الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

(أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) [الآية ١٢٨] على (لِيَقْطَعَ طَرَفاً) [الآية ١٢٧] عطفه على اللام.

وقال تعالى : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) [الآية ١٤٠] (١) قرأ بعضهم (قرح) (٢) مثل «الضعف» و «الضعف» (٣) وتقول منه «قرح» «يقرح» «قرحا» و «هو قرح». وبعض العرب يقول : «قريح» (٤) مثل «مذل» و «مذيل».

وقال تعالى : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [الآية ١٤٣] توكيدا كما تقول : «قد رأيته والله بعيني» و «رأيته عيانا» (٥).

وقال تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) [الآية ١٤٤] ولم يقل (انقلبتم) فيقطع الألف لأنه جواب المجازاة الذي وقعت عليه إن وحرف الاستفهام قد وقع على إن فلا يحتاج خبره إلى الاستفهام لأن خبرها مثل خبر الابتداء. ألا ترى أنك تقول : «أزيد حسن» ولا تقول : «أزيد أحسن» وقال الله تعالى : (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) [الأنبياء / ٣٤] ولم يقل (أفهم الخالدون) لأنه جواب المجازاة.

وقال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [الآية ١٤٥] فقوله سبحانه (كِتاباً مُؤَجَّلاً) توكيد ، ونصبه على «كتب الله ذلك كتابا مؤجّلا». وكذلك كل شيء في القرآن من قوله (حَقًّ) (٦) انما هو «أحقّ ذلك حقّا». وكذلك (وَعَدَ اللهُ)

__________________

(١). في معاني القرآن ١ / ٢٣٤ الى أكثر القراء ، وفي الطبري ٧ / ٢٣٧ الى عامة قراء أهل الحجاز والمدينة والبصرة ، وفي السبعة ٢١٦ الى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر والى عاصم في رواية ، وفي الكشف ١ / ٣٥٦ الى غير حمزة وأبي بكر والكسائي ، وفي التيسير ٩٠ استبدل أبا عمرو بأبي بكر ، وفي الجامع ٤ / ٤١٧ الى محمد بن السميفع مع فتح الراء ، وفي البحر ٣ / ٦٣ زاد أبا السمال واقتصر عليه في الكشاف ١ / ٤١٨ ، وفي حجة ابن خالويه ٨٩ ، والمشكل ١٠٨ ، والإملاء ١ / ١٥٠ بلا نسبة.

(٢). في معاني القرآن ١ / ٢٣٤ الى أصحاب عبد الله ، وفي الطبري ٧ / ٢٣٦ الى عامة قراء الكوفة ، وفي السبعة ٢١٦ الى حمزة وعاصم والكسائي ، وفي الكشف ١ / ٣٥٦ استبدل أبا بكر بعاصم وكذلك في التيسير ٩٠ ، وفي البحر ٣ / ٦٢ الى الأخوين وأبي بكر والأعمش وفي حجة ابن خالويه ٨٩ والمشكل ١٠٨ والإملاء ١ / ١٥٠ بلا نسبة.

(٣). الضم في «قرح» لغة تميم والفتح لغة الحجاز والضم في «ضعف» لغة الحجاز والفتح لغة تميم اللهجات ١٩١ و ١٩٣.

(٤). لعلهم التميميون قياسا على ما جاء في اللهجات ٤١٥ وما بعدها.

(٥). نقله في زاد المسير ١ / ٤٦٨ والجامع ٤ / ٢٢١ والبحر ٣ / ٦٧.

(٦). ورد هذا التعبير في سبعة عشر موضعا من الكتاب الكريم ، أولها في البقرة / ١٨٠ وآخرها لقمان ٣١ / ٩.

٨١

[النساء / ١٢٢] (١) و (رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) [الكهف / ٨٢] (٢) و (صُنْعَ اللهِ) [النمل / ٨٨] و (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء / ٢٤] إنما هو من «صنع الله ذلك صنعا» فهذا تفسير كل شيء في القرآن من نحو هذا ، وهو كثير.

وقال تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الآية ١٤٧] : وقال : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأعراف / ٨٢] (٣) وقال : (ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الجاثية / ٢٥] ف (أَنْ قالُوا) هو الاسم الذي يرفع ب (وَما كانَ) لأن أن الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة الاسم ، تقول : «أعجبني أن قالوا» وإن شئت رفعت أول هذا كله وجعلت الآخر في موضع نصب على خبر كان (٤). قال الشاعر [من الطويل هو الشاهد الستون بعد المائة] :

لقد علم الأقوام ما كان داءها

بثهلان إلّا الخزي ممّن يقودها (٥)

وان شئت «ما كان داؤها الا الخزي».

وقال تعالى : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) [الآية ١٥٣] لأنك تقول : «أصعد» أي : مضى وسار و «أصعد الوادي» أي : انحدر فيه. وأما «صعد» فانه : ارتقى (٦).

وقال : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) [الآية ١٥٣] أي : على غمّ. كما قال : (فِي

__________________

(١). ورد هذا التعبير في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم ، أولها النساء / ١٢٢ وانظر «المعجم المفهرس» ٧٥٤.

(٢). وانظر المعجم المفهرس ٣٠٥ ، لغير هذا الموضع.

(٣). اما في النمل ٢٧ / ٥٦ والعنكبوت ٢٩ / ٢٤ و ٢٩ فبالفاء : (فَما كانَ).

(٤). جاء ضم الاسم على انه اسم كان ، وأن المصدر المؤول خبرها في آية النمل الى الأعمش ، و «الكشاف ٣ / ٣٧٤» ، وفي العنكبوت ٢٤ الى سالم الأفطس وعمرو بن دينار «الجامع ٣ / ٣٣٨» وفي الكشاف ٣ / ٤٥٠ بلا نسبة. وجاء في الجاثية بلا نسبة في الكشاف ٤ / ٢٩١ ، أما نصب الاسم خبرا لكان على أن يكون المصدر المؤول اسمها ، فجاء في آل عمران بلا نسبة في الجامع ٤ / ٢٣١ وفي العنكبوت ٢٤ الى العامة في الجامع ١٣ / ٣٣٨ وبلا نسبة لنسبه في الكشاف ٣ / ٤٥٠ ، وفي الجاثية كذلك في الكشاف ٤ / ٢٩١.

(٥). الشاهد في الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ / ٢٤ وشواهد الكتاب ٧٩ ب «وقد» وهو في شرح المفصّل لابن يعيش ٧ / ٩٦ كما رواه الأخفش. ولم يشر اليه النحاس في شرح أبيات الكتاب. مما يدل على خرم في مخطوطته.

(٦). نقله في التهذيب «صعد» ٢ / ٧ وفي الصحاح «صعد» وزاد فقال : «وأصعد» في الوادي وصعّد تصعيدا أي انحدر فيه ، وأهمل «صعد».

٨٢

جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه / ٧١] ومعناه على جذوع النخل وكما قال : «ضربني في السيف» يريد «بالسيف» وتقول : «نزلت في أبيك» أي : على أبيك.

وقال تعالى : (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [الآية ١٥٤] (١) بنصب «كله» ، ولك رفعها إذا جعلت «كلّا» اسما كقولك : «إنّ الأمر بعضه لزيد». وإن جعلته توكيدا نصبت. وإن شئت نصبت على البدل ، لأنك لو قلت «إنّ الأمر بعضه لزيد» لجاز على البدل ، والصفة لا تكون في «بعض». قال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد الحادي والستون بعد المائة] :

إنّ السّيوف غدوّها ورواحها

تركا فزارة مثل قرن الأعضب (٣)

فابتدأ «الغدوّ» و «الرواح» وجعل الفعل لهما. وقد نصب بعضهم «غدوّها» و «رواحها» وقال : «تركت هوازن» فجعل «الترك» ل «السيوف» وجعل «الغدوّ» و «الرواح» تابعا لها كالصفة حتى صار بمنزلة «كلّها». وتقول (إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [الآية ١٥٤] على التوكيد (٤) أجود وبه نقرأ.

وقال تعالى : (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [الآية ١٥٤] وقد قال بعضهم (القتال) (٥) و «القتل» أصوب فيما نرى ، وقرأ بعضهم : (إلى قتالهم) و «القتل» أصوبهما إن شاء ، لأنه قال : (إِلى مَضاجِعِهِمْ).

وقال : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) [الآية ١٥٤] : أي : كي يبتلي الله.

وقال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [الآية ١٦٦] فجعل الخبر بالفاء لأنّ ما بمنزلة «الذي»

__________________

(١). نقله في إعراب القرآن ١ / ٨٩ ، والمشكل ١ / ١٧٧ ، والجامع ٤ / ٢٤٢.

(٢). هو الأخطل التغلبي غياث بن غوث ، ديوانه ٢٨ ، والكامل ٢ / ٧٢٦ ، والخزانة ٢ / ٣٧٢.

(٣). في الديوان «تركت هوازن» بدل «تركا فزارة» ، وكذلك في الكامل والخزانة وفي شرح الأشموني ٣ / ١٣٥.

(٤). في الطبري ٧ / ٣٢٣ الى عامة قراء الحجاز والعراق ، وفي السبعة ٢١٧ والتيسير ٩١ الى القراء كلهم إلا أبا عمرو ، وزاد في الجامع ٤ / ٢٤٢ يعقوب. وفي معاني القرآن ١ / ٢٤٣ والحجة ٩٠ بلا نسبة. اما الرفع ، ففي الطبري ٧ / ٣٢٣ إلى بعض قراء أهل البصرة وفي السبعة ٢١٧ والتيسير ٩١ إلى أبي عمرو ، وفي الجامع ٤ / ٢٤٢ زاد يعقوب ، وفي معاني القرآن ١ / ٢٤٣ والحجة ٩٠ بلا نسبة.

(٥). في البحر ٣ / ٩٠ الى الحسن والزهري ، وفي الكشاف ١ / ٤٢٩ بلا نسبة.

٨٣

وهو في معنى «من» ، و «من» تكون في المجازاة ويكون جوابها بالفاء.

وقال تعالى (أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) [الآية ١٥٦] وواحد «الغزّى» «غاز» مثل «شاهد» و «شهّد».

وقال تعالى : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) [الآية ١٥٧]. فان قيل كيف يكون (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ) [الآية ١٥٧] جواب ذلك الأول؟ فكأنه حين قال (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) ذكر لهم مغفرة ورحمة ، إذ كان ذلك في السبيل ، فقال (لَمَغْفِرَةٌ) يقول : «لتلك المغفرة (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الآية ١٥٧] (١)».

وقال : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨) وان شئت قلت (قتلتم).

وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) [الآية ١٥٩] يقول : «فبرحمة» وما زائدة.

وقال تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [الآية ١٦١] (٢) وقرأ بعضهم : (يغلّ) (٣) وكلّ صواب ، والله أعلم ، لأنّ المعنى «أن يخون» أو «يخان».

وقال : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) [الآية ١٦٥] فهذه الألف ألف الاستفهام دخلت على واو العطف ، فكأنه قال : «صنعتم كذا وكذا ولمّا أصابتكم» ثم أدخل على الواو ألف الاستفهام.

وقال : (فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) [الآية ١٦٦] فجعل الخبر بالفاء لأنّ (ما أَصابَكُمْ) [الآية ١٦٦] : الذي أصابكم.

__________________

(١). في المصحف : يجمعون بالياء ، وهي في السبعة ٢١٨ الى عاصم في رواية ، وفي الكشف ١ / ٣٦٢ والتيسير ٩١ الى حفص ، وفي البحر ٣ / ٩٦ الى حفص عن عاصم. اما تجمعون بالتاء ، فهي في البحر ٣ / ٩٦ الى الجمهور ، وفي السبعة ٢١٨ استثنى عاصما برواية حفص وفي الكشف ١ / ٣٦٢ والتيسير ٩١ الى غير حفص.

(٢). في معاني القرآن ١ / ٢٤٦ الى ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي ؛ وفي الطبري ٧ / ٣٤٨ الى جماعة من قراء الحجاز والعراق ، وفي السبعة والتيسير ٩١ والكشف ١ / ٣٦٣ الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم ، وزاد في الأخير ان النبي (ص) وابن عباس قرءا بها ، وفي البحر ٣ / ١٠١ لم يذكر قراءة النبي (ص) ، اما في الحجة ٩١ والجامع ٤ / ٢٥٥ ، فبلا نسبة.

(٣). في معاني القرآن ١ / ٢٤٦ الى بعض أهل المدينة وأصحاب عبد الله ، وفي الطبري ٧ / ٣٥٣ الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة ، وفي السبعة ٢١٨ والكشف ١ / ٣٦٣ والتيسير ٩١ الى غير ابن كثير وأبي عمرو وعاصم ، وفي البحر ٣ / ١٠١ الى ابن مسعود وباقي السبعة من لم يأخذ بالأخرى ، وفي حجة ابن خالويه ٩١ والجامع ٤ / ٢٥٥ بلا نسبة.

٨٤

وقال (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) لأنّ معناه : «فهو بإذن الله» «وهو ليعلم».

وقال : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) [الآية ١٦٨] أي : قل لهم : (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) وأضمر «لهم».

وقال تعالى : (فَزادَهُمْ إِيماناً) [الآية ١٧٣] يقول : «فزادهم قولهم إيمانا».

وقال : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) [الآية ١٧٥] يقول : «يرهب النّاس أولياءه» أي : بأوليائه.

وقال : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [الآية ١٨٧] (١) يقول : «استحلفهم ليبيّننّه ولا تكتمونه» وقال «لتبيّننّه ولا تكتمونه» أي : قل لهم : «والله لتبيّننّه ولا تكتمونه».

وقال : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [الآية ١٩٥] أي : فاستجاب : بأنّي لا أضيع عمل عامل منكم. أدخل فيه من زائدة كما تقول «قد كان من حديث» ومن ها هنا لغو لأنّ حرف النفي قد دخل في قوله (لا أُضِيعُ).

وقال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) [الآية ١٨٠] فأراد «ولا تحسبنّ البخل هو خيرا لهم» فألقى الاسم الذي أوقع عليه الحسبان وهو «البخل» ، لأنّه قد ذكر الحسبان وذكر ما آتاهم الله من فضله فأضمرهما إذا ذكرهما. وقد جاء من الحذف ما هو أشدّ من هذا ، قال الله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) [الحديد / ١٠] ولم يقل «ومن أنفق من بعد» لأنه لما قال (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ) [الحديد / ١٠] كان فيه دليل على أنه قد عناهم.

وقال تعالى : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا

__________________

(١). في المصحف الشريف : لتبيننه ... تكتمونه. بالتاء ، وهي في الطبري ٧ / ٤٦٢ الى معظم قراء أهل المدينة والكوفة ، وفي السبعة ٢٢١ الى نافع وابن عامر وحمزة والى عاصم في رواية ، وفي التيسير ٩٣ الى غير أبي عمرو وابن كثير ، وفي الجامع ٤ / ٣٠٥ الى أبي عمرو وعاصم في رواية ابي بكر وأهل مكة ، وفي البحر ٣ / ١٣٦ الى السبعة ما عدا أبا بكر وأبا عمرو وابن كثير. أما القراءة بالياء في كل فهي في الطبري ٧ / ٤٦٢ الى «آخرون» وفي السبعة ٢٢١ الى ابن كثير وأبي عمرو والى عاصم في رواية ، وأغفل في التيسير ٩٣ عاصما ، وأغفل في البحر ٣ / ١٣٦ عاصما وزاد أبا بكر ، وفي الجامع ٤ / ٣٠٥ الى غير أبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة والى ابن عباس.

٨٥

وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) [الآية ١٨١] وقد مضى لذلك دهر ، فإنّما يعني : «سنكتب ما قالوا على من رضي به من بعدهم أيام يرضاه».

وأما قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) [الآية ١٨٨] فإنّ : الآخرة بدل من الأولى والفاء زائدة. ولا تعجبني قراءة من قرأ الأولى بالياء (١) إذ ليس لذلك مذهب في العربية ، لأنه إذا قال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) فإنّه لم يوقعه على شيء.

__________________

(١). في الطبري ٧ / ٤٢٨ الى غير من قرأ بقراءة التاء ، وفي السبعة ٢١٩ الى ابن كثير وابن عمرو ونافع والكسائي مع كسر السين ، وفي ٢٢٠ الى ابن عامر وعاصم مع فتح السين ، وفي البحر ٣ / ١٢٨ الى السبعة إلّا حمزة وفي حجة ابن خالويه ٩٢ بلا نسبة. أما القراءة بالتاء ، ففي الطبري ٧ / ٤٣١ الى جماعة من أهل الحجاز والعراق ، وفي السبعة ٢٢٠ والجامع ٤ / ٢٩٠ والبحر ٣ / ١٢٧ الى حمزة ، وفي حجة ابن خالويه ٩٢ بلا نسبة.

٨٦

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «آل عمران» (١)

إن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) [الآية ٣] ثم قوله بعد ذلك : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٣)؟

قلنا : إنّ القرآن أنزل منجّما ، والتوراة والإنجيل نزّلا جملة واحدة. كذا أجاب الزمخشري وغيره ، يرد عليه قوله تعالى بعد ذلك : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [الآية ٤] فإن الزمخشري قال : أراد به جنس الكتب السماوية لا الثلاثة المذكورة خصوصا ، أو أراد به الزّبور ، أو أراد به القرآن ، وكرر ذكره تعظيما. ويردّ عليه أيضا قوله تعالى بعد ذلك : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [الآية ٧] وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [البقرة / ٤] وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان / ٣٢] والذي وقع لي فيه ـ والله أعلم ـ أن التضعيف في «نزّل» والهمزة في «أنزل» كلاهما للتعدية ، لأن نزل فعل لازم في نفسه ، وإذا كانا للتعدية لا يكونان لمعنى آخر وهو التكثير أو نحوه ، لأنه لا نظير له ، وإنما جمع بينهما والمعنى واحد ، وهو التعدية جريا على عادة العرب في افتنانهم في الكلام وتصرفهم فيه على وجوه شتى ، ويؤيّد هذا قوله تعالى : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الأنعام / ٣٧] وقال في موضع آخر (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [يونس / ٢٠].

فإن قيل : لقد قال تعالى : (مِنْهُ آياتٌ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «اسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٨٧

مُحْكَماتٌ) [الآية ٧] و «من» للتبعيض ؛ وقال في موضع آخر : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود / ١] ، وهذا يقتضي كون آياته جميعها محكمة؟

قلنا المراد بقوله (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [الآية ٧] أي ناسخات (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [الآية ٧] أي منسوخات ، وقيل المحكمات العقليات ، والمتشابهات الشرعيات ، وقيل المحكمات ما ظهر معناها ، والمتشابهات ما كان في معناها غموض ودقة ، والمراد بقوله (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) أن جميع القرآن صحيح ثابت ، مصون من الخلل والزّلل فلا تنافي فيه.

فإن قيل : لم قال سبحانه (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) جعل بعضه متشابها وقال في موضع آخر : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزّمر / ٢٣] وصفه كله بكونه متشابها.

قلنا : المراد بقوله جلّ وعلا (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ما سبق ذكره ، والمراد بقوله (كِتاباً مُتَشابِهاً) أنه يشبه بعضه بعضا في الصحة وعدم التناقض وتأييد بعضه بعضا فلا تنافي فيه.

فإن قيل : ما الحكمة من إنزال المتشابهات بالمعنى الأخير ، والمقصود من إنزال القرآن إنما هو البيان والهدى ، والغموض والدقة في المعاني ينافيان هذا المقصود أو يبعدانه؟ قلنا : لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ولا يحتمل غير ظاهره ، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح ، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة ، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم ، نزل القرآن بالنوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز ، كأنه قال : عارضوه بأي النوعين شئتم ، فإنه جامع لهما. وأنزله الله عزوجل محكما ومتشابها ليختبر من يؤمن به كله ، ويرد علم ما تشابه منه إلى الله فيثيبه. ومن يرتاب فيه ويشك ، وهو المنافق ، فيعاقبه ، كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره ، أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنظر والاستدلال والبحث والاجتهاد فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كله ظاهرا جليا لاستوى فيه العلماء والجهال ، ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط ، فإن نار الفكر إنما تنقدح بزناد المشكلات ، ولهذا قال بعض الحكماء : عيب الغنى أنه يورث البلادة ، ويميت الخاطر ؛ وفضيلة الفقر أنه يبعث على إعمال الفكر ، واستنباط الحيل في الكسب.

٨٨

فإن قيل : قوله تعالى (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) [الآية ١٣] أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها ، أو بالعكس على اختلاف القولين. وكيفما كان ، فهو مناف لقوله تعالى في سورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [الأنفال / ٤٤] لأنه يدل على أن الفئتين تساوتا في استقلال كل واحدة منهما للأخرى ، فكل منهما ترى الأخرى قليلة؟

قلنا : التقليل والتكثير في حالين مختلفين ، قلل الله المشركين في نظر المؤمنين أوّلا ، والمؤمنين في نظر المشركين حتى اجترأت كل فئة على قتال صاحبتها ؛ فلما التقتا كثّر الله المؤمنين في نظر المشركين حتى جبنوا وفشلوا فغلبوا ، وكثّر الله المشركين في نظر المؤمنين أو أراهم إياهم على ما هم عليه ، وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين ليعلموا صدق ما وعدهم الله تعالى بقوله (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) [الأنفال / ٦٦] ، الآية ، فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغزاة وهي غزاة بدر. مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين وقيل : أرى الله المسلمين المشركين مثل عدد المسلمين وكانوا ثلاثة أمثالهم لكنه قلّلهم في أعين المسلمين ، وأراهم إياهم بقدر ما أعلمهم أنهم يغلبونهم لتقوى قلوبهم بما سبق من الوعد أن المائة من المؤمنين يغلبون المائتين منهم.

فإن قيل : ما الحكمة من تكرار قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في قوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الآية ١٨]؟

قلنا : الأول قول الله عزوجل ، والثاني حكاية قول الملائكة وأولي العلم. وقال جعفر الصادق رحمه‌الله تعالى : الأول وصف ، والثاني تعليم أي قولوا واشهدوا كما شهدت.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) في قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (٢٣) والتولي والإعراض واحد كما سبق في البقرة ، فلم جمع بينهما؟

قلنا : معناه : يتولون عن الداعي ويعرضون عما دعاهم إليه وهو كتاب الله ، أو يتولون بأبدانهم ويعرضون عن الحق بقلوبهم ، أو قلنا الذين تولوا

٨٩

علماؤهم ، والذين أعرضوا أتباعهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [الآية ٢٦] خص الخير بالذكر ، وبيده تعالى الخير والشر والنفع والضر أيضا؟

قلنا : لأن الكلام إنما ورد ردا على المشركين فيما أنكروه مما وعد الله تعالى به نبيّه (ص) على لسان جبريل عليه‌السلام من فتح بلاد الروم وفارس ، ووعد النبي (ص) الصحابة بذلك ، فلما كان الكلام في الخير خصه بالذكر باعتبار الحال ، أو أراد الخير والشر فاكتفى بأحدهما لدلالته على الآخر كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل / ٨١] وإنما خص الخير بالذكر لأنه المرغوب فيه المطلوب للعباد من الله تعالى.

فإن قيل : لم قال تعالى (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الحج / ٦١] وإيلاج الشيء في الشيء يقتضي اجتماع حقيقتهما بعد الإيلاج ، كإيلاج الخيط في الإبرة والإصبع في الخاتم ونحوهما ، وحقيقة الليل والنهار أنهما لا يجتمعان؟

قلنا : الإيلاج قد يكون كما ذكرتم ، وقد يكون مع تبدل صفة أحدهما بغلبة صفة الآخر عليه مع بقاء ذاته فيه ، كإيلاج يسير من الخبز في لبن كثير أو بالعكس ، فإن الحقيقتين مجتمعتان ذاتا ، وصفة إحداهما غالبة على الأخرى. كذلك الليل والنهار إذا كان الليل أربع عشرة ساعة بالنسبة إلى زمن الاعتدال ، ففيه من النهار ساعتان قطعا وكذا على العكس. أو معناه يولج زمن الليل في زمن النهار وبالعكس. أو يولج الليل في النهار وبالعكس باعتبار أن ليل قوم هو نهار آخرين وبالعكس ، أو معناه أنه خلق ليلا صرفا خالصا ، وخلق ما هو ممتزج منهما وهو ما قبيل طلوع الشمس وقبيل غروبها. والجواب الثالث والرابع يعمان السنة بأسرها.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [الآية ٣٦] وهو معلوم من غير ذكر؟

قلنا : الحكمة اعتذارها عما قالته ظنا ، فإنها ظنت أن ما في بطنها ذكر ، ولهذا نذرت أن تجعله خادما لبيت المقدس ، وكان من شريعتهم صحة هذا النذر في الذكور خاصة. فلما وضعت أنثى استحيت لمّا خاب ظنها ولم يتقبّل نذرها ، فقالت ذلك معتذرة ، تعني ليست الأنثى بصالحة لما يصلح

٩٠

له الذكر في خدمة المسجد ، لا أنها أرادت أن الأنثى ليست كالذكر صورة أو قوة أو نحو ذلك. فلما قالت ذلك ، منكرة خجلة ، منّ الله عليها بتخصيص مريم بقبولها في النذر دون غيرها من الإناث فقال تعالى (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) [الآية ٣٧].

فإن قيل : المستعمل في مثله إدخال حرف النفي على القاصر ، وحرف التشبيه على الكامل كقولهم : ليست الفضة كالذهب ، وليس العبد كالحر ، فوزانه : وليست الأنثى كالذكر.

قلنا : لما كان جعل الأصل فرعا ، والفرع أصلا في التشبيه في حالة الإثبات ، يقتضي المبالغة في المشابهة كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفه ، كان جعل الأصل فرعا والفرع أصلا ، في حالة النفي ، يقتضي نفي المبالغة في المشابهة لا نفي المشابهة ، وذلك هو المقصود هنا ، لأن المشابهة واقعة بين الذكر والأنثى في أعم الأوصاف وأغلبها. ولهذا يقاد أحدهما بالآخر. وإنما أرادت أم مريم نفي المشابهة بينهما في صحة النذرية خادما للبيت المقدس لا غير ، فلذلك عكس الثاني أن ذلك قوله تعالى ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبت أن يكون خادما للكنيسة كالأنثى التي وهبت لما علم الله من جعلها وابنها آية للعالمين. وهو تفسير للتعظيم والتفخيم المجمل في قوله تعالى (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [الآية ٣٦] وهي لا تعرف مقدار شرفه ، واللام في الذكر والأنثى للعهد. هذا كله قول الزمخشري وتمامه في الكشاف.

وقال الفقيه أبو الليث رحمه‌الله تعالى : قال بعضهم : هذا قول الله تعالى لمحمد (ع) : أي وليس الذكر كالأنثى يا محمد. وقال بعضهم : هو من كلام أم مريم.

فإن قيل : كيف نادت الملائكة زكريا وهو قائم يصلي في المحراب وأجابها وهو في الصلاة ، كما قال الله تعالى (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي) [الآية ٣٩]؟

قلنا : المراد بقوله يصلي : أن يدعو كقوله تعالى (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء / ١١٠] ، أي بدعائك.

فإن قيل : ما فائدة تخصيص يحيى (ع) بقوله تعالى : (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [الآية ٣٩]

٩١

وكل واحد من المؤمنين مصدق بجميع كلمات الله تعالى؟

قلنا : معناه مصدقا بعيسى الذي كان خلقه بكلمة من الله تعالى ، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب في الوجود ، وكان تصديق يحيى بعيسى أسبق من تصديق كل أحد في الوجود أو في الرتبة.

فإن قيل : زكريا سأل الولد بقوله (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) [الآية ٣٨] والله تعالى بشّره بيحيى (ع) على لسان الملائكة ، فكيف أنكر بعد هذا كله قدرة الله تعالى على إعطائه الولد حتى قال (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) [الآية ٤٠].

قلنا : إنما قاله على سبيل الاستفهام والتعجب من عظيم قدرة الله تعالى ، لا على طريق الإنكار والاستبعاد ، أو اشتبه عليه كيف ينجب الولد وهو شيخ وامرأته عاقر ، أو تزول عنهما هاتان الصفتان لكشف الحال تقديره : أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر. ولقائل أن يقول : آخر الآية لا يناسب هذا الجواب.

فإن قيل : ما فائدة تكرار ذكر الاصطفاء في قوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ) [الآية ٤٢].

قلنا : الاصطفاء الأول : العبادة التي هي خدمة البيت المقدس وتخصيصها بقبولها في النذر مع كونها أنثى ، والاصطفاء الثاني : لولادة عيسى (ع) ، أو أعيد ذكر الاصطفاء ليفيد بقوله (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢) فيندفع بأنها مصطفاة على الرجال.

فإن قيل : لم نفى حضور النبي عليه الصلاة والسلام في زمن مريم بقوله تعالى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [الآية ٤٤] ، وذلك معلوم عندهم لا شك فيه ، وترك نفي استماعه ذلك الخبر من حفّاظه ، وهو الذي كانوا يتوهمونه؟

قلنا : كان معلوما أيضا عندهم علما يقينيّا أنه ليس من أهل القراءة والرواية ، وكانوا منكرين للوحي فلم يبق إلا المشاهدة والحضور وهما في غاية الاستحالة ، فنفيا من طريق التهكم بالمنكرين للوحي مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية ، ونظيره قوله تعالى : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ (٤٤) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ) [القصص].

فإن قيل : لم قال اسمه المسيح عيسى بن مريم والخطاب مع مريم ،

٩٢

وهي تعلم أن الولد الذي بشرت به يكون ابنها؟

قلنا : لأن الأبناء ينسبون إلى الآباء لا إلى الأمهات فأعلمت ، بنسبه إليها ، أنه يولد من غير أب ، فلا ينسب إلا إلى أمه.

فإن قيل : أي معجزة لعيسى (ع) في تكليم الناس كهلا ، وأي خصوصية له في هذا حتى قال (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) [الآية ٤٦]؟

قلنا : معناه ويكلم الناس في هاتين الحالتين بكلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل وينبأ فيها الأنبياء ، فكأنه قال : ويكلم الناس في المهد كما يكلمهم كهلا. وقال الزّجّاج : هذا خرج مخرج البشارة لمريم أنه عليه الصلاة والسلام سيبقى إلى زمن الكهولة ، فهو بشارة لها بطول عمره ، وقيل المقصود منه أن الزمان يؤثر فيه كما يؤثر في غيره ، وينقله من حال إلى حال ؛ ولو كان إلها لم يجز عليه التغيّر.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [الآية ٥٥] والله تعالى رفعه ولم يتوفّه؟

قلنا : لما هدده اليهود بالقتل بشّره الله بأنه إنما يقبض روحه بالوفاة لا بالقتل ، والواو لا تفيد الترتيب ، فلا يلزم من الآية موته قبل رفعه. الثاني أن فيه تقديما وتأخيرا : أي أني رافعك ومتوفيك. والثالث أن معناه : قابضك من الأرض تاما وافيا في أعضائك وجسدك لم ينالوا منك شيئا ، من قولهم : توفيت حقي على فلان إذا استوفيته تاما وافيا. الرابع أن معناه :

أني متوفيك في نفسك بالنوم من قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر / ٤٢] ورافعك إليّ وأنت نائم حتى لا تخاف ، بل تستيقظ وأنت في السماء.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [الآية ٥٩] ، وآدم خلق من التراب وعيسى خلق من الهواء ، وآدم خلق من غير أب وأم ، وعيسى خلق من أم.

قلنا : المراد به التشبيه في وجوده بغير واسطة أب ، والتشبيه لا يقتضي المماثلة من جميع الوجوه بل من بعضها.

فإن قيل : لم خص أهل الكتاب بأن منهم أمينا وخائنا بقوله سبحانه (وَمِنْ

٩٣

أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) [الآية ٧٥] ، والمسلمون وغيرهم من أهل الملل كذلك منهم الأمين والخائن.

قلنا : إنما خصهم باعتبار واقعة الحال ، فإن سبب نزول الآية أن عبد الله بن سلام أودع ألفا ومائتي أوقية من الذهب فأدى الأمانة فيها ، وفنحاص بن عازوراء أودع دينارا فخانه ، ولأن خيانة أهل الكتاب للمسلمين تكون عن استحلال بدليل آخر الآية ، بخلاف خيانة المسلم للمسلم فلذلك خصهم بالذكر.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [الآية ٨٣] وأكثر الجن والإنس كفرة؟

قلنا : المراد بهذا الاستسلام والانقياد لما قضاه الله عليهم وقدره من الحياة والموت والمرض والصحة والشقاء والسعادة ونحو ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) [الآية ٩٠] ومعلوم أن المرتد ، وإن ازداد ارتداده كفرا ، فانه مقبول التوبة؟ قلنا : نزلت الآية في قوم ارتدّوا ثم أظهروا التوبة بالقول لستر أحوالهم والكفر في ضمائرهم ، قاله ابن عباس. وقيل نزلت في قوم تابوا عن ذنوبهم غير الشرك وقيل معناه : لن تقبل توبتهم وقت حضور الموت.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) [الآية ٩٦] وكم من بيت بني قبل الكعبة من زمن آدم إلى زمن إبراهيم عليه‌السلام؟

قلنا : معناه أن أول بيت وضع قبلة للناس ومكان عبادة لهم ، أو وضع مباركا للناس ، أو لأن ابن عباس قال : أول من بناه آدم (ع) ، لما هبط من السماء أوحى الله تعالى إليه أن ابن لي بيتا في الأرض ، وافعل حوله نحو ما رأيت الملائكة تفعل حول عرشي ، فبناه وجعل يطوف حوله.

فإن قيل : لم قال الله تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) [الآية ١١٠] ولم يقل أنتم خير أمة؟

قلنا : معناه كنتم في سابق علم الله ، أو كنتم يوم أخذ الميثاق على الذرية ، فأراد الإعلام بكون ذلك صفة أصلية فيهم لا عارضة متجددة ، أو معناه خلقتم ووجدتم ، فهي «كان» التامة ،

٩٤

و «خير أمة» نصب على الحال ؛ وتمام الكلام في «كان» يذكر في قوله تعالى (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً) [النساء / ٢٢].

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) [الآية ١١٠] ولا يصحّ أن يقال : هذا خير من هذا إلا إذا كان في كل واحد منهما خير ، مع أن غير الإيمان لا خير فيه حتى يقال : إن الإيمان خير منه؟

قلنا : معناه أنّ إيمانهم بمحمد (ص) مع إيمانهم بموسى وعيسى (ع) ، خير من إيمانهم بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام فقط.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) [الآية ١١٧] ، والمقصود : تشبيه نفقة الكفار وأموالهم في تحصيل المفاخر وطلب الصيت والسمعة ، أو ما ينفقونه في الطاعات مع وجود الكفر ، أو ما ينفقونه في عداوة رسول الله (ص) ، تشبيه ذلك كله بالزرع الذي أصابته ريح شديدة البرد فأهلكته فضاع ولم ينتفع به ، والتشبيه في الحقيقة بالزرع ، وفي لفظ الآية بالريح؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح ، ونظيره قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ) [البقرة / ٢٦١] ، وقوله تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [البقرة / ١٧١] الآية. وقال ثعلب : فيه تقديم وتأخير تقديره : كمثل حرث قوم ظلموا أنفسهم أصابته ريح فيها صرّ فأهلكته.

فإن قيل : لم قال تعالى (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) [الآية ١٢٠] فوصف الحسنة بالمس ، والسيئة بالإصابة؟

قلنا : المس مستعار بمعنى الإصابة توسعة في العبارة : وإلا كان المعنى واحدا ، ألا ترى إلى قوله تعالى في الفريقين : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء / ٧٩] وقوله (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) ـ وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٢١) [المعارج].

فإن قيل : لم قال تعالى (وَسارِعُوا) [الآية ١٣٣] والنبي عليه أفضل التحية يقول : «العجلة من الشيطان والتأني من الرحمن»؟

قلنا : قد استثنى النبيّ (ص) خمسة

٩٥

مواضع فقال : «إلا في التوبة من الذنب ، وقضاء الدّين الحالّ ، وتزويج البكر البالغ ، ودفن الميت ، وإكرام الضيف إذا نزل». والمسارعة ، المأمور بها في الآية ، هي المسارعة إلى التوبة وما في معناها من أسباب المغفرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [الآية ١٣٥] فعطف عليه بكلمة «أو» ، وفعل الفاحشة داخل في ظلم النفس ، بل هو أبلغ أنواع ظلم النفس؟

قلنا : أريد بالفاحشة نوع من أنواع ظلم النفس وهو الزنى ، أو كل كبيرة ، فخصّ بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه ، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.

فإن قيل : لم قال تعالى هنا : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [الآية ١٣٥] وقال في موضع آخر (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (٣٧) [الشورى] وقال : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) [الجاثية / ١٤].

قلنا : معناه ومن يستر الذنوب من جميع الوجوه إلا الله ، ومثل هذا الغفران لا يكون إلا من الله.

فإن قيل : لم قال تعالى (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ) [الآية ١٤٤] ولم يقتصر على قوله (أَفَإِنْ ماتَ) والقتل متضمّن في الموت؟

قلنا : القتل ، وإن كان موتا ، لكن إذا أطلق الميت في العرف ، لم يفهم منه المقتول ، فلذلك عطف أحدهما على الآخر.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ١٦١]. وقال في موضع آخر (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام / ٩٤].

قلنا : معناه : يأتي به مكتوبا في ديوانه ، أو يأتي به حاملا إثمه ، ومعنى «فرادى» منفردين عن الأموال والأهل ، أو عن الشر كله في الغي ، أو عن الآلهة المعبودة من دون الله. وتمام الآية يشهد للكل.

فإن قيل : قد جاء في الصحيحين عن النبي (ص) أن الغالّ يأتي يوم القيامة حاملا عين ما غلّه على عنقه ، صامتا كان أو ناطقا. هذا معنى الحديث ، فاندفع الجواب.

قلنا : على هذا يكون المراد بالآية الأخرى فرادى عن مال وأهل يعتزّون

٩٦

بهما ويستنصرون ، ويشهد بصحته تمام الآية.

فإن قيل : لم قال تعالى (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) [الآية ١٦٣] وليس العبيد في الدرجات نفسها؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : هم ذوو درجات أو أهل درجات ، فحذف المضاف لعدم الإلباس. وقيل المراد بالدرجات الطبقات ، فلا يكون فيه إضمار معناه أنهم طبقات عند الله ، متفاوتون كتفاوت الدرجات.

فإن قيل : كيف يجعل لكلّ من الفريقين درجات ، وأحد الفريقين لهم دركات لا درجات؟

قلنا : الدرجات تستعمل في الفريقين بدليل قوله تعالى في سورة الأنعام ، بعد ذكر الفريقين (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) [الأنعام / ١٣٢] وتحقيقه : أن بعض أهل النار أخف عذابا فمكانه فيها أعلى ، وبعضهم أشد عذابا فمكانه بها أسفل. ولو سلم اختصاص الدرجات بأهل الدرجات كان قوله (هُمْ دَرَجاتٌ) راجعا إليهم خاصة تقديره : أفمن اتبع رضوان الله وهم درجات عند الله كمن باء بسخط من الله وهم دركات ، إلا أنه حذف البعض لدلالة المذكور عليه.

فإن قيل عن قوله تعالى (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [الآية ١٨١] ، كانوا في زمن النبي (ص) قالوا ذلك لما سمعوا قوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة / ٢٤٥] ، فكيف قال : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) [الآية ١٨١] أي ونكتب قتلهم الأنبياء ، وهم لم يقتلوا نبيا قط؟

قلنا : لما رضوا بقتل أسلافهم الأنبياء ، كأنهم باشروا ذلك فأضيف إليهم ، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [الآية ١٨٢] وظلام صيغة مبالغة من الظلم ، ولا يلزم من نفي الظلام نفي الظالم ، وعلى العكس يلزم ، فهل قال ليس بظالم ليكون أبلغ في نفي الظلم عن ذاته المقدسة؟

قلنا : صيغة المبالغة جيء بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم ، كما قال الله تعالى (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف] وقال : (عالِمِ الْغَيْبِ)

٩٧

[المؤمنون / ٩٢] و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١٠٩) [المائدة] لما أفرد المعمول لم يأت بصيغة المبالغة ، ونظيره قولهم : زيد ظالم لعبده ، وعمرو ظلام لعبيده ، فهما في الظلم سيّان. وكذلك قال الله تعالى (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) [الفتح / ٢٧] فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرار الفعل ، أو أن الصيغة هنا للنسب أي لا ينسب إليه ظلم ؛ فالمعنى : ليس بذي ظلم. الثاني أن العذاب من العظيم القدر ، الكثير العدل ، لو لا سبق الجناية ، يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر كثير العدل ، فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره ، فحاصله أن صيغة المبالغة تارة تكون باعتبار زيادة ذات الفعل ، وتارة باعتبار صفته ، ففعل الظلم ، لو صدر عن الله تعالى وتقدس ، لكان أعظم من ألف ظلم يصدر عن عبيده ، باعتبار زيادة وصف القبح ؛ ونظيره قوله تعالى (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) [الأحزاب] على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : في قوله تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [الآية ١٨٤] : من حق الجزاء أن يتعقب. الشرط ، وهذا سابق له؟

قلنا : جواب الشرط محذوف ، وقوله تعالى : (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [الآية ١٨٤] جوابا لأنه سابق عليه ، ومعناه : وإن يكذبوك فتأسّ بتكذيب الرسل قبلك ، وضعا للسبب ، وهو تكذيبهم ، موضع المسبب ، وهو التأسي بهم.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (وَلا تَكْتُمُونَهُ) في قوله (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [الآية ١٨٧] والأول مغن عن الثاني؟

قلنا : معناه ليبيّننّه في الحال ، ويدومون على ذلك البيان ولا يكتمونه في المستقبل. الثاني أن الضمير الأول للكتاب ، والثاني لنعت النبي (ص) وذكره ، فإنه قد سبق ذكر النبي (ص) قبيل هذا.

فإن قيل : متى بينوا الكتاب لزم من بيانه صفة النبي (ص) وذكره لأنه من جملة الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل ، فقوله بعد ذلك ولا يكتمونه تكرارا.

٩٨

قلنا : على هذا يكون تأكيدا.

فإن قيل : لم قال تعالى (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [الآية ١٩٢] وقال في موضع آخر (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) [التحريم / ٨] ويلزم من هذا أن لا يدخل المؤمنين النار كما قالت المعتزلة والخارجية؟

قلنا : أخزيته بمعنى أذللته وأهنته من الخزي وهو الذل والهوان ، وقوله تعالى (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) من الخزاية وهي النكال والفضيحة ، فكل من يدخل النار يذل وليس كل من يدخلها ينكل به ويفضح ، أو المراد بالآية الأولى إدخال الإقامة والخلود ، لا إدخال تحلّة القسم المدلول عليها بقوله تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم / ٧١] أو إدخال التطهير الذي يكون لبعض المؤمنين بقدر ذنوبهم ، وقيل إن قوله تعالى (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله.

فإن قيل : لم قال تعالى (سَمِعْنا مُنادِياً) [الآية ١٩٣] والمسموع نداء المنادي لا نفس المنادي؟

قلنا : لما قال «مناديا ينادي» ، صار تقديره : نداء مناد ، كما يقال سمعت زيدا يقول كذا : أي سمعت قول زيد. ف «مناديا» مفعول سمع ، وينادي حال دالة على محذوف مضاف للمفعول.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) [الآية نفسها] وتكفير السيئات داخل في غفران الذنوب؟

قلنا : المعنى مختلف ، لأن الغفران مجرد فضل ، والتكفير محو السيئات بالحسنات.

فإن قيل : ما الحكمة من قوله تعالى (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) (١٩٣) مع انه لا ينفع التوفّي مع الأبرار ، بل النافع ان يكون المرء من الأبرار ، سواء أتوفي معهم ، أم قبلهم ، أم بعدهم؟

قلنا : معناه وتوفّنا مخصوصين بصحبتهم معدودين في جملتهم ، كما يقال أعطاني الأمير مع أصحاب الخلع والجوائز : أي جعلني من جملتهم ، وإن تقدم إعطاؤه عنهم أو تأخر.

فإن قيل : كيف قال (وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [الآية ١٩٤] أي على لسان رسلك دعوه بإنجاز الوعد مع علمهم ، وقولهم أيضا (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤)؟

٩٩

قلنا : الوعد من الله تعالى على ألسنة الرسل للمؤمنين وعد عام يحتمل أن يراد به الخصوص كما في أكثر عموميات القرآن ، فسألوا الله تعالى أن يجعلهم من الداخلين في حكم الوعد. الثاني أنهم سألوا تعجيل النصر الذي وعدوا ، فإنه تعالى وعدهم النصر على أعدائهم غير موقت بوقت خاص.

فإن قيل : كيف يجوز أن يغتر الرسول بنعم الذين كفروا حتى نهى عن الاغترار بقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١٩٦) أي تصرفهم فيها بالنّعم؟

قلنا : معناه لا يغرنكم أيها المؤمنون ، فإن رئيس القوم ومقدمهم يخاطب بشيء ، والمراد به أتباعه وجماعته. الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مغتر بحالهم ، فقيل له ذلك تأكيدا وتثبيتا على الدوام عليه ، كما قيل له : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٨٦) [القصص] ، (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٨٧) [القصص] ، (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (٨) [القلم].

فإن قيل : كيف ينهى عن التقلب وهو مما ليس ينهى عنه؟

قلنا : معناه لا تغتر بتقلبهم ، فيكون تقلبهم قد غرك ، وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبّب ، لأن تقلبهم لو غرّه لاغترّ به فمنع السبب وهو غرور تقلبهم إياه ، ليمتنع المسبّب وهو اغتراره بتقلبهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) (١٩٦) ولم يقل لا يغرنك نعمهم وأموالهم ، والذي يحتمل أن يغر الرسول والمؤمنين النعم والأموال ، لا التقلب في البلاد؟

قلنا : المراد بتقلبهم تصرفهم في التجارات والنعم والتلذذ بالأموال ، والفقير إنما يتألم وينكسر قلبه إذا رأى الغني يتقلب في النعمة ويتمتع بها ، فلذلك ذكر التقلب ، وقيل معناه : لا يغرنك تقلبهم في المعاصي غير مأخوذين بذنوبهم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩) مع أن قوله (لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) موضع البشارة بالثواب ، وسرعة الحساب إنما تذكر في موضع التهديد والعقاب؟

قلنا : معناه لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا خوفا من حسابه فإنه سريع الحساب ، فهو راجع إلى ما قبل.

١٠٠