الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

١

سورة الأنعام

٦

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الأنعام» (١)

١ ـ كيف أنزلت؟

سورة الأنعام سورة مكية ، وهي أول سورة مكية في ترتيب المصحف. فالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة كلّها سور مدنيّة ؛ أمّا سورة الأنعام ، فهي أوّل سورة مكّيّة توضع في السبع الطوال من سور القرآن الكريم.

وقد جاءت عدّة روايات تذكر فضل سورة الأنعام وتبيّن أنّها نزلت جملة واحدة مشيّعة بالملائكة.

قال الإمام الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» :

«إن هذه السورة اختصّت بنوعين من الفضيلة أحدهما أنّها نزلت دفعة واحدة ، والثاني أنها شيّعها ألف من الملائكة. والسبب في ذلك أنها مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين».

ويقول القرطبي :

قال العلماء : «هذه السورة أصل في محاجّة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذّب بالبعث والنشور. وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرّف ذلك بوجوه كثيرة. وعليها بنى المتكلمون أصول الدين».

وعدد آيات سورة الأنعام (١٦٥) آية وعدد كلماتها (٣٠٥٣) كلمة.

* * *

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمد شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣

٢ ـ لم سميت بسورة الأنعام

سمّيت هذه السورة بسورة الأنعام ، والأنعام ذوات الخفّ والظّلف : وهي الإبل والبقر والغنم بجميع أنواعها ، لأنّها هي السورة التي عرضت لذكر الأنعام على تفصيل لم يرد في غيرها من السور ، فقد ورد ذكر الأنعام في مواضع كثيرة من القرآن عرضا ؛ أمّا سورة الأنعام ، فقد جاءت بحديث طويل عن الأنعام استغرق خمس عشرة آية ، من أول الآية ١٣٦ إلى آخر الآية ١٥٠. وقد تناول الحديث عن الأنعام في هذه الآيات من السورة جوانب متعددة ، تتصل بعقائد المشركين ، فبينت السورة ما في عقائدهم من الخلل والفساد ، إذ كانوا يحرمون بعض الأنعام على أنفسهم ، ويجعلون قسما من الأنعام لآلهتهم وأصنامهم ، وقسما لله ، ثم يجورون على القسم الذي جعلوه لله فيأخذون منه لأصنامهم.

٣ ـ تاريخ نزول السورة

نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة المحمّديّة ، أي عقب أمر النبي (ص) أن يصدع بالدعوة ويعلنها للناس بعد أن أسرّ بها ثلاث سنين.

وتميّزت الفترة التي نزلت فيها سورة الأنعام بقسوة المشركين وعنفهم في مقاومة الدعوة الإسلامية وإنكارها ، فقد بدأت الدعوة سرّا ، ثم جهر النبي (ص) بدعوته في مكة. ونزلت سورة الأنعام بعد الجهر بالدعوة بسنة واحدة ، فاستعرضت الأدلة على توحيد الله وقدرته ثم ساقت أدلة المشركين وشبههم فأبطلتها وفندتها.

وقد أخذ المشركون بالنجاح الذي صارت عليه دعوة الإسلام حتى استطاعت أن تعلن عن نفسها بعد الخفاء ، وأن تتحدّى بصوت عال ونداء جهير ، بعد أن كان المؤمنون بها يلجئون إلى الشعاب والأماكن البعيدة ليؤدّوا صلاتهم ، ورأى المشركون أن محمدا (ص) ماض في إعلان دعوته وتلاوة ما أنزل عليه من الكتاب ، وفيه إنذار لهم وتفنيد لمعتقداتهم ، وتسفيه لآرائهم ، وإنكار لآلهتهم ، وتهكّم بأوثانهم وتقاليدهم البالية ، فكان منهم من يستمع للقرآن متأثّرا بقوّته أو متذوّقا لبلاغته ، ومنهم من يبعد عنه خوفا منه. يومئذ واجهت دعوة الحق أعداءها مسفرة واضحة متحدّية ، ووقف هؤلاء الأعداء مشدوهين مضطربين ، يشعرون

٤

في أعماق نفوسهم بصدقها وكذبهم ، ويترقبون يوما قريبا لانتصارها وانهزامهم ، ولا يجدون لهم حيلة إلّا المكابرة والمعارضة المستميتة بما درجوا عليه من العقائد الباطلة ، وبادّعائهم كذب الرسول (ص) ، وبزعمهم أن إرسال الرسل من البشر أمر لم يقع من قبل ، وأن الله لو شاء إبلاغ عباده شيئا لأنزل إليهم الملائكة ؛ وأنكر كفار مكة البعث والدار الاخرة ، واستماتوا في الدفاع عن عقائدهم وآلهتهم ، ونسوا أن محمدا (ص) عاش فيهم عمرا طويلا لم يقل فيهم يوما قولة كاذبة ، ولم يخن فيهم يوما أمانة اؤتمن عليها ، وأنهم لذلك كانوا يلقبونه بالصادق الأمين.

ولكنّهم فكروا فقط في أنّ الدعوة الجديدة يجب أن تموت في مهدها ، ويجب أن تكتم أنفاسها قبل أن تنبعث حرارة هذه الأنفاس إلى البلاد والقبائل والشعوب.

ووجّهت الدعوة الإسلامية بهذا النضال ، وتحملت جميع مقتضياته وأثقاله ، وكانت سورة الأنعام مثالا لتحقيق هذه الدعوة الإسلامية في هذه الفترة. فقد جمعت العقائد الصحيحة كلها ، وعنيت بالاحتجاج لأصول الدين ، وتفنيد شبه الملحدين ، وإبطال العقائد الفاسدة ، وتركيز مبادئ الأخلاق الفاضلة.

٤ ـ مميزات المكي والمدني

وضع العلماء ضوابط تميّز السور المكية من المدنية ، واستنبطوا خصائص الأسلوب والموضوعات التي تناولتها كل مجموعة منهما.

فمن خصائص السور المكية ما يأتي :

١ ـ الدعوة إلى التوحيد ، وعبادة الله وحده ؛ وإثبات الرسالة ، وإثبات البعث والجزاء ؛ وذكر القيامة وهولها ، والنار وعذابها ، والجنة ونعيمها ؛ ومجادلة المشركين ، بالبراهين العقلية والآيات الكونية.

٢ ـ وضع الأسس العامة للفضائل الأخلاقية التي يقوم عليها كيان المجتمع ، وفضح جرائم المشركين في سفك الدماء ، وأكل أموال اليتامى ظلما ، ووأد البنات ، وما كانوا عليه من سوء العادات.

٣ ـ ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة زجرا للكافرين حتّى يعتبروا

٥

بمصير المكذّبين قبلهم ، وتسلية لرسول الله (ص) حتى يصبر على أذاهم ويطمئنّ الى الانتصار عليهم.

٤ ـ قصر الفواصل مع قوة الألفاظ ، وإيجاز العبارة ، بما يصخّ الآذان ، ويشتدّ قرعه على المسامع ، وينبّه القلوب ويحرّك الأفئدة.

ومن خصائص السور المدنية ما يأتي :

١ ـ بيان العبادات والمعاملات ، والحدود ، ونظام الأسرة ، والمواريث ، وفضيلة الجهاد ، والصلات الاجتماعية ، والعلاقات الدولية في السلم والحرب ، وقواعد الحكم ، ومسائل التشريع.

٢ ـ مخاطبة أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ودعوتهم إلى الإسلام ، وبيان تحريفهم لكتب الله ، وتجنّيهم على الحق ، واختلافهم من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم.

٣ ـ الكشف عن سلوك المنافقين ، وتحليل نفسياتهم ، وإزاحة الستار عن خباياهم ، وبيان خطرهم على الدين.

٤ ـ طول المقاطع والآيات في أسلوب يقرّر الشريعة ويوضح أهدافها.

٥ ـ خصائص السور المكية

واضحة في سورة الأنعام

«سورة الأنعام مثل كامل للخصائص المكية ، إنها حشد من الصور الفنية العجيبة واللمسات الوجدانية الموحية ، والمنطق الطبيعي الحي .. وهي كلّها من أولها إلى آخرها تنبض بإيقاع واحد ، وتترقرق بماء واحد تفيض بينبوع زاخر متدفق».

إن موضوعها الذي تعالجه من مبدئها إلى منتهاها هو موضوع العقيدة ، بكلّ مقوّماتها وبكلّ مكوّناتها ، وهي تأخذ بمجامع النفس البشرية وتطوف بها في الوجود كله ، وراء ينابيع الحقيقة وموحياتها المستترة والظاهرة في هذا الوجود الكبير. إنها تطوف بالنفس البشرية في ملكوت السماوات والأرض ، تلحظ الظلمات فيها والنور ، وترقب الشمس والنجوم ، وتسرح في الجنات المعروشة وغير المعروشة ، والحياة الباطلة والجارية ، وتقف على مصارع الأمم الخالية ، وآثارها البائدة والباقية ، ثم تسبح مع ظلمات البحر والبر وأسرار الغيب والنفس ؛ والحي يخرج من الميّت ، والميّت يخرج من

٦

الحي ، ومع الحبة المستكنة في ظلام الأرض ، والنطفة المستكنة في ظلام الرحم. ثم تموج بالجن والإنس ، والطير والوحش ، والأوّلين والآخرين والأحياء والأموات ، والحفظة من الملائكة على النفس بالليل والنهار ..

إنه الحشد الكوني الذي يزحم أقطار النفس ، وأقطار الحس ، وأقطار اللمس وأقطار الخيال .. ثمّ إنّها اللمسات المبدعة المحببة ، التي تنتفض المشاهد بعدها والمعاني ، أحياء تمرح في النفس والخيال. وإذا كلّ مكرور مألوف من المشاهد والمشاعر ، جديد نابض ، كأنما تتلقّاه النفس أول مرة ، ولم يطلع عليه من قبل ضمير إنسان. إلا أنّها القدرة المبدعة تتبدّى في صورة من صورها الكثيرة ، فما يقدر على بث الحياة هكذا في الصور والمشاعر والمعاني ، إلا الله سبحانه الذي بث في الوجود الحياة.

٦ ـ الأغراض الرئيسة

لسورة الأنعام

إن الأغراض الرئيسة التي استهدفتها هذه السورة الكريمة هي تركيز العقائد الأساسية الثلاث التي كان المشركون يومئذ يتنازعون فيها ، وهذه العقائد الأساسية هي :

أولا : توحيد الله. ويتصل بهذا إقامة الدليل على وحدة الألوهيّة ، بلفت النظر إلى آثار الربوبية ، وإلى صفات الله الخالق المتصرف ، كما يتصل بها إبطال عقيدة الشرك ، وشبهات المشركين ، وتقرير أن العبادة والتوجّه والتحريم والتحليل ، إنما ترجع إلى الله.

ثانيا : الإيمان برسوله الذي أرسل ، وكتابه الذي أنزل ، وبيان وظيفة هذا الرسول ، ورد الشبهات التي تثار حول الوحي والرسالة.

ثالثا : الايمان باليوم الاخر وما يكون فيه من ثواب وعقاب وجزاء. وسوف نتناول كل غرض من هذه الأغراض بالتوضيح :

(أ) وحدة الألوهيّة :

لقد بدأت سورة الأنعام بتقرير الحقيقة الأولى في كل دين وعلى لسان كل رسول ، تلك الحقيقة التي تؤمن بها الفطر السليمة ويدل عليها العالم بأرضه وسمائه. وما فيه من مخلوقات ناطقة

٧

وصامتة ظاهرة وخفية ؛ وما فيه من تحوّلات وتقلّبات ونور وظلمات ؛ وهذه الحقيقة هي أن الإله الذي له (الحمد) المطلق والتنزيه الذي لا يحدّ هو الله ، لأنه هو الذي «خلق» وهو الذي «جعل» ؛ فالخلق إنشاء وإبداع ، والجعل تصريف وتقليب ؛ والعالم أجمع في دائرتيهما ؛ فلا ينفكّ شيء منه عن كلا هذين المظهرين : «خلق» و «جعل». ومقتضى ذلك أنّ المخلوق المجهول ، لا يمكن أن يتسامى إلى مرتبة الخالق الجاعل فيعبد كما يعبد ، ويقصد كما يقصد ، ذلك هو مطلع السورة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١). وكل ما جاء في هذه السورة إنما هو بيان وتفصيل ، أو تمثيل وتطبيق على هذه الحقيقة ؛ أحيانا بصفة مباشرة ، وأحيانا بوسائط تقرّب أو تبعد.

وهذا هو المعنى الذي يعبّر عنه بعض العلماء بأنه الحكم بتوحيد الألوهيّة استدلالا بوحدانيّة الربوبيّة ، وذلك في القرآن كثير. فأوّل فاتحة الكتاب :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

وأول الكهف :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ).

وأول فاطر :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً).

ولو ذهبنا نتتبّع هذا المعنى لأوغلنا في التتبّع ، ورأينا الكثير من الآيات ، فإن هذا هو أصل الأديان كلّها ؛ وهو الحقيقة الأولى ، كما تجلى ذلك في سورة الأنعام. وقد ساقت السورة عددا من الأدلّة على توحيد الله سبحانه ، فهي تلفت إلى مظاهر الملك التام ، والسلطان القاهر في الخلق والتصرّف الكامل ، والعلم المحيط فتقول :

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) [الآية ١٢].

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١٣).

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ) [الآية ٥٩].

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) [الآية ٦٠].

وهي تلفت النظر إلى ملكوت السماوات والأرض ، وما خلق الله من

٨

شيء ، لأنّ هذا النظر لا بد أن يثمر الإيمان بالله.

بل تلفت الإنسان إلى نفسه ، ليتفكّر في داخله كيف خلق؟ وكيف يفكّر وكيف يعيش وكيف يموت؟

وبهذا ، تكون الحجة عامّة ، لكلّ ذي عقل سليم وفطرة صافية ، وإخلاص في تطلّب الحقيقة من دلائلها المبثوثة في آفاق السماوات والأرض ، ولذلك يقول جل شأنه :

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (٥٣) [فصلت].

(ب) قضية الوحي والرسالة

كما تحدثت سورة الأنعام عن الألوهيّة والربوبيّة ، ولفتت الناس إلى مظاهر هما في الخلق والتصرف والتدبير المحكم ، تحدثت عن حقيقة ثانية تنبني على الإيمان بهذه الحقيقة الأولى : ذلك أنّ من شأن الإله ، أن يهدي عباده ، ويرشدهم إلى ما تصلح به أمورهم ، وتقوم عليه سعادتهم في دنياهم وأخراهم.

ومن رحمة الله بعباده ، أن أرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتاب ؛ لهداية الناس من الضلالة إلى الهدى ، وإخراجهم من الظلمات إلى النور.

وقد عنيت سورة الأنعام بهذه الحقيقة ، فتحدّثت ، في كثير من آياتها ، عن الوحي والرسالة من جوانب شتّى ، بعضها يتّصل بإثبات الوحي وبيان حكمته والرد على منكريه ؛ وبعضها يرجع إلى بيان ما هو من وظيفة الرسول وما ليس من وظيفة ؛ وبعضها يتصل بموقف الناس أمام الرسالات الإلهية ، وبعضها يتعلّق بالآداب التي رسمها الله للرسول ، وما ينبغي أن يكون عليه سلوكه مع مخالفيه وموافقيه. قال تعالى :

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الآية ١٩].

(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (١١٤).

تكذيب المرسلين :

عرضت السورة لموقف المكذّبين من الرسالة ، وبينت أن التكذيب سنة قديمة. فعلى الرسول أن يصبر

٩

ويصابر ، حتى لا يضيق صدره بتكذيبهم إياه ، ولا ييأس من هدايتهم. وبيّنت السورة حسن عاقبة المرسلين. وسوء عاقبة المكذّبين ؛ قال تعالى :

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) (٣٤).

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (١٠).

نبوة محمد (ص):

أثبت القرآن الوحي والرسالة ؛ ثم أثبت نبوّة محمد (ص) بالدليل القاطع والحجة البالغة. فقد نشأ هذا النبي يتيما فقيرا أمّيا في بيئة مشركة جاهلة ؛ فمن أين له هذا الكتاب المحكم الذي اشتمل على مبادئ الإصلاح العالمي كلها؟ والذي لم يستطع العلم ، في أزهى عصوره ، أن يهدم حقيقة من الحقائق التي جاء بها.

إن القرآن قد تحدّى العرب ببلاغته وقوّة بيانه ؛ فعجزوا عن الإتيان بمثله ، أو بعشر سور منه ، أو بسورة واحدة.

وقد تحدّى القرآن الزمان كله بخلوده وصحته ، وأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الآية ٩١].

(ج) قضية البعث والجزاء

نزلت سورة الأنعام في السنة الرابعة من البعثة بعد أن أمر الله رسوله أن يجهر بالدعوة ، وأن يعلن عن العقيدة الإلهية ، ويقرر حقيقة البعث والجزاء علنا أمام المشركين.

وقد سلكت سورة الأنعام طرقا شتّى في الاستدلال على قضية البعث ؛ فقد استدلت عليه بخلق السماوات والأرض في مقدّمتها العنوانية :

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١).

فمن خلق السماوات والأرض بقدرته فهو قادر على إحياء الموتى واعادة خلق الإنسان. فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

١٠

وكررت هذه الحقيقة وأكدت في آياتها بصور شتى ؛ فذكرت أن البعث حق ، وأن الله بيده الخلق ، والأمر ، والبدء ، والإعادة ، والحساب ، والجزاء قال تعالى :

(لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الآية ١٢].

وقال سبحانه :

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤).

وقد استدلّ القرآن في قضية البعث والجزاء ، بعديد من الأدلّة ، منها أن الحكمة والعدل يقضيان بالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، كما يقضيان بأن ينال المحسن إحسانه ، والمسيء إساءته حتى يطهر المسيء من دنس النفس ويكون أهلا لرحمة الله الكاملة ، وهذان شأنان هامّان ، إذ كثيرا ما يرتحل الناس عن الدنيا دون أن يسهل طريق النقاء لمن دسّى نفسه ، ودون أن يعرفوا الحق فيما اختلفوا فيه ؛ وإذا فلا بد من دار أخرى يلقى الإنسان فيها الجزاء أمام حاكم عادل ، عليم خبير بكل ما قدّم الإنسان.

وقد تعرّض أحد القضاة الفرنسيين لتاريخ القضاء في فرنسا ، وأصدر كتابا ذكر فيه عددا من الحالات ، حكم فيها بالإعدام أو الإدانة على متّهمين ، ثم برّأتهم الأيّام والحقائق ؛ وأحصى عددا من الحالات ، برّأ القضاء فيها متّهمين ثم أثبتت الأيام وحقائق الأحداث أنّهم مدانون.

ثم عقّب القاضي بقوله : إنه لا بدّ من جزاء وحساب أمام قاض آخر ، لا تخفى عليه خافية ولا تغيب عنه حادثة ، في دار أخرى ، ليعوّض الناس عن أخطاء القضاء في الدنيا ، وليكون حكمه فيصلا ومنصفا للمظلومين ، ورادعا للمجرمين ، وفي القرآن الكريم آيات عدة تؤكد هذا المعنى ، قال تعالى :

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٤) [يونس].

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُو ا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢١) [الجاثية].

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢).

١١

وقد لوّن القرآن ونوّع في أدلّته على إثبات البعث ، وعرض مشاهد القيامة واضحة للعيان. وعرضت سورة الأنعام لشأن البعث باعتباره أمرا كائنا ليس موضع إنكار ، ولا محلا لريب ؛ وصوّرت فيه مواقف المشركين ، وما سيكونون عليه في ذلك اليوم ، كأنهم حاضرون معروضون أمام الناس ، يتأمّلهم الإنسان ، ويرى فعلهم وقولهم ؛ قال تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤).

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٩٤).

إلى غير ذلك ممّا تضمّنته السورة من الوصف العينيّ لمظاهر البعث الذي يأخذ القلب وينير الوجدان.

٧ ـ قصة إبراهيم الخليل

حفلت سورة الأنعام بذكر طرف من قصة إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، وإبراهيم أبو الأنبياء ؛ والرسول الذي دافع عن التوحيد ، وتحدّى عبّاد الأصنام ، وأخذ يتأمّل بفكره في ملكوت السماوات والأرض ، ليرشد قومه ، عن طريق الحوار ، إلى فساد اعتقادهم ودليل خطأهم في تأليه الكواكب والقمر والشمس وغيرها. جنّ عليه الليل ، وستره الظلام ، فرأى كوكبا ممّا يعبدون وهو بين جماعة منهم ، يتحدّثون ويسمرون ، فجاراهم في زعمهم ، وحكى قولهم ، فقال هذا ربي. فلما أفل هذا الكوكب ، وغاب هذا النجم تحت الأفق ، تفقّده فلم يجده ، وبحث عنه فلم يره ؛ فقال لا أحب الالهة المتغيّرة من حال إلى حال.

ولما رأى القمر بازغا وهو أسطع نورا من ذلك الكوكب ، وأكبر منه حجما ، وأكثر نفعا ؛ قال كما ورد في التنزيل :

(هذا رَبِّي).

لاستدراجهم واستهواء قلوبهم ، فلما

١٢

أفل هذا أيضا واحتجب ، واختفى نوره واستتر ، قال كما روى القرآن الكريم ، ذلك حكاية عنه :

(لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧).

بيّن لهم أن الله خالق الهداية ، ومانح التوفيق. ثم رأى إبراهيم الشمس بازغة يتألق نورها وينبعث منها شعاعها ، وقد كست الدنيا جمالا ، وملأت الأرض حياة وبهاء ، وأرجاء الكون نورا وضياء ، فقال : هذا ربي ، هذا أكبر من كل الكواكب ، وأكثر نفعا ، وأجل شأنا ، فلما أفلت كغيرها ، وغابت عن عبادها ، رماهم بالشرك وقال كما روى القرآن ، حكاية عنه :

(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (٧٨).

فهذه الكواكب التي تنتقل من مكان إلى مكان ، وتتحوّل من حال إلى حال ، لا بد لها من خالق يدبرها ويحركها ، وإله ينظمها ويسيّرها ؛ فهي لا تستحق عبادة ولا تعظيما.

وبعد أن أعلن إبراهيم انصرافه عن آلهتهم ، وبراءته من معبوداتهم أفاض الحديث عن إخلاصه لله بعبادته وخضوعه ، فقال كما ورد في محكم التنزيل :

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩).

ولقد كان إبراهيم جريئا في إعلان إيمانه ، وإخلاصه لربّه ، ومجادلة قومه ، وإفهامهم أن غير الله لا ينفع ولا يضرّ ، وأن الله وحده هو النافع الضارّ ، والمعطي المانع ، وهو على كل شيء قدير. وقد ناقش إبراهيم أباه ، وأوضح له طريق الهدى ، وأخلص الدعاء لأبيه أن يلهمه الله طريق الهداية والرشاد ، فلما تبيّن لإبراهيم أنّ أباه عدوّ لله تبرّأ منه. وهكذا كان إبراهيم عمليا في دعوته ، عمليّا في هجرته وعزلته.

وقد ظهرت قدرة إبراهيم وإخلاصه وتضحيته ، حينما حطّم الأصنام ، ولام قومه على عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يضر ولا ينفع ، وظهرت بطولة إبراهيم حينما امتحنه الله بذبح ولده إسماعيل ، فامتثل إبراهيم لأمر ربّه ، وأشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى :

(يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢) [الصافات].

١٣

وصدق الأب في طاعة ربه ، وصدق الابن في الوفاء والامتثال ؛ وعزم الأب على ذبح ابنه ، وأخلص النيّة ؛ فلما ظهر منه صدق النيّة ، فدي إسماعيل بكبش عظيم ، وأصبحت الأضحية سنّة في كل عام ، يذبحها الغنيّ المقتدر ويوزّع من لحمها على الفقراء وعلى الأصدقاء ، ذكرى للتضحية والفداء ، واقتداء بإبراهيم الخليل. وكم لإبراهيم من مواقف جليلة عظيمة في مصر ، وفي فلسطين ، وفي جوار بيت الله الحرام ، وفي بناء الكعبة ؛ وهو يخلص الدعاء لله في كل عمل. وقد مدحه القرآن ، ووصفه بأحسن الصفات ، إذ يقول جل جلاله :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٢٠) [النحل].

٨ ـ الوصايا العشر

افتتح الربع الأخير من سورة الأنعام ، بالدعوة إلى عشر وصايا هي النهي عن الإشراك بالله ، والأمر بالإحسان إلى الوالدين ، والنهي عن قتل الأولاد مخافة الحاجة ، والنهي عن مقاربة الفاحشة في السرّ أو العلن ، والنهي عن قتل النفس التي حرّم الله قتلها. ثم أمرت الآيات بالإحسان إلى اليتيم ، وإتمام الكيل والميزان ؛ كما أمرت بالعدل في كل شيء ؛ وأمرت بالوفاء بالعهد ، والاستقامة على الصراط القويم.

الوصية الأولى : من هذه الوصايا العشر التي وردت في سورة الأنعام قوله تعالى :

(قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) [الآية ١٥١] ، وهي الأساس الذي يصلح عليه أمر الناس ، فإنّ المجتمع الذي يقوم على إيثار الله على كلّ ما سواه هو المجتمع الفاضل المثاليّ السعيد ؛ أما المجتمع الذي يشرك بالله أحدا أو يشرك بالله شيئا ، فإنه مجتمع منحلّ ، تسيّره المادة الصماء التي لا روح فيها ولا صلاح ولا قرار معها.

والوصية الثانية :

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الآية ١٥١].

فالوالدان سبب في حياة الولد ؛ فيجب أن يشكرهما ويحسن إليهما ، خصوصا في حالة الكبر والشيخوخة.

والوصية الثالثة :

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الآية ١٥١].

١٤

أن قتل الإنسان لابنه اعتلال في الطبع أو خلل في العقل ، فإن الولد بضعة من الوالد ؛ والشأن حتى في الحيوان أن يضحّي الوالد من أجل أولاده ، ويحميهم ، ويتحمل الصعاب في سبيلهم. وفي الحديث الصحيح ، يقول النبي (ص) : «إن من أكبر الكبائر أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك». إذ أن الله يبسط الرزق لمن يشاء (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦].

الوصية الرابعة :

(وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) [الآية ١٥١].

والفواحش هي كل فعل تنكره العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، والمجتمع الذي يؤمن بأن هناك (فواحش) يجب أن تجتنب ، و (محاسن) يجب أن تلتمس ، هو المجتمع السليم الجدير بالنمو والارتقاء.

الوصية الخامسة :

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (١٥١).

فالإنسان بنيان الله ، ومن هدم بنيان الله ملعون ، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم الإنساني إلا بالحق ؛ ويعتبر من يعتدي على نفس واحدة بغير حق ، كأنه اعتدى على الإنسانية كلها. وهو المبدأ الذي يعتبر أن الجريمة اعتداء على المجتمع كله.

والوصية السادسة :

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الآية ١٥٢].

فاليتيم عارض يعرض في كل مجتمع ، ومن شأن المجتمعات الناضجة أن ترعى اليتامى ، وأن تحافظ على صلاحهم في أنفسهم وفي أموالهم. وعلى الوصيّ أن يعامل اليتيم كما لو كان ابنا من أبنائه ؛ فيحسن توجيهه ، وتأديبه ، ورعايته ، وكفالته ؛ حتى ينشأ اليتيم مواطنا صالحا وعضوا نافعا.

الوصية السابعة :

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) [الآية ١٥٢].

فالمؤمن عادل في بيعه وشرائه يضبط الكيل ، ويعطي الحق ، ويأخذ الحق.

الوصية الثامنة :

(وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الآية ١٥٢].

١٥

والعدل هو أساس الحكم السليم ، العدل في القول ، والعدل في الحكم ، والعدل في الشهادة ، والعدل في كل فعل وعمل.

الوصية التاسعة :

(وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا) [الآية ١٥٢].

والوفاء خلة حميدة ، وصفة طيبة من الصفات التي يتحقّق بها الخير والصلاح وتستقر عليها أمور الناس.

الوصية العاشرة :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الآية ١٥٣].

وهذه الوصية الأخيرة هي الجامعة لكل ما جاءت به دعوة الحق. فهي تدعو إلى السير على طريق الله ، وشرعة الله ، وأوامر الله ، والابتعاد عن طرق الشيطان ؛ فطريق الله سبيل النجاح في الدنيا والاخرة ، وفي سورة الفاتحة :

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦).

١٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأنعام» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الأنعام بمكّة بعد سورة الحجر ، وقد نزلت سورة الحجر بعد ثلاث سور من سورة الإسراء ، وكان الإسراء ، قبل الهجرة إلى المدينة بسنة ، فتكون سورة الأنعام من السور التي نزلت بين الإسراء والهجرة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لأنه فصّل فيها حكم الأنعام من الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز ، وتبلغ آياتها خمسا وستين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت سورة الأنعام دفعة واحدة في ذلك الزمن السابق ، وتمتاز بطولها على كل السور المكّيّة ما عدا سورة الأعراف ، فكان لها شأنها في ذلك حين نزولها ، وقد اهتم النبي (ص) بها ، فدعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم ؛ والغرض منها ، إثبات التوحيد والنبوّة ، ودحض مذاهب المبطلين والملحدين ، وإبطال ما ابتدعوه من تحليل الحرام ، وتحريم الحلال من الطيّبات ، تقرّبا لأصنامهم ؛ وبهذا ينحصر الغرض منها في هذين المقصدين. وقد ابتدئت بإثبات التوحيد والنبوّة ، تمهيدا لمناظرة المشركين فيهما ؛ وختمت ببيان أن النبي (ص) ليس في شيء منهم بعد أن قام بإبطال شبهاتهم ، وأن ما أتاهم به من التوحيد هو دين أبيهم إبراهيم (ع) ؛ وأن الله سبحانه وتعالى ما كان ليتركهم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٧

من غير تكليف ، وهو لم يخلقهم عبثا ؛ وإنما خلقهم ، ليجعلهم خلفاءه في أرضه.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة المائدة ، لأنها من الطوال مثلها ، ولأنه ذكر فيها كثير من أحكام الحلال والحرام ، كما ذكر في سورة المائدة.

إثبات التوحيد والنبوة

الآيات [١ ـ ٧]

قال الله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (١) ، فذكر سبحانه أنه المستحق للحمد ، لأنه الذي خلق السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، واستبعد مع هذا أن يسوّي به المشركون أصنامهم التي لا تقدر على هذه الأشياء العظيمة ؛ ثم استدل على توحيده أيضا بخلقه الإنسان من طين ، وبكونه لا يغيب عن علمه شيء في السماوات والأرض ، وما يعمله الناس في سرهم وجهرهم ، وما يكسبون من خير وشر ؛ ثم ذكر أن النبي (ص) لا يأتيهم بآية من ذلك تدلّ على نبوّته ، إلا أعرضوا عنها وكذّبوا واستهزءوا بها ؛ وأنه سوف يأتيهم أنباء ما يستهزئون به ، فيأخذهم بعذابه كما أخذ كثيرا من قرون قبلهم مكّنهم في الأرض ما لم يمكّن لهم ؛ ثم ذكر أنه بلغ من تعنّتهم على النبي (ص) أنه لو نزّل سبحانه وتعالى عليه (كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (٧).

شبهتهم الأولى على التوحيد والنبوة

الآيات [٨ ـ ٣٦]

ثمّ قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) فذكر أنهم كانوا يقولون ، تعنّتا واستهزاء ، إنه لو كان نبيا لأنزل عليه ملك يصدّقه في ما يدعو إليه من التوحيد والنبوة ؛ وقد أجابهم تعالى بأنه لو أنزل عليه ملكا ولم يؤمنوا به لعجّل بإهلاكهم ، وهو لا يريد ذلك لهم ، وبأنه لو أنزل ملكا لجعله في صورة البشر ليروه ويسمعوا كلامه ، فلا يصدقون أنه ملك ، ويعودون إلى اقتراح ما اقترحوه ؛ ثم ذكر أن تعجيل الإهلاك هو ما جرت به سنّته في الأمم التي كانت تقترح الآيات على رسلها تعنّتا واستهزاء ، ثم لا يؤمنون بها ؛

١٨

وأمرهم أن يسيروا في الأرض ، ليروا بأنفسهم كيف كانت عاقبتهم.

ثم بيّن لهم ـ بعد أن ذكر أنه لا سبيل إلى هذه الآية ـ آياته على التوحيد ، فأمر النبي (ص) أن يسألهم لمن ما في السماوات والأرض؟ وأن يجيبهم بأن ذلك له سبحانه ، وحده لا لآلهتهم ؛ وبأن له ما سكن في الليل والنهار من الدواب وغيرها ؛ ثم أمره أن يقول لهم : إنه لا يمكنه بعد هذا أن يتّخذ غيره سبحانه وليا من أصنامهم ، وإنه قد أمر أن يكون أوّل من أسلم له ولا يشرك به ، وإنه يخاف ، إن عصاه ، عذاب يوم القيامة ؛ ثم ذكر أنه من يصرف عنه هذا العذاب فقد رحمه‌الله ، وأنه إن يمسسه بضرّ فلا كاشف له غيره ، وإن يمسسه بخير فهو على كل شيء قدير (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (١٨).

ثم بيّن لهم الأدلة على النبوة ، فأمر النبي (ص) أن يسألهم : أي شيء أكبر شهادة؟ وأن يجيبهم بأن الله هو الأكبر شهادة لا غيره منهم ومن آلهتهم ، وقد شهد له بالنبوة بما أوحي إليه من القرآن المعجز ، وإذا كانوا يشهدون أن معه آلهة أخرى تساويه في الشهادة ، فهو لا يشهد معهم بذلك ؛ ثم ذكر أنّ أهل الكتاب يشهدون بنبوّته أيضا ، ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، وأن أولئك المشركين قد ضلوا وخسروا أنفسهم فلا سبيل إلى إيمانهم ؛ ثم ذكر أنه لا يوجد أضل منهم لافترائهم شركاء له وتكذيبهم بآياته ، وأنه سيحشرهم جميعا ثم يسألهم عن شركائهم ، فينكرون أنّهم كانوا مشركين : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٤).

ثم انتقل إلى بيان بعض أسباب كفرهم ، فذكر منها أنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ، وأنهم إن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها ، وليس عندهم إذا جادلوا فيها إلّا أن يقولوا إن هذا إلا أساطير الأولين ؛ ثم ذكر أنهم ينهون الناس عن الاستماع إليه ، وينأون عنه ، ولا يضرّون بهذا إلا أنفسهم ؛ وأنهم سيندمون عليه حينما يعرضون على النار ، ويتمنّون أن يردّوا إلى الدنيا ليؤمنوا بتلك الآيات التي كذّبوا بها ، ولو أنهم ردّوا إلى الدنيا لعادوا إلى تكذيبهم ؛ ثم ذكر من تلك الأسباب أنهم لا يؤمنون إلّا بالحياة الدنيا ، وينكرون أن يكون هناك بعث لهم ؛

١٩

وذكر أنهم سيبعثون ويعرضون عليه سبحانه ، فيسألهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) [الآية ٣٠] فيقرّون به ولا ينكرونه ، ويجازيهم على هذا بإذاقتهم عذاب النار ؛ ثمّ ذكر أنّهم قد خسروا بإنكارهم البعث ، وأنهم سيندمون حين تأتيهم الساعة بغتة وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ، وما أسوأها من أوزار لهم : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢).

ثم ذكر للنبي (ص) أنه يعلم أنه يحزنه الذي يقولون من أن ما أنزل عليه من أساطير الأولين ؛ وأنهم لا يكذبونه بهذا ، وإنّما يكذبون الله ، ويجحدون آياته ، وأنه قد كذّب رسل من قبل ، فصبروا على تكذيبهم حتى نصرهم الله عليهم ؛ وأنه إن كان كبر عليه إعراضهم واقتراحهم تلك الآيات ، فليبتغ نفقا في الأرض أو سلما في السماء فيأتيهم بها إن استطاع ؛ وأنه سبحانه ، لو شاء لجمعهم على الهدى من غير آية من الآيات ؛ ثم نهاه أن يكون من الجاهلين ، فيحزن لإعراضهم ، أو يطمع في استجابتهم : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣٦).

شبهتهم الثانية على التوحيد والنبوة

الآيات [٣٧ ـ ٩٠]

ثم قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٣٧) فذكر أنهم اقترحوا عليه بعد ذلك آية عذاب ، وردّ عليهم بأنه قادر أن ينزل عليهم ذلك ، ولكنه لا يريد أن يهلكهم لحكمة لا يعلمها أكثرهم ؛ ثم ذكر أنه ما من دابّة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالهم ، لينظروا في آياتها ويتركوا ما يقترحونه من ذلك تعنّتا ؛ ثم ذكر أن الذين يكذّبون بآياته في ذلك صمّ بكم ، وأنه من يشأ يضلله فلا يهتدي بآية من الآيات ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ؛ ثم ذكر لهم أن العذاب الذي يقترحونه لو أتاهم أو أتتهم الساعة ، فإنّهم لا يدعون غيره ليكشفه عنهم ، وينسون هنالك آلهتهم ، فليؤمنوا به من غير أن يقترحوا ذلك العذاب الذي لا يدعون فيه غيره ؛ ثم ذكر أن أمما قبلهم اقترحوا على رسلهم مثل ذلك ، ولم يؤمنوا به بعد إجابتهم إليه ، فأمهلهم ومدّ لهم حبل الطغيان ، ثم أخذهم بغتة فإذا هم مبلسون ؛ ثم ذكر أنه لو فعل بهم أكثر مما يقترحون

٢٠