الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «النساء» (١)

قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) [الآية ١٠].

استعارة. وقد مضى الكلام على نظيرها في البقرة. والمعنى أنهم لما أكلوا المال المؤدي إلى عذاب النار شبّهوا ، من هذا الوجه ، بالآكلين من النار.

وقوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) [الآية ١٥].

استعارة لأن المتوفي ملك الموت فنقل الفعل إلى الموت على طريق المجاز والاتساع ، لأن حقيقة التوفي هي قبض الأرواح من الأجسام.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) [الآية ٣٣].

استعارة. والمراد بها والله أعلم : «أن من عقدتم بينكم وبينه عقدا ، فأدوا إليه ما يستحقه بذلك العقد عليكم» ، وإنما نسب المعاقدة إلى الأيمان على عادة العرب في ذلك. يقول قائلهم : أعطاني فلان صفقة يمينه على كذا ، وأخذت يد فلان مصافحة على كذا ، وعلى هذا النحو أيضا إضافة الملك إلى الأيمان في قوله تعالى : (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [الآية ٣٦] لأن الإنسان في الأغلب إنما يقبض المال المستحق بيمينه ويأخذ السلع المملوكة بيده.

وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [الآية ٤٦].

وهذه استعارة. والمراد بها ، والله

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٠١

أعلم ، أنهم يعكسون الكلام على حقائقه ، ويزيلونه عن جهة صوابه ، حملا له على أهوائهم وعطفا على آرائهم.

وقوله تعالى : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ) [الآية ٤٦].

استعارة أخرى. والمراد بها يميلون بكلامهم إلى جهة الاستهزاء بالمؤمنين ، والوقيعة في الدين.

وقوله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [الآية ٤٧].

وهذه استعارة. وهي عبارة عن مسخ الوجوه ؛ أي يزيل تخاطيطها ومعارفها ، تشبيها بالصحيفة المطموسة التي عمّيت سطورها وأشكلت حروفها.

وقوله تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) [الآية ٧٧].

استعارة. والمراد بها تخسيس قدر ما يصحب الإنسان في الدنيا ، وأن المتعة به قليلة والشوائب له كثيرة.

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ) [الآية ٧١].

استعارة ومجاز لأن الحذر لا يؤخذ على الحقيقة ، وإنما يصح الأخذ على ما يتأتى إمساكه بالأيدي من الأجسام ، كالأسلحة المتعاطاة والآلات المستعملة ، وما يجري مجرى ذلك ، والمراد ، والله أعلم : «تمسّكوا بالحذر وأديموا استشعاره ، كما تتمسكون بالشيء الذي تشتمل عليه أكفكم ، وتتعلق به أناملكم».

وقوله تعالى : (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ) [الآية ٩٠].

استعارة. والمراد بها صفة صدورهم بالضيق عن القتال ؛ وذلك مأخوذ من الحصار وهو تضييق المذهب والمنع من التصرف.

وقوله تعالى : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) [الآية ٩٠].

وهذه استعارة وحقيقتها : «إن طلبوا منكم المسالمة وسألوكم الموادعة» ، وفي قوله تعالى : (وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) عبارة عن طلبهم السلم عن ذل واستكانة وخضوع وضراعة.

وقوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [الآية ١٢٨].

وهذه استعارة وليس المراد أنّ محضرا أحضر الأنفس شحّها ، ولكنّ الشّحّ ، لما كان غير مفارق لها ، ولا متباعدا عنها ، كان كأنه قد أحضرها ، وحمل على ملازمتها ، ومثل ذلك.

٢٠٢

سورة المائدة

(٥)

٢٠٣
٢٠٤

المبحث الأول

أهداف سورة «المائدة» (١)

١ ـ تاريخ النزول

نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح ، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

ونلحظ أن سورة المائدة من أواخر ما نزل من السور بالمدينة ، فقد روي عن السيدة عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إن المائدة من آخر ما أنزل الله ، فما وجدتم فيها من حلال فأحلّوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه.

والمتأمّل يرى أن السورة قد امتد نزول آياتها خلال السنوات الأربع الأخيرة من حياة الرسول (ص) بالمدينة. فقد ابتدأ نزولها في السنة السابعة للهجرة ، وفيها آية نزلت في حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة قبل وفاة النبي (ص) بثمانين يوما وهي قوله تعالى :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣).

وفي كتب التفسير أن سورة المائدة نهارية كلها أي نزلت آياتها جميعها نهارا. مدنية كلها إلا قوله تعالى :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [الآية ٣] فإنها نزلت بعرفة.

وعدد آيات سورة المائدة : ١٢٠ آية ، وعدد كلماتها : ٢٨٠٤ كلمات.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٠٥

٢ ـ قصة التسمية

سميت سورة المائدة بهذا الاسم ، لأنها السورة الوحيدة التي تحدثت عن مائدة طلب الحواريون من عيسى عليه‌السلام أن يسألها ربه. وذلك في قوله تعالى :

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ) (١١٣).

والحواريون هم خلصاء عيسى عليه‌السلام الذين صغت قلوبهم من الكفر والنفاق وبادروا إلى الإيمان بعيسى وتلقوا عنه التعاليم ثم انتشروا في القرى لبثّها بين الناس.

المائدة

تكلّم العلماء على المائدة التي سألها الحواريون عيسى : هل نزلت أم لا؟ وجمهور المفسرين منعقد على أنها نزلت بالفعل. وقد تعددت الروايات بعد ذلك عن أوصافها وما احتوت عليه من ألوان الطعام والشراب. وحسبك أن ترجع إلى أي تفسير من كتب التفاسير المتداولة لتقرأ في أوصافها وأوصاف ما وضع عليها الشيء الكثير ، مما يجعلك ترجح أن كثيرا مما ورد في أوصاف هذه المائدة إنما هو من افتراء المفترين أو أساطير الإسرائيليين.

وألفاظ القرآن الصريحة تفيد أن عيسى (ع) طلب من ربه أن ينزل مائدة من السماء تكون كافية لقومه جميعا ، وتكون عيدا وسعادة لأول قومه وآخرهم. والمائدة طعام ورزق ، وكل طعام ورزق إنما هو من عند الله. وقد وعد الله أن ينزّلها عليهم. ولم يذكر القرآن : هل كانت بمفهومها الضيق كما طلبها الحواريون ، أو بمفهومها المطلق ، كما قد يريده الله ، ويفهمه عيسى والحواريون ، فيكون حينئذ وعدا بنعمة من الله عليهم ، طعاما ورزقا ، يشمل أولهم وآخرهم ، وترجمة للمفهوم الضيق ، الذي أرادوه للمائدة ، بمفهوم أوسع ، قد يشمل الطعام ، وسواه من الرزق ، ليكون ذلك ابتلاء وفتنة ، لأتباع المسيح (ع) بوجه عام.

والله أعلم بما كان مما سكت عنه القرآن ، وليس لنا من مصدر آخر نستفتيه ، واثقين ، في مثل هذه الشؤون ، أنه ليس سوى رأي نبديه ،

٢٠٦

بجوار آراء السلف ، عليهم رضوان الله.

٣ ـ ظواهر تنفرد بها

سورة المائدة

تنفرد سورة المائدة بجملة من الظواهر لا نكاد نجد شيئا منها في غيرها من السور ، حتى في أطول سور القرآن وهي البقرة ، ذلك أنها لم تتحدث عن الشرك ، ولا عن المشركين ، على النحو الذي ألف في القرآن : من محاجتهم ، وتسفيه أحلامهم ، وتحقير شركائهم ؛ وأنها لم تعرض ، في قليل ولا في كثير ، لما عهد في أكثر السور المدنية ، التي نزلت قبلها ، من الحث على القتال ، والتحريض عليه ، ورسم خطط النصر والظفر بأعداء الله المشركين ، كما نراه في سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والأنفال ، والتوبة ، لأن المسلمين في ذلك الوقت ، لم يكونوا بحاجة إلى شيء من هذا الحديث ، لقد اندحر الشرك وصار المشركون في قهر وذلة ويأس.

ولكن إذا كان المشركون قد انقضى عهدهم ، والمسلمون قد علا شأنهم ، فإنّ المسلمين في حاجة إلى إكمال التشريع المنظم لشئونهم ، على وجه يضمن لهم دوام السعادة ، ويحفظ لهم السيادة ، ولهم بعد ذلك صلات خاصة بطوائف من أهل الكتاب ، يعيشون في ذمتهم وعهدهم ، ويخالطونهم في حياتهم ومعاملاتهم ، ومن هنا نتبين أن المسلمين ، في ذلك الوقت ، كانوا في حاجة إلى ما يعنيهم في الجانبين : جانب أنفسهم ، وجانب علاقتهم بأهل الكتاب ، وبذلك دار كل ما تضمنته سورة المائدة ، على أمرين بارزين : تشريع المسلمين في خاصة أنفسهم وفي معاملة من يخالطون ، وإرشادات لطرق المحاجة والمناقشة ، وبيان الحق في المزاعم التي كان يثيرها أهل الكتاب ، مما يتصل بالعقائد والأحكام ، وفي سياق هذه المحاجة ، تعرض السورة لكثير من مواقف الماضين ، من أسلاف أهل الكتاب ، مع أنبيائهم تسلية للنبي (ص) من جهة ، وتنديدا بهم عن طريق أسلافهم ، من جهة أخرى.

٤ ـ تشريع القرآن

نزل القرآن على رسول الله (ص) لينشئ به أمة وليقيم به دولة ولينظم به

٢٠٧

مجتمعا ، وليربي به ضمائر وأخلاقا وعقولا وليربط ذلك كله برباط قوي يجمع متفرقه ، ويؤلف أجزاءه ويشدها كلها إلى منزل هذا القرآن ، وإلى خالق الناس الذي أنزل لهم هذا القرآن.

ومن ثم نجد في كثير من سور القرآن تشريعا إلى جانب موعظة ، وقصة إلى جانب فريضة ، ونجد التشريع الذي ينظم العلاقات الاجتماعية والدولية ، الى جانب التشريع الذي يحل ويحرم ألوانا من الطعام أو ألوانا من السلوك والأعمال.

وهذه السورة ، سورة المائدة ، مثل لتلك السور التي تلتقي فيها التربية الوجدانية بالتربية الاجتماعية بتشريع الحلال والحرام في الطعام والزواج ، بتشريع المعاملات الدولية في ما بين المسلمين وغير المسلمين ، بتعليم بعض الشرائع التعبّدية ببيان الحدود والعقوبات في بعض الجرائم الاجتماعية بالمثل والموعظة والقصّة ، بتصحيح العقيدة وتنقيتها من الأسطورة والخرافة في تناسق واتساق.

٥ ـ الوفاء بالعقود

تبدأ سورة المائدة بنداء إلهي للمؤمنين أن يوفوا بالعقود فتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [الآية ١].

والعقود جمع عقد ، وهو ما يلتزمه المرء لنفسه ، أو لغيره ، وأساسه قد يكون شيئا فطريا تدعو إليه الطبيعة ، وقد يكون شيئا تكليفيا تدعو إليه العقيدة ، وقد يكون شيئا عرفيا يدعو اليه الالتزام والتعاهد ، والعقد العرفي ، أي المتعارف عليه لدى عامة الناس ، يكون بين الفرد والفرد ، كما في البيع والزواج ، والشركة ، والوكالة ، والكفالة ، إلى آخر ما تعارفه الناس ويتعارفون عليه من وجوه الاتفاقات ، والكلمة في الآية عامّة تأمر بالوفاء بالعقود ، فتشمل العقود كلها على اختلاف أنواعها وأشكالها ، وتدخل في العقود والمعاملات ، والمعاهدات ، بظاهر اللفظ ، كما تدخل في إقامة الحدود ، وتحريم المحرّمات ، بوصفها داخلة في عقد الإسلام ، بين الله ورسوله ، والذين آمنوا بالله ورسوله.

وعلى وجه العموم ، فإننا نجد سياق السورة كله يدور حول العقود والمواثيق ، في شتى صورها ، حتى حوار الله والمسيح يوم القيامة ، الوارد في نهاية السورة ، نجده سؤالا عمّا عهد

٢٠٨

به اليه ، وعما إذا كان قد خالف عنه ، كما زعم الزاعمون بعده.

٦ ـ الظروف التي نزلت فيها السورة

نزلت سورة المائدة ، بعد أن قلّمت أظفار المشركين ، وانزوى الشرك في مخابئه المظلمة ، وصار المسلمون في قوة ومنعة ، كانوا بها أصحاب السلطان والصولة ، في مكة وفي بيت الله الحرام ، يحجون آمنين مطمئنين ، وقد نكّست أعلام الشرك ، وانطوت صفحة الإلحاد والضلال ، وقد أتمّ الله نعمته على المسلمين بفتح مكة ، ودخول الناس في دين الله أفواجا.

وسورة المائدة ، وإن ابتدأ نزولها في السنة السابعة ، الا أنّ هذا النزول قد استمر إلى السنة العاشرة ، بدليل أن فيها آية من آخر ما نزل من القرآن وهي قوله تعالى :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [الآية ٣].

روي أن رجلا من اليهود ، جاء إلى عمر رضي الله عنه فقال : إن في كتابكم آية تقرأونها ، لو علينا أنزلت ، معشر اليهود ، لاتخذنا اليوم الذي أنزلت فيه عيدا ، قال عمر : وأي آية؟ قال :

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [الآية ٣].

فقال عمر : إني والله لأعلم اليوم الذي أنزلت فيه ، والساعة التي نزلت فيها ، نزلت على رسول الله (ص) عشية عرفة في يوم الجمعة ، والحمد لله الذي جعله لنا عيدا.

وقد روي أن النبي (ص) قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال :

«يا أيّها النّاس إنّ سورة المائدة آخر ما نزل فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها».

٧ ـ أفكار السورة وأحكامها

انفردت سورة المائدة بعدّة مسائل ، في أصول الدين وفروعه ، وبتفصيل عدة أحكام ، أجملت في غيرها إجمالا ، ومن هذه الأحكام ما يأتي :

١ ـ بيان إكمال الله تعالى للمؤمنين دينهم ، الذي ارتضى لهم ، بالقرآن وإتمام نعمته عليهم بالإسلام.

٢ ـ النهي عن سؤال النبي (ص) عن أشياء من شأنها أن تسوء المؤمنين إذا أبديت لهم ، لما فيها من زيادة التكاليف.

٢٠٩

٣ ـ بيان أن هذا الدين الكامل مبني على العلم اليقيني في الاعتقاد ، والهداية في الأخلاق والأعمال ، وأن التقليد باطل لا يقبله الله تعالى.

٤ ـ بيان أن أصول الدين الإلهي ، على ألسنة الرسل كلهم ، هي الإيمان بالله ، واليوم الآخر ، والعمل الصالح ، فمن أقامها كما أمرت الرسل من أي ملة ، من ملل الرسل كاليهود والنصارى والصابئين ، فلهم أجرهم عند ربهم ، ولا خوف عليهم في الآخرة ، ولا هم يحزنون.

٥ ـ وحدة الدين واختلاف شرائع الأنبياء ومناهجهم فيه.

٦ ـ هيمنة القرآن على الكتب الإلهية.

٧ ـ بيان عموم بعثة النبي (ص) وأمره بالتبليغ العام ، وكونه لا يكلّف من حيث كونه رسولا إلا التبليغ ، وأن من حجج رسالته أنه بيّن لأهل الكتاب كثيرا مما كانوا يخفون من كتبهم ، وهو قسمان : قسم ضاع منهم قبل بعثة النبي (ص) ، وقسم كانوا يكتمونه اتّباعا لأهوائهم ، مع وجوده في الكتاب كحكم رجم الزاني ، ولو لا أن محمدا الأمين (ص) مرسل من عند الله ، لما علم شيئا من هذا ولا ذاك.

٨ ـ عصمة الرسول (ص) من أذى الناس ، وهذا من دلائل نبوته (ص) ، فكم حاولوا قتله ، فأعياهم وأعجزهم.

٩ ـ بيان أن الله أوجب على المؤمنين إصلاح أنفسهم ، أفرادا وجماعات ، وأنه لا يضرهم من ضل من الناس ، إذا هم استقاموا على صراط الهداية.

١٠ ـ تأكيد وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، بما بينه الله تعالى من لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ، على لسان داود وعيسى بن مريم ، وتعليله ذلك ، بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

١١ ـ نفي الحرج من دين الإسلام.

١٢ ـ تحريم الغلوّ في الدين ، والتشدد فيه ، ولو بتحريم الطيبات ، وترك التمتّع بها.

١٣ ـ قاعدة إباحة المحرّم للمضطر ، ومنه أخذ الفقهاء قولهم : الضرورات تبيح المحظورات.

١٤ ـ قاعدة التفاوت بين الخبيث والطيب ، وكونهما لا يستويان في الحكم ، كما أنهما لا يستويان في أنفسهما ، وفيما يترتب عليهما.

٢١٠

١٥ ـ تحريم الاعتداء على قوم ، بسبب بغضهم وعداوتهم ، لأنه يجب على المؤمنين أن يلتزموا الحق والعدل.

١٦ ـ وجوب الشهادة بالقسط ، والحكم بالعدل ، والمساواة فيهما بين غير المسلمين كالمسلمين ، ولو للأعداء على الأصدقاء ، وتأكيد وجوب العدل في سائر الأحكام والأعمال.

١٧ ـ الحياة شركة ذات أطراف ، لا يجوز أن يجور فيها طرف على طرف.

١٨ ـ التعاون على البرّ والتقوى ، بما له من وسائل وسبل ، حسب الزمان والمكان ، ومنه تأليف الجمعيات الخيرية والعلمية ، وتحريم التعاون على الإثم والعدوان.

١٩ ـ بيان أن الله تعالى ، جعل الكعبة البيت الحرام قياما للناس ، أي يقوم عندها أمر دينهم ودنياهم ، فعندها يؤدّى الحج والعمرة ، وعندها يكون الإحرام ، والأمان ، والسلام ، ولها يتوجه المسلمون في الصلاة. فهي رمز للوحدة والأخوّة والإيمان.

٢٠ ـ النهي عن موالاة المؤمنين للكافرين.

٢١ ـ تفصيل أحكام الوضوء والغسل والتيمّم ، مع بيان أن الله تعالى يريد أن يطهّر الناس ، ويزكيهم بما شرع لهم ، من أحكام الطهارة وغيرها.

٢٢ ـ تفصيل أحكام الطعام ، وبيان حرامه وحلاله. وما حرم منه لكونه خبيثا في ذاته كالميتة وما في معناها ، والخنزير ، وما حرم لسبب ديني ، كالذي يذبح لأصنام.

٢٣ ـ تحريم الخمر ، وهو كل مسكر ، وتحريم الميسر ، وهو القمار.

٢٤ ـ بيان محظورات الإحرام في الحج.

٢٥ ـ تفصيل أحكام الصيد للمحرمين وغيرهم ، في أوائل السورة وأواخرها.

٢٦ ـ حدود المحاربين الذين يفسدون في الأرض ، ويخرجون على أئمة العدل ، وحد السرقة وما يتعلق بالحد ، كسقوطه بالتوبة الصادقة.

٢٧ ـ أحكام الأيمان وكفارتها.

٢٨ ـ تأكيد أمر الوصيّة قبل الموت ، وأحكام الشهادة على الوصية.

٢٩ ـ الأمر بالتقوى في عدة آيات من السورة.

٢١١

٣٠ ـ بيان تفويض أمر الجزاء في الآخرة إلى الله تعالى وحده.

٨ ـ النداءات الإلهية للمؤمنين

اشتملت سورة المائدة على ستة عشر نداء وجهت للمؤمنين خاصة ، وكل نداء منها يعدّ قانونا ينظم ناحية من نواحي الحياة عند المسلمين تختص بأنفسهم ، وتختص بعلاقتهم بأهل الكتاب.

فالنداء الأول : يطلب الوفاء بالعقود :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [الآية ١].

والنداء الثاني : يطلب المحافظة على شعائر الله وعدم إحلالها :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [الآية ٢].

والنداء الثالث : يطلب الطهارة حين القيام إلى الصلاة :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [الآية ٦].

والنداء الرابع : يطلب القوامية لله والشهادة بالعدل ويحذر من الظلم. والنداء الخامس : يطلب تذكر نعمة الله على المؤمنين بكفّ أيدي الأعداء عنهم. والنداء السادس : يدعو الى تقوى الله وابتغاء الوسيلة إليه والجهاد في سبيله. والنداء السابع : يحذّر من اتخاذ الأعداء أولياء من دون المؤمنين. والنداء الثامن : يلفت نظر المؤمنين إلى أن المسارعة في موالاة الأعداء ردة عن الدين. والنداء التاسع : يدعو إلى شدة الحذر من موالاة الأعداء. والنداء العاشر : يذكر تحريم الطيبات التي أحلها الله. والنداء الحادي عشر : يحرّم الخمر والميسر. والنداءان الثاني عشر والثالث عشر : يتعلّقان بتحريم قتل الصيد في حالة الإحرام. والنداء الرابع عشر : يتعلق بالنهي عن سؤال ما ترك الله بيان حكمه توسعة على عباده :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [الآية ١٠١].

والنداء الخامس عشر : يتعلّق بتحديد المسؤولية التي يحملها المؤمنون في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والنداء السادس عشر : يتعلّق بكيفية الشهادة على الوصيّة في حالة السفر.

٢١٢

وجملة هذه النداءات تربية عملية للمؤمنين ، وبيان للطريق السوي التي يجب اتباعها في الشعائر والعبادات والمعاملات والمعاهدات. والنداء للمؤمنين بصفة الايمان تذكير لهم بأن عليهم أن يعملوا بمقتضى هذا الإيمان ، وقوامه التصديق الباطني بوجود الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه.

الأمر بالتقوى :

حثّ القرآن على تقوى الله وطاعته وذيّل كثيرا من أحكامه ببيان شأن التقوى ، وأهميّتها ، وفي النداء السادس من سورة المائدة حثّ على تقوى الله والتماس الأسباب المساعدة على هذه التقوى فيقول سبحانه :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣٥).

وتقوى الله هي تقدير العظمة الإلهية وامتلاء النفس بها امتلاء يدفع المؤمن إلى المسارعة وشدة الحرص على تحقيق أوامر الله وتشريعاته. والتقوى تدفع المؤمن إلى إنعام النظر وقوّة التفكير في ملكوت السماوات والأرض لمعرفة أسرار الله في كونه ، وسنّته في خلقه ، ثم الاتجاه إلى هذه الأسرار والعمل على إظهار رحمة الله فيها بعباده والوقوف على السنن التي ربط بها بين الأسباب والمسبّبات بين السعادة وأسبابها والشقاء وأسبابه ، بين العلم وأسبابه والغنى وأسبابه والعزة وأسبابها ... وهكذا.

وبذلك ترى أن التقوى هي ذلك المعنى القلبي الذي تفنى به الإرادات الإنسانية في ملكوت العظمة الإلهية ، وهي الباعث على امتثال الأوامر واجتناب النواهي ، وهي المحقّقة للإحسان في طاعة الله ورسوله ، فهي المبدأ ، وهي المنتهى ، وهي الأولى ، وهي الآخرة.

٩ ـ أهل الكتاب

أرسل الله محمدا (ص) على حين فترة من الرسل ، بعد أن درست معالم الحق والفضيلة ، وبعد أن ضيّع أهل الكتاب بعض تعاليمه ، وأخفوا بعضه ونقضوا ميثاقهم مع ربهم.

وقد واجهتهم سورة المائدة بأخطائهم ، فوصفتهم بالتعصب المقيت ، والغلوّ في الدين ، واتباعهم أهواء من ضل قبلهم من الوثنيين وغيرهم ، وادعائهم أنهم أبناء الله

٢١٣

وأحباؤه. وقد بيّن الله لهم حقيقة الأمر ، وهي أنّهم بشر ممن خلق الله ، لا مزية لهم على سائر البشر ، في أنفسهم وذواتهم ، إنما يمتاز بعضهم على بعض بالعلوم الصحيحة ، والأخلاق الكريمة ، والأعمال الصالحة ، لا بالنسب والانتماء ، إلى الأنبياء والصالحين ، وصدق القائل :

كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول ها أنذا ليس الفتى من يقول كان أبي وقد وجّه الله الخطاب لأهل الكتاب عامة ، بأن الرسول (ص) ، قد جاء ليكشف لهم عن كثير مما كانوا يخفونه ، من كتاب الله الذي استحفظوا عليه ، فنقضوا عهدهم مع الله فيه ، ويعفو عن كثير مما أثقلهم به الله من تكاليف ، وحرمه عليهم من طيبات ، عقابا لهم على مخالفتهم وانحرافاتهم.

فالفرصة إذن سانحة ليتداركوا ما فات ولينجوا مما كتب عليهم في الدنيا والآخرة عقابا لهم على الخلاف والأخلاف :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦).

وتوالى نداء القرآن لأهل الكتاب ليقطع حجّتهم ومعذرتهم أن يقولوا : إن فترة كبيرة مرت عليهم ، لم يأتهم فيها بشير يقربهم إلى الله ، أو نذير يخوفهم الانحراف ، فها هو ذا بشير ونذير :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٩).

وقد وصفت سورة المائدة التوراة والإنجيل أحسن وصف ، وذكرت من أخبار التوراة قصّة ابني آدم بالحق ، ومن أحكامها عقوبات القتل وإتلاف الأعضاء والجروح ومن أخبار الإنجيل والمسيح ، ما هو حجّة على الفريقين وبينت أن الكتابين أنزلا نورا وهدى للناس وأنهم لو كانوا أقاموهما لكانوا في أحسن حال ، ولسارعوا إلى الإيمان

٢١٤

بما أنزله الله على خاتم رسله مصدقا لأصلهما ، ولكنهم اتخذوا الإسلام هزوا ولعبا ، في جملته ، وفي عبادته ، ووالوا عليه المناصبين له من أعدائه ، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم.

١٠ ـ اليهود

ناقشت سورة المائدة اليهود خاصة ، فذكّرتهم بنعم الله عليهم وبميثاق الله مع نقباء بني إسرائيل ، النائبين عنهم ، فما الذي كان من بني إسرائيل؟

لقد نقضوا ميثاقهم مع الله. قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيّتوا الصلب والقتل لعيسى بن مريم ، وحرفوا كلمات التوراة عن معانيها وعن مواضع الاستشهاد بها ، واشتروا بهذا التحريف ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا ، ونسوا بعض شرائع التوراة وأهملوها ، وخانوا محمدا رسول الله وأحد الرسل الذين أخذ عليهم الميثاق أن ينصروهم ، فباءوا بالطرد من رحمة الله وقست قلوبهم ، ببعدهم عن هذه الرحمة.

وإنّ من صفات اليهود الغالبة عليهم الخيانة والمكر ، وقول الإثم والمبالغة في سماع الكذب وأكل السّحت ، والسعي بالفساد في الأرض ، في إيقاد نار الفتن والحروب ، وقد قتلوا رسل الله إليهم ، وتمرّدوا على موسى إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة وقتال الجبارين ، فعاقبهم الله بالتيه في الأرض ، وأنهم كانوا أشد الناس عداوة للمؤمنين فعاقبهم الله على ذلك كله باللعن على ألسنة الرسل ، وبالغضب والمسخ ، وهذه الصفات التي غلبت عليهم في زمن البعثة ، وقبل زمن البعثة تثبتها تواريخهم وتواريخ غيرهم. ومن المعلوم أنها لم تكن عامة فيهم ولا شاملة لجميع أفرادهم ولذلك قال سبحانه :

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [الآية ٦٦].

١١ ـ النصارى

ممّا جاء في النصارى خاصة ، أنهم نسوا ، كاليهود ، حظا مما ذكروا به ، وأنّهم قالوا إن الله هو المسيح بن مريم ، وقالوا إن الله ثالث ثلاثة ، وقد ردّ الله عليهم هذه العقيدة بالأدلّة العقلية وببراءة المسيح منها ومن منتحليها يوم القيامة ، وبين لهم حقيقة المسيح وأنه عبد الله ورسوله وروح منه. ولقد أخذ

٢١٥

الله الميثاق عليهم ، أن يلتزموا بتعاليم رسولهم ، ولكنهم نسوا جانبا من تعاليمه ، وأهملوا جانب التوحيد ، وهو أساس العقيدة ، وعند هذا الانحراف كان الخلاف بين طوائف النصارى ، التي لا تكاد تعد. إذ أنّ هناك فرقا كثيرة صغيرة ، داخل كل فرقة من الفرق المعلومة الكبيرة : الأرثوذكس والكاثوليك والبروتستانت والموارنة اليوم ، ومن قبل كان اليعقوبيون والملكانيون والنساطرة.

وقد اشتدت العداوة بين هذه الفرق. وشهدت المسيحية آثارها منذ القرن الأول للميلاد ، وكانت على أشدها بين الملكانية واليعاقبة والنساطرة ، وهي اليوم على أشدّها بين الفرق القائمة. فلا يكاد الإنسان يتصور العداء الذي بين الكاثوليك والبروتستانت ، أو بينهم وبين الأرثوذكس ، أو بين الموارنة والبروتستانت ، أو سواهم قال تعالى :

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (١٤).

وقد بينت سورة المائدة أن اليهود أشد الناس عداوة للمؤمنين ، وأن النصارى أقرب الناس مودة إليهم :

(ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (٨٢).

القرآن من عند الله

إنّ جملة الآيات الواردة في أهل الكتاب تشهد لنفسها ، أنّها من عند الله تعالى لا من عند محمد بن عبد الله ، العربي الأمي ، الذي لم يقرأ شيئا من الكتب ، على أن تلك الآيات ، ليست موافقة لها ولهم ، موافقة الناقل للمنقول عنه ، وإنما هي ، فوق ذلك ، تحكم لهم ، وعليهم ، وفيهم ، وفي كتبهم ، حكم المهيمن السميع العليم.

١٢ ـ عدالة أحكام السورة

الخاصة بأهل الكتاب

لو كان هذا القرآن من وضع البشر ، لشرع معاملة أهل الكتاب الموصوفين بما ذكر ، ولا سيما الذين ناصبوا الإسلام العداء عند ظهوره ، بأشدّ الأحكام وأقساها.

ولكنه تنزيل من حكيم حميد ، أمر في هذه السورة بمعاملتهم بالعدل ،

٢١٦

والحكم بينهم بالقسط ، وحكم بحلّ مؤاكلتهم ، وتزوّج نسائهم وقبول شهادتهم ، والعفو والصفح عنهم. وهذه الأحكام التي شرّعت هذه المعاملة الفضلى لهم ، نزلت بعد إظهار اليهود للمسلمين منتهى العداوة والغدر. ولكن السورة ، تضّمنت تأليف قلوبهم ، واكتساب مودّتهم.

وقد ختم الله سورة المائدة ، بذكر الجزاء في الآخرة ، وسؤال الرسل عن جواب أممهم لهم. ثم براءة المسيح ممن جعله إلها ، وتفويضه الأمر كله لله الحق ، فهو سبحانه المتفرد بالعلم ، والقدرة ، والألوهية.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢٠).

٢١٧
٢١٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المائدة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح ، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأنه ذكر فيها حديث المائدة التي أنزلت من السماء على حواريّي عيسى عليه‌السلام ، وتبلغ آياتها عشرين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت سورة المائدة بعد صلح الحديبية ، وكان النبي (ص) قد قصد مكة للعمرة هو وأصحابه ، فصدتهم قريش عن عمرتهم ، وجرت بين الفريقين حوادث انتهت بصلح رضيه النبي (ص) ، وكان كثير من أصحابه يرى أن فيه غبنا لهم ، لأنه جاء على الشروط التي أرادتها قريش ، وهي وضع الحرب بين المسلمين وقريش أربع سنين ، وأن من جاء المسلمين من قريش يردونه ، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده ، أن يرجع المسلمون من غير عمرة هذا العام ويقضوها في العام المقبل ، وأن من أراد أن يدخل في عهد المسلمين من غير قريش دخل فيه ، ومن أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه.

فنزلت هذه السورة وفي أولها الأمر بالوفاء بالعقود ، ليفوا بما للمشركين في

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٩

ذلك العقد وإن كان فيه غبن لهم ، ويقوموا بعمرة القضاء ولا يتثاقلوا عنها تهاونا بما استفادوه منه ، وقد أطلقت العقود في ذلك إطلاقا لتشمل هذا العقد وغيره من العقود ، سواء أكانت بين بعض العباد وبعض ، أم كانت بين الله والعباد ، ثم ذكر فيها ما أوقعه الله بالأولين من أهل الكتاب وغيرهم لنقضهم عهودهم ، ليحذر المسلمين أن يصيبهم إذا نقضوا عهودهم مثل ما أصابهم ، وقد جرّ ذلك إلى الكلام على نقض المنافقين واليهود لعهودهم مع النبي (ص) ، وما كان من موالاة المنافقين لليهود وإيثارهم عهودهم معهم على عهودهم مع المسلمين.

وقد جاء ، بعد الأمر بالوفاء بالعقود في أول السورة ، بيان حكم الذبائح والصيد في الحرم وتحريم التعرض لمن يؤمّه للنسك ، وما إلى هذا من أحكام المناسك ، وقد جاء معها قليل من الأحكام العملية الأخرى ، فلما انتهى من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين عاد إلى الكلام على تلك الأحكام العملية ، وفصّل فيها بعض ما أجمله في أحكام المناسك ، ليبين للمسلمين ما يحتاجون إليه من ذلك في عمرة القضاء ، وليعلموا الفرق في ذلك بين الجاهلية والإسلام ، ثم ختمت السورة بذكر أحوال يوم القيامة ليبين ما أعد فيها للذين يفون بعهودهم ، ويتناسب في هذا بدؤها وختامها.

وقد ذكرت هذه السورة بعد سورة النساء لأنها تشبهها في الطول ، وفيما جاء فيها من الكلام على أهل الكتاب والمنافقين ، كما تشبهها فيما جاء فيها من الأحكام العملية.

أحكام العقود والمناسك

الآيات [١ ـ ٥]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) (١).

فأمرهم بالوفاء بالعقود ، وأحل لهم بهيمة الأنعام وهم حرم إلا ما يتلى عليهم ، وحرّم عليهم الصيد وهم حرم ، ثم نهاهم أن يحلوا شعائره أو الشهر الحرام أو الهدى أو القلائد أو الحجاج والمعتمرين ، وأحل لهم ما حرّمه من الصيد إذا أحلوا ، ونهاهم أن يحملهم صدّ المشركين لهم عن العمرة

٢٢٠