الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «النساء» (١)

إن قيل عن قوله تعالى : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [الآية الأولى] : إذا كانت حواء مخلوقة من آدم ، ونحن مخلوقون منه أيضا ، تكون نسبة حواء إلى آدم نسبة الولد : لأنها متفرعة منه ، فتكون أختا لنا ، لا أما.

قلنا : ثمة قولان : الأول أن بعض المفسرين قالوا : «من» لبيان الجنس لا للتبعيض ، معناه : وخلق من جنسها زوجها كما في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة / ١٢٨]. الثاني ، وهو الذي عليه الجمهور ، أنها للتبعيض ، ولكنّ خلق حواء من آدم لم يكن بطريق التوليد كخلق الأولاد من الآباء ، فلا يلزم منه ثبوت البنتيّة والأختية فيها.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [الآية ٢] واليتيم لا يعطى ماله حتى يبلغ اتفاقا؟

قلنا : المراد به إذا بلغوا ؛ وإنما سمّوا يتامى لقرب عهدهم بالبلوغ باعتبار ما كان ، كما تسمى الناقة عشراء بعد الوضع ، وقد يسمى البالغ يتيما باعتبار ما كان ، كما يسمى الحي ميّتا والعنب خمرا باعتبار ما يكون ، قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠) [الزّمر] وقال (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) [يوسف / ٣٦] ومنه قولهم للنبي (ص) بعد ما نبأه الله : يتيم أبي طالب.

فإن قيل : أكل مال اليتيم حرام وحده ومع أموال الأوصياء ، فلم ورد النهي مخصوصا عن أكله معها لقوله تعالى :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٨١

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء / ٢] أي معها؟

قلنا : لأن أكل مال اليتيم مع الاستغناء عنه أقبح ، فلذلك خصّ بالنهي ولأنهم كانوا يأكلونه مع الاستغناء عنه ، فجاء النهي على ما وقع منهم.

فإن قيل : لمّا قال تعالى (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [الآية ٧] دخل فيه القليل والكثير ، فما الحكمة في قوله سبحانه (مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ) [الآية ٧]؟

قلنا : إنما قال ذلك على جهة التأكيد والإعلام أن كل تركة ينبغي قسمتها ، لئلا يتهاون بالقليل من التركات ويحتقر ، فلا يقسم وينفرد به بعض الورثة.

فإن قيل : لم قال تعالى (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) [الآية ١١] مع أنه لو كان الولد بنتا فللأب الثلث؟

قلنا : الآية وردت لبيان الفرض دون التعصيب ، وليس للأب مع البنت بالفرض إلا السدس.

فإن قيل : كيف قطع على العاصي الخلود في النار بقوله سبحانه (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) [الآية ١٤]؟

قلنا : أراد به من يعص الله بردّ أحكامه وجحودها وذلك كفر ، والكافر يستحق الخلود في النار.

فإن قيل لم قال تعالى : (حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ) [الآية ١٥] والتوفي والموت بمعنى واحد ، فصار كأنه قال : حتى يميتهن الموت؟

قلنا : معناه حتى يتوفاهنّ ملائكة الموت. الثاني معناه : حتى يأخذهنّ ملائكة الموت وتتوفّى أرواحهنّ.

فإن قيل لم قال تعالى : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) [الآية ١٧] ، ولم يقل إنما التوبة على العبد ، مع أن التوبة واجبة على العبد؟

قلنا : معناه إنما قبول التوبة على الله بحذف المضاف. الثاني : أن معنى التوبة من الله رجوعه على العبد بالمغفرة والرحمة ، لأن التوبة في اللغة الرجوع.

فإن قيل لم قال تعالى : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ) [الآية ١٧].

ولو عمله بغير جهالة ثم تاب قبلت توبته؟

١٨٢

قلنا : معناه بجهالة بقدر قبح المعصية وسوء عاقبتها ، لا بكونها معصية وذنبا ، وكل عاص جاهل بذلك حال مباشرة المعصية معناه أنه مسلوب كمال العلم به بسبب غلبة الهوى وتزيين الشيطان.

فإن قيل لم قال تعالى : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) [الآية ١٧] مع أنهم لو تابوا بعد الذنب من بعيد لقبلت توبتهم؟

قلنا : ليس المراد بالقريب مقابل البعيد إذ حكمهما واحد ، بل معناه قبل معاينة سلطان الموت ، كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما بقرينة قوله (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [الآية ١٨].

فإن قيل لم قال تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) [الآية ٢٠] ، مع أن حرمة الأخذ ثابتة وإن لم يكن قد أعطاها المهر بل كان في ذمته أو في يده؟

قلنا : المراد بالإيتاء الضمان والالتزام كما في قوله تعالى : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) [البقرة / ٢٣٣] أي ما غنمتم والتزمتم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً) [الآية ٢٠] وأخذ مهر المرأة ظلم وليس ببهتان لأن البهتان الكذب؟

قلنا : ابن عباس وابن قتيبة قالا : المراد بالبهتان الظلم. وقال الزجاج المراد به الباطل ، والمشهور في كتب اللغة أن البهتان أن يقول الإنسان على غيره ما لم يفعله. قالوا : فالمراد به أن الرجل ربما رمى امرأته بتهمة ليتوصل بذلك إلى أن يأخذ منها مهرها ويفارقها. وقيل المراد به إنكاره أنّ لها مهرا في ذمته.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) [الآية ٢٢] فنهى عن الفعل المستقبل ، وإلا ما قد سلف ماض ، فكيف يصح استثناء الماضي من المستقبل؟

قلنا : قيل إن «إلّا» هنا بمعنى بعد كما في قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان / ٥٦] وقيل هو استثناء من محذوف تقديره : فإنكم تعذبون به إلا ما قد سلف. وقيل فيه تقديم وتأخير تقديره : إنه كان فاحشة إلا ما قد سلف.

فإن قيل : لم قال تعالى : (إِنَّهُ

١٨٣

كانَ فاحِشَةً) [الآية ٢٢] بلفظ الماضي ، مع أن نكاح منكوحة الأب فاحشة في الحال وفي الاستقبال إلى يوم القيامة.

قلنا : كان تارة تستعمل للماضي المنقطع كقوله : كان زيد غنيا ، وكان الخزف طينا ، وتارة تستعمل للماضي المستمر المتصل للحال كقول أبي جندب الهذلي :

وكنت إذا جاري دعا لمضوفة

أشمّر حتّى ينصف الساق مئزري

أي وإني الآن ، لأنه إنما يتمدح بصفة ثابتة له في الحال ، لا بصفة زائلة ذاهبة ، والمضوفة بالفاء : الأمر الذي يشفق منه ، والقاف تصحيف ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٣٣) ـ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٢٧).

وما أشبه ذلك وما نحن فيه من هذا القبيل ، وسيأتي الكلام في «كان» بعد هذا إن شاء الله في قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣).

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) [الآية ٢٣] قيد التحريم بكون الربيبة في حجر زوج أمها ، والحرمة ثابتة مطلقا ، وإن لم تكن في حجره؟

قلنا : أخرج ذلك مخرج العادة والغالب لا مخرج الشرط والقيد. ولهذا اكتفى في موضع الإحلال بنفي الدخول في قوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) [الآية ٢٣] ، فتأمل.

فإن قيل : لمّا قال تعالى : (مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ) [الآية ٢٣] ثم قال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [الآية ٢٤] ، علم ، من مجموع ذلك ، أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها ، فما الحكمة في قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) [الآية ٢٣]؟

قلنا : فائدته أن لا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج العادة والغالب ، لا مخرج الشرط كما في الحجر.

فإن قيل : لم قال تعالى في نكاح الإماء (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [الآية ٢٥] والمهر ملك المولى ، وإنما يجب تسليمه إلى المولى لا إلى الأمة؟

١٨٤

قلنا : لما كانت الأمة وما في يدها ملك المولى كان أداؤه إليها كأدائه إلى المولى. الثاني أن معناه : وآتوا مواليهن أجورهن بطريق حذف المضاف.

فإن قيل : لم قال تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [الآية ٢٥] وجواز نكاح الأمة ثابت من غير خوف العنت عند بعض العلماء؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : ذلك أصوب وأصلح لمن خشي العنت منكم فيكون شرطا لما هو الأرشد والأصلح كما في قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور / ٣٣].

فإن قيل : لم قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [الآية ٢٦] والإرادة إنما تقرن بأن يقال : يريد أن يفعل ، وقال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) [الآية ٢٨]؟

قلنا : قد ورد في الكتاب العزيز اللام بمعنى «أن» ورودا كثيرا قال الله تعالى (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى / ١٥] وقال الله تعالى (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٧١) [الأنعام] وقال تعالى في موضع آخر (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا) [الصف / ٨] فكذلك هذا.

فإن قيل : كيف خصّت التجارة بالذكر في قوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [الآية / ٢٩] مع أن الهبة والصدقة والوصية والضيافة وغيرها تقتضي الحل أيضا كالتجارة؟

قلنا : إنما خصّت بالذكر لأن معظم تصرف الخلق في الأموال إنما يكون بالتجارة ، أو لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها.

فإن قيل : قوله تعالى : (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [الآية ٤٢] قالوا معناه أنهم يتمنون أن يجعلوا يوم القيامة ترابا كما جاء في آخر سورة النبأ. وظاهر اللفظ أنهم يتمنون أن تجعل الأرض مثلهم ناسا كما تقول سويت زيدا بعمرو ، ومعناه جعلت زيدا ، وهو المسوّى مثل عمرو ، وهو المسوى به.

قلنا : قولهم سويت هذا بهذا له معنيان. أحدهما إجراء حكم الثاني على الأول كقولك سويت زيدا بعمرو ، وكما تقول ساويت. والثاني أن يكون المسوّى مفعولا والمسوى به آلة كقولك : سويت القلم بالسكين والثوب بالمقراض ، بمعنى أصلحته به. قلنا : فقوله (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) [الآية ٤٢]

١٨٥

يحتمل وجهين : أن يكون بمعنى ساويت ويكون من المقلوب : أي لو يسوّون بالأرض بجعلهم ترابا كقوله تعالى (لَتَنُوأُ) [القصص / ٧٦] قوله (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) [المائدة / ٦] في قول من لم يجعل الباء زائدة كقولهم : أدخلت الخاتم في إصبعي ونحوه ، وأن يكون بمعنى الآلة. معناه : ودّوا لو تمهّد بهم الأرض وتوطد ، بأن يجعلوا ترابا ويبثّوا في وهادها وحضيضها لتساوى بقاعها وآكامها ، وقوله تعالى : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧) [طه] لا انخفاضا ولا ارتفاعا ، وإن كان يدل على أن الأرض يوم القيامة متساوية بالسطوح ، فجعلها متساوية بالسطوح إن كان قبل البعث ، فإذا بعث الموتى من قبورهم ، خلت منهم قبورهم وحفرهم ، فحصل في الأرض تفاوت. وإن كان بعد البعث ، فيجوز أن يكون هذا التمني سابقا على جعلها متساوية السطوح.

فإن قيل : قولنا : «هذا خير من ذلك» يقتضي أن يكون في كل واحد منهما خير ، حتى يصحّ تفضيل أحدهما على الآخر ، لأن كلمة «خير» في الأصل أفعل تفضيل ، فكيف قال (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ) [الآية ٤٦] بعد ما سبق من قولهم في أول الآية؟

قلنا : المراد بالخير هاهنا الخير الذي هو ضد الشر ، لا الذي هو أفعل التفضيل كما تقول : في فلان خير. فإن قيل لم قال تعالى : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٤٧) والمفعول مخلوق ، وأمر الله وقوله غير مخلوق؟

قلنا : ليس المراد بهذا الأمر ما هو ضد النهي ، بل المراد به ما يحدث من الحوادث ، فإن الحادثة تسمى أيضا أمرا ، ومنه قوله تعالى : (لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) [الطلاق] وقوله (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً) [يونس / ٢٤].

فإن قيل لم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [الآية ٤٨] ، مع أن شرك الساهي والمكره والتائب مغفور؟

قلنا : المراد به شرك غير هؤلاء المخصوص من عموم الآية بأدلة من خارج ؛ أو نقول قيد المشيئة متعلق بالفعلين المنفي والمثبت ، كأنه قال : إن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ويغفر ما دونه لمن يشاء.

فإن قيل : هذه الآية تدل على أن غير الشرك من الذنوب لا يقطع بانتفاء مغفرته بل ترجى مغفرته ، وقوله

١٨٦

تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) يدل على القطع بانتفاء المغفرة في الكفر والظلم وهما غير الشرك ، فكيف الجمع بينهما؟

قلنا : المراد بالظلم هنا الشرك ، قال مقاتل : والشرك يسمى ظلما ، قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [لقمان] فكأنه قال : إن الذين أشركوا. الثاني أن قوله تعالى ، (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [الآية ١١٦] ، ليس قطعا بالمغفرة لغير المشرك وهو تعليق للمغفرة له بالمشيئة ؛ ثم بين ، بالآية الأخرى ، أن الكافر ليس داخلا فيمن يشاء المغفرة له ، فيتعين دخوله فيمن لا يغفر له ، لأنه لا واسطة بينهما. الثالث أنه عام خص بالآية الثانية كما خص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) [الزّمر / ٥٣] بالآية الأولى ، ويؤيد هذا إجماع الأمة على أن الكافر والمشرك سواء في عدم المغفرة والتخليد في النار ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) [البيّنة / ٦].

فإن قيل لم قال تعالى ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [الآية ٤٩] ذمّهم على ذلك ، وقال أيضا : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [النجم] ، وقد زكى النبي (ص) نفسه فقال : «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض». ويوسف عليه‌السلام قال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (٥٥) [يوسف]؟

قلنا : إنما قال ذلك حين قال المنافقون : اعدل في القسمة ، تكذيبا لهم حيث وصفوه بخلاف ما كان عليه من العدل والأمانة. وأما يوسف عليه‌السلام ، فإنه إنما قال ذلك ليتوصل به إلى ما هو وظيفة الأنبياء ، وهو إقامة العدل وبسط الحق وإمضاء أحكام الله تعالى ، ولأنه علم أنه لا أحد في ذلك الوقت أقوم منه بذلك العمل ، فكان متعينا عليه ، فلذلك طلبه وأثنى على نفسه ، ومع ذلك كله فإنه روى عن النبي (ص) أنه قال «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخّر ذلك سنة».

فإن قيل لم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ

١٨٧

بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) [الآية ١٥] إلى أن قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) [الآية ٥٢] فحصر لعنته فيهم لأن هذا الكلام للحصر ، وليست لعنة الله منحصرة فيهم بل هي شاملة لجميع الكفار.

قلنا : قوله سبحانه (أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين : (لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (٥١) ، وهذا القول شامل لجميع الكفار ، فكانت اللعنة شاملة للجميع.

فإن قيل لم قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [الآية ٥٦] ، أخبر أنه يعذب جلودهم التي لم تعص مكان الجلود العاصية ، وتعذيب البريء ظلم؟

قلنا : الجلود المجددة ، وإن عذبت فالألم بتعذيبها إنما يحصل للقلوب ، وهي غير مجددة بل هي العاصية باعتقاد الشرك ونحوه. الثاني أن المراد بتبديلها إعادة النضيج غير نضيج ، والجلود هي الجلود بعينها ، وإنما قال غيرها باعتبار صفة النضيج وعدمه ، كما قال الله تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [ابراهيم / ٤٨] وأراد تبديل الصفات لا تبديل الذات ، وكما قال الشاعر :

وما الناس بالناس الذين عهدتهم

وما الدار بالدار التي كنت أعهد

فإن قيل لم قال تعالى : (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلاً) (٥٧) وليس في الجنة شمس ليكون فيها حر يحتاج بسببه إلى ظل ظليل أو غير ظليل؟

قلنا : هو مجاز عن المستقر المستلذ المستطاب جريا على المتعارف بين الناس ، لأن بلاد الحجاز شديدة الحر ، فأطيب ما عندهم موضع الظل ، فخاطبهم بما يعقلون ويفهمون ، كما قال عزوجل (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢) [مريم] وليس في الجنة طلوع شمس ولا غروبها فيكون فيها بكرة وعشيّ ، لكن لما كان في عرفهم تمام نعمة الغذاء وكمال وظيفته : أن يكون حاضرا مهيأ في طرفي النهار عبّر عن حضوره وتهيئته بذلك.

فإن قيل لم قال تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) [الآية ٦٩] وهذا مدح لمن يطيع الله والرسول ، وعادة العرب في صفات المدح الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، وهذا عكسه لأنه نزول من الأعلى إلى الأدنى؟

قلنا : هذا ليس من الباب الذي

١٨٨

ذكرتموه ، بل هو كلام المقصود منه الإخبار عن أن المطيعين لله ورسوله يكونون يوم القيامة مع الأشراف والخواص ، ثم كأن سائلا سأل من الأشراف والخواص ، ففصّل له زيادة في الفائدة بعد تمام المعنى المقصود بالذكر بقوله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الآية ٦٩]. وأتى في تفصيلهم بذكر الأشرف فالأشرف والأخص فالأخص ، إذ هو الغالب في تعديد الأشراف والخواص كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [الآية ٥٩] وقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [آل عمران / ١٨] والدليل على أن المراد من الآية الإخبار جملة لا تفصيلا ، أنه لما علم عباده أن يسألوه هذا المعنى أرشدهم إلى طلبه مجملا بقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) [الفاتحة].

فإن قيل لم قال تعالى : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٧٦) وقال في كيد النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (٢٨) [يوسف] ومعلوم أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؟.

قلنا : المراد أن كيد الشيطان ضعيف في جنب نصرة الله وحفظه لأوليائه المخلصين من عباده ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر / ٤٢] وقال حكاية عن إبليس (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣) [ص] والمراد بالآية الأخرى أن كيد النساء عظيم إذا قيس بكيد الرجال. الثاني القائل : إن كيدكن عظيم هو عزيز مصر ، وليس الله تعالى ، فلا تناقض ولا معارضة.

فإن قيل : لم عاب على المشركين والمنافقين قولهم : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [الآية ٧٨] وردّ عليهم ذلك بقوله (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [نفسها] ثم قال بعد ذلك (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [الآية ٧٩] وأخبره بعين قولهم المردود عليهم؟

قلنا : قيل إن الثاني حكاية قولهم أيضا ، وفيه إضمار تقديره : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) فيقولون (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ) [الآية ٧٩].

وقيل معناه : ما أصابك أيها الإنسان من حسنة ، أي رخاء ونعمة ، فمن

١٨٩

فضل الله ، وما أصابك من سيئة ، أي قحط وشدة ، فبشؤم فعلك ومعصيتك ، لا بشؤم محمد عليه الصلاة والسلام ، كما زعم المشركون ، ويؤيده قوله تعالى (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٣٠) [الشورى].

فإن قيل : لم قيل إن الشر والمعصية بإرادة الله ، والله تعالى يقول (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [الآية ٧٩].

قلنا : ليس المراد بالحسنة والسيئة الطاعة والمعصية ، بل القحط والرخاء والنصر والهزيمة على ما اختلف فيه العلماء ، ألا ترى أنه جلّ شأنه قال : (ما أَصابَكَ) ولم يقل ما عملت من سيئة.

فإن قيل : قوله تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) السؤال فيه من وجهين : أحدهما أنه يدل ، من حيث المفهوم ، على أن في القرآن اختلافا قليلا ، وإلا لما كان للتقييد بوصف الكثرة فائدة ، مع أنه لا اختلاف فيه أصلا. الثاني أنه إنما يدل عدم الاختلاف الكثير في القرآن على أنه من عند الله ، أن لو كان كل كتاب من عند غير الله فيه اختلاف كثير ، وليس الواقع كذلك ، لأن المراد من الاختلاف إما الكذب والتباين في نظمه ، وإما التناقض في معانيه ، أو التفاوت بين بعضه وبعضه من الجزالة والبلاغة والحكمة وكثرة الفائدة.

قلنا : الجواب عن السؤال الأول أن التقييد بوصف الكثرة للمبالغة في إثبات الملازمة ، فكأنه قال : لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فضلا عن القليل. لكنه من عند الله فليس فيه اختلاف كثير ولا قليل فكيف يكون من عند غير الله؟ فهذا هو المقصود من التقييد بوصف الكثرة لا أن القرآن مشتمل على اختلاف قليل. وعن السؤال الثاني أن كل كتاب في فن من العلوم ، إذا كان من عند غير الله وجد فيه اختلاف ما بأحد التفاسير المذكورة لا محالة يعرف ذلك بالاستقراء. والقرآن جامع لفنون من علوم شتى ، فلو كان من عند غير الله لوجد فيه بالنسبة إلى كل فن اختلاف ما ، فيصير مجموع الاختلاف اختلافا كثيرا.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) (٨٣) استثنى القليل على تقدير

١٩٠

انتفاء الفضل والرحمة ، مع أنه لو لا فضله بالهداية والعصمة ورحمته ، لاتبع الكل الشيطان من غير استثناء؟

قلنا : الاستثناء راجع إلى ما تقدم ، تقديره أذاعوا به إلا قليلا. وقيل لعلمه الذي يستنبطونه منهم إلا قليلا. وقيل معناه : ولو لا فضل الله عليكم بإرسال الرسل لاتبعتم الشيطان في الكفر والضلال إلا قليلا منكم كانوا يهتدون بعقولهم إلى معرفة الله تعالى وتوحيده ، كقس بن ساعدة ، وورقة بن نوفل ، ونحوهما قبل بعث النبي عليه الصلاة والسلام.

فإن قيل : على الجواب الأخير إذا كان المراد أن من لوازم نفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص ، وهو بإرسال الرسل ، اتباع الشيطان ، ونفي الفضل والرحمة بالطريق الخاص معلوم حق في الرسول لأنه لم يرسل إليه رسول ومع هذا لم يتبع الشيطان؟

قلنا : لا نسلم أنه لم يرسل إليه رسول ، بل أرسل إليه الملك وأنه رسول. الثاني التقييد في الفضل والرحمة بتعيين الطريق يكون في حق الأمة. أما في حق الرسل ومن آمن بغير رسول ، فيكون اللفظ باقيا على ظاهره.

فإن قيل : هذه الآية تقتضي أن فضله ورحمته يمنعان أكثر الناس من اتّباع الشيطان ، مع أنّ الواقع خلافه ، فإن أكثر الناس كفرة ، يؤيده قوله (ص) «الإسلام في الكفر كالشعرة البيضاء في الثور الأسود».

قلنا : الخطاب في هذه الآية للمؤمنين لا للناس كلهم.

فإن قيل : إذا كان الخطاب خاصا للمؤمنين فما معنى الاستثناء ، فإنه ، إن كان المراد به اتباعه فيما يدعو إليه ويوسوس من المعاصي ، فأكثر المؤمنين متبعون له في ذلك ولو في العمر مرة واحدة في بعض الكبائر. وإن كان المراد به اتباعه في دعائه إلى الكفر ، فإنّ أحدا من المؤمنين لم يتبعه في الكفر.

قلنا : معناه : ولو لا فضل الله عليكم ، أيها المؤمنون ، ورحمته بالهداية بالرسول ، لا تبعتم الشيطان في الكفر وعبادة الأصنام وغير ذلك ، إلا قليلا منكم كقس بن ساعدة وورقة بن نوفل ونحوهما ، فإنهم ، لو لا الفضل والرحمة بالرسول ، لما اتبعوا الشيطان

١٩١

لفضل ورحمة ، خصهم الله تعالى بها غير إرسال الرسول وهو زيادة الهداية ونور البصيرة.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً) (٨٧) ، مع أنه لا تفاوت بين صدق وصدق في كونه صدقا كما في القول والعلم لا يقال هذا القول أقول ، ولا هذا العلم أعلم ، ولا هذا الصدق أصدق ، لأن الصدق عبارة عن الإخبار المطابق للواقع ، ومتى ثبت أنه مطابق للواقع لا يحتمل الزيادة أو النقصان؟

قلنا : أصدق هنا صفة للقائل لا صفة للقول ، والقائلان يتفاوتان في الصدق في نفس الأمر وإن تساويا في قصة واحدة أخبرا بها وكان كل واحد منهما صادقا فيها. وحاصله أن هذا استفهام معناه النفي كما في قوله تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران ١٣٥] معناه لا أحد يغفرها إلا الله ، فمعناه هنا : لا أحد أصدق في حديثه من الله ، فيكون ترجيحا للمحدث على المحدث في الصدق ، لا ترجيحا لأحد الصدقين على الآخر ، ولا شك أنه لا أحد أصدق في حديث من الله لأن غيره يجوز عليه غير الصدق عقلا ، ويقع منه أيضا ولو نادرا ، والله تعالى منزه عن الأمرين جميعا.

فإن قيل : قوله تعالى : (كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها) [الآية ٩١] يقال : ركسه وأركسه : أي رده ، فيصير معناه كلما ردوا إلى الفتنة ردوا فيها وهو تكرار.

قلنا : جوابه أن الفاعل مختلف فانتفى التكرار وصار المعنى : كلما دعاهم قومهم إلى الشرك ردهم الله إليه وقلبهم بشؤم نفاقهم ، فالرد الأول بمعنى الدعاء ، والركس بمعنى الرد والنكس.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [الآية ٩٢] مع أنه ليس له أن يقتله خطأ.

قلنا : «إلا» بمعنى و «لا» كما في قوله تعالى (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل] وقوله تعالى : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [البقرة / ١٥٠]. الثاني معناه أنه ليس له أن يقتله مع تيقن إيمانه ، بل له أن يقتله إذا غلب على ظنه أنه ليس بمؤمن وهو في صف المشركين وإن كان في الأمر نفسه مؤمنا.

١٩٢

فإن قيل : كيف يقال إن أهل الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار والله تعالى يقول : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٩٣).

قلنا : معناه متعمدا قتله بسبب إيمانه ، والذي يفعل ذلك يكون كافرا. الثاني أن المراد بالخلود طول المكث ، لأن الخلود إذا لم يكن بالأبدية يطلق على طول المكث ، كما يقال : خلد السلطان فلانا في الحبس إذا أطال حبسه.

فإن قيل لم قال تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) [الآية ٩٥] ثم قال : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (٩٥) دَرَجاتٍ مِنْهُ).

قلنا : المراد الأول التفضيل على القاعدين من الغزاة بعذر ، فإن لهم فضلا لكونهم مع الغزاة بالهمة والعزيمة والقصد الصالح ، ولهذا قال : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) [الآية ٩٥] يعني الجنة : أي من المجاهدين والقاعدين بعذر ، والمراد بالثاني التفضيل على القاعدين عن الغزاة بغير عذر ، وأولئك لا فضل لهم بل هم مقصرون ومسيئون ، فظهر فضل الغزاة عليهم بدرجات لانتفاء الفضل لهم؟

فإن قيل : كيف صح القول كما ورد في النصّ القرآني : (كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) [الآية ٩٧] جوابا لقول الملائكة في الآية نفسها : (فِيمَ كُنْتُمْ) ، مع أنه ليس مطابقا للسؤال ، والجواب المطابق أن يقولوا كنا في كذا أو لم نكن في شيء؟

قلنا : معنى فيم كنتم التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حتى قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا فصار قوله (فِيمَ كُنْتُمْ) مجازا عن السؤال : لم تركتم الهجرة؟ فقالوا كنا مستضعفين ، اعتذارا عما وبخوا به تعللا ، فردت عليهم الملائكة ذلك بقولهم : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [الآية ٩٧] يعني أنكم إن كنتم عاجزين عن الهجرة إلى المدينة لبعدها عليكم فقد كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد القريبة منكم التي تقدرون فيها على إظهار دين الإسلام.

فإن قيل لم قال تعالى : (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [الآية ١٠٠] أي وجب ،

١٩٣

والعبد لا يستحق على مولاه أجرا لأنه ليس بأجير له إنما هو عبد قنّ؟

قلنا : معناه وجب من جهة أنه وعد عباده أنه لا يضيع أجر من أحسن عملا ، والخلف في وعده عزوجل محال ، فالوجوب من هذه الجهة ، مع أن ذلك الوعد ابتداء فضل منه.

فإن قيل : كيف شرط في إباحة القصر للمسافر خوف العدو بقوله سبحانه : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) [الآية ١٠١] ، والقصر جائز مع أمن المسافر؟

قلنا : خرج ذلك مخرج الغالب لا مخرج الشرط ، وغالب أسفار رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم تخل من خوف العدو فصار نظير قوله تعالى (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [النور / ٣٣] ، الثاني أن الكلام قد تم عند قوله تعالى (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) [الآية ١٠١] وقوله (إِنْ خِفْتُمْ) كلام مستأنف ، وجوابه محذوف تقديره : فاحتاطوا أو تأهبوا. الثالث أن المراد به القصر من شروطها وأركانها حالة اشتداد الخوف بترك الركوع والسجود والنزول عن الدابة واستقبال القبلة ونحو ذلك ، لا من عدد الركعات ، وذلك القصر مشروط بالخوف.

فإن قيل لم قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) و «كان» لفظ دال على الماضي ، والصلاة في الحال وإلى يوم القيامة أيضا على المؤمنين فرض موقت؟

قلنا «كان» في القرآن العزيز على خمسة أوجه : كان بمعنى الأزل والأبد كما في قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (٩٢). وكان بمعنى المضيّ المنقطع كما في قوله تعالى : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) [النمل / ٤٨] وهو الأصل في معاني «كان» كما تقول : كان زيد صالحا أو فقيرا أو مريضا ونحو ذلك. وكان بمعنى الحال كما في قوله تعالى (إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣). وكان بمعنى الاستقبال كما في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤) [ص] أي صار.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ) [الآية ١٠٤] والكافرون أيضا يرجون الثواب في محاربة المؤمنين ، لأنهم يعتقدون أن دينهم حق ، وأنهم ينصرون دين الله ويذبون عنه ويقاتلون أعداءه ، كما يعتقد المؤمنون ، فالرجاء مشترك؟

١٩٤

قلنا : قيل إن الرجاء هنا بمعنى الخوف كما في قوله تعالى : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (١٣) [نوح] وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية / ١٤] وقول الشاعر :

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها وعلى قول من قال إنه بمعنى الأمل تقول : قد بشر الله المؤمنين في القرآن ووعدهم بإظهار دينهم على الدين كله ، ومثل هذه البشارة والوعد لم يوجد في سائر الكتب فافترقا. وقيل الرجاء ما يكون مستندا إلى سبب صحيح ومقدمات حقة ، والطمع ما يكون مستندا إلى خلاف ذلك ؛ فالرجاء للمؤمنين ، وأما الكافرون فلهم طمع لا رجاء.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) [الآية ١١٠] بعد قوله في الآية نفسها : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) وظلم النفس من عمل السوء ، فلم لم يقتصر على الأول مع أن الثاني داخل فيه؟

قلنا : «أو» بمعنى الواو ، فمعناه ويظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية. وقيل المراد بعمل السوء التّلبّس بما دون الشرك ، وبظلم النفس الشرك. وقيل المراد بعمل السوء الذنب المتعدي ضرره إلى الغير ، ويظلم النفس الذنب المقتصر ضرره على فاعله.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) [الآية ١١٣] ظاهره نفي وجود الهم منهم بإضلاله ، والمنقول في التفاسير أنهم هموا بإضلاله ، وزادوا على الهم الذي هو القصد القول المضل أيضا ، يعرف ذلك من تفسير أول القصة وهو قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ).

قلنا : قوله تعالى : (لَهَمَّتْ) [الآية ١١٣] ليس جواب «لولا» بل هو كلام مقدم على لولا ، وجوابها في التقدير مقول على طريق القسم ، وجواب لو لا محذوف تقديره لقد همت طائفة منهم أن يضلوك ولو لا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك.

فإن قيل : النجوى فعل «ومن» اسم ، فكيف صح استثناء الاسم من الفعل في قوله تعالى (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ

١٩٥

نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ) [الآية ١١٤]؟

قلنا : فيه إضمار تقديره : إلا نجوى من أمر بصدقة ، فيكون استثناء الفعل من الفعل ، ونظيره قوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ) [البقرة / ١٧٧] تقديره : برّ من آمن بالله.

فإن قيل لم قال تعالى : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) [الآية ١١٤]؟

قلنا : ذكر الآمر بالخير ليدل به على خيرية الفاعل بالطريق الأولى ، ثم ذكر الفاعل ووعده الأجر العظيم إظهارا لفضل الفاعل المؤتمر على الآمر الثاني. انه أراد : ومن يأمر بذلك ، فعبر عن الأمر بالفعل كما يعبر به عن سائر أنواع الفعل ، وإذا كان الآمر موعودا بالأجر العظيم كان الفاعل موعودا به بطريق الأولى.

فإن قيل لم قال تعالى : (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً) [الآية ١١٧] أي ما يعبدون من دون الله إلا اللات والعزى ومناة ونحوها وهي مؤنثة ، ثم قال : (وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً) (١١٧) أي ما يعبدون إلا الشيطان؟

قلنا : معناه أن عبادتهم للأصنام هي في الحقيقة عبادة للشيطان ، إما لأنهم أطاعوا الشيطان في ما سول لهم وزين من عبادة الأصنام بالإغواء والإضلال ، أو لأن الشيطان موكل بالأصنام يدعو الكفار إلى عبادتها شفاها ويتزيا للسّدنة فيكلمهم ليضلهم.

فإن قيل : كيف يقال إن العبد يحكم بكونه من أهل الجنة بمجرد الإيمان ، والله تعالى شرط لذلك العمل الصالح بظاهر قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الآيتان ٥٧ و ١٢٢] وقوله (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الآية ١٢٤] وإلا لما كان للتقييد فائدة؟

قلنا : قيل إن المراد بالعمل الصالح الإخلاص في الإيمان ، وقيل الثبات عليه إلى الموت ، وكلاهما شرط في كون الإيمان سببا لدخول الجنة.

فإن قيل لم قال تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) [الآية ١٢٣] والتائب المقبول التوبة غير مجزيّ بعمله ، وكذلك من عمل سيئة ثم أتبعها حسنة ، لأنها مذهبة لها وماحية بنص القرآن؟

قلنا : المراد : من يعمل سوءا ويمت

١٩٦

مصرّا عليه ، فإن تاب عنه لم يجز به.

الثاني أن المؤمن يجازى في الدنيا بما يصيبه فيها من المرض وأنواع المصائب ، والمحسن كما جاء في الحديث ، والكافر يجازى في الآخرة.

فإن قيل : لم خص المؤمنين الصالحين بأنهم لا يظلمون بقوله سبحانه (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) [الآية ١٢٤] مع أن غيرهم لا يظلم أيضا؟

قلنا : قوله تعالى (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (١٢٤) راجع إلى الفريقين : عمال السوء وعمال الصالحات ، لسبق ذكر الفريقين. الثاني : أن يكون من باب الإيجاز والاختصار فاكتفى بذكره عقب الجملة الأخيرة عند ذكر أحد الفريقين لدلالته على إضماره عقب ذكر الفريق الآخر ، ولا يظلم المؤمنون بنقصان أعمالهم ، ولا الكافرون بزيادة عقاب ذنوبهم. الثالث : أن المراد بالظلم نفي نقصان ثواب الطاعات ، وهذا مخصوص بالمؤمنين ، لأن الكافرين ليس لهم على أعمالهم ثواب ينقص من العقاب على ذنوبهم.

فإن قيل : طلب الإيمان من المؤمنين تحصيل حاصل ، فكيف قال جلّ شأنه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) [الآية ١٣٦].

قلنا : معناه : يا أيها الذين آمنوا بعيسى آمنوا بالله ورسوله محمد. وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا يوم الميثاق آمنوا الآن. وقيل معناه : يا أيها الذين آمنوا علانية آمنوا سرّا.

فإن قيل : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) [الآية ١٤١](وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) [الآية ١٤١] لما ذا سمى ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا؟

قلنا : تعظيما لشأن المؤمنين وتحقيرا لحظ الكافرين ، لأن ظفر المسلمين أمر عظيم يتضمن نصرة دين الله وعزة أهله ، وتفتح له أبواب السماء حتى ينزل على أولياء الله ، وظفر الكافرين ليس إلا حظا دنيئا وعرضا من متاع الدنيا يصيبونه ، ولا يتضمن شيئا مما ذكرنا.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (١٤١) وقد نصر الكافرين على المؤمنين يوم أحد وفي غيره أيضا إلى يومنا هذا؟

١٩٧

قلنا : المراد به السبيل بالحجة والبرهان ، والمؤمنون غالبون بالحجة دائما.

فإن قيل : كيف كان المنافق أشد عذابا من الكافر حتى قال الله تعالى في حقهم : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [الآية ١٤٥] مع أن المنافق أحسن حالا من الكافر ، بدليل أنه معصوم الدم وغيره محكوم عليه بالكفر ، ولهذا قال الله تعالى في حقهم : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [الآية ١٤٣] ، فلم يجعلهم مؤمنين ولا كافرين؟

قلنا : المنافق ، وإن كان في الظاهر أحسن حالا من الكافر ، إلا أنه عند الله في الآخرة أسوأ حالا منه لأنه شاركه في الكفر وزاد عليه الاستهزاء بالإسلام وأهله ومخادعة الله والمؤمنين.

فإن قيل : الجهر بالسوء غير محبوب عند الله تعالى أصلا ، بل المحبوب عنده العفو والصفح والتجاوز فكيف قال : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) [الآية ١٤٨] : أي إلّا جهر من ظلم.

قلنا : معناه ولا جهر من ظلم ف «إلا» بمعنى ولا ، وقد سبق نظيره وشاهده في قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [الآية ٩٢].

فإن قيل : كيف جاز دخول «بين» على أحد في قوله تعالى (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [الآية ١٥٢] و «بين» تقتضي اثنين فصاعدا ، يقال فرقت بين زيد وعمرو ، وبين القوم ، ولا يقال فرقت بين زيد؟

قلنا : قد سبق هذا السؤال وجوابه في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة / ٦٨] في سورة البقرة أيضا.

فإن قيل : ما الحكمة من إعادة الكفر في الآية الثانية بقوله تعالى (وَبِكُفْرِهِمْ) [الآية ١٥٥] بعد قوله سبحانه في الآية نفسها : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ).

قلنا : لأنه قد تكرر الكفر منهم فإنهم كفروا بموسى وعيسى عليهما‌السلام ، ثم بمحمد عليه الصلاة والسلام ، فعطف بعض كفرهم على بعض.

فإن قيل : اليهود كانوا كافرين بعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة ، فكيف أقروا أنه رسول الله بقولهم ، كما ورد في القرآن الكريم

١٩٨

(إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) [الآية ١٥٧]؟

قلنا : قالوه على طريق الاستهزاء ، ومثال ذلك ما أورده القرآن الكريم حكاية على لسان فرعون : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧) [الشعراء].

فإن قيل : لم وصفهم بالشك بقوله تعالى (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) [الآية ١٥٧] ثم وصفهم بالظن في الآية نفسها : بقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ). والشك تساوي الطرفين ، والظن رجحان أحدهما ؛ فكيف يكونون شاكين ظانّين ، وكيف استثنى الظن من العلم وليس الظن فردا من أفراد العلم بل هو قسيمه؟

قلنا : استعمل الظن بمعنى الشك مجازا لما بينهما من المشابهة في انتفاء الجزم ، وأما استثناء الظن من العلم فهو استثناء من غير الجنس كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) [مريم / ٦٢] وقيل لأن المراد بالشك هنا ما يشمل الظن ، واستثناء الظن من العلم في الآية منقطع ، ف «إلّا» فيها بمعنى لكن كما في قوله تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (٢٦) [الواقعة] ، وما أشبهه.

فإن قيل : كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه لهم من الأدلة العقلية الموصلة إلى معرفته حتى قال سبحانه : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [الآية ١٦٥]؟

قلنا : الرسل والكتب منبهة من الغفلة ، باعثة على النظر في أدلة العقل ، مفصلة لمجمل الدنيا وأحوال التكليف التي لا يستقل العقل بمعرفتها ، فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة ، لئلا يقولوا : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه / ١٣٤] ، فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.

فإن قيل لم قال تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [الآية ١٦٦] ولم يقل أنزله بقدرته أو بعلمه وقدرته ، مع أن الله تعالى لا يفعل إلا عن علم وقدرة؟

قلنا قال تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) أي عالما به ، أو : وفيه علمه : أي معلومه أو معلمه من الشرائع والأحكام. وقيل معناه : أنزله عليك بعلم منه أنّك أولى بإنزاله عليك من سائر خلقه.

فإن قيل : كلام الله صفة قديمة قائمة

١٩٩

بذاته ، وعيسى عليه الصلاة والسلام مخلوق وحادث فكيف صحّ إطلاق الكلمة عليه في قوله تعالى : (رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ) [الآية ١٧١]؟

قلنا : معناه أن وجوده في بطن أمه كان بكلمة الله تعالى ، وهو قوله «كن» من غير واسطة أب ، بخلاف غيره من البشر سوى آدم. وقيل المراد بالكلمة الحجة.

فإن قيل على الوجه الأول : لو كان صحة إطلاق الكلمة على عيسى صلوات الله على نبينا وعليه لهذا المعنى لصح إطلاقها على آدم (ع) : لأن هذا المعنى فيه أتم وأكمل لأنه وجد بهذه الكلمة من غير واسطة أب ولا أم أيضا.

قلنا : لا نسلّم أنه لا يصح إطلاقها عليه لهذا المعنى ، بل يصح.

فإن قيل : لو صح إطلاقها عليه ، لجاء به القرآن كما جاء في حق عيسى عليه الصلاة والسلام؟

قلنا : خص ذلك بعيسى لأن المجيء في حق عيسى (ع) إنما كان للرد على من افترى عليه وعلى أمه ونسبه إلى أب ، ولم يرد هذا المعنى في حق آدم عليه الصلاة والسلام لاتفاق الناس كلهم على أنه غير مضاف إلى أب ولا إلى أم.

٢٠٠