الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [الآية ٨٥].

ونصوص أخرى كثيرة تؤكد وحدانية الله ، وأن الإسلام هو الدين الحق عند الله ، وأن دعوة الرسل واحدة ، وهدايتهم واحدة ، هي الدعوة إلى توحيد الله وتدعيم الأخلاق ، والحث على الفضائل ، والتحذير من الرذائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الآية ١١٠].

أما الخط الثاني الذي يركز عليه سياق السورة فهو تصوير حال المسلمين مع ربهم ، واستسلامهم له ، وتلقيهم لكل ما يأتيهم منه بالقبول والطاعة والاتباع الدقيق ، ونضرب له بعض الأمثلة من آيات سورة آل عمران :

يقول الله تعالى :

(وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٩).

ويقول سبحانه في بيان صدق المؤمنين وثقتهم بربهم وتوكّلهم عليه ، حين سمعوا عن كثرة أعدائهم بعد غزوة حمراء الأسد ، فلم يزدهم ذلك إلا ثقة ويقينا وإيمانا واعتمادا على الله بعد الأخذ بالعدّة والأسباب :

(الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (١٧٣).

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (١٩٤).

والخط الثالث العريض في سياق السورة هو التحذير من ولاية غير المؤمنين ، والتهوين من شأن الكافرين مع هذا التحذير ، وتقرير أنه لا إيمان ولا صلة بالله مع تولي الكفار الذين لا يحتكمون لكتاب الله ، ولا يتبعون

٢١

منهجه في الحياة. وهذه نماذج من هذا الخط العريض.

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (١٥٠).

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) ـ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٩٧).

هذه الخطوط الثلاثة متناسقة فيما بينها متكاملة في تقرير التصور الإسلامي ، وتوضيح حقيقة التوحيد ومقتضاه في حياة البشر وفي شعورهم بالله ، وأثر ذلك في موقفهم من أعداء الله الذي لا موقف لهم سواه.

والنصوص في موضعها من السياق أكثر حيوية وأعمق إيحاء. لقد نزلت في معمعان المعركة ، معركة العقيدة ، ومعركة الميدان. المعركة داخل النفوس والمعركة في واقع الحياة. ومن ثم تضمنت ذلك الرصيد الحي العجيب من الحركة والتأثير والإيحاء ، فلو أن قرآنا سيّرت به الجبال أو كلّم به الموتى لكان هذا القرآن ، فإنه كتاب الحياة وكتاب الوجود وكتاب الخلود.

٢٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «آل عمران» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة آل عمران بعد سورة الأنفال ، وكان نزولها في السنة الثالثة من الهجرة بعد غزوة أحد ، فتكون من السور التي نزلت بين غزوة بدر وصلح الحديبية. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لذكر قصة آل عمران فيها. وهي قصة امرأته وابنتها مريم ، وتدخل فيها قصة عيسى أيضا ، ويبلغ عدد آياتها مائتي آية.

الغرض منها وترتيبها

نزل صدر هذه السورة في وفد نصارى نجران ، وكانوا قد وفدوا على النبي (ص) ، فدخلوا عليه المسجد وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير ، مختتمين بالذهب ، ومعهم بسط فيها تماثيل ، ومسوح ، جاءوا بها هدية له ، فقبل المسوح ولم يقبل البسط ، ثم جادلوه في الدين ، وانضموا بهذا إلى أحبار اليهود في الشغب على الإسلام ، فجاء صدر هذه السورة في تصوير ذلك الجدال الذي دار بينهم ، وقد جاء أغلبه في جدال النصارى مع النبي (ص) ، وجاء قليل منه في جدال اليهود معه ، وقد أشبهت سورة آل عمران سورة البقرة في ذلك الجدال ، كما أشبهتها أيضا في طولها ، ولهذا جعلت بعدها.

وقد مهّد السياق في أول السورة لذلك الجدال ببيان ما يجب لله من الأوصاف ، ثم انتقل من هذا إلى الرد على مقالاتهم في ذلك الجدال. ثم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، غير مؤرّخ.

٢٣

انتقل من الرد على مقالاتهم إلى تثبيت المؤمنين وتحذيرهم من التأثر بها. ثم انتقل من هذا إلى تثبيت المؤمنين بعد هزيمتهم في غزوة أحد. وقد استغلوها أيضا في التأثير عليهم ، ثم ختمت السورة بالتنويه بالمؤمنين كما ختمت سورة البقرة.

وقد قصد من ابتداء هذه السورة ببيان ما يجب لله تعالى من الأوصاف أن يكون هذا أساسا للجدال مع وفد نجران في شأن عيسى (ع).

ما يجب لله سبحانه من الأوصاف

الآيات [١ ـ ٦]

قال الله تعالى : (الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢) فذكر أنه يجب له أن يكون واحدا حيا قيّوما ، ومهّد بهذا لما سيذكره من نفي الألوهية عن عيسى في الجدال مع وفد نجران ، ثم ذكر أنه نزّل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتب ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبله هدى للناس ، وأنزل الفرقان وهو البرهان الذي لا بد منه مع النقل ، ومهد بهذا أيضا لذلك الجدال ، ليرجع فيه إلى ما اتفقت عليه هذه الكتب من التوحيد ، وإلى تأييد العقل لها في ذلك ، ثم ذكر مما يجب له أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأنه يصورنا في الأرحام كيف يشاء (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٦).

الرد على مقالة النصارى الأولى

الآيات [٧ ـ ١٨]

ثم قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [الآية ٧]. فرد على مقالتهم الأولى وهي قولهم : يا محمد ، ألست تزعم أن عيسى كلمة الله وروح منه؟ فقال : بلى. فقالوا : حسبنا. فرد عليهم بأن القرآن منه محكم ، ومنه متشابه ، وأن المتشابه يجب تأويله بما يوافق المحكم ، فالذين في قلوبهم زيغ يتّبعون المتشابه ويؤولونه بما يوافق أهواءهم. والراسخون في العلم يؤولونه ذلك التأويل السابق ، أو يفوضون الأمر فيه لله تعالى ، ثم حذّر الأولين من عذابه الذي لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم منه شيئا ، كما لم تغن أموال آل فرعون شيئا عنهم ، وأنذرهم بأنهم سيغلبون وإن اغتروا بأموالهم وقوتهم ، وساق لهم ما جرى

٢٤

في غزوة بدر عبرة يعتبرون بها ، فقد غلب المسلمون فيها ، على قلتهم ، قريشا على كثرة عددها ، ثم ذكر أنهم قد زيّن لهم حبّ أموالهم ، وإنما هي متاع الحياة الدنيا ، ولا قيمة لها بجانب ما أعد الله للمؤمنين من نعيم الآخرة. ثم ختم ذلك بتقرير أن تفرّده بالألوهية معروف قد شهد به في كتبه ، وهذا في قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨).

الرد على مقالتهم الثانية

الآيات [١٩ ـ ٦٤]

ثم قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [الآية ١٩]. فذكر الرد على مقالتهم الثانية ، وكان النبي (ص) قد قال لهم : أسلموا فقالوا : قد أسلمنا. فقال لهم : كذبتم ، يمنعكم من الإسلام ادّعاؤكم أن لله ولدا ، وعبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير. وقد احتجوا أمامه على ألوهية عيسى بأنه كان يحيى الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ، إلى غير ذلك مما ذكروه ، وعلى أنه ابن الله بأنه لم يكن له أب يعلم ، فرد عليهم ذلك أوّلا بإثبات أن الدين عنده هو الإسلام له وحده ، لا ما هم عليه من جعله ثالث ثلاثة ، وقد نزل كتابهم بذلك فحرفوه وبدلوا آياته ، فإن حاجّوا في ذلك بمثل ما ذكروه فإنما هي شبه واهية لا قيمة لها ، وعلى النبي (ص) والمسلمين أن يمضوا في إسلامهم ولا يلتفتوا إلى تلك الشبه الواهية. فإذا أسلم أهل الكتاب ومشركو العرب كإسلامهم ، فقد اهتدوا ؛ وإن تولّوا ، فلا عذر لهم بعد تبليغهم. ثم ذكر ما ينفي الإيمان به عن أهل الكتاب ، من كفرهم بآياته ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، وأوعدهم بما أعدّ لهم من عذابه ، ثم ذكر من كفرهم أنهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه ، فيتولّون عنه وهم معرضون ، وأنهم يزعمون أن النار لا تمسّهم إلا أياما معدودات بقدر أيام الخلق ، ثم أوعدهم بأنه سيجمعهم ويعاقبهم على ما كسبوا من ذلك الكفر ، ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه مالك الملك وحده ، يعز من يشاء من خلقه ، ويذل من يشاء منهم ، فلا يمتاز أهل الكتاب بشيء على غيرهم ، ثم أكد هذا بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميّت ويخرج الميت من الحي ،

٢٥

ويرزق من يشاء بغير حساب ، ثم نهى المؤمنين أن يغتروا بهم ويوالوهم. وذكر أن من يفعل ذلك فليس منه في شيء ، وأنه يعلم ما يخفونه من ذلك وما يظهرونه. فإذا كانوا يحبونه ، فليتبعوا رسوله ويوالوه وحده ، وليطيعوه هو ورسوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (٣٢).

ثم رد عليهم ثانيا بذكر قصة عيسى (ع) على حقيقتها من أولها إلى آخرها ، فذكر اصطفاءه لآبائه الأولين ، من آدم إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران على العالمين. ثم ذكر ما كان من أمر أمه مريم وكفالة زكريا لها ، وقصّ خبرها مع زكريا وخبر زكريا إذ وهب له يحيى ، ثم ذكر مريم وإخبار الملائكة لها بأن الله اصطفاها على نساء العالمين ، وبأنه يبشّرها بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم ، يخلقه منها بأمره ، ويعلّمه الكتاب والحكمة ، ويرسله إلى بني إسرائيل ، فيخلق لهم من الطين طيرا بإذن الله ، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ثم ذكر ما كان من أمر بني إسرائيل معه إلى أن أرادوا قتله وصلبه فرفعه الله.

ولما وصل بذلك إلى نهاية قصته ، ذكر أن ما قصّه فيها ، من الآيات والذكر الحكيم ، لا يقبل غيره في أمر عيسى ، وأن مثل عيسى ، إذ خلقه من غير أب ، كمثل آدم إذ خلقه من تراب ، وهذا هو الحق في أمر عيسى ، وليس أمره فيه بأعجب من أمر آدم ، فإذا حاجّوا النبي (ص) بعد هذا في أمره فليدعهم هم وأبناءهم ونساءهم لمباهلتهم هو وأبناؤه ونساؤه فيجعلوا لعنة الله على الكاذبين. ثم ذكر أن ما جاء به في أمر عيسى هو القصص الحق ، وأنه ما من إله إلا الله ، فإن تولّوا بعد ذلك فهم مفسدون لا طلّاب حق ، ثم ختم ذلك بدعوتهم إلى التوحيد الذي اتفقت عليه الرسالات (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤).

الرد على مقالتهم الثالثة

الآيات [٦٥ ـ ٧٨]

ثم قال تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٥) ، فذكر الرد على

٢٦

مقالتهم الثالثة ، وهي قول النصارى إن إبراهيم كان على ديننا. وكذلك قال اليهود مثل قولهم ، فرد عليهم بأن التوراة والإنجيل لم ينزلا إلا بعده ، فلا يعقل أن يكون يهوديّا أو نصرانيّا. وإذا كان لهم وجه أن يحاجّوه في مخالفة شريعة القرآن لما يعلمونه من شريعتهم ، فإنه لا وجه لهم أن يحاجوه بمخالفتها لشريعة إبراهيم وهم لا يعلمونها ، ثم قرر لهم أن إبراهيم كان حنيفا مسلما ولم يك من المشركين كما أشرك النصارى بتأليه المسيح ، وأن أولى الناس به الذين اتّبعوه ممن لم يحرّف دينه من أهل الكتاب ، ومن النبي وأتباعه من المؤمنين ، ثم ذكر أن أهل الكتاب يودون أن يضلّوا المسلمين بهذه المقالات ، وما يضلّون المسلمين بهذه المقالات ، وما يضلّون إلا أنفسهم وهم لا يشعرون ثم وبّخهم على كفرهم بآياته وهم يعلمون صدقها بما عندهم من البشارات بها ، وعلى أنهم لا يريدون بهذه المقالات إلا أن يلبسوا الحق بالباطل وهم يعلمون. ثم ذكر نوعا آخر من تلبيساتهم أقبح من هذه المقالات ، وهو إظهار بعضهم الإيمان بالقرآن أول النهار ، والكفر به آخره ليؤثّر بهذا في أتباعه ، وذكر أنهم يتواصون عند إظهار هذا الإيمان الكاذب ألّا يخلصوا فيه ، ولا يؤمنوا إلا بنبي يقرر شرائعهم. ثم رد عليهم بأمر النبي (ص) أن يذكر لهم أن الهدى هدى الله لا هداهم ، فلا يليق بهم أن يفعلوا هذا ، لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا أو يحاجوهم به عند ربهم ، ويأمره أن يذكر لهم أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء وليس وقفا عليهم. ثم ذكر أن هذه الأثرة فيهم في أمور الدين قد تعدّت بكثير منهم إلى أمور الدنيا. فمنهم من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائما ، لأنهم يعتقدون أن الله سبحانه لم يجعل عليهم سبيلا في الأميين من العرب ، وهم يكذبون بذلك عليه ، لأنه يحب الوفاء بالعهد لكل الناس ، والذين لا يوفون بعهدهم لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة. ثم ذكر أن منهم من يستبيح في سبيل ذلك ما هو أقبح مما سبق ، فيكتبون بأيديهم ما يدل على أن النبي (ص) ليس هو النبيّ المبشّر به ، ويقولون هو من عند الله (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨).

٢٧

الرد على مقالتهم الرابعة

الآيات [٧٩ ـ ٩٢]

ثم قال تعالى : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) [الآية ٧٩]. فذكر الرد على مقالتهم الرابعة ، وهي زعمهم أن عيسى (ع) كان يدّعي الألوهية ، ويأمر قومه بعبادته ، فرد عليهم بأنه ما كان لبشر أن يؤتيه الكتاب والحكمة والنبوة ثم يأمر الناس بمثل ذلك ، فيصير بهم إلى الكفر بعد الإسلام الذي كانوا عليه من قبله ، ثم ذكر أن هذا الإسلام كان ميثاقه على النبيين وأتباعهم أن يصدّقوا الرسول المنتظر الذي يجيء به ، فمن تولّى عنه بعد ذلك يكون فاسقا. ثم أنكر عليهم أن يبغوا غير هذا الإسلام ، لأنه دين الفطرة الذي يؤمن به كل من في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم طوعا وكرها ، إذ يخضعون جميعا لله وحده. ثم أمر النبي (ص) أن يذكر لهم أنه هو الدين الذي أنزل على إبراهيم والأنبياء بعده من ذريته ، وأنه يؤمن بهم جميعا ولا يفرّق بينهم ، وأن من يتّبع غير الإسلام الذي دعوا إليه فلن يقبل منه ، ثم ذكر أن مثل هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم ، وشهادتهم أن الرسول المنتظر حق ، لا ترجى هدايتهم ، وأن جزاءهم على ذلك اللعنة الخالدة والعذاب الشديد ، وأن من تاب منهم بعد ذلك وأصلح فإن الله يغفر له ما سبق منه ، وأن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا بعد ظهور الإسلام كفرا لن تقبل توبتهم ، ولن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا إذا تقرّب به إلى الله مع كفره ، ولو افتدى به يوم القيامة لم ينفعه ، فلن ينالوا البرّ حتى ينفقوا في دنياهم مما يحبون (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢).

الرد على مقالتهم الخامسة

الآيات [٩٣ ـ ٩٩]

ثم قال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٩٣). فذكر الرد على مقالتهم الخامسة ، وهي قولهم للنبي (ص) : إنك تدّعي أنك على ملّة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل مع أنها حرام في تلك الملة؟ وقد رد عليهم بأن ذلك كان حلالا في ملّة

٢٨

إبراهيم إلى أن حرّمه إسرائيل ، وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، على نفسه ، فبقيت تلك الحرمة في أولاده ، وذكر أن التوراة تشهد بذلك عليهم ، ثم أمرهم بعد هذا أن يتبعوا ما جاء به النبي (ص) من ملة إبراهيم ، وذكر أن البيت الحرام الذي يتوجه المسلمون إليه من بناء إبراهيم وابنه إسماعيل ، وفيه آيات بينات ، مقام إبراهيم وأمن الناس عنده وفرض الحج إليه على الناس جميعا. ثم وبخهم على كفرهم بآياته بعد هذا كله ، إلى أن قال : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٩).

تثبيت المؤمنين بعد رد مقالاتهم

الآيات [١٠٠ ـ ١٢٠]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) (١٠٠) ، فأخذ يثبّت المؤمنين ويحذرهم من التأثر بمقالاتهم ، وذكر أنهم إن يطيعوهم يردوهم إلى الكفر بعد إيمانهم ، ولا يليق بهم أن يعودوا إلى الكفر بعد هدايتهم. ثم أمرهم أن يتقوه حقّ تقواه فلا يسمعوا لأعدائه ، وأن يعتصموا بحبله جميعا ولا يعودوا إلى ما كانوا عليه من التفرق ، وأن يذكروا نعمته عليهم إذ كانوا أعداء فألّف بينهم ، وأن يجعلوا منهم أمة متحدة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولا تكون كأهل الكتاب الذين ضلّوا فجعلوا يدعون إلى الكفر ، فاستحقوا عذاب الله في يوم تبيضّ فيه وجوه المؤمنين ، وتسودّ وجوه الكافرين ، ثم نوّه بشأن ما يتلوه من هذه الآيات الداعية إلى خير الناس ، وذكر أن له ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور كلها ، ليحاسب الناس على خيرها وشرها.

ثم ذكر أن المؤمنين كانوا بهذه الهداية خير أمة أخرجت للناس ، وأن أهل الكتاب لو آمنوا مثلهم لكان خيرا لهم ، لأن أكثرهم فاسقون يفسدون في الأرض ، ثم ذكر أنهم ضعاف لا يضرونهم إلا بمثل تلك المقالات ، وأن اليهود منهم قد ضربت عليهم الذلة إلا أن يدخلوا في عهدهم ، ثم ذكر أنهم ليسوا في هذا سواء ، لأن منهم قوما انقطعوا لعبادته ، ولم يدخلوا في ما دخل فيه جمهورهم من كفرهم ، وذكر

٢٩

أنه لن يضيع عنده ما يفعلونه من خير ، ثم ذكر أن الكافرين منهم لن تغني عنهم أموالهم شيئا من عذابه ، وأن مثل ما ينفقون في ملاذهم كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فلم تبق منه شيئا.

ثم نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة منهم بعد أن حذّرهم من إطاعتهم ، لأنهم يضمرون لهم العداوة ، ولا يليق بهم أن يحبوهم وهم لا يحبونهم ، وإن تمسسهم حسنة تسؤهم ، وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (١٢٠).

تثبيت المؤمنين بعد أحد

الآيات [١٢١ ـ ١٨٩]

ثم قال تعالى : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٢١) ، فذكر هزيمة المؤمنين في غزوة أحد ، وهي المصيبة التي ذكر أن أهل الكتاب فرحوا بإصابتهم بها ، وقد حاولوا أن يؤثروا بها في إيمانهم ، كما حاولوا أن يؤثروا في هذا الإيمان بمقالاتهم ، فأمرهم أن يذكروا إذ غدا النبي (ص) يبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال ، وإذ همّت طائفتان منهم أن تفشلا في أول القتال بتأثير المنافقين من اليهود والمشركين ، وكان المنافقون قد انهزموا عمدا ليؤثروا فيهم ، ثم ذكر لهم أنّه نصرهم ببدر ، وهم في ذلة وقلة ، والمشركون في عزة وكثرة ، ليخطّئهم في تأثرهم بانهزام المنافقين ، ثم ذكر أنه نصرهم في بدر ليكون بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم به ، وليقطع طرفا من المشركين أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم. فالأمر في ذلك له وحده يتصرف فيهم كما يشاء ، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.

ثم ذكر بعد هذا تحريم الربا على المؤمنين ، لأنه هو الذي كان يصل بينهم وبين اليهود ، فأراد أن يقطع هذه الصلة بينهم بعد أن ظهرت في هذه الغزوة عداوتهم ، لينقذهم من دسائسهم وتحكّمهم فيهم بأموالهم ، ولينهض بهم في هذه المحنة التي حلّت بهم ، وكان اليهود يقرضونهم بالربا الفاحش الذي أفقرهم وأضعفهم ، وقد بدأ بهذا التدبير اهتماما بعد ذكر هذه الغزوة ، ثم أمرهم أن يسارعوا إلى مغفرة تمحو ما حصل

٣٠

من مخالفاتهم فيها ، وتوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، وهم الذين ينفقون في السّرّاء والضّرّاء ، إلى غير ذلك مما ذكره من أوصافهم. ثم ذكر لهم أنه قد حصلت سنن من قبلهم فيما بين المؤمنين والمكذبين انتهت بهلاك المكذبين ، وذكر أن في هذا بيانا وهدى وموعظة لهم ، ونهاهم أن يهنوا ويحزنوا لما أصابهم وهم الأعلون ، وإذا كانوا قد مسّهم قرح في غزوة أحد ، فقد مس المشركين قرح مثله في غزوة بدر ، والأيام دول بين الناس ، ومثل هذا يميز الله به بين المؤمنين الصادقين وغيرهم ، ويتخذ به شهداء يكونون قدوة في الشهادة لمن بعدهم ، وقد كانوا يتمنون الشهادة فقد رأوها في إخوانهم وهم ينظرون. ثم ذكر لهم أن محمدا (ص) ما هو إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ووبخهم على فرارهم إلى المدينة حينما أشيع أنه قد قتل ، وذكر أن كل نفس لها أجل لا يقدمه القتال ولا يؤخره الفرار ، وأن من يرد ثواب الدنيا فيفرّ من القتال يؤته منها ويحرمه ثواب الآخرة ، ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها ولا يحرمه ثواب الدنيا ، ثم ذكر أن كثيرا من الأنبياء قاتل معهم ربّيّون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، فنصرهم الله على أعدائهم ، وآتاهم ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة. ثم أخذ يحذر المؤمنين من إطاعة الكافرين في التأثير عليهم بهزيمتهم ، لأنهم قالوا لهم : لقد وعدكم النصر ولو كان صادقا ما هزمتم. فذكر لهم أنه مولاهم وهو خير الناصرين ، وأنه سيلقي في قلوب الكافرين الرّعب مع انتصارهم في أحد فلا ينتصرون بعده ، وأنه صدقهم وعده في أحد فنصرهم في أول الأمر ، ولم يهزموا إلا بعد أن خالف الرّماة أمره ، فلم يثبت إلا قليل منهم في أماكنهم التي أمروا بالثبات فيها ولو نصروا ، وتركها أكثرهم إلى جمع الغنائم فأخذوا من ورائهم ، ثم ذكر أنهم انهزموا بعد هذا لا يلوون على أحد ولا يسمعون دعاء النبي (ص) لهم بالرجوع إليه ، فأثابهم الله غمّ أحد بدل غم المشركين في بدر ، لكيلا يحزنوا على ما فاتهم ولا ما أصابهم. ثم ذكر أنه بعد هذا ثبّت قلوب الذين ثبتوا مع النبي (ص) فصمدوا للمشركين ، وأن الذين انهزموا أهمتهم أنفسهم وظنوا بالله غير الحق فيما وعدهم به ، وردّدوا ما قاله المنافقون في هزيمتهم ، وما كان ذلك

٣١

منهم إلّا زلة من الشيطان وقد عفا عنهم.

ثم رجع إلى تحذيرهم من أولئك الكافرين ، وكانوا يقولون لهم : لو تركتم الغزو وأقمتم عندنا كما أشرنا عليكم ما متّم وما قتلتم ، فأمر المؤمنين ألا يسمعوا لهم ولا يشاركوهم في مقالهم ، ليكون ذلك حسرة في قلوبهم. وذكر أن كل إنسان يحيا ويموت على حسب ما قدّر له ، وأن من يقتل أو يموت في سبيله ، فله عنده خير من أموالهم التي يحرصون على الحياة من أجلها ، وأنه لا بد من حشر كل من يموت أو يقتل ليلقى جزاءه على ما قدّم.

ثم ذكر أن لين النبي (ص) لهم بعد ما حصل منهم كان بما فطره الله عليه من الرحمة ، وأمره أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ، وأن يستمر في مشاورته لهم وإن أخطئوا في هذه المرة. فإذا عزم بعد المشاورة فليتوكل عليه لأن النصر بيده ، وإذا أراد نصرهم فلا غالب له ، وإذا أراد أن يخذلهم فلا ناصر لهم.

ثم ذكر أنه ما كان لنبي أن يغلّ في الغنائم ويحتجزها لنفسه ، حتى يبادر رماتهم إليها ويكشفوا ظهرهم لعدوهم ، وما يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة ، ثم توفّى كل نفس ما كسبت ولا يكون من غلى كمن لم يغلّ ، لأنه لا يصح أن يكون من اتبع رضوانه بترك الغول كمن غلّ فباء بسخط منه ؛ ثم ذكر أنه قد منّ عليهم بأن بعث فيهم رسولا منهم يطهر هم من الرذائل ويعلمهم ما ينفعهم. ومن هذا شأنه لا يمكن أن يغلّهم في غنائم.

وذكر أنّه يلومهم على استكثارهم لمن قتلوا منهم بعد أن قتلوا أضعافهم من المشركين في بدر ، وقد قالوا في استكثارهم (أنّى هذا) فأجابهم بأنه من عند أنفسهم لما حصل منهم من المخالفات ، وأنه حصل بإذنه ليميز المؤمنين من المنافقين الذين أبوا أن يقاتلوا ، وقالوا فيمن قتل من المسلمين لو أطاعونا ما قتلوا ، وقد أمر النبي (ص) أن يجيبهم بأن يدفعوا عن أنفسهم الموت إن كانوا صادقين في زعمهم أنهم لو أطاعوهم نجوا من القتل ، ثم نهى النبي (ص) والمسلمين أن يحسبوا هؤلاء الشهداء أمواتا ، وذكر أنهم أحياء عنده ، وأنهم فرحون بما آتاهم من فضله ، وأنهم مستبشرون

٣٢

بنجاة إخوانهم الذين ثبتوا في القتال ، واستجابوا للنبي (ص) من بعد ما أصابهم القرح ، وكان قد طلب منهم الذهاب وراء المشركين ، حين بلغه أنهم أرادوا أن يرجعوا إليهم ثانيا ليقضوا عليهم ، فلما علموا أن المسلمين يطلبونهم رجعوا عن عزمهم ، وقد وعدهم على ذلك عظيم الأجر ، وذكر أن بعض الناس ثبطوهم عن طلب المشركين وخوفوهم منهم فلم يسمعوا لهم ، وأنهم مضوا في طلبهم ثم انقلبوا بنعمة منه وفضل ، إلى غير ذلك مما ذكره في أمرهم.

ثم نهى النبي (ص) أن يحزن لمسارعة المنافقين واليهود في مناصرة الكفر ، لأنهم لن يضرّوا الله شيئا ، وإنما يجنون على أنفسهم الحرمان من الثواب في الآخرة ، ولهم فيها عذاب عظيم ، ثم نهاهم أن يحسبوا أن إملاءه لهم خير لأنفسهم ، لأنه إنما يملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين. ثم ذكر أنه ما كان ليترك المؤمنين على ما كانوا عليه حتى يميز الخبيث من الطيب بهذه المحنة ، وأنه ما كان ليطلعهم على غيب القلوب ، ولكنه يجتبي من رسله من يشاء للاطّلاع على ذلك الغيب ، فيجب عليهم أن يؤمنوا بما يخبرونهم به من أسرارهم. ثم نهى الذين يبخلون من المنافقين بالجهاد بأموالهم أن يحسبوه خيرا لهم ، لأنهم سيطوّقون ما بخلوا به في آخرتهم. وذكر أن ميراث السماوات والأرض من أموالهم وغيرها له دون غيره ، فلا يصح لهم أن يبخلوا بها عليه. ثم ذكر أنه سمع ما تهكم به اليهود منهم حين طلبوا إلى بذل أموالهم (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [الآية ١٨١] ، وأنه سيكتب ما قالوا من ذلك وما حصل منهم قديما من قتل الأنبياء بغير حق ، ثم يذيقهم عليه في الآخرة عذاب الحريق ، ثم ذكر أنهم تعللوا في ذلك بأنه عهد إليهم ألّا يؤمنوا ويجاهدوا إلا مع رسول يأتيهم بقربان تأكله نار تنزل من السماء ، وكذبهم في ما تعللوا به بأنهم قد جاءتهم رسلهم بذلك فكذبوهم وقتلوهم. ثم ذكر أنهم إذا كذّبوه فليس هو بأول من كذّب من الرسل ، فقد كذّب رسل من قبله جاءوا بالمعجزات والكتب والكتاب المنير ، ثم هدّدهم بأن كل نفس ذائقة الموت ، وإنما يوفّون أجورهم يوم القيامة ، فالفائز من فاز في ذلك اليوم ، ولا قيمة للحياة الدنيا التي يحرصون عليها.

٣٣

ثم ذكر للمؤمنين أنهم سيختبرون في أموالهم وأنفسهم بالجهاد بعد أحد ، وأنهم سيسمعون من أهل الكتاب والمنافقين أذى كثيرا كما سمعوا في هذه الغزوة ، وأنهم ، إذا صبروا على ذلك وداروهم ، فإن ذلك من عزم الأمور ، وصواب التدبير. ثم ذكر لأهل الكتاب أنه قد أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا ما عندهم من البشارات بالنبي المنتظر ، ثم نهى النبيّ (ص) أن يحسب الذين يفرحون منهم بما أوتوا من التلبيس والكيد للمسلمين ويحبون مع هذا أن يحمدوهم بمفازة من عذاب الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب أليم (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩).

الخاتمة

الآيات [١٩٠ ـ ٢٠٠]

ثم قال تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٠). فختم السورة بالتنويه بالمؤمنين بعد أن انتهى من المعاندين من أهل الكتاب والمنافقين ، فذكر أن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب من المؤمنين. وهم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ، إلى غير هذا مما ذكره من أفعالهم وأقوالهم. ثم ذكر ما وعدهم به أن يكفّر عنهم سيئاتهم ، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عنده ، وذكر ما أوعد به أولئك الكافرين على غرورهم بدنياهم وترك التفكر في آياته ، وأنهم يتمتعون بذلك قليلا ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. ثم عاد إلى وعد المؤمنين فذكر أن لهم من تلك الجنات نعيما خالدا لا يزول ، وذكر أن من أهل الكتاب الذين لم يقعوا في ذلك الغرور من هو مثل أولئك المؤمنين في إيمانهم وخشوعهم ، وأن لهم أيضا أجرهم في آخرتهم ، ثم ختم ذلك بأمر المؤمنين بالصبر على ما بيّنه من الأذى في هذه السورة فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠).

٣٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «آل عمران» (١)

قد تقدم ما يؤخذ منه مناسبة وضعها.

قال الإمام : لما كانت هذه السورة قرينة سورة البقرة ، وكالمكملة لها ، افتتحت بتقرير ما افتتحت به تلك ، وصرّح في منطوق مطلعها بما طوي في مفهوم تلك (٢).

وأقول : قد ظهر لي بحمد الله وجوه من المناسبات.

أحدها : مراعاة القاعدة التي قررتها ، من شرح كل سورة لإجمال ما في السورة التي قبلها ، وذلك هنا في عدة مواضع.

منها : ما أشار إليه الإمام ، فإن أول البقرة افتتح بوصف الكتاب بأنه لا ريب فيه. وقال في آل عمران : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الآية ٣]. وذلك بسط وإطناب ، لنفي الريب عنه.

ومنها : أنه ذكر في البقرة إنزال الكتاب مجملا ، وقسمه هنا إلى آيات محكمات ، ومتشابهات لا يعلم تأويلها إلا الله (٣).

ومنها : أنه قال في الآية ٤ من سورة البقرة : (وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) ، وقال هنا : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). مفهوم مطلع البقرة : الدعوة إلى الإيمان بالله في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة / ٣]. وهو مصرح به في مطلع هذه السورة بقوله جلّ وعلا : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٢).

(٣). وذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [الآية ٧].

٣٥

هُدىً لِلنَّاسِ) مفصلا. وصرح بذكر الإنجيل هنا ، لأن السورة خطاب للنصارى ، ولم يقع التصريح به في سورة البقرة بطولها ، وإنما صرح فيها بذكر التوراة خاصة ، لأنها خطاب لليهود.

ومنها : أن ذكر القتال وقع في سورة البقرة مجملا بقوله المكرر في الآيتين ١٩٠ و ٢٤٤ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وقوله في الآية ٢١٦ : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ). وفصلت هنا قصة أحد بكاملها (١).

ومنها : أنه أوجز في الآية ١٥٤ من سورة البقرة ذكر المقتولين في سبيل الله بقوله : (أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) وزاد هنا : (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ـ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) (١٦٩). وذلك إطناب عظيم.

ومنها : أنه قال في البقرة : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) [الآية ٢٤٧]. وقال هنا : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٦) ، فزاد إطنابا وتفصيلا.

ومنها : أنه حذر من الربا في البقرة ، ولم يزد على لفظ الربا إيجازا (٢). وزاد هنا قوله : (أَضْعافاً مُضاعَفَةً) [الآية ١٣٠] ، وذلك بيان وبسط.

ومنها : أنه قال في البقرة : (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) [الآية ١٩٦] ، وذلك إنما يدل على الوجوب إجمالا. وفصله هنا بقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [الآية ٩٧] ، وزاد : بيان شرط الوجوب بقوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [الآية ٩٧]. ثم زاد : تكفير من جحد وجوبه بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧).

ومنها : أنه قال في البقرة في أهل الكتاب : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) [الآية ٨٣] ، فأجمل القليل. وفصله هنا بقوله : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ

__________________

(١). وذلك في قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ ، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) [الآية ١٥٢] إلى (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (١٥٨).

(٢). وذلك في قوله تعالى من «البقرة» : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [الآية ٢٧٥] ، وقوله منها : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [الآية ٢٧٦].

٣٦

أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ) (١١٣).

ومنها : أنه قال في البقرة : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) (١٣٩). فدل بها على تفضيل هذه الأمة على اليهود تعريضا لا تصريحا ، وكذلك قوله في سورة البقرة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [الآية ١٤٣]. في تفضيل هذه الأمة على سائر الأمم بلفظ فيه يسير إبهام ، وأتى في هذه بصريح البيان فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [الآية ١١٠]. فقوله : (كُنْتُمْ) ، أصرح في قدم ذلك من جعلناكم. ثم زاد وجه الخيرية بقوله : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [الآية ١١٠] (١).

ومنها : أنه قال في البقرة : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) [الآية ١٨٨]. وبسط الوعيد هنا بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) [الآية ٧٧]. وصدّره بقوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [الآية ٧٥].

فهذه عدة مواضع وقعت في البقرة مجملة ، وفي آل عمران مفصّلة.

الوجه الثاني : أن بين هذه السورة وسورة البقرة اتحادا ، وتلاحما مؤكّدا ، لما تقدم من أن البقرة بمنزلة إزالة الشبهة ، ولهذا تكرر هنا ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب : من إنزال الكتاب ، وتصديقه للكتب التي قبله ، والهدى إلى الصراط

__________________

(١). ومن الربط الوثيق بين الفاتحة والبقرة وآل عمران : أن الصراط المستقيم ذكر مجملا في الفاتحة ، ثم عينه في الآية الثاني من البقرة بقوله : (ذلِكَ الْكِتابُ). ثم عين طريق السير عليه في آل عمران بقوله : (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٠١).

ثم فصل وسيلة الاعتصام بالله ، بالاعتصام بحبل الله ، فلما كان الصراط المستقيم دقيقا جدا ، ويحتاج السائر عليه الى غاية اليقظة ، حث الله على الاعتصام بكتاب الله ، وسماه حبلا ليناسب الصراط الدقيق ، حيث يحمى السائر عليه من الزلل. وحذر من الفرقة ، ودعا الى التذكير الدائم عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعتبر بمثابة التعليم الدائم ، وتصحيح الأخطاء الناشئة عن الهوى. وانظر لزيادة البيان (نظم الدرر للبقاعي الجزء الأول ورقة : ١١٧٧ ، ب).

٣٧

المستقيم (١). وتكررت في البقرة آية : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ) [الآية ١٣٦] بكمالها ، ولذلك أيضا ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك ، أو لازم في تلك ، أو ملازم له.

فذكر هناك خلق الناس ، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام (٢). وذكر هناك مبدأ خلق آدم ، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده (٣). وألطف من ذلك : أنه افتتح البقرة بقصة آدم حيث خلقه من غير أب ولا أم ، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب ، وهو عيسى (ع) (٤) ، ولذلك ضرب له المثل بآدم ، واختصت البقرة بآدم ، لأنها أول السور ، وآدم أول في الوجود وسابق ، ولأنها الأصل ، وهذه كالفرع والتتمة لها ، فمختصة بالإعراب [والبيان].

ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا ، وأنكروا وجود ولد بلا أب ، ففوتحوا بقصة آدم ، لتثبت في أذهانهم ، فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشبهها من جنسها.

ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم في قوله : (كَمَثَلِ آدَمَ) [الآية ٥٩]. والمقيس عليه لا بد من أن يكون معلوما ، لتتم الحجة بالقياس ، فكانت قصة آدم والسورة التي هي فيها جديرة بالتقدم.

ومن وجوه تلازم السورتين : أنه قال في البقرة في صفة النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [الآية ٢٤] ، ولم يقل في الجنة : أعدت للمتقين مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا (٥) ، وقد ورد ذلك في سورة آل عمران بقوله جل وعلا : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٣). فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة.

__________________

(١). وذلك قوله سبحانه وتعالى في أول آل عمران : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

(٢). وذلك قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الآية ٦].

(٣). خلق آدم في البقرة في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [الآية ٣٠] وخلق أولاده في آل عمران في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) [الآية ٦].

(٤). وذلك قوله عزوجل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٥٩).

(٥). وذلك قوله تعالى في البقرة : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٦).

٣٨

وبذلك يعرف أن تقديم آل عمران على النساء أنسب من تقديم النساء عليها.

وأمر آخر استقرأته ، وهو : أنه إذا وردت سورتان بينهما تلازم واتحاد ، فإن السورة الثانية تكون خاتمتها مناسبة لفاتحة الأولى للدلالة على الاتحاد. وفي السورة المستقلة عما بعدها يكون آخر السورة نفسها مناسبا لأولها. وآخر آل عمران مناسب لأول البقرة ، فإنها افتتحت بذكر المتقين ، وأنهم المفلحون ، وختمت آل عمران بقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الآية ٢٠٠].

وافتتحت البقرة بقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) [الآية ٤] وختمت آل عمران بقوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) [الآية ١٩٩]. ف لله الحمد على ما ألهم.

وقد ورد أنه لما نزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة / ٢٤٥].

قال اليهود : يا محمد ، افتقر ربّك ، فسأل القرض عباده ، فنزل قوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [الآية ١٨١] (١). فذلك أيضا من تلازم السورتين.

ووقع في البقرة حكاية عن إبراهيم : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) [الآية ١٢٩]. ونزل في هذه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ) [الآية ١٦٤]. وذلك أيضا من تلازم السورتين.

__________________

(١). أخرجه ابن جرير في التفسير : ٧ / ٤٤٢ ، وعزاه الى ابن أبي سلم وابن مردويه.

٣٩
٤٠