الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

قلنا : معناه أنّ اللباس والكسوة للإنسان خاصة ، علامة من العلامات الدالّة على أن الله تعالى فضّله على سائر الحيوانات ، وقيل معناه : ذلك من نعم الله.

فإن قيل : لم قال تعالى في حقّ إبليس (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما) [الآية ٢٧] ونازع لباسهما هو الله تعالى؟

قلنا : لمّا كان ذلك السبب ، بسبب وسوسته وإغوائه أضيف النزع إليه ، كما يقال : أشبعني الطعام وأرواني الشراب ، والمشبع والمروي في الحقيقة ، إنّما هو الله تعالى ، وهما سبب.

فإن قيل : لم قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٢٩) وهو بدأنا أوّلا نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاما ، ثمّ لحما كما ذكر ، ونحن لا نعود عند الموت ، ولا عند البعث بعد الموت ، على ذلك الترتيب؟

قلنا : معناه كما بدأكم أوّلا من تراب ، كذلك تعودون ترابا. وقيل معناه : كما أوجدكم أوّلا بعد العدم ، كذلك يعيدكم بعد العدم ، فالتشبيه في نفس الإحياء والخلق ، لا في الكيفيّة والترتيب. وقيل معناه : كما بدأكم سعداء وأشقياء ، كذلك تعودون ، ويؤيّده تمام الآية ، وقيل معناه : كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تعودون ، كما قال تعالى (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤].

فإن قيل : لم قال تعالى مخبرا عن الزينة والطيّبات (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [الآية ٣٢] مع أن الواقع المشاهد ، أنّها لغير الذين آمنوا أكثر وأدوم؟

قلنا : فيه إضمار ، تقديره : قل هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا ، لأن المشركين شاركوهم فيها خالصة للمؤمنين في الاخرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) والميراث عبارة عمّا ينتقل من ميت إلى ميت ، وهو مفقود هنا؟

قلنا : هو على تشبيه أهل الجنة وأهل النار ، بالوارث وبالموروث عنه. وذلك أن الله تعالى ، خلق في الجنة منازل للكفار على تقدير الايمان ، فمن لم يؤمن منهم ، جعل منزله لأهل الجنّة. الثاني أنّ نفس دخول الجنة بفضل الله

١٦١

ورحمته ، من غير عوض ، فأشبه الميراث ، وإن كانت الدرجات فيها بحسب الأعمال.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) [الآية ٥٤] أمّا الخلق بمعنى الإيجاد والإحداث ، فظاهر أنه مختص به سبحانه وتعالى ، وأمّا الأمر فلغيره أيضا ، بدليل قوله تعالى (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) [آل عمران : ١٠٤ و ١١٤ ؛ التوبة : ٧١] وقوله تعالى (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) [الآية ١٩٩] وقوله تعالى (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) [طه : ١٣٢]؟

قلنا : المراد بالأمر هنا ، قوله تعالى (كُنْ) عند خلق الأشياء ، وهذا الأمر الذي به الخلق مخصوص به كالخلق. الثاني أن المراد بالخلق والأمر ما سبق ذكرهما في هذه الآية ، وهو خلق السماوات والأرض ، وأمر تسخير الشمس والقمر والنجوم كما ذكر ، وذلك مخصوص به عزوجل.

فإن قيل : لم قال تعالى على لسان نوح (ع) (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) [الآية ٦١] بالتاء ، ولم يقل ليس بي ضلال كما وصفه قومه به ، وذلك أشدّ مناسبة ليكون نافيا ما أثبتوه عينه؟

قلنا : الضلالة أقل من الضلال ، فكان نفيها أبلغ في نفي الضلال عنه ، كأنه قال : ليس بي شيء من الضلال ، كما لو قيل ألك ثمر فقلت مالي ثمرة؟ كان ذلك أبلغ في النفي من قولك مالي ثمر.

فإن قيل : لم وصف الملأ بالذين كفروا في قصة هود ، دون قصة نوح (ع)؟

قلنا : لأنه كان في أشراف قوم هود ، من آمن به منهم عند هذا القول ، فلم يكن كل الملأ من قومه قائلين له (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) [الآية ٦٦] بخلاف قوم نوح فإنه لم يكن منهم من آمن به عند قولهم كما ورد في التنزيل (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٠) فكان كل الملأ قائلين ذلك ، هكذا أجاب بعض العلماء ؛ وهذا الجواب منقوض بقوله تعالى في سورة هود في قصة نوح (ع) (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا) [هود : ٢٧] ، وجواب هذا النقض ، أنه يجوز أن القول كان وقع مرتين ، والمرة الثانية بعد إيمان بعضهم.

فإن قيل : لم ورد على لسان صالح عليه‌السلام ، قوله لقومه بعد ما أخذتهم الرجفة وماتوا (يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ

١٦٢

لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (٧٩)ولا يحسن من الحي مخاطبة الميت لعدم الفائدة؟

قلنا : هذا مستعمل في العرف ، فإن من نصح إنسانا فلم يقبل منه حتى قتل أو صلب ومرّ به ناصحه ، فإنه يقول له : كم نصحتك يا أخي فلم تقبل حتّى أصابك هذا. وفائدة هذا القول ، حثّ السامعين له على قبول النصيحة ممّن ينصحهم ، لئلّا يصيبهم ما أصاب المنصوح الذي لم يقبل النصيحة ، حتّى هلك.

فإن قيل : لم قال شعيب (ع) كما ورد في التنزيل (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) [الآية ٨٥] وهم ما زالوا كافرين مفسدين لا مصلحين؟

قلنا : بعد أن أصلحها الله تعالى ، بالأمر بالعدل ، وإرسال الرسل. وقيل معناه بعد أن أصلح الله تعالى أهلها ، بحذف المضاف. وقيل معناه بعد الإصلاح فيها : أي بعد ما أصلح فيها الصالحون من الأنبياء ، وأتباعهم العاملين بشرائعهم ، فإضافته كاضافة قوله تعالى : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣] يعني بل مكرهم في الليل والنهار.

فإن قيل : كيف خاطبوا شعيبا (ع) بالعود في الكفر بقولهم كما ورد في التنزيل : (لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الآية ٨٨] وهو أجابهم (إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) [الآية ٨٩] وهو لم يكن في ملّتهم قط ، لأن الأنبياء (ع) لا يجوز عليهم شيء من الكبائر خصوصا الكفر؟

قلنا : العرب تستعمل عاد بمعنى صار ابتداء ، ومنه قوله تعالى (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩). الثاني ، أنه قيل ذلك على طريق تغليب الجماعة على الواحد ، باشتمال الكلام على الذين آمنوا منهم بعد كفرهم ، وبجعلهم عائدين جميعا ، إجراء للكلام على حكم التغليب ؛ وعلى ذلك أجرى شعيب (ع) جوابه.

فإن قيل : لم ورد على لسان فرعون (فَأْتِ بِها) بعد (إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ) [الآية ١٠٦]؟

قلنا : معناه إن كنت جئت بآية من عند الله ، فأتني بها : أي أحضرها عندي.

فإن قيل : لم قال تعالى (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (١٠٩) وفي سورة الشعراء (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ

١٦٣

هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) (٣٤) [الشعراء] فنسب هذا القول الى فرعون؟

قلنا : قاله هو وقالوه هم ؛ فحكى تعالى قوله ، ثمّ قولهم هنا.

فإن قيل : السحرة إنّما سجدوا لله تعالى طوعا ، لمّا تحقّقوا معجزة موسى (ع) ، فلم قال تعالى (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠).

قلنا : لمّا زالت كلّ شبهة لهم بما عاينوا من آيات الله تعالى على يد نبيّه ، اضطرهم ذلك الى مبادرة السجود ؛ فصاروا من غاية المبادرة ، كأنّهم ألقوا الى السجود تصديقا لله ولرسوله.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا حكاية عن السحرة الذين آمنوا وعن فرعون (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢١) الى قوله سبحانه (وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ) (١٢٦) ثمّ حكى عنهم هذا المعنى في سورة طه ، وسورة الشعراء ، بزيادة ونقصان في الألفاظ المنسوبة إليهم ؛ وهذه الواقعة ما وقعت إلا مرّة واحدة ، فلم اختلفت عبارتهم فيها؟

قلنا : الجواب عنه ، أنهم إنما تكلموا بذلك بلغتهم لا باللغة العربية ، وحكى الله ذلك عنهم باللغة العربية مرارا لحكمة اقتضت التكرار والإعادة ، نبيّنها في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى ، فمرّة حكاه مطابقا للفظهم في الترجمة رعاية للفظ ؛ وبعد ذلك حكاه بالمعنى جريا على عادة العرب في التفنّن في الكلام ، والمخالفة بين أساليبه ، لئلّا يملّ إذا تمحّض تكراره.

فإن قيل : في قوله تعالى (مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها) [الآية ١٣٢] لم سموها آية ، ثم قالوا لتسحرنا بها؟

قلنا : ما سموها آية لاعتقاد أنها آية ، بل حكاية لتسمية موسى (ع) على طريق الاستهزاء والسخرية.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) أي أهلكنا ، وقال سبحانه في موضع آخر : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥٩) [الشعراء]؟

قلنا : معناه : ودمرنا ، أي أبطلنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المكر والمكيدة في حق موسى (ع) (وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) (١٣٧) أي يبنون من الصرح الذي أمر فرعون هامان ببنائه ليصعد بواسطته الى السماء. وقيل هو

١٦٤

على ظاهره ، لأن الله تعالى أورث ذلك بني إسرائيل مدّة ، ثم دمّره جميعه.

فإن قيل : في قوله تعالى (وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١٤١) (وَفِي ذلِكُمْ) : إن كان إشارة إلى الإنجاء فليس فيه بلاء ، بل هو محض نعمة ، وإن كان إشارة إلى القتل والأسر ، فإضافته إلى آل فرعون بقوله تعالى (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) أشدّ مناسبة لسياق الآية ، وهو الامتنان : ولهذا قيل : يقتّلون ويستحيون ، فأضاف إليهم الفعلين.

قلنا : البلاء مشترك بين النعمة والمحنة ، لأنه من الابتلاء وهو الاختبار ؛ يقال بلاه وابتلاه : أي اختبره ، والله تعالى يختبر شكر عباده بالنعمة ، ويختبر صبرهم بالمحنة ، يؤيّده قوله تعالى (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الآية ١٦٨] وقوله تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] فمعنى الآية ، وفي ذلك الإنجاء نعمة عظيمة من ربّكم عليكم.

فإن قيل : في قوله تعالى : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الآية ١٤٢] المواعدة كانت أمره بالصوم في هذا العدد ، فلم ذكرت الليالي مع أنها ليست محلّا للصوم ، بل يقع في القلب أنّ ذكر الأيام أولى ، لأنها محل الصوم الذي وقعت به المواعدة؟

قلنا : العرب في أغلب تواريخها إنّما تذكر الليالي وإن كان مرادها الأيام ؛ لأن الليل هو الأصل في الزمان ، والنهار عارض لأن الظلمة سابقة في الوجود على النور. وقيل إنه كان في شريعة موسى (ع) جواز صوم الليل.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [الآية ١٤٢] وقد علم مجموع الميقات من قوله تعالى (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الآية ١٤٢]؟

قلنا : فيه فوائد : إحداها التأكيد. الثانية أن يعلم أن العشر ليال لا ساعات. الثالثة أن لا يتوهم أنّ العشر التي وقع بها الإتمام كانت داخلة في الثلاثين ، يعني كانت عشرين وأتمّت بعشر ، كما في قوله تعالى : (وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصّلت : ١٠] على ما نذكره مشروحا في حم السجدة.

١٦٥

فإن قيل : لم قال موسى (ع) (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (١٤٣) وقد كان قبله كثير من المؤمنين ، وهم الأنبياء ومن آمن بهم؟

قلنا : معناه ، وأنا أوّل المؤمنين بأنّك يا الله ، لا ترى بالحاسّة الفانية من الجسد الفاني ، في دار الفناء. وقيل معناه : وأنا أوّل المؤمنين من بني إسرائيل في زماني. وقيل أريد بالأوّل الأقوى والأكمل في الإيمان ، يعني كأنّ القول : لم يكن طلبي للرؤية لشكّ عندي في وجودك أو لضعف في إيماني ، بل لطلب مزيد الكرامة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها) [الآية ١٤٥] أي التوراة ، وهم مأمورون بالعمل بكلّ ما في التوراة؟

قلنا : معناه بحسنها وكلّها حسن. الثاني أنهم أمروا فيها بالخير ونهوا عن الشر ، ففعل الخير أحسن من ترك الشر. الثالث أن فيها حسنا وأحسن كالاقتصاص والعفو ، والانتصار والصبر ، والواجب والمندوب والمباح ، فأمروا بالأخذ بالعزائم والفضائل ، وما هو أكثر ثوابا.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) [الآية ١٤٨] واتّخاذهم العجل كان في زمن موسى (ع) بالنقل ، وفي سياق الآية ما يدلّ على ذلك.

قلنا : معناه من ذهابه إلى الجبل. وقيل من بعد الأخذ عليهم أن لا يعبدوا غير الله.

فإن قيل : لم عبّر عن الندم بالسقوط في اليد ، في قوله تعالى (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) [الآية ١٤٩] وأي مناسبة بينهما؟

قلنا : لأنّ من عادة من اشتدّ ندمه وحسرته على فائت ، أن يعضّ يده غمّا ، فتصير يده مسقوطا فيها ، لأنّ فاه قد رفع فيها ؛ و «سقط» مسند إلى «في أيديهم» ، وهو من كنايات العرب كقولهم للنائم : ضرب على أذنه.

فإن قيل : لم قال تعالى (غَضْبانَ أَسِفاً) [الآية ١٥٠] وهما متقاربان في المعنى؟

قلنا : لأن الأسف الحزين ، وقيل الشديد الغضب ؛ ففيه فائدة جديدة.

فإن قيل : لم قال تعالى (أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ) [الآية ١٥٤] ولم يقل وفيها ، وإنّما يقال

١٦٦

نسختها لشيء كتب مرة ثم نقل ؛ فأما أوّل مكتوب فلا يسمّى نسخة ، والألواح لم تكتب من مكتوب آخر؟

قلنا : لما ألقى الألواح ، قيل إنّه انكسر منها لوحان ، فنسخ ما فيهما في لوح ذهب ، وكان فيهما الهدى والرحمة ، وفي باقي الألواح تفصيل كل شيء ؛ وقيل إنما قيل (وَفِي نُسْخَتِها) لأن الله تعالى لقّن موسى (ع) التوراة ، ثمّ أمره فنقلها بكتابتها من صدره إلى الألواح ، فسمّاها نسخة.

فإن قيل لم قال تعالى (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ) [الآية ١٥٧] أي مع النبي (ص) يعني القرآن ، والقرآن إنما أنزل مع جبريل (ع) على النبي (ص) ، لا مع النبي (ص)؟

قلنا : معه : أي مقارنا لزمانه. وقيل معه : أي عليه ، وقيل معه : أي إليه ، ويجوز ان يتعلّق معه باتّبعوا لا بأنزل ؛ معناه : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي (ص) والعمل بسنّته ، أو واتّبعوا القرآن كما اتّبعه هو ، مصاحبين له في اتّباعه.

فإن قيل : لم قال تعالى (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [الآية ١٦٢] وهم إنّما بدّلوا القول الذي قيل لهم ، لأنهم قيل لهم (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [البقرة : ٥٨] فقالوا حنطة؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.

فإن قيل : لم قال تعالى (قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) [الآية ١٦٦] وانتقالهم من صورة البشر الى صورة القردة ، ليس في وسعهم؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في سورة البقرة.

فإن قيل : الحلم من صفات الله تعالى ، فلما ذا قال عزّ وعلا (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ) [الآية ١٦٧] وسرعة العقاب تنافي صفة الحلم ، لأن الحليم هو الذي لا يعجّل بالعقوبة على العصاة؟

قلنا : معناه شديد العقاب. وقيل معناه سريع العقاب إذا جاء وقت عقابه ، لا يردّه عنه أحد.

فإن قيل : التمسّك بالكتاب يشتمل على كل عبادة ، ومنها إقامة الصلاة ، فلما ذا قال تعالى (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) [الآية ١٧٠].

قلنا : إنّما خصّها بالذكر ، إظهارا

١٦٧

لمزيتها ، لكونها عماد الدين بالحديث ، وناهية عن الفحشاء والمنكر بالآية.

فإن قيل : قوله تعالى (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ) [الآية ١٧٦] تمثيل لحال بلعام (١) ، فلما ذا ورد بعده قوله عزوجل (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) [الآية ١٧٧] والمثل لم يضرب إلّا لواحد؟

قلنا : المثل في الصورة ، وإن ضرب لبلعام ، ولكن أريد به كفّار مكّة كلّهم ؛ لأنهم صنعوا مع النبي (ص) ، بسبب ميلهم الى الدنيا وشهواتها ، من الكيد والمكر ، ما يشبه فعل بلعام مع موسى (ع). الثاني أنّ (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ) راجع إلى قوله تعالى (مَثَلُ الْقَوْمِ) لا إلى أول الآية.

فإن قيل : لم ورد على لسان النبي (ص) (إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١٨٨) وهو (ص) ، كان بشيرا ونذيرا للنّاس كافّة ؛ كما قال تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨]؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لقوم كتب عليهم في الأزل أنهم يؤمنون ، وإنّما خصّهم بالذكر ، لأنهم هم المنتفعون بالإنذار والبشارة دون غيرهم ، فكأنه نذير وبشير لهم خاصّة ، كما قال تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) [النازعات] ويجوز أن يكون متعلق النذير محذوفا تقديره : إن أنا إلّا نذير للكافرين وبشير لقوم يؤمنون ؛ فاستغنى بذكر أحدهما عن الاخر ، كما استغنى بالجملة عن التفصيل ، في تلك الآية ؛ لأن المعنى : وما أرسلناك إلا كافّة بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين.

فإن قيل : لم قال الله تعالى حكاية عن آدم (ع) وحوّاء رضي الله عنها (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [الآية ١٩٠] وقال عزوجل (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) والأنبياء معصومون عن مطلق الكبائر ، فضلا عن الشرك الذي هو أكبر الكبائر؟

قلنا : المراد بقوله تعالى (جَعَلا لَهُ) أي جعل أولادهما بطريق حذف المضاف ، وكذا قوله تعالى (فِيما آتاهُما) أي فيما آتى أولادهما ، ويؤيّد هذا قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا

__________________

(١). بلعام : عرّاف في بني إسرائيل.

١٦٨

يُشْرِكُونَ) حيث ذكر ضمير الجمع ، ولم يقل يشركان ؛ ومعنى اشتراك أولادهما فيما آتاهم الله تعالى ، تسميتهم أولادهم بعبد العزّى وعبد مناف ، وعبد شمس ، ونحو ذلك ، مكان عبد الله ، وعبد الرحمن ، وعبد الرحيم.

وقيل الضمير في «جعلا» للولد الصالح ، وهو السليم الخلق ، وإنّما قيل «جعلا» لأنّ حواء كانت تلد في بطن ذكرا وأنثى. وقيل المراد بذلك تسميتها إياه عبد الحارث ، والحارث اسم إبليس في الملائكة ، وسبب تلك التسمية يعرف من تفسير الآية ، وإنما قيل «شركاء» إقامة للواحد مقام الجمع ، ولم يذهب آدم وحواء إلى أن الحارث ربه ، بل قصد أنه كان سبب نجاته. وقال جمهور المفسّرين : قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) في مشركي العرب خاصّة ، وهو منقطع عن قصّة آدم وحواء عليهما‌السلام.

١٦٩
١٧٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الأعراف» (١)

في قوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩). استعارة. لأن الخسران في التعارف إنّما هو النقص في أثمان المبيعات. وذلك يخصّ الأموال لا النفوس. إلّا أنه سبحانه لمّا جاء بذكر الموازين وثقلها وخفّتها ، جاء بذكر الخسران بعدها ، ليكون الكلام متّفقا ، وقصص الحال متطابقا. وكأنه سبحانه جعل نفوسهم لهم بمنزلة العروض المملوكة ، إذ كانوا يوصفون بأنهم يملكون نفوسهم ، كما يوصفون بأنهم يملكون أموالهم.

وذكر خسرانهم لها ، لأنهم عرّضوها للخسار ، وأوجبوا لها عذاب النار. فصارت في حكم العروض المتلفات ، وتجاوزوا حدّ الخسران في الأثمان ، إلى حد الخسران في الأعيان.

وفي قوله سبحانه حاكيا عن إبليس : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (١٦) استعارة ، والصراط هنا كناية عن الدين ، جعله الله سبحانه طريقا للنجاة والمفاز ، وفي داري القرار والمجاز ؛ وإنما قال صراطك ، لمّا كان الدين كالطريق المؤدية إلى رضا الله سبحانه ومثوبته ، الموصلة إلى نعيمه وجنته. فكان إبليس ـ لعنه الله ـ إنما يوعد بالقعود على طريق الدين ليضلّ عنه كلّ قاصد ، ويردّ عنه كلّ وارد ، بمكره وخدائعه ، وتلبيسه ووساوسه. تشبيها بالقاعد على مدرجة بعض السّبل ليخوّف السالكين منها ، ويعدل

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٧١

بالقاصدين عنها. والمراد : لأقعدنّ لهم على صراطك المستقيم ، فلمّا حذف الجارّ انتصب الصراط.

والحذف هنها أبلغ في الفصاحة ، وأعرق في أصول العربية. ونظيره قول الشاعر (١).

كما عسل الطريق الثعلب

أي عسل في الطريق.

وكلّ ما في القرآن من ذكر سبيل الله سبحانه ، فالمراد به الطريق المفضية إلى طاعته عاجلا ، وإلى جنّته آجلا.

وقوله سبحانه : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ) [الآية ٢٢]. استعارة. والمراد أنه أوقعهما في أهوائه بغروره لهما. وكل واقع في مثل ذلك فإنه نازل من علو إلى استفال ، ومن كرامة إلى إذلال. فلذلك قال تعالى : (فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ). وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير ، عند القول فيما اختلف العلماء فيه من ذنوب الأنبياء (ع).

وقول تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الآية ٢٦] وقد قرئ : ورياشا (٢) ، وهما جميعا استعارة هنا (٣). لأنّ المراد بهما اللباس. وسمي اللباس ريشا ورياشا تشبيها بريش الطائر الذي يستر جملته. ومن كلام العرب : أعطيته رجلا بريشه. أي بكسوته.

وقال المفسّرون : معنى لباس التّقوى ، ما كان من الملابس يستر العورة ، لأنّ ستر العورة من أسباب التّقوى. وقرئ : «ولباس التّقوى». نصبا بأنزلنا عليكم. والرفع فيه على معنى الابتداء. ويكون «خير» خبرا له. فيكون المعنى : ولباس التقوى المشار إليه خير. وهذا أسدّ القولين في هذا المعنى.

وفي قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ

__________________

(١). هو الشاعر ساعدة بن جؤبة يصف رمحا. والبيت كاملا هو :

لدن بهز الكف يعسل متنه

فيه ، كما عسل الطريق الثّعلب

انظر ابن هشام في «أوضح المسالك» ج ٢ من ١٦.

(٢). قرأ ذلك الحسن وعاصم من رواية المفضّل الضبّي ، كما قرأه ابو عمرو من رواية الحسين بن علي الجعفي.

(٣). الاستعارة في قوله تعالى (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) لا تتّضح إلا إذا كان اللباس هو المطر الذي به ينبت القطن والكتان. أي أنزلنا عليكم مطرا ينتج القطن والنبات الذي تتخذون منه ملابسكم ـ انظر القرطبي ج ٧ من ١٨٤.

١٧٢

عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الآية ٢٩] استعارة. لأن الوجه لا يصحّ عليه القيام. والمعنى : «فوجّهوا وجوهكم عند كل مسجد». ويجوز أن يكون معنى ذلك : «فتوجّهوا بجملتكم نحو كل مسجد». لأن وجه الشيء عبارة عن جملته.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) [الآية ٤٠] استعارة. والمراد لا يصلون إلى الجنة ولا يتسهّل لهم السبيل إليها ، ولا يستحقّون بأعمالهم الدخول إليها. ومثل ذلك قوله سبحانه : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (١١) [القمر] أي سهّلنا خروجه من السماء إلى الأرض ، ورفعنا الحواجز بينه وبين الخلق.

وقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الآية ٤١] وهذه استعارة. وقد مضى في (آل عمران) إلّا أنّ الزيادة هاهنا قوله سبحانه : (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) فكأنه جعل لهم من النار أمهدة مفترشة وأغشية مشتملة ، فيكون استظلالهم بحرها ، كاستقرارهم على جمرها. نعوذ بالله من ذلك.

وقوله سبحانه : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) [الآية ٤٣]. وهذه استعارة. لأنه ليس هناك شيء يتأتّى نزعه على الحقيقة. والمعنى : أزلنا ما في صدورهم من الغلّ بإنسائهم إيّاه ، وبإحداث أبدال له تشغل أماكنه من قلوبهم ، وتشفع مواقعه من صدورهم.

وقال بعض المفسّرين : معنى ذلك : أهل الجنة لا يحسد بعضهم بعضا على علوّ المنزلة فيها ، والبلوغ إلى مشارف رتبها. والحسد : الغلّ.

وقوله تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) وهذه استعارة خفيّة. وقد تكون استعارة خفيّة ، واستعارة جليّة. وذلك أن حقيقة الميراث في الشرع ، هو ما انتقل إلى الإنسان من ملك الغير بعد موته على جهة الاستحقاق.

فأما صفة الله تعالى بأنه الوارث لخلقه ، كقوله سبحانه : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) [القصص] وكقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٠ ؛ الحديد : ١٠] فهو مجاز. والمراد : أنه سبحانه الباقي بعد فناء الخلق ، وتقوّض السماء والأرض.

وقد استعمل ذلك أيضا في نزول قوم ديار قوم بعدهم ، وأخذ قوم أموال

١٧٣

قوم بعد إجلائهم وحربهم. فقال سبحانه في هذه السورة : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) [الآية ١٣٧]. وقال تعالى في موضع آخر : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) [الأحزاب : ٢٧] وليس يصحّ في ميراث الجنّة مثل هذه المعاني التي ذكرت ، لأن الجنة لا يسكنها قوم بعد قوم قد فارقوها وانتقلوا عنها. فقوله سبحانه : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها) على الأصل الذي قدّمناه استعارة. ويكون المعنى الذي يسوّغ هذه الاستعارة ، أنّ هؤلاء المؤمنين لمّا عملوا في الدار الدنيا أعمالا استحقّوا عليها الجزاء والثواب ، ولم يصحّ أن يوفّر عليهم ذلك إلا في الجنّة ، وهي من الدار الاخرة ؛ فكأنّهم استحقّوا دخولها. فحسن من هذا الوجه أن يوصفوا بأنهم أورثوها ، وإن لم يكن سكناهم لها بعد سكنى قوم آخرين انتقلوا عنها.

وسوّغ ذلك أيضا اختلاف حال الدّارين ، وانتقالهم من الأولى إلى الآخرة. فكأنّ ما عملوه في الدار الأولى كان سببا لما وصلوا إليه في الدار الاخرة ، كما يستحقّ الميراث بالسبب.

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) [الآية ٤٥] وهذه استعارة ، فإن ، سبيل الله سبحانه : دينه. ومعنى (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي يبتغون عنها المتحاول ، ويطلبون منها الفسح والمخارج ، ويوهمون بالشّبهات أنّها معوجّة غير قويمة ، ومضطربة غير مستقيمة.

وقوله تعالى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٥٣) وقد مضى نظير ذلك في أوّل السورة.

وقوله سبحانه : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ) [الآية ٥٤] وهذه استعارة.

١٧٤

سورة الأنفال

٨

١٧٥
١٧٦

المبحث الأول

أهداف سورة «الأنفال» (١)

أهداف السورة

من الأسباب المباشرة لنزول سورة الأنفال معالجة شؤون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر ؛ منها كراهتهم للخروج إلى بدر حينما دعاهم الرسول إلى الخروج ، وكراهتهم للقتال حينما وصلوا إلى بدر وتحتّم عليهم أن يقاتلوا.

ومنها اختلافهم بعد تمام النصر في قسمة الغنائم.

ومنها اختلاف الرأي في معاملة الأسرى أيقبلون منهم الفداء أم يقتلونهم؟

وفي جو هذه الشؤون عرضت السورة لما يجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم ، من جهة امتثال الأمر ، والإخلاص ، والحيطة والحذر من الأعداء ، وتذكّر نعم الله عليهم ، والآداب التي يجب مراعاتها في أثناء القتال ، وفيما يتصل به ، من إعداد العدّة ، والمحافظة على العهود ، وعلاقة بعضهم ببعض ، حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عند الله.

ولا يفهم من ذلك أن كراهة القتال كانت طابعا عاما ؛ بل كانت رغبة فريق قليل ونفر محدود ، كان يفضّل الغنيمة والحصول على التجارة على القتال ، لكن بقية الجيش كان على استعداد للتضحية والفداء ، وكان القرآن يوحّد

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٧٧

الهدف ، ويرشد الجميع إلى أن القتال أفضل لأن فيه انتصافا للمؤمنين ، وإعلاء لكلمة الله ، ودحرا للطغيان ، وتحطيما لطواغيت الكفر ، وردعا للمشركين ، وقد استشار النبي (ص) المسلمين قبل بدء المعركة : هل يقدم على القتال؟ أم يعود إلى المدينة؟

فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله ، فنحن معك والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤) [المائدة] ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

ثم قال النبي (ص) «أشيروا عليّ أيها الناس» ، فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار ، وقال : يا رسول الله ، آمنا بك وصدّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض لما أردت فنحن معك ؛ فو الذي بعثك بالحق نبيّا ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، وما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا غدا ؛ إنّا لصبر في الحرب وصدق في اللقاء ، لعل الله يريك منّا ما تقرّ به عينك. وعندئذ أشرق وجه الرسول (ص) بالمسرّة ، وقال لأصحابه سيروا وابشروا ، فإن الله وعدني إحدى الحسنيين العير أو النفير ، وقد فرّت العير فلم يبق إلا النفير ؛ فسار المسلمون ، وكلهم أمل في النصر وتأييد الله.

صور من معركة بدر

نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر ، وهي الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين ، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين. الموقعة التي قدّر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين ، وقدّر رب المسلمين أن تكون فاصلا بين الحق والباطل ، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام ، ثم تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام ، وفيها ظهرت الاماد البعيدة ، بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير ، وتدبير رب البشر لهم ، ولو كرهوه في أول الأمر.

نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر ، فتضمّنت الكثير من دستور السلم

١٧٨

والحرب ، ودستور الغنائم والأسرى ، ودستور المعاهدات والمواثيق ؛ وتضمنت بعد ذلك ، الكثير من دستور النصر والهزيمة ، وبتضمّنها لأسباب النصر والهزيمة ، ولواجبات المجاهدين في الإعداد والاستعداد ، ثم ترك الأمر بعد ذلك لله ، وما النصر إلا من عند الله. ثم إنها تضمنت بعد ذلك ، مشاهد من الموقعة ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة ، وفي ثناياها وبعدها. مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة ، وصورها وسماتها ، كأن القارئ يراها. وإلى جوار المعركة استطراد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول (ص) وحياة أصحابه في مكة ، حينما كانوا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطّفهم الناس ؛ وصور من حياة المشركين قبل هجرة الرسول (ص) من بين ظهرانيهم ومن بعدها ؛ وأمثلة من مصائر الكافرين من قبل ـ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم ـ والدأب معناه الصفة والشأن ، أي إن شأن الكافرين واحد في تكذيب الرسل ، واستحقاق العقاب ؛ وبذلك تقرر السورة سنّة الله ، التي لا تتخلّف في نصر المؤمنين وهزيمة المكذبين.

الغنائم

لقد افتتحت السورة بالحديث عن الأنفال. وهي الغنائم التي يغنمها المسلمون في جهادهم لإعلاء كلمة الله. وقد ثار بين أهل بدر جدال حول تقسيمها بعد النصر في المعركة ، فردهم الله إلى كلمته وحكمه فيها ، ردهم إلى تقواه وطاعته ، وطاعة رسوله ، واستجاش فيهم وجدان التقوى والإيمان ، ثم ذكّرهم بما أرادوا هم لأنفسهم من الغنيمة وما أراد الله لهم من النصر ، وكيف سارت المعركة وهم قلة لا عدد لهم ولا عدة ، وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد ، وكيف ثبتهم الله سبحانه بمدد من الملائكة ، وبالمطر يستقون منه ، ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال ، وبالنعاس يغشاهم ، فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان ، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم ، وينزل بهم شديد العقاب. قال تعالى :

(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ) (١١).

١٧٩

الحرب والسلام

تضمنت سورة الأنفال دراسة كاشفة وتصويرا ملموسا ، للمواقف الناجحة والحروب الهادفة ؛ كما رسمت السورة ، مع سورة أخرى في القرآن الكريم ، أسباب النصر في الميدان ، ومن هذه الأسباب ما يأتي :

١ ـ إخلاص النية ، والرغبة في الشهادة ، وإيثار الاخرة على الدنيا ، وتحمّل تبعات الحرب وآلام القتال.

٢ ـ الثبات في اللقاء ، وتذكّر الله سبحانه في العسر واليسر ، وعدم الفرار من الميدان ، وبذل النفس والنفيس في سبيل الله.

٣ ـ إعداد العدّة ، وتجهيز أدوات القتال والتدريب عليها ، مع وحدة الصف ، وتماسك القوى ، وترابط المقاتلين.

٤ ـ التوكل على الله ، والالتجاء إليه بعد الأخذ في الأسباب ، وطاعة القائد وتنفيذ الأوامر ، والمحافظة على النظام وأخذ الحذر.

٥ ـ البعد عن التنازع والاختلاف في حال القتال وما يتعلق به ، فإن النزاع والخلاف من أكبر الأسباب في إذهاب القوة وتمكين الأعداء : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الآية ٤٦].

أي لا تختلفوا ، فإنّ الخلاف يؤدي الى الضعف والهزيمة ، وضياع القوة والدولة.

٦ ـ عدم تصديق الخلافات والأراجيف ، ومصاولة اليأس والقنوط ، والقضاء على أساليب العدو وعلى الحرب النفسية التي يشنها ، رغبة منه في تثبيط الهمم والتيئيس من النصر.

* * *

ثم يأمر الله المؤمنين في سورة الأنفال ، أن يثبتوا في كل قتال ، مهما خيّل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم. فإن الله هو الذي يقتل ، وهو الذي يرمي ، وهو الذي يدبّر ، وما هم إلا أسباب ظاهرة لتنفيذ إرادة الله.

وسخر القرآن من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون ، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم ، فيقول :

(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الآية ١٩].

ويحذر المسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمنافقين الذين يسمعون

١٨٠