الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٣

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٠٨

أن يجمع السحرة ليغلبوه بسحرهم ؛ ثمّ ذكر ما كان من السحرة وإيمانهم حين ظهر لهم عجزهم ، وما كان من إصرار فرعون وقومه على الكفر بعد عجز سحرتهم ، ومضيهم في الانتقام من بني إسرائيل بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم ؛ فأمر موسى بني إسرائيل أن يستعينوا على ذلك بالصبر ، ووعدهم أن يهلك الله عدوّهم ويستخلفهم في الأرض ؛ ثمّ ذكر ما كان من أخذه قوم فرعون بالسنين ، ونقص من الثمرات ، وأنّهم كانوا إذا أصيبوا بذلك لا يتّعظون به ، بل يشتدّ كفرهم ، ويزعمون أنّه من شؤم موسى وقومه عليهم ؛ ثمّ ذكر أنه أرسل عليهم بعد ذلك الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم فاستكبروا ولم يؤمنوا ؛ ثم أوقع عليهم الرّجز وهو الطاعون ، فذهبوا إلى موسى ليدعو ربه أن يرفعه عنهم ، ووعدوه عند رفعه أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل ؛ فلمّا كشف الرجز عنهم نكثوا عهدهم ، فانتقم الله تعالى منهم بإغراقهم في البحر ، وأورث بني إسرائيل الأرض التي بارك فيها ، ودمّر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.

ثم ذكر ما كان من بني إسرائيل بعد أن أنجاهم وأغرق آل فرعون ، وأنهم جاوزوا البحر ، فأتوا على قوم يعبدون الأصنام ، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها مثلهم ، فجهّلهم وبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام ، وأنه لا يليق بهم بعد أن أنجاهم الله من آل فرعون أن يعبدوا غيره ؛ ثم ذكر أن موسى (ع) تغيّب عن قومه أربعين ليلة ، ليتلقّى التوراة فيها عن ربّه ، واستخلف أخاه هارون على قومه ، وأنه لما جاء لميقات ربّه ، وكلّمه ، طلب منه أن يراه ؛ وأنه لم يجبه الى ذلك ، وطلب منه أن ينظر إلى الجبل ، وقد تجلّى له فاندكّ وتفرّق ، وخرّ هو صعقا من هول ما رأى ؛ فلمّا أفاق أظهر له التوبة من طلب رؤيته ، فقبل توبته وأنزل عليه التوراة مكتوبة في الألواح ؛ وأمره أن يأخذها بقوّة ، وأن يأمر قومه أن يأخذوا بأحسنها إذا كان فيها تخيير بين حسن وأحسن ؛ ووعدهم بأنه سيدخلهم الأرض التي وعدهم بها ، وذكر أنه سيصرف عن آياته أصحابها الذين يتكبّرون فيها ويؤثرون سبيل الغيّ على سبيل الرشد ، لأنهم كذبوا بآياته وغفلوا عنها ، فحبطت أعمالهم ولا يجزون إلا ما كانوا يعملون ؛ ثم ذكر أن قوم موسى اتخذوا من بعده من حليّهم

١٠١

عجلا جسدا له خوار فعبدوه من دونه سبحانه ، وأنّهم ندموا على ذلك ، ورأوا أنهم قد ضلّوا وطلبوا رحمة الله ومغفرته لذنبهم ، وأن موسى رجع إليهم غضبان أسفا لما فعلوا ، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه هارون يجرّه إليه ؛ فاعتذر له بأنهم استضعفوه وكادوا يقتلونه ، فطلب من ربه أن يغفر له ولأخيه ويرحمهم جميعا ولا يؤاخذهم بما فعلوا ؛ وقد أجيب بأنّ الذين اتخذوا العجل وزيّنوا عبادته لهم سينالهم غضب من ربهم وذلّة في الدنيا ، لأنهم سيعودون إلى عصيان ربهم ، وقد فعلوا ذلك ، بعد أن فتحوا الأرض الموعودة لهم ؛ وبأنّ الذين لم يقعوا في العبادة مثلهم وأساؤوا بعدم مفارقتهم ، ثمّ تابوا وآمنوا ، ستغفر سيئاتهم. ثم ذكر سبحانه ، أن موسى اختار سبعين رجلا منهم لميقاته ليعتذروا عن ذلك الفعل ، وأنه أخذهم بالرجفة إظهارا لغضبه ممّا فعلوا ، فتوجّه موسى إليه بالدعاء أن يغفر لهم ويرحمهم ، ولا يؤاخذهم بما فعل السفهاء منهم ؛ وأنه جلّ جلاله أجابه بأنه يعذّب من يشاء ولا يسأل عمّا يفعل ، وأنّ رحمته وسعت كلّ شيء حتّى العاصين من عباده ، وسيكتبها للذين يتّقون ويؤتون الزكاة ويؤمنون به ، ويتّبعون الرسول النبي الأمي حين يبعث إليهم ، وهو الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، إلى غير هذا مما ذكره في البشارة بمحمد (ص) ، ثم استطرد السّياق من ذلك إلى أمره سبحانه للرسول (ص) بعد هذه البشارة أن يذكر للناس أنه رسول الله إليهم جميعا ؛ وأن يأمرهم باتباعه لعلّهم يهتدون ؛ ثم ذكر تعالى أن من قوم موسى أمّة يهدون بالحق ، فلا ينكرون تلك البشارة.

ثم عاد السياق إلى موسى وقومه ، فذكر أن الله جلّ جلاله قطّعهم اثنتي عشرة أسباطا ، وأنه أوحى إليه إذا استسقوه أن يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعددهم ؛ وأنه ظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وأنّهم ما ظلموه سبحانه ، إذ عصوه بعد هذا ، ولكن ظلموا أنفسهم ؛ ثمّ ذكر من عصيانهم أنه أمرهم بسكنى القرية التي وعدهم بها ، وهي بيت المقدس ، وأن يقولوا حين دخولها حطّة ويدخلوا الباب سجّدا ، فبدّلوا ذلك وقالوا حنطة ،

١٠٢

فطلبوا ذلك ولم يطلبوا حطّ الخطايا عنهم ، ثم ذكر أيضا قصة الذين اعتدوا منهم في السبت ، وأنهم أصرّوا على اعتدائهم ولم يسمعوا للذين وعظوهم ، فأخذهم بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ، وجعلهم في طباع القردة والخنازير من الشره والطمع ، وبعث عليهم من يسومهم الذّل والصّغار إلى يوم القيامة ، وبدّد شملهم في الأرض طوائف محكومة لأهلها ، منهم الصالحون وهم الذين لم يصيروا في طباع القردة والخنازير ، ومنهم دون ذلك وهم الذين صاروا في طباعها ، وانحرفوا عمّا جاءت به التوراة من الأخلاق الفاضلة ؛ ثمّ ذكر أنه بلاهم بالحسنات والسّيئات لعلهم يرجعون إلى فضائل دينهم ، فخلف من بعدهم خلف انحرفوا عنه أكثر منهم ، يأخذون الرّشا على تحريف التوراة ، ويزعمون أنه سيغفر ذلك لهم ، مع أنهم يصرّون عليه ولا يقلعون عنه وقد أخذ عليهم عهد التوراة أن يحافظوا عليها ولا يحرّفوها ، وهم يدرسون ذلك فيها ويعرفونه ؛ والدار الاخرة خير من تلك الرشوة التي يأخذونها على التحريف ؛ والذين يتمسّكون بالتوراة ولا يحرّفونها لا يضيع أجرهم فيها ، ثمّ ذكر أنه أخذ هذا العهد عليهم حين رفع الجبل فوقهم ، وأمرهم أن يأخذوا التوراة بقوّة ويحافظوا عليها ، ثمّ ذكر أنه أخذ على بني آدم جميعا عهده يوم خلقهم ، أن يعترفوا بأنه ربّهم ويطيعوه ، وأنّهم شهدوا على أنفسهم يوم أخذه عليهم لئلّا يدّعوا يوم القيامة أنهم غفلوا عنه ، أو أنهم أشركوا كما أشرك آباؤهم تقليدا لهم ، فلا يصح أن يؤخذوا بما فعلوه قبلهم (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (١٧٤).

قصة عالم لم يعمل بعلمه

الآيات [١٧٥ ـ ١٧٧]

ثم قال تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٧٥) فذكر نبأ عالم أتاه علم كتبه فلم يعمل به ، فتولّاه الشيطان حتّى أضلّه وصار مثله كمثل الكلب في خسّته وذلّته. ثمّ ذكر أن هذا مثل الذين كذّبوا بآياته ؛ وأمر النبي (ص) أن يقصّ عليهم ذلك المثل لعلهم يتفكرون (ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ) (١٧٧).

١٠٣

الخاتمة

الآيات [١٧٨ ـ ٢٠٦]

ثمّ قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٧٨) فذكر ان الهداية والإضلال بيده وحده جلّ جلاله ، فمن يهده فهو المهتدي ومن يضلله فأولئك هم الخاسرون ؛ ثمّ ذكر أنه خلق لجهنم كثيرا من الجن والإنس لا يعتبرون بما قصّه من ذلك ، لأنهم لا يفقهون ولا يبصرون ولا يسمعون ، فهم كالأنعام بل هم أضلّ ؛ ثمّ ذكر أن له سبحانه الأسماء الحسنى ، وأمرهم أن يدعوه بها ولا يتّبعوا الذين يلحدون في أسمائه من أولئك الجهلاء ؛ وأنّ ممّن خلقه ، أمة يهدون بالحق ، فلا يلحدون في أسمائه ؛ وأنّ الذين كذّبوا بآياته ، سيستدرجهم ، ثمّ يأخذهم بغتة كما أخذ أولئك الأولين ؛ ثمّ وبّخهم على ترك التفكير في أمر النبي (ص) ليعلموا أنه ليس به جنّة ، وإنما هو نذير مبين ؛ كما وبّخهم لأنّهم لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ليعرفوا خالقهم ، وفيما ينذرهم به ، ليعلموا أنه قد اقترب أجلهم ؛ ثمّ ذكر أن من يضلله فلا يهتدي بشيء من ذلك ، ويتركهم في طغيانهم يعمهون.

ثمّ ذكر سبحانه أنهم سألوا النبيّ (ص) عن ساعة ذلك العذاب أيّان مرساها؟ فأجابهم النبيّ (ص) بأنّ علمها عند الله وحده ، وهي لا تأتيهم إلّا بغتة من غير سابق علم ، وبأنه لم يدّع لهم أنه يملك لنفسه نفعا أو ضرّا ، أو يعلم الغيب حتى يكون إليه ذلك الأمر ؛ وإنما يرجع ذلك إلى مشيئة الله وإرادته ، وما هو إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون.

ثم أخذ السّياق يبين لهم فساد شركهم ، فذكر سبحانه أنه هو الذي خلقهم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، فلمّا حملت منه دعوا الله (لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) فلمّا آتاهما ما طلبا جعل أولادهما له شركاء فيما آتاهما ؛ ثمّ وبخهم على أن يشركوا به مالا يخلق شيئا وهم يخلقون ، إلى غير هذا مما ذكره في إبطال شركهم ، ثم أمر النبي (ص) أن يأمرهم بدعوة شركائهم لكيده ، تعجيزا لهم ، وأن يذكر لهم أن وليّه الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين ؛ وأنّ هؤلاء الشركاء لا يستطيعون نصرهم ولا نصر أنفسهم ، ثمّ ذكر سبحانه أن

١٠٤

النبي (ص) إن يدعهم إلى الهدى لا يسمعوا ؛ ينظرون إليه وهم لا يبصرون ؛ وأمره أن يأخذ بما شرعه له من العفو والأمر بالمعروف والإعراض عن الجاهلين ، وأن يستعيذ به جلّ جلاله إذا اعتراه من الشيطان نزغ ، لأن هذا هو سبيل المتّقين إذا مسّهم الشيطان بطائف منه ؛ ثمّ ذكر أنه إذا لم يأتهم بآية ممّا يقترحونه ، قالوا لو لا اقترحتها على الله ، وأمره أن يجيبهم بأنه لا يتّبع إلا ما يوحى إليه ، فلا يقترح شيئا عليه ؛ وبأنه ، قد أتاهم بصائر من القرآن تغني عن غيره من المعجزات ؛ ثمّ أمرهم أن يستمعوا له وينصتوا إذا قرئ عليهم لعلّهم يرحمون ؛ وأمر النبي (ص) أن يذكره تضرّعا وخيفة ، ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ؛ ونهاه أن يكون من الغافلين (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢٠٦).

١٠٥
١٠٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الأعراف» (١)

أقول : مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه : أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق ، وقال فيها : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] وقال في بيان القرون (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) [الأنعام : ٦] ، وأشير فيها إلى ذكر المرسلين ، وتعداد كثير منهم ، وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال ، لا التفصيل ، ذكرت هذه السورة عقبها ، لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها.

فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط ، بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها (٢). وذلك تفصيل إجمال قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢] ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم ، وكيفية إهلاكهم ، تفصيلا تامّا شافيا مستوعبا ، لم يقع نظيره في سورة غيرها (٣) ، وذلك بسط حال القرون المهلكة ورسلهم ، فكانت هذه السورة شرحا لتلك الآيات الثلاث.

وأيضا ، فذلك تفصيل قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) [الأنعام : ١٦٥]. ولهذا صدّر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). انظر في قوله تعالى من (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) [الآية ١١].

الى : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ) (٢٥).

(٣). انظر من قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) [الآية ٥٩] الى (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦).

١٠٧

خليفة (١) وقال في قصة عاد : (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) [الآية ٦٩] وفي قصة ثمود : (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) [الآية ٧٤].

وأيضا فقد قال تعالى في الأنعام : (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٢]. وهو موجز ، وبسطه هنا بقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) [الآية ١٥٦]. إلى آخره. فبيّن من كتبها لهم.

وأما وجه ارتباط أول هذه السورة باخر الأنعام فهو : أنه تقدم هناك : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) [الأنعام : ١٥٣] وقوله تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) [الأنعام : ١٥٥] فافتتح هذه السورة أيضا باتباع الكتاب في قوله جل شأنه : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الآية ٢] إلى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الآية ٣].

وأيضا لمّا تقدم تعالى في الأنعام : (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) (١٥٩) (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١٦٤). قال في مفتتح هذه السورة : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) (٦). (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) [الآية ٧]. وذلك شرح التنبئة المذكورة.

وأيضا فلمّا قال سبحانه في الأنعام : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠]. وذلك لا يظهر إلا في الميزان ، افتتح هذه السورة بذكر الوزن ، فقال : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) [الآية ٨] ثمّ ذكر من ثقلت موازينه ، وهو من زادت حسناته على سيّئاته ، ثمّ من خفّت موازينه ، وهو من زادت سيّئاته على حسناته ؛ ثمّ ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف ، وهم قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم.

__________________

(١). انظر من الآية رقم (١١) الى آخر الآية رقم (٢٥).

١٠٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الأعراف» (١)

١ ـ (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ) [الآية ٤٤].

في «تفسير أبي حيّان (٢)». قيل : هو إسرافيل. وقيل : جبريل. وقيل ملك غير معيّن.

٢ ـ (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الآية ٤٦].

ورد في أحاديث مرفوعة أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم (٣).

أخرجه ابن مردويه ، وأبو الشيخ من حديث جابر بن عبد الله ، والبيهقي في «البعث» من حديث حذيفة.

وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد الرزاق (٤) ، وغيرهما عن حذيفة موقوفا (٥).

وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفا.

وأخرج الطبراني (٦) من حديث أبي سعيد الخدري ، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا ، أنهم قوم قتلوا في سبيل الله ، وهم عصاة لآبائهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). «البحر المحيط» ٤ : ١٠٣.

(٣). وهو قول جمهور المفسّرين. انظر «تفسير ابن كثير» ٢ : ٢١٦.

(٤). والحاكم في «المستدرك» ٢ : ٣٢٠.

(٥). الموقوف : هو ما أضيف الى الصحابة رضوان الله عليهم ولم يتجاوز به الى رسول الله (ص). انظر : «منهج النقد في علوم الحديث» : ٣٢٦.

(٦). في «المعجم الأوسط» و «الصغير» ، وفيه محمد بن مخلد الرعيني ، وهو ضعيف. «مجمع الزوائد» ٧ : ٢٣. وابن عساكر في «تاريخ دمشق» في ترجمة الوليد بن موسى. كما في «تفسير ابن كثير» ٢ : ٢١٧.

١٠٩

وأخرج البيهقي عن أنس مرفوعا : أنهم مؤمنو الجنة. وأخرج هو ، وأبو الشيخ من طريق سليمان التيمي ، عن أبي مجلز (١) : أنهم من الملائكة. قال سليمان : قلت لأبي مجلز : الله يقول : (رجال) ، وأنت تقول : (الملائكة)! قال هم ذكور ، ليسوا بإناث (٢).

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : هم قوم صالحون ، فقهاء ، علماء.

وأخرج أيضا عن الحسن قال : هم قوم كان فيهم عجب.

وأخرج عن مسلم بن يسار قال : هم قوم كان عليهم دين.

وفي «العجائب» للكرماني : قيل : هم الأنبياء.

وقيل : الملائكة.

وقيل : العلماء.

وقيل : الصّالحون.

وقيل : الشّهداء ، وهم عدول الاخرة.

وقيل : قوم استوت حسناتهم وسيّئاتهم.

وقيل قوم قتلوا في الجهاد ؛ عصاة لآبائهم (٣).

وقيل : قوم رضي عنهم آباؤهم ، دون أمّهاتهم ؛ وأمّهاتهم دون آبائهم.

وقيل : هم الذين ماتوا في الفترة ، ولم يبدّلوا دينهم.

وقيل : أولاد الزنا.

وقيل : أولاد المشركين.

وقيل : المشركون. انتهى.

٣ ـ (فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ) [الآية ١٣٨].

__________________

(١). سليمان التيمي : هو ابن طرخان ، من عبّاد أهل البصرة وصالحيهم ، ثقة وإتقانا وحفظا وسنّة ، توفي سنة (١٤٣).

وأما أبو مجلز فهو : لاحق بن حميد السدوسي البصري ، ثقة توفي نحو عام (١٠٩) ه.

(٢). قال ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٢١٧ : وهذا صحيح الى أبي مجلز ، لاحق بن حميد أحد التابعين ، وهو غريب من قوله ، وخلاف الظاهر من السياق ، وقول الجمهور مقدّم على قوله ، بدلالة الآية على ما ذهبوا عليه ؛ وكذا قول مجاهد : إنهم قوم صالحون علماء فقهاء ، فيه غرابة أيضا ؛ والله أعلم.

(٣). في خبر أخرجه أحمد بن منيع ، كما في «المطالب العالية» : (٣٦٢٣).

١١٠

قال قتادة : أتوا على لخم وجذام (١). أخرجه ابن أبي حاتم.

وأخرج عن أبي قدامة قال : سمعت أبا عمران الجوني ، قال : هل تدري من القوم الذين مرّ بهم بنو إسرائيل (يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ)؟ قلت : لا أدري!

قال : هم قومك : لخم وجذام.

٤ ـ (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ) [الآية ١٤٢].

قال ابن عباس : ذو القعدة ، وعشر ذي الحجة. أخرجه ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه ، وأخرج مثله عن أبي العالية ، وغيره.

٥ ـ (سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ) (١٤٥).

قال مجاهد : مصيرهم في الاخرة.

وقال الحسن : جهنّم. أخرجهما ابن أبي حاتم.

وقد تصفّحت الرواية الأولى على بعض الكبار ، فقال : مصر. ذكره الحافظ أبو الفضل العراقي في «شرح ألفية الحديث» (٢).

٦ ـ (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ) [الآية ١٦٣].

قال ابن عباس : هي «أيلة» (٣).

أخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق عكرمة عنه.

وأخرج من وجه آخر عن عكرمة عنه قال : هي قرية يقال لها : «مدين» (٤) بين أيلة والطّور.

__________________

(١). كان قوم «لخم» يعبدون المشتري ، ويحجون الى صنم في مشارف الشام ، يقال له : الأقيصر ، ويحلقون رؤوسهم. وأما «جذام» ـ وهم أول من سكن مصر من العرب ، حين جاءوا في الفتح مع عمرو بن العاص ـ فكانوا يعبدون أوثان قوم لخم نفسها. انظر «معجم قبائل العرب» لكحّالة : ١٧٤ ، ١٠١٢.

(٢). والحافظ السخاوي في «فتح المغيث شرح ألفيّة الحديث» ٣ : ٧١ ، وقول المؤلّف : «على بعض الكبار» : هو يحيى بن سلام ، البصري ، ثمّ الإفريقي ، المفسّر الفقيه ، المولود سنة ١٢٤ ، والمتوفى سنة ٢٠٠ ، أدرك نحو عشرين من التابعين ، له «تفسير القرآن» قال ابن الجوزي : «ليس لأحد من المتقدّمين مثله» وتفسيره ذاك توجد منه أجزاء خطيّة في تونس والقيروان. انظر «الأعلام» للزّركلي ٨ : ١٤٨.

(٣). أيلة : مدينة إيلات في جنوب فلسطين. انظر وصفها في «معجم البلدان».

(٤). مدين : على البحر الأحمر محاذية لتبوك.

١١١

وأخرج عن ابن شهاب قال : هي طبرية.

وأخرج عن عبد الرحمن بن زيد بن أيلم قال : هي قرية يقال لها : «مقنا» بين مدين وعينونا (١).

٧ ـ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها) [الآية ١٧٥].

قال ابن مسعود : هو بلعم بن أبراء (٢). أخرجه الطبراني وغيره (٣).

وقال ابن عباس : بلعم. وفي رواية : بلعام بن باعر (٤) ، من بني إسرائيل.

أخرجه أبو الشيخ من طرق عنه.

وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عنه قال : هو رجل يدعى بلعم من أهل اليمن.

وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن عمرو قال : هو أمية بن أبي الصّلت (٥).

وأخرج ابن أبي حاتم ، من طريق قتادة ، عن ابن عباس قال : هو صيفي بن الراهب.

وأخرج عن الشعبي قال : ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء. وتقول ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت. وتقول

__________________

(١). عينونا : قيل : هي من قرى بيت المقدس. وقيل : قرية من وراء البثنية من دون القلزم في طرف الشام وقال البكري : قرية يطأها طريق المصريين إذا حجوا. «معجم البلدان».

(٢). كذا في «الدر المنثور» و «الطبري» : «أبر» ، ولفظ الحاكم في «المستدرك» : «باعوراء». وفي «تاريخ دمشق» لابن عساكر ١٠ : ٢٥٦ : «ويقال : بلعام بن باعوراء. ويقال : ابن أبر ويقال : ابن اور ، ويقال : ابن باعر ، كان يسكن قرية من قرى البلقان ، وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم ، فانسلخ من دينه ؛ له ذكر في القرآن».

(٣). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» ٧ : ٢٥ : «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح». وأخرجه أيضا : الطبري في «تفسيره» ٩ : ٨١ ، والحاكم في «المستدرك» ٢ : ٣٢٥ ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» ١٠ : ٢٦٦ ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه. كما في «الدر المنثور».

(٤). انظر «الدر المنثور» ٣ : ١٤٥.

(٥). قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح. كما في «مجمع الزوائد» ٧ : ٢٥ ، وصحّح نسبته ابن كثير في «تفسيره» ٢ : ٢٦٥ ، وقال «وكأنه إنّما أراد أن أمية بن أبي الصّلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله (ص) ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار الى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ؛ ورثى اهل بدر من المشركين ، بمرثاة بليغة ، قبّحه الله ، وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممّن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه ، فإن له أشعارا ربّانية ، وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام».

١١٢

الأنصار : هو الراهب الذي بني له مسجد الشقاق.

وأخرج عن قتادة قال : هذا مثل ضربه الله لمن عرض عليه الهدى ، فأبى أن يقبله وتركه.

وفي «العجائب» للكرماني : قيل : إنه فرعون. والآيات : آيات موسى.

٨ ـ (وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (١٨١).

هي هذه الأمّة. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة من قوله ، وعن الربيع بن أنس (١) مرفوعا إلى النبي (ص) مرسلا (٢).

وأخرجه أبو الشيخ عن ابن جريج قال : ذكر لنا أن النبي (ص) قال : «هذه أمتي».

٩ ـ (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ) [الآية ١٨٧].

سمّي منهم : حمل بن قشير ، وشمويل بن زيد (٣).

١٠ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الآية ١٨٩].

الآية كلّها في آدم وحواء. كما أخرجه التّرمذي ، والحاكم من حديث سمرة مرفوعا (٤). وأخرجه ابن أبيّ عن ابن عباس ، وغيره.

__________________

(١). الربيع بن أنس البكري ، أو الحنفي ، بصري ، له أوهام في روايته الحديث ، مات سنة (١٤٠) ه.

(٢). المرسل : ما رفعه التابعي ، كقول التابعي : قال رسول الله (ص).

(٣). أخرجه ابن جرير ٩ : ٩٣ ، وابن إسحاق ، وابو الشيخ ، عن ابن عباس.

(٤). التّرمذي (٣٠٧٩) في التفسير ، وقال : هذا حديث حسن غريب. ورواه التّرمذي أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ، وعنه أخرجه الحاكم في «المستدرك» ٢ : ٣٢٥ وصحّحه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي عليه ، ولم أر رواية سمرة في «المستدرك» ، كما عزاها المؤلف اليه ، والله أعلم.

١١٣
١١٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الأعراف» (١)

١ ـ قال تعالى : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) [الآية ٢].

قالوا : الحرج الشكّ منه ، كقوله : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) [يونس : ٩٤].

وسمي الشكّ حرجا ، لأنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه ، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. أي : لا تشكّ في أنّه منزّل من الله ، ولا تحرج من تبليغه (٢).

أقول : والأصل في «الحرج» الضّيق ، ولنتسع قليلا في «الحرج» فنقول الحرج والحرج الإثم ، والحارج الإثم. والحرج والحرج والمتحرّج : الكافّ عن الإثم.

ورجل متحرّج ، كقولهم : رجل متأثّم ومتحوّب ومتحنّث ، يلقي الحرج والحوب والإثم عن نفسه.

قال الأزهري : وهذه حروف جاءت معانيها مخالفة لألفاظها.

وأحرجه ، أي : آثمه ، والتحريج : التضييق.

وفي الحديث : «حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج».

قال ابن الأثير : الحرج في الأصل الضيق ، ويقع على الإثم والحرام ، وقيل : الحرج أضيق الضيق ، ومعناه أي لا بأس عليكم ولا إثم أن تحدّثوا عنهم ما سمعتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السّامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). «الكشاف» ٢ : ٨٥ ـ ٨٦.

١١٥

وحرج صدره يحرج حرجا : ضاق فلم ينشرح لخير ، فهو حرج وحرج فمن قال : حرج ، ثنّى وجمع ، ومن قال : حرج ، أفرد لأنه مصدر.

وقوله تعالى : (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] وحرجا.

قال الفرّاء : قرأها عمر وابن عبّاس ، حرجا ، وقرأ الناس : حرجا.

أقول : فإذا فسّرنا الآية موضع بحثنا على «الشكّ» ، فذلك من كون أن الشاكّ ضيّق الصدر متحرّج غير منشرح ، ومثل هذا كثير في العربية ، ومنه الإصر ، وغيره.

٢ ـ وقال تعالى (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) (٤).

والمعنى فجاءها بأسنا وهم بائتون ، أو هم قائلون ، فالمصدر بتأويل الحال ، أي : بائتين.

ومثل هذه الآية ، قوله تعالى : (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ) (٩٧).

والبيات : البيتوتة مصدر الفعل بات يبيت ، وقالوا يبات.

والبيتوتة مثل مصادر أخرى وهي الغيبوبة ، والصيرورة ، والسيرورة ، والشيعوعة والقيمومة ، والحيلولة ، والطيرورة ، وكذلك القيلولة.

وكنت لحظت في أن هذه المصادر ، تلمح إلى أن أصل الفعل الأجوف هو المضاعف الثلاثي ؛ ألا ترى أنّنا نقول ضير وضرّ وضرر ، وغبّ وغيب ، وجبّ وجيب ؛ ولو استقريت سائر هذه المواد بشيء من لطف الصنعة ، لوصلت الى هذه النتيجة التي لمحناها.

ثم ما ذا عن القيلولة التي ترجع إليها كلمة «قائلون» في الآية؟ القائلة : الظهيرة ، يقال : أتانا عند القائلة ، وقد تكون بمعنى القيلولة أيضا ، وهي النّوم في الظهيرة.

وفي «المحكم» : أن القائلة نصف النهار ، والقيلولة نصف النهار ، وقال يقيل قيلا ومقالا ومقيلا ، الأخيرة عن سيبويه.

وكأن المعاصرين قد ابتعدوا قليلا حينما أضافوا كلمة «نوم» الى «القيلولة» ، فقالوا : نوم القيلولة ، ويريدون بذلك نوم الظهيرة.

٣ ـ وقال تعالى : (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ

١١٦

الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) (٩).

والمراد : وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها ، والمعنى : والوزن يوم يسأل الله الأمم ورسلهم الوزن الحقّ ، أي : العدل.

ومن ثقلت موازينه ، أي : من رجحت أعماله الموزونة ، وهي الحسنات فهو من المفلحين ، ومن خفّت موازينه إشارة الى سيئاته ، فقد خسر نفسه.

أقول : وصف الحسنات وأعمال الخير بالثّقل حينما توزن تعبير جميل ، ما زال أهل عصرنا يستخدمون شيئا منه فيقولون رجل ذو وزن ، أي : ذو قدر عظيم ومكانة ، ويقولون في دارجتهم العامّية ، فلان موزون بالمعنى نفسه ، ويقال في طائفة من الألسن الدارجة : هو ثقيل بإبدال القاف كافا ثقيلة «ثكيل» وبكسر الثاء ، وهي لغة قديمة في فعيل ، إنها لغة تميم.

على أن الفصيحة تأبى الوصف ب «الثقيل» ، لهذا المعنى وهو : من رجحت موازينه ، والثقيل في الفصيحة القديمة والمعاصرة البليد الجامد الحسّ. على أن الفصيحة قد شاع فيها «ثقل الموازين» ، لمن كثرت حسناته ورجحت أعماله الحسنة ، ويحسن بنا أن نشير إلى أن «الخفيف» قد يكون صفة إيجابية في العربية الفصيحة ، فيقال : فلان خفيف الظل ، ويكون صفة غير مقبولة في الألسن الدارجة. فالرجل الخفيف هو غير الرزين العاقل المستحي ، وهو الشعشاع غير المتأدّب المتحرّج.

٤ ـ وقال تعالى : (قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) (١٣).

المعنى : فما يصحّ لك ان تتكبّر فيها وتعصي.

وهذا من لطيف استعمال الفعل «يكون» وهو شيء آخر غير «كان» ذات العمل الخاص ، وهو رفع المسند إليه ونصب المسند.

والمراد ب «الصاغرين» أهل الصّغار والهوان.

والصّغار : الذّلّ والضّيم وكذلك الصّغر ، والمصدر الصّغر بالتحريك وصغر فلان يصغر صغرا وصغارا فهو صاغر ، إذا رضي بالضيم.

١١٧

قال تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) [التوبة].

أي : أذلّاء.

أقول : فرّق في العربية بين الفعل ذي الدلالة المحسوسة ، والفعل ذي الدلالة المجرّدة أو المعنوية ، فالصّغر ضد الكبر ، وهو في الجسم والسن ، والصّغر والصّغار ، الذل والهوان ، والفعل صغر في الأول ، وصغر في الثاني.

٥ ـ وقال تعالى : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) [الآية ١٧].

الأيمان جمع يمين وهو الجهة اليمنى ، والشّمائل جمع شمال وهو الجهة اليسرى.

وكذلك اليد اليمين ، واليد الشّمال ؛ وفلان ينعم بيمينه ، ويقبض بشماله.

والشّمال : الطّبع ، والجمع شمائل أيضا ، والشّمال : الخلق.

وقلّما نجد كلمة «الشمال» في كلامهم بل نجدها مفردة.

على أن الشّمال قد وردت في الشعر ، قال عبد يغوث بن وقاص :

ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل ، وما لومي أخي من شماليا وقال صخر بن عمرو الشريد أخو الخنساء :

أبى الشّتم أنّي قد أصابوا كريمتي وأن ليس إهداء الخنى من شماليا وقال آخر :

هم قومي وقد أنكرت منهم شمائل بدّلوها من شمالي أمّا الريح التي تهبّ من جهة الشمال فهي شمال ، وشمأل وشأمل.

٦ ـ وقال تعالى : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الآية ١٨].

وقوله تعالى : «مذءوما» من ذأمه إذا ذمّه.

أقول : والذأم ، مهموزا : الذّمّ ومثله الذّام.

ومن هنا نلمح القرابة بين المهموز والأجوف والمضاعف ، وكنا قد أشرنا إلى الصلة بين المضاعف والأجوف ، ومنه الذّامّ والذّم.

٧ ـ وقال تعالى : (وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١).

أي : وأقسم لهما (إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (٢١).

١١٨

فإن قلت : المقاسمة أن تقسم لصاحبك ويقسم لك ، تقول : قاسمت فلانا : حالفته ، وتقاسما ، تحالفا ، ومنه قوله تعالى :

(قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) [النّمل : ٤٩] (١).

وأقسمت : حلفت : وأصله من القسامة.

وقال ابن عرفة في قوله تعالى : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) (٩٠) [الحجر].

هم الذين تقاسموا وتحالفوا على كيد الرسول (ص) والقسامة : الذين يحلفون على حقّهم ويأخذون.

وفي الحديث : «نحن نازلون بخيف (٢) بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر».

وتقاسموا من القسم اليمين ، أي تحالفوا ، يريد لمّا تعاهدت قريش على مقاطعة بني هاشم وترك مخالطتهم (٣).

أقول : لم يبق لنا من هذه الذخيرة اللغوية في العربية المعاصرة إلّا أقسم من الحلف ، أي : اليمين أمّا اقتسم ، وقاسم ، وتقاسم فكلّه يرجع الى القسم ، وهو القطع والقصّ ، والقسم : الجزء.

٨ ـ وقال تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [الآية ٢٢].

أي : وجعلا يخصفان. وقد ورد الفعل طفق في قوله تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) [طه : ١٢١].

وفي قوله تعالى : (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣) [ص].

هذا كلّ ما نعرف عن استعمال «طفق» في العربية فلم يؤثر استعمالها في غير هذه الآيات الكريمة.

وقالوا : طفق بالفتح لغة رديئة ، وهي ملازمة لحالة المضيّ فلم يرد يطفق ولا المصدر ، فهو نظير كرب ، وحرى ، وعسى ، في أنها وردت جامدة على هذه الهيئة ، وليس من أبنية أخرى.

٩ ـ وقال تعالى (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا

__________________

(١). «الكشاف» ٢ : ٩٥.

(٢). الخيف : ما انحدر من غلظ الجبل ، وارتفع عن مسيل الماء.

(٣). «اللسان» (قسم).

١١٩

عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) [الآية ٢٦].

و «الريش» : لباس الزينة استعير من ريش الطير ، لأنه لباسه وزينته ، أي : أنزلنا عليكم لباسين : لباسا يواري سوآتكم ، ولباسا يزينكم.

قرأ عثمان ، رضي الله عنه : ورياشا ، جمع ريش.

أقول : والرّيش والرّياش : الخصب والمعاش والمال والأثاث واللباس الحسن الفاخر. وأكبر الظن ، أنّ هذه المعاني قد جاءت من «الريش» في الآية الكريمة التي تفيد الزينة.

والرّياش في عصرنا ، تفيد ما يفرش من البسط والزرابيّ ، ونحو ذلك.

١٠ ـ وقال تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الآية ٢٧].

المراد ب «قبيله» جنوده من الشياطين.

والقبيل : الجماعة من الناس ، يكونون من الثلاثة فصاعدا ، من قوم شتّى كالزّنج والرّوم والعرب ؛ وقد يكونون من نحو واحد ؛ وربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وللقبيل دلالات أخرى هي : يقال : ما يعرف قبيلا من دبير : يريد القبل والدّبر.

والقبيل : طاعة الرّبّ تعالى ، والدبير معصيته.

والقبيل : باطن الفتل والدبير ظاهره ، أو ما أقبل به على الصدر ، والدبير : ما أدبر به عنه.

والقبيل : فوز القدح في القمار ، والدبير : خيبة القدح.

والقبيل : الكفيل والعريف.

على أنّنا لا نملك من كلّ هذه المادّة في هذه الدّلالات إلّا شيئا واحدا ، لا نجد له أصلا واضحا قديما ؛ وذلك قولهم مثلا : اجتمعت أشياء كثيرة في البيت ، من أثاث ورياش ولباس وغير ذلك من هذا القبيل ، أي من هذه الأشياء وما يشبهها.

١١ ـ وقال تعالى (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الآية ٤٠].

الجمل معروف وهو الحيوان.

ولنرجع إلى القراآت ، فقد ذكر أنّ ابن عباس قرأ : (حتى يلج الجمّل) ، بضم فتشديد ، وهي الحبال المجموعة.

وروي عن أبي طالب أنه قال : رواه القرّاء (الجمّل) بتشديد الميم ، قال : ونحن نظن أنه أراد التخفيف.

١٢٠