ـ ما عدا «الحجر» في المقدار ـ وبالتسمية باسم نبي ، و «الرعد» اسم (٣) ملك ، وهو مناسب لأسماء الأنبياء.

فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين «يونس» وما بعدها ، وهي آكد من ذلك الوجه السابق في تقديم «يونس» بعد «الأعراف».

ولبعض هذه الأمور ، قدّمت «سورة الحجر» على «النحل» ، مع كونها أقصر منها ، ولو أخرت «براءة» عن هذه السور الست المناسبة جدا بطولها ، لجاءت بعد عشر سور أقصر منها ، بخلاف وضع «سورة النحل» بعد

__________________

(١). أخرجه أبو الشيخ عن أبي روق ، وابن أبي حاتم عن سفيان ، وابن اشتة عن ابن لهيمة (الإتقان : ١ : ٢٢٥).

(٢). أي : وهم أن يكون وضعهما بين السبع الطوال بتوقيف. وقد جاء ترتيب السبع الطوال متواليات.

(٣). أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس : ٨ : ١٤٥ أن اليهود قالوا للنبي (ص) : أخبرنا عن الرعد. فقال : «ملك من الملائكة موكل بالسحاب». وذكر السيوطي في الإتقان : ٤ : ٧٩ : أن ابن أبي حاتم أخرجه عن عكرمة ، وأن مجاهدا سئل عن الرعد ، فقال : ملك. ألم تر الله يقول (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) [الرعد : ١٣].

١٩٣

«الحجر» ، فإنها ليست ك «براءة» في الطول.

ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم «الحجر» على «النحل» ، لمناسبة ذوات (الر) قبلها ، وما تقدم من تقديم «آل عمران» على «النساء» ، وإن كانت أقصر منها لمناسبة «البقرة» ، مع الافتتاح ب (الم) ، وتوالي الطواسين والحواميم ، وتوالي «العنكبوت» و «الروم» و «القمر» و «السجدة» ، لافتتاح كلّ منها ب (الم) ، ولهذا قدّمت «السجدة» على الأحزاب ، التي هي أطول منها.

هذا ما فتح الله به.

وأما ابن مسعود ، فقدّم في مصحفه «البقرة» على «النساء» ، و «آل عمران» ، و «الأعراف» ، و «الأنعام» ، و «المائدة» ، و «يونس» ، فراعى الطوال ، وقدم الأطول فالأطول. ثم ثنّى بالمئين ، فقدّم «براءة» ، ثم «النحل» ، ثم «هود» ، ثم «يوسف» ، ثم «الكهف». وهكذا الأطول فالأطول ، وذكر «الأنفال» بعد «النور» (١).

ووجه مناسبتها لها : أنّ كلّا منهما مدنية ، ومشتملة على أحكام ، وأن في «النور» (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النور : ٥٥]. وفي الأنفال : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ) [الآية ٢٦]. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة ، فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل ، وفي الثانية تذكير به.

__________________

(١). انظر الإتقان : ١ : ٢٢٤ نقلا عن ابن أشتة في المصاحف ، من رواية جرير بن عبد الحميد.

١٩٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الأنفال» (١)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الآية ١].

سمّي من السائلين : سعد بن أبي وقّاص. كما أخرجه أحمد وغيره (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أن السّائلين قرابة النبي (ص).

٢ ـ (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥).

سمّي منهم : أبو أيوب الأنصاري.

ومن الفريق الذين لم يكرهوا :

المقداد. أخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي أيوب.

٣ ـ (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) [الآية ٧].

هما : أبو سفيان ، وأصحابه ، وأبو جهل وأصحابه ؛ وهي ذات الشوكة (٣).

٤ ـ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) [الآية ١٩].

أخرج الحاكم (٤) عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير (٥) ، قال : كان المستفتح

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). أحمد برقم (١٥٣٨) ، والطبري (١٥٦٥٧) ٩ : ١١٧ ، وأبو داود (٢٧٤٠) والترمذي (٣٠٨٠) والحاكم ٢ : ١٣٢ ، والبيهقي في «السنن الكبرى» ٦ : ٢٩١.

قال التّرمذي : حسن صحيح. وقال أحمد شاكر في «شرح المسند» وتعليقه على «الطبري» : إسناده صحيح.

(٣). أخرجه الطبري عن قتادة ٩ : ١٢٥.

(٤). في «المستدرك» ٢ : ٣٢٨ ، والطبري في «تفسيره» ٩ : ١٣٨. وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي.

(٥). في «المستدرك» : «ابن أبي صعير». والوجهان جائزان كما في «الإصابة».

١٩٥

أبو جهل ؛ وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن عروة بن الزبير وعطية.

٥ ـ (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ) [الآية ٢٢].

قال ابن عباس : هم نفر من بني عبد الدّار. أخرجه ابن أبي حاتم (١).

٦ ـ (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ٣٠].

سمّي منهم ـ وهم المجتمعون في دار النّدوة : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان ، وطعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر ، والنضر بن الحارث ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وحكيم بن حزام ، وأبو جهل ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبّه ابنا الحجّاج (٢).

٧ ـ (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الآية ٣١].

قاله : النّضر بن الحارث : أخرجه ابن جرير وغيره ، عن سعيد بن جبير (٣).

٨ ـ قال (تعالى) : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَ) [الآية ٣٢].

وقال ذلك : أبو جهل ؛ كما أخرجه البخاري عن أنس.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنّ قائل ذلك : النّضر بن الحارث (٤).

وأخرج عن قتادة قال : قال ذلك سفلة هذه الأمّة ، وجهلتها.

٩ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الآية ٣٦].

قال الحكم بن عتيبة (٥) : نزلت في أبي سفيان. أخرجه ابن أبي حاتم.

وأخرج ابن إسحاق عن مشايخه : أنها نزلت في ابي سفيان ، ومن كان له في العير من قريش تجارة.

١٠ ـ (وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ) [الآية ٤١].

__________________

(١). والبخاري في «صحيحه» برقم (٤٦٤٦) في التفسير ، والطبري ٩ : ١٤٠.

(٢). انظر «سيرة ابن هشام» ١ : ٤٨١.

(٣). في «صحيحه» (٤٦٤٨) في التفسير.

(٤). رواه الطبري ٩ : ١٥٢ عن سعيد بن جبير.

(٥). «تهذيب التهذيب» ٢ : ٤٣٢ ، و «أسباب النزول» للواحدي ط صقر : ٢٣٤.

١٩٦

قال ابن عباس : هو يوم بدر ، فرق الله فيه بين الحقّ والباطل.

أخرجه ابن أبي حاتم.

١١ ـ (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) [الآية ٤٢].

قال عبّاد بن عبد الله بن الزّبير : يعني أبا سفيان ، وأصحابه ؛ نحو الساحل.

أخرجه ابن أبي حاتم.

١٢ ـ (وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) [الآية ٤٨].

عنى سراقة بن مالك بن جعشم.

أخرجه ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس.

١٣ ـ (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) [الآية ٤٨].

قال ابن عباس : رأى جبريل ، والملائكة. أخرجه ابن أبي حاتم.

١٤ ـ (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الآية ٤٩].

سمّي من القائلين : عتبة بن ربيعة ؛ في حديث أخرجه الطبراني في «الأوسط» عن أبي هريرة (١).

وسمّى منهم مجاهد خمسة : (أبا) (٢) قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا قيس ابن الفاكه بن المغيرة ، والحارث بن زمعة ، وعليّ بن أمية بن خلف ، والعاصي بن منبّه. أخرجه ابن جرير (٣).

١٥ ـ (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) [الآية ٥٨].

قال ابن شهاب : نزلت في بني قريظة. أخرجه أبو الشيخ.

١٦ ـ (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الآية ٦٠].

ورد في حديث مرفوع : أنهم الجنّ.

أخرجه ابن أبي حاتم (٤).

وقال مجاهد : قريظة (٥).

__________________

(١). قال الهيثمي : فيه عبد العزيز بن عمران ، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» ٦ : ٧٨.

(٢). زيادة من «الطبري» وهي مثبتة في «جمهرة النسب» لابن الكلبي ١ : ١٢٦.

(٣). «تفسير الطبري» الأثر رقم : (١٦١٩٥) ١٠ : ١٦ ؛ جمهرة النسب ١ : ١٢٠.

(٤). ومسدّد بن مسرهد في «مسنده» ، كما في «المطالب العالية» ٣ : ٣٣٥ ؛ ورواه الطّبراني ، وفي إسناده مجاهيل. «مجمع الزوائد» ٧ : ٢٧.

(٥). الطبري ١٠ : ٢٢.

١٩٧

وقال السّدّي : أهل فارس (١).

وقال ابن اليمان : الشياطين التي في الدّور.

أخرج ذلك ابن أبي حاتم (٢).

١٧ ـ (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤).

نزلت لما أسلم معه (ص) أربعون ؛ آخرهم عمر. كما أخرجه الطّبراني وغيره.

وقال الزّهري : يقال : نزلت في الأنصار. أخرجه ابن أبي حاتم.

١٨ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) [الآية ٧٠].

سمّي منهم : العبّاس ، وعقيل ، ونوفل بن الحارث ، وسهيل بن بيضاء (٣).

__________________

(١). قال الطبري في «تفسيره» ١٠ : ٢٣ : «قول من قال عنى به الجن أقرب وأشبه بالصواب».

(٢). وفي سنده : إسحاق بن بشر الكاهلي ، وهو كذاب : قاله الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ : ٢٨.

(٣). أخرج ذلك : الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في «سننه» عن عائشة. كما في «الدر المنثور» ٣ : ٢٠٤ ، ووقع فيه : «عتبة بن عمر» بدل «سهيل بن بيضاء» ، وفي «الإتقان ٢ : ١٥٠ : «سهل» بدل «سهيل» ، وفي رواية ابن إسحاق في «السيرة» : «عمرو» بدل «عمر». وقد ساق ابن هشام في «السيرة النبوية» ٢ : ٣ ـ ٨ أسماء ستة وستين رجلا ، كانوا أسرى عند المسلمين يوم بدر.

١٩٨

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الأنفال» (١)

١ ـ قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الآية ١].

الأنفال : جمع نفل وهو الغنيمة ، وإنّما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم ، فأحلّها الله لهم.

وقيل أيضا : إنه (ص) نفّل في السرايا ، فكرهوا ذلك في تأويله :

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (٥) كذلك تنفّل من رأيت ، وإن كرهوا ، وكان سيدنا رسول الله (ص) جعل لكل من أتى بأسير شيئا ، فقال بعض الصحابة : يبقى آخر الناس بغير شيء.

قال الأزهري : وجماع معنى النفل والنافلة ، ما كان زيادة على الأصل.

وسمّيت الغنائم أنفالا ، لأنّ المسلمين فضّلوا بها على سائر الأمم ، الذين لم تحلّ لهم الغنائم.

وصلاة التطوّع نافلة ، لأنها زيادة أجر لهم ، على ما كتب لهم من ثواب ما فرض عليهم.

ونفل النبي (ص) السرايا في البدأة الرّبع ، وفي القفلة الثلث ، تفضيلا لهم على غيرهم من أهل العسكر ، بما عانوا من أمر العدوّ ، وقاسوه من الدأب والتعب ، وباشروه من القتال والخوف.

وكل عطيّة تبرّع بها معطيها ، من صدقة أو عمل خير ، نافلة.

والنّفل : الهبة والعطيّة في التطوّع.

وتنفّل فلان على أصحابه : إذا أخذ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي ، مؤسسة الرسالة العربية ، بيروت ، غير مؤرخ.

١٩٩

أكثر مما أخذوا ، عند الغنيمة.

ونفّلت فلانا على فلان : فضّلته.

والنّفل والنافلة : ما يفعله الإنسان ، ممّا لا يجب عليه.

أقول : وهذه من الموادّ القديمة التي اكتسبت في حياتهم معاني محددة ، فكانت من رسومهم ومصطلحهم.

على أننا لا نجد الآن من هذه الذخيرة اللغوية ، إلا قول المعاصرين : «ومن نافلة القول» ، يريدون بها الزيادة غير الواجبة.

٢ ـ وقال تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) [الآية ٧].

الطائفتان هما العير والنّفير.

والنفير نفير قريش ، الذين كانوا نفروا إلى بدر ، ليمنعوا عير أبي سفيان.

ويقال : فلان لا في العير ولا في النفير ، قيل هذا المثل لقريش من بين العرب ، وذلك أن النبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة ونهض منها لتلقّي عير قريش ، سمع مشركو قريش بذلك ، فنهضوا ولقوه ببدر ، ليأمن عيرهم المقبل من الشام مع أبي سفيان ، فكان من أمرهم ما كان ، ولم يكن تخلّف عن العير والقتال إلا زمن أو من لا خير فيه ، فكانوا يقولون لمن لا يستصلحونه لمهمّ : فلان لا في العير ولا في النفير ، فالعير ما كان منهم مع أبي سفيان ، والنفير ما كان منهم مع عتبة بن ربيعة قائدهم يوم بدر.

و (غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ) ، هي العير لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا و «الشوكة» كانت في النفير لعددهم وعدّتهم.

والشّوكة : الحدّة مستعارة من واحدة الشوك ، ويقال : شوك القنا لشباها.

ومنها قولهم : شائك السلاح ؛ أي : تتمنّون أن تكون لكم العير.

أقول : وأصل الشوكة كما قلنا واحدة الشوك ، ولحدّتها وما تؤدّي من الأذى ، أطلقت على القوة والسلاح ، وهكذا كانت مواد العربية البدوية مصدرا ، أمدّ العربية بموادّ كثيرة من اللغة العالية ، ومنها مواد الحضارة.

٣ ـ وقال تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (١٣).

والمشاقّة والشّقاق ، غلبة العداوة

٢٠٠