الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «آل عمران» (١)

قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) [الآية ٧]. هذه استعارة. والمراد بها أن هذه الآيات جماع الكتاب وأصله. فهي بمنزلة الأم ، كأن سائر الكتاب يتبعها ويتعلق بها ، كما يتبع الولد آثار أمه ، ويفزع إليها في مهمّه.

وقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [الآية ٧]. وهذه استعارة. والمراد بها المتمكنون في العلم ، تشبيها برسوخ الشيء الثقيل في الأرض الخوّانة. وهو أبلغ من قوله : والثابتون في العلم.

وقوله تعالى : (وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) (١٢) وهذه استعارة. والمعنى : بئس ما يمتهد ويفرش. ونظيره قوله (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩) [الكهف] ، وقوله سبحانه : (وَبِئْسَ الْقَرارُ) [إبراهيم / ٢٩].

وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الآية ٢٢] وهذه استعارة ، والمراد فسدت أعمالهم فبطلت. وذلك مأخوذ من الحبط ، وهو داء ترم له أجواف الإبل ، فيكون سبب هلاكها ، وانقطاع آكالها.

وقوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) [الآية ٢٧] وهذه استعارة ، وهي عبارة عجيبة عن إدخال هذا على هذا ، وهذا على هذا. والمعنى أن ما ينقصه من النهار يزيده في الليل ، وما ينقصه من الليل يزيده في النهار. ولفظ الإيلاج هاهنا أبلغ ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرخ.

١٠١

لأنه يفيد إدخال كلّ واحد منهما في الآخر ، بلطيف الممازجة ، وشديد الملابسة.

وقوله تعالى : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) [الآية ٣٩] وهذه استعارة. لأن المراد بهذا القول عيسى (ع). والعلماء مختلفون في هذه اللفظة ، وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتاب «حقائق التأويل». فمن بعض ما قيل في ذلك أن بشارة الله تعالى سبقت بالمسيح (ع) في الكتب المتقدمة ، فأجرى تعالى اسم «الكلمة» عليه لتقدّم البشارة به. والبشارة إنما تكون بالكلام.

وقوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤). وهذه استعارة. لأن حقيقة المكر لا تجوز عليه تعالى. والمراد بذلك إنزال العقوبة بهم جزاء على مكرهم. وإنما سمّي الجزاء على المكر مكرا للمقابلة بين الألفاظ على عادة العرب في ذلك. قد استعارها لسانهم ، واستعادها بيانهم.

وقوله تعالى : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) [الآية ٧٢] وهذه استعارة. والمراد أول النهار. ولم يقل رأس النهار. لأن الوجه والرأس وإن اشتركا في كونهما أول الشيء ، فإن في الوجه زيادة فائدة ، وهي أنه به تصح المواجهة ، ومنه تعرف حقيقة الجملة.

وقوله سبحانه : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [الآية ٧٣] وهذه استعارة. والمراد بها إما سعة عطائه ، وعظيم إحسانه ، أو اتساع طرق علمه ، وانفساح أقطار سلطانه وعزه.

وقوله سبحانه : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ٧٧] وهذه استعارة. وحقيقتها : ولا يرحمهم‌الله يوم القيامة. كما يقول القائل لغيره إذا استرحمه : انظر إليّ نظرة. لأن حقيقة النظر تقليب العين الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته. وهذا لا يصح إلا على الأجسام ، ومن يدرك بالحواس ، ويوصف بالحدود والأقطار. وقد تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا.

وقوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [الآية ١٠٣] وهذه استعارة. ومعناها : تمسكوا بأمر الله لكم ، وعهده إليكم. والحبال : العهود ، في

١٠٢

كلام العرب. وإنما سميت بذلك لأن المتعلق بها ينجو مما يخافه ، كالمتشبث بالحبل إذا وقع في غمرة ، أو ارتكس في هوة. فالعهود يستأمن بها من المخاوف ، والحبال يستنقذ بها من المتالف. فلذلك وقع التشابه بينهما.

وقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [الآية ١٠٣]. وهذه استعارة. لأنه تعالى شبّه المشفي ، بسوء عمله ، على دخول النار ، بالمشفي ، لزلة قدمه ، على الوقوع في النار.

وقوله تعالى : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) [الآية ١١٢] وقد مضى الكلام على مثل ذلك في «البقرة» فلا معنى لإعادته.

وقوله تعالى : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية ١٢٧] أي ينقص عددا من أعدادهم ، فيوهن عضدا من أعضادهم. وهذا من محض الاستعارة.

وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١٤٣) وهذه استعارة ، لأن الموت لا يلقى ولا يرى. وإنما أراد سبحانه رؤية أسبابه ، من صدق مصاع (١) ، وتتابع قراع. أو رؤية آلاته ، كالرماح المشرعة ، والسيوف المخترطة.

وقوله سبحانه : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [الآية ١٤٤] وهذه استعارة. والمراد بها الرجوع عن دينه ، والتقاعس عن اتّباع طريقه. فشبّه سبحانه الرجوع في الارتياب ، بالرجوع على الأعقاب.

وقوله سبحانه : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى) [الآية ١٥٦] وهذه استعارة. لأن الضرب هاهنا عبارة عن الإنجاد في السير ، والإيغال في الأرض ، تشبيها للخابط في البر بالسابح في البحر ، لأنه يضرب بأطرافه في غمرة الماء شقّا لها ، واستعانة على قطعها.

وقوله سبحانه : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣). وهذه استعارة. لأن الإنسان غير

__________________

(١). المصاع : مصدر ماصع : أي قاتل وجالد.

١٠٣

الدرجة. وإنما المراد بذلك : هم ذوو درجات متفاوتة عند الله ، فالمؤمن درجته مرتفعة ، والكافر درجته متّضعة.

وقوله تعالى : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (١٨٥) وهذه استعارة. لأن الغرور لا متاع له على الحقيقة ، وإنما المراد بذلك أن ما يستمتع به الإنسان من حطام الدنيا ظلّ زائل ، وخضاب ناصل.

وقوله تعالى في صدر هذه الآية : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الآية ١٨٥] مستعار أيضا ، لأن حقيقة الذوق ما أدرك بحاسة ، وإنما حسن وصف النفس بذلك لما يحسّ به من كرب الموت وعذابه ، فكأنها تحسّه بذوقه.

وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦). فهذه استعارة. لأن الأمور لا عزم لها ، وإنما العزم للموطّن نفسه على فعلها ، وهو الإنسان ، فالمراد : فإن ذلك من قوة الأمور. لأن العازم على فعل الأمر قويّ عليه.

وقوله تعالى : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [الآية ١٨٧]. وهذه استعارة. والمراد بها : أنهم غفلوا عن ذكره ، وتشاغلوا عن فهمه ، يعني الكتاب المنزل عليهم ، فكان كالشيء الملقى خلف ظهر الإنسان ، لا يراه فيذكره ، ولا يتلفت إليه فينظره.

وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [الآية ١٨٨] ومنجاة من العقاب. والمفازة : الأرض البعيدة التي إذا قطعها الإنسان فاز بقطعها ، وأمن من خوفها.

وقوله تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ) وهذه استعارة. والمراد بالتقلب ها هنا كثرة الاضطراب في البلاد ، والتقلقل في الأسفار ، والانتقال من حال إلى حال.

١٠٤

سورة النساء

٤

١٠٥
١٠٦

المبحث الأول

أهداف سورة «النساء» (١)

سورة النساء سورة مدنية ، وتسمى سورة النساء الكبرى ، لتمييزها من سورة النساء الصغرى ، وهي سورة الطلاق.

وقد عنيت سورة النساء ببيان أحكام النساء واليتامى والأموال والمواريث والقتال ؛ وتحدثت عن أهل الكتاب وعن المنافقين وعن فضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها ؛ وحثّت على التضامن والتكافل والتراحم ؛ وبيّنت حكم المحرّمات من النساء. كما حثت على التوبة ودعت إليها وسيلة للتطهّر ودليلا على تكامل الشخصية واستعادة الثقة بالنفس والشعور بالأمن والاطمئنان.

وعدد آيات سورة النساء ١٧٦ آية ، وعدد كلماتها ٣٧٤٥ كلمة.

الوصية بالنساء واليتامى

بيّنت سورة النساء أن الزواج شركة تعاونية أساسها المودة والرحمة والوفاء والألفة. وساوت السورة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات ، ثم بينت أن للرجال درجة على النساء ، وهي درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل على المرأة ، وبحكم الكدّ والعمل في تحصيل المال الذي ينفقه على الزوجة والأسرة. وليست هذه الدرجة درجة الاستعباد أو التسخير ، وإنما هي زيادة في المسؤولية الاجتماعية.

وقد حث القرآن الزوجة على طاعة زوجها ، في ما تجب الطاعة فيه ، والاحتفاظ بالأسرار المنزلية والزوجية

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٠٧

التي ينبغي ألّا يطّلع عليها غير الزوجين ، كما أمر الرجل أن يقوم بحق الأسرة وأن ينفق عليها وأن يفي بالتزاماته نحوها. وجعل نفقة الرجل على أولاده ، ورعايته لهم ، نوعا من الكفاح والجهاد السلمي يثاب المؤمن على فعله ، ويعاقب على تركه.

اليتامى

أمرت السورة بعد ذلك برعاية اليتامى والمحافظة على أموالهم ، وإكرام اليتيم لصغره وعجزه عن القيام بمصالحه. وحذّرت السورة من إتلاف أموال اليتامى أو تبديدها ، وحثّت على القيام بحقوقهم واختبارهم في المعاملات قبيل سن البلوغ ، حتى يكون اليتيم مدربا على أنواع المعاملات والبيع والشراء عند ما يتسلّم أمواله.

وقد توعّدت السورة آكل مال اليتيم بالنار والسعير ، والعذاب الشديد. وقد مهدت لهذه الأحكام في آياتها الأولى ، فطلبت تقوى الله وصلة الرّحم ، وأشعرت أنهم جميعا خلقوا من نفس واحدة ، أي أن اليتيم ، وإن كان من غير أسرتكم ، فهو رحمكم وأخوكم فقوموا له بحق الأخوّة وحق الرحم ، واعلموا أن الله الذي خلقكم من نفس واحدة ، وربط بينكم بهذه الرحم الإنسانية العامة ، رقيب عليكم يحصي أعمالكم ، ويحيط بما في نفوسكم ويعلم ما تضمرون من خير أو شر فيحاسبكم عليه. وبعد هذا التمهيد ، الذي من شأنه أن يملأ القلوب رحمة ، يأمرهم الله بحفظ أموال اليتامى حتى يتسلموها كاملة غير منقوصة ، ويحذرهم من الاحتيال على أكلها من طريق المبادلة ، أو من طريق المخالطة قال تعالى :

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) [الآية ٢].

أي لا تخلطوا مال اليتيم بمالكم ليكون ذلك وسيلة تستولون بها على مال اليتيم ، تحت ستار الإصلاح بالبيع أو الشراء ، بذريعة أنه منفعة لليتيم ؛ أو بالخلط والشركة ، بذريعة أنه أفضل لليتيم.

وقد تحرّج أتقياء المسلمين من مخالطة اليتيم فأباح الله مخالطة اليتامى ما دام القصد حسنا والنية صادقة في نفع اليتيم ، والله سبحانه مطلع على السرائر ومحاسب عليها.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [الآية ٦].

١٠٨

المال والميراث

عنيت سورة النساء وغيرها بشأن المال ، من طريق المحافظة عليه وتثميره ، ونهت عن الإسراف والتبذير ، وأمرت بالتوسط في النفقة والاعتدال فيها ، لأن المال عصب الحياة ، ولأن كل ما تتوقف عليه الحياة في أصلها وكمالها وسعادتها وعزّها ، من علم وصحة وقوة واتساع عمران ، لا سبيل للحصول عليه إلا بالمال. وقد نظر القرآن إلى الأموال هذه النظرة الواقعية فحذّر من تركها في أيدي السفهاء الذين لا يحافظون عليها ولا يحسنون التصرف بها. كما أمر بتحصيلها من طرق فيها الخير للناس ، وفيها النشاط والحركة ، وفيها عمارة الكون. لقد أمر بتحصيلها من طريق التجارة ومن طريق الصناعة والزراعة ، وسمّى طلبها ابتغاء من فضل الله ، كما وصفها نفسها بأنها زينة الحياة الدنيا ومتاعها. وبلغ من عناية القرآن بالأموال أنه طلب السعي في تحصيلها بمجرد الفراغ من أداء العبادة المفروضة. قال تعالى :

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة / ١٠].

وتحدثت سورة النساء عن المواريث ونصيب كل وارث ، فأمرت أن نبدأ أولا بتنفيذ وصية الميت وتسديد ديونه ، ثم وضعت المبادئ الأساسية للميراث ونستخلص منها ما يأتي :

أولا ـ إن مبنى التوريث في الإسلام أمران : نسبي وهو القرابة ، وسببي وهو الزوجية.

ثانيا ـ إنه ، متى اجتمع في المستحقين ذكور وأناث ، أخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى.

ويجدر بنا هنا أن نشير إلى أن بعض خصوم الإسلام قد اتخذوا التفاوت ، بين نصيبي الذكر والأنثى ، مطعنا على الإسلام ، وقالوا إن هذا من فروع هضم الإسلام لحق المرأة ، والمرأة إنسان كالرجل ، وفاتهم أن الذّكر تتعدد مطالبه وتكثر تبعاته في الحياة : فهو ينفق على نفسه ، وعلى زوجه ، وعلى أبنائه. ومن أصول الشريعة أنه يدفع المهر لمن يريد أن يتزوّج بها. أما الأنثى ، فإنها لا تدفع مهرا ويلزم زوجها بنفقتها في مأكلها ومشربها ومسكنها وخدمها ، وذلك فوق تبعاته العائلية التي لا يلحق الأنثى مثلها. وبينما نرى بعض التشريعات الوضعية تقضي بحرمان

١٠٩

الأنثى كلّيا ، أو حصر الميراث في أكبر الأبناء وحده ، كما كانت الحال في بعض البلاد الأوروبية إلى وقت قريب ، فإننا نجد تشريعا آخر يقضي بمساواتها بالذكر.

ونقارن ذلك بالإسلام فنجد أن منهجه في التوريث منهج وسط ، لا إفراط فيه ولا تفريط ، فهو لم يحرم الأنثى الميراث ، بل أعطاها نصيبا مناسبا لظروفها في الحياة ، وأعطى أخاها نصيبا مناسبا لتبعاته في الحياة. وهذا هو شأن الإسلام في أحكامه وشرائعه ، فهو يعتمد على الحكمة والعدل لأنه تشريع الحكيم العليم.

تعدد الزوجات

تحدثت سورة النساء عن تعدد الزوجات ، فأباحته بشرط العدل بينهن. فإذا خاف الإنسان من عدم العدل ، فعليه الاقتصار على زوجة واحدة ، فإن ذلك أدعى إلى صفاء الحياة ويسرها وتحقيق الهدف من الزواج ، وهو المودة والرحمة.

ويرى الإمام محمد عبده أنّ تعدّد الزوجات أمر مضيّق فيه كل التضييق ، فكأن الله سبحانه قد نهى عن التعدد.

قال تعالى :

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣).

أي إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتيمات اللواتي تحت وصايتكم ، كأن يكون الدافع لكم على الزواج بهن الطمع في مالهنّ ، لا الحبّ ولا الرغبة في معاشرتهن ، أو كأن تكون فوارق السن بينكم وبينهن كبيرة ، أو كأن تهضموهن حقوقهن في مهر أمثالهن ، إن خفتم ألا تعدلوا في اليتيمات فاطلبوا الزواج بسواهن من النساء.

وبمناسبة الحديث عن الزواج ، امتد السياق إلى بيان حدود المباح من الزوجات فإذا هو (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، ولكن بشرط العدل بينهن ، العدل في المعاملة وفي الحقوق الظاهرة. أما العدل في الشعور الباطن ، فلا قبل به لإنسان ، ولا تكليف به لإنسان ، ما اتّقى إظهاره في المعاملة ، وتأثيره على الحقوق المتعادلة. فإن وجد في نفسه ضعفا عن ذلك العدل ، وخاف ألا يقدر على تحقيقه ، فالحلال واحدة فقط وما سواها محظور :

١١٠

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)

والنص الشرطي يحتم هذا المعنى هنا ويعلله بأن ذلك التحديد بواحدة في هذه الحالة أقرب إلى اجتناب الظلم والجور.

(ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣).

أي لا تجوروا وتظلموا.

والظلم حرام فالوسيلة إليه حرام ، واجتناب الظلم واجب وما لا يكون الواجب إلا به فهو واجب.

فإذا كان العدل يتحقق بترك التعدد ، فالاقتصار على الزوجة الواحدة واجب.

وفي ختام الآية وصية جديدة بالاقتصار على الزوجة الواحدة لأنه أدعى إلى العدل والاستقرار ، والبعد عن الظلم وكثرة العيال.

شبهة تفتضح ، وحجة تتّضح

تكلم الأوروبيون بكثير من الكلام المعسول ، فمثلا (كانتى) يقول : «إن شرف الإنسان أسمى من أن يمتهن أو أن يجعل أداة متعة».

والحقيقة أن الأوروبيين هم الذين جعلوا الأخدان أداة متعة ، فقط ومنعوهن حقوق الزوجية في النفقة أو الميراث أو إلصاق الولد ، في حين أن الإسلام يحرم اتخاذ الأخدان والخليلات ، يقول تعالى :

(مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ) [الآية ٢٥]. ويقول الرسول (ص) :

«إنّ الله لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا».

ونشأ عن كثرة الأخدان وانتشارهن في أوروبا انتشار الأمراض السارية الفظيعة ، وقلة النسل لأن النسل إما أن يخنق ، أو تجهض الحامل ، أو يمنع الحمل. وهل غفل الأوروبيون عن المصير السيّئ الذي ينتظرهم إذا استمر الحال ، فالكبير يموت والنشء يقتل؟ ... تنبهوا لذلك ، فصدرت قوانين تقول مثلا : أبناء الزواج الحر ، إذا اعترف بهم أبوهم ، ألحقناهم به فينال الأولاد كل حقوق الأبناء. فهم تفادوا اسم الزوجة فقط ، والأبناء منها يتمتعون بكل الحقوق.

وقد ذكر لنا أستاذنا المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز ، أنه شاهد أثر الحروب في ألمانيا ، ورأى النساء يطالبن هناك بتعدد الزوجات لتجد

١١١

المرأة التي مات زوجها في الحرب من يكفلها وينفق عليها وعلى ما ينجب منها. وذكر لنا أن جمعية تألفت في ألمانيا تطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية في الزواج والطلاق.

ومع ذلك فالإسلام لم يحرض على تعدد الزوجات بل قال :

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) (٣).

وإذا استلهمنا روح النص ومراميه وجدنا أن التعدد رخصة ، وهي رخصة ضرورية لحياة الجماعة في حالات كثيرة ، وهي صمام أمان في هذه الحالات ، ووقاية ليس في وسع البشرية الاستغناء عنها. ولم تجد البشرية حتى اليوم حلا أفضل منها ، سواء في حالة إخلال التوازن بين عدد الذكور وعدد الإناث ، عقب الحروب والأوبئة التي تجعل عدد الإناث في الأمة أحيانا ثلاثة أمثال عدد الذكور ، أم في حالات مرض الزوجة أو عقمها ، ورغبة الزوج في الإبقاء عليها أو حاجتها هي إليه ، أو في الحالات التي يكون الرجل فيها ذا طاقة حيوية فائضة لا تستجيب لها الزوجة ، أو لا تجد كفايتها في زوجة واحدة. وكلها حالات فطرية وواقعية لا سبيل إلى تجاهلها. وكل حل فيها ، غير تعدد الزوجات ، يفضي إلى عواقب أوخم خلقيا واجتماعيا. ضرورة تواجه ضرورة. ومع هذا ، فهي مقيدة ، في الإسلام ، باستطاعة العدل والبعد عن الظلم والجور ، وهو أقصى ما يمكن من الاحتياط.

التضامن الاجتماعي

حثت سورة النساء على صدق العقيدة والإخلاص لله في العبادة ، كما حثت على الإحسان إلى الوالدين ، وصلة الرحم ، وإكرام اليتامى والمساكين والإحسان إلى الجار ورحمة الفقير والمحتاج ومساعدة الخدم والضعفاء ، وحذّرت من البخل والكبر والرياء ، ونهت عن الكفر والجحود ومعصية الله والرسول. وذلك في جملة آيات تبدأ بقوله تعالى :

(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (٣٦).

وهذه الآية وما بعدها دعوة عملية

١١٢

إلى «الضمان الاجتماعي» ، وتحذير من البخل والشح ، وبيان أن المال مال الله ، وأن الغنيّ مستخلف عن الله في إدارته وتثميره وإنفاقه في نواحي الخير والبر. وقد فرض الله حقوقا للفقراء من مال الأغنياء فأوجب الزكاة والصدقة وحث على الإنفاق في سبيل الله. وجعل طرق البر متعددة ، منها صدقة الفطر في عيد الفطر ، والأضحية في عيد الأضحى ، والهدى في موسم الحج. وجعل الله موردا لا ينقطع لصلة الفقراء ، ألا وهو الكفّارات التي أوجبها ، ككفارة الظّهار ، وكفارة اليمين ، وكفارة صوم رمضان. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الكفارات إطعام المساكين أو كسوتهم. كما أوجب الله الوفاء بالنذر ولم يجعل الزكاة تطوّعا بل جعلها فريضة لازمة يثاب فاعلها ويعاقب جاحدها. ونلحظ أن الزكاة تتفاوت في نسبتها فتبدأ من ٥ ، ٢ خ وهي زكاة المال ، وتصل إلى ٢٠ خ وهي زكاة الركاز والمعادن والبترول. وكلما كان عمل العبد أظهر ، كانت نسبة الزكاة أقل كما في زكاة المال ، وزكاة التجارة. وكلما كان عمل القدرة الإلهية أظهر ، كانت نسبة الزكاة أكثر كما في زكاة الزراعة وزكاة الركاز.

المحرّمات من النساء

انفردت سورة النساء بكثير من أحكام المجتمع ، ولا سيما أحكام الأسرة والزوجية ، كما انفردت ببيان مفصّل للمحرّمات من النساء ، وبدأت ذلك بقوله تعالى :

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٢٢).

ولا شك أن توارد رجل وابنه على امرأة واحدة ، أمر ممقوت تنفر منه الفطر السليمة ، وتمجّه الأذواق.

ثم جاءت بقية السورة ببقية المحرمات ، فحرّمت زواج الإنسان بأمه وبابنته وبأخته من الرّضاعة ومن النسب ، وحرمت زواج الرجل من بنات الأخ وبنات الأخت والأم من الرّضاعة ، وحرمت أم الزوجة التي دخل بها زوجها ، كما حرمت زواج الإنسان من زوجة ابنه وحرمت الجمع بين الأختين.

الحكمة من هذا التّحريم

إن الزواج وسيلة مشروعة لإمتاع النفس وإنجاب الذرية وتكوين الأسرة.

١١٣

فإذا أبيح وتزوج الإنسان من أقرب الناس إليه كالأم والبنت ، اصطدمت حقوق هؤلاء الأقارب بحقوق الزوجية ، فالأم مثلا لها حق الطاعة والاحترام ؛ فلو اتخذها الإنسان زوجة ، لكان له عليها حق القوامة وحق الطاعة والخضوع. فضلا عما هو غنيّ عن البيان من نفور الإنسان من هذا اللون من المتاع ، فبهيميّة ، أيّ بهيمية ، أن يتمتع الرجل بأمه. ومثل هذا يقال في درجات القرابة الأخرى. فالخالة لها ما للأم ، والعمة لها ما للأب ، والأخت وابنتها وابنة الأخ ، وابنة الإنسان التي هي قطعة منه ، كل هؤلاء تستقبح الأذواق نكاحهن وافتراشهن ، ولا يمكن أن يتصور المرء في هذا الوضع ، إذا أبيح ، إلا المفارقات والصعاب ، وضعف النسل وسوء المنقلب.

ومثل هذا يقال أيضا في نكاح من حرمن من جهة الرضاع ، فإن المرضع أمّ في الكرامة ولها حق الأم في وجوب الرعاية ، وليس من شأن الإنسان أن يلتمس منها ما يلتمسه الرجل بالزوجية.

وقد حرمت السورة الجمع بين الأختين ، والجمع بين الأم وابنتها حتى لا تقطع الأرحام ، فإن المرأة تغار من ضرتها ، وتفعل الكثير في سبيل إبعادها عن زوجها. ولو أبيح الجمع بين الأقارب لطعنت المرأة في أختها وفي أمها ، ولأدركها نوع من الغيرة الشديدة فانقطعت بذلك صلاتها من النسب ، وتعرضت بذلك الأمر إلى خطر شديد. قال تعالى :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٣).

مصادر التشريع في الإسلام

أمرت سورة النساء بالعدل في الحكم وأداء الأمانات إلى أهلها. وبينت أن الأمانة والعدالة من أسباب الرقي والتقدم والسعادة في الدنيا والآخرة.

١١٤

وبهذه المناسبة ذكرت السورة مصادر التشريع التي يجب أن يرجع إليها المسلمون في تصرفاتهم وأحكامهم وهي :

أولا ـ القرآن الكريم ، والعمل به هو طاعة الله.

ثانيا ـ سنة الرسول قولية كانت أم فعلية ؛ والعمل بها هو طاعة الرسول.

ثالثا ـ رأي أهل الحل والعقد في الأمة من العلماء وأرباب النظر في المصالح العامة كالجيش ، والزراعة ، والصناعة ، والتعليم ، كلّ في دائرة معرفته واختصاصه ، والعمل بالرأي هو إطاعة أولي الأمر.

وهذه المصادر في الرجوع إليها مرتّبة على هذا النحو ، فلا نرجع إلى السّنّة إلا بعد عدم العثور على الحكم في القرآن ، فنرجع إلى السنة حينئذ ، إما لمعرفة الحكم الذي لم يرد في القرآن ، وإما لبيان المراد مما ورد في القرآن. ولا نلتجئ إلى رأي أولي الأمر إلا بعد عدم العثور على الحكم في السنة ، وعندئذ نرجع إليهم ليجتهدوا رأيهم. وهذا الاجتهاد هو عنصر «الشورى» الذي عليه أمر المسلمين. ومتى تحقق الاتفاق وجب العمل به ولا يصح الخروج عنه ما دامت وجوه النظر التي أدت إليه قائمة ، وهو أساس فكرة الإجماع في الشريعة الإسلامية. وقد انتفع به المسلمون كثيرا ، واتسع به نطاق الفقه الإسلامي ، وبخاصة في ما ليس منصوصا عليه في كتاب الله وسنة الرسول ؛ وهو يشمل إصدار حكم على حادثة مثل حادثة سابقة للاشتراك بينهما في المعنى الموجب لذلك الحكم ، وهذا هو المعروف ، في لغة الفقهاء والأصوليين ، باسم «القياس» وقد بحثوه بحثا مستفيضا ، بيّنوا فيه أركانه ، وشرائطه ، وعلته ، وما ينقضه ، وما لا ينقضه وما يجري فيه ، وما لا يجري فيه ، وقد تكفلت به كتب الأصول فليرجع إليها من يشاء.

الاجتهاد من مصادر التشريع

وبابه مفتوح أبدا

ويشمل أيضا النظر في تعرف حكم الحادثة من طريق القواعد العامة وروح التشريع التي عرفت من جزئيات الكتاب ، وتصرفات الرسول ، وأخذت في نظر الشريعة مكانة النصوص القطعية التي يرجع إليها في تعرف الحكم للحوادث الجديدة. وهذا النوع

١١٥

هو المعروف بالاجتهاد من طريق الرأي وتقدير المصالح. وقد رفع الإسلام بهذا الوضع جماعة المسلمين عن أن يخضعوا في أحكامهم وتصرفاتهم لغير الله ، ومنحهم حق التفكير والنظر والترجيح واختيار الأصلح ، في دائرة ما رسمه من الأصول التشريعية ، فلم يترك العقل وراء الأهواء والرغبات ، ولم يقيده ، في كل شيء ، بمنصوص قد لا يتفق مع ما يجد من شؤون الحياة ، كما لم يلزم أهل أي عصر باجتهاد أهل عصر سابق دفعتهم اعتبارات خاصة إلى اختيار ما اختاروا. وهنا نذكر بالأسف هذه الفكرة الخاطئة الظالمة التي ترى وقف الاجتهاد وإغلاق بابه ، ونؤكد أن نعمة الله على المسلمين بفتح باب الاجتهاد لا يمكن أن تكون عرضة للزوال بكلمة قوم هالهم ، أو هال من ينتمون إليهم من أرباب الحكم والسلطان ، أن يكون في الأمة من يرفع لواء الحرية في الرأي والتفكير ، فالشريعة الإسلامية شريعة عامة خالدة ، صالحة لكل زمان ومكان.

وما على أهل العلم إلا أن يجتهدوا في تحصيل الرسائل التي يكونون بها أهلا للاجتهاد في معرفة حكم الله الذي أوكل معرفته ، رأفة منه ورحمة ، إلى عباده المؤمنين :

(وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [الآية ٨٣].

واقرأ في هذا الموضوع كله قوله تعالى من السورة :

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٥٩).

القتال وأسباب النصر

عنيت سورة النساء بتنظيم شؤون المسلمين الداخلية ، وحفظ كيانهم الخارجي. وقد حثت السورة على القتال ودعت إليه حيث يقول تعالى :

(فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٧٤).

١١٦

وبينت السورة أهداف القتال في الإسلام. وهذه الأهداف تنحصر في رد العدوان وإشاعة الأمن والاستقرار ، وحماية الدعوة ، والقضاء على الفتن التي يثيرها أرباب المطامع والأهواء. ومن ذلك نعلم أن الإسلام ، حينما شرع القتال ، نأى به عن جوانح الطمع والاستئثار ، وإذلال الضعفاء ، واتخذه طريقا إلى السلام العام بتركيز الحياة على موازين العدل والمساواة. وليصل المسلمون بالقتال إلى الغاية السامية التي أمر بها الله ، لفت القرآن أنظار المؤمنين إلى أن للنصر أسبابا ووسائل هي :

١ ـ تقوية الروح المعنوية للأمة : فقد نزل القرآن روحا وحياة ومنهجا ورسالة ، وتحول العرب بالقرآن إلى أمة عزيزة ، متمسكة بالحق ، ثابتة عليه ، متحملة صنوف الأذى وألوان الاضطهاد. فلما أذن الله لها بالجهاد كانت لها راية النصر في أكثر معاركها ، لأن لها ، من يقينها وإيمانها ، ما يكفل لها النصر والغلبة.

٢ ـ إعداد القوة المادية وتنظيمها ، قال تعالى :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال / ٦٠].

ويشمل ذلك فنون الحرب وأساليبها ، ومعرفة أحدث أدواتها ، وكيفية استعمالها.

٣ ـ الشكر على النعماء ثقة بأن النصر من عند الله ، فينبغي ألّا تأخذ المحارب نشوة النصر ، فيخرج عن اتزانه ، بل عليه أن يزداد تواضعا وخشوعا لعظمة الله ، ويزيد في طاعة الله ونصره ، لقوله سبحانه :

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد / ٧].

٤ ـ الصبر على البأساء ثقة والتزاما بأن مع اليوم غدا ، وبأن الأيام دول : يوم لك ويوم عليك ، وأن الشجاعة صبر ساعة وليس الصبر هنا صبر الذليل المستكين ، بل صبر المطمئن إلى قضاء الله وقدره ، والمؤمن بحكمته ، والمستعد ليوم آخر ينتصف فيه من عدوه. قال تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٢٠٠) [آل عمران].

٥ ـ ومن أسباب النصر ثقة المؤمن بأن الأجل محدود ، وأن الرزق محدود. فالشجاعة لا تنقص العمر ، والجبن لا يزيده. ومن أسباب النصر

١١٧

طاعة الله والتزام أوامره واجتناب نواهيه ، قال تعالى :

(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران / ١٢٦].

٦ ـ ومن أسباب النصر أخذ الحذر والحيطة والابتعاد عن اتخاذ بطانة مقرّبة من المنافقين والملحدين والخونة ، قال تعالى :

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) (٨٨).

٧ ـ تذكّر فضل الجهاد وثواب البذل والتضحية ، وعقوبة التثاقل والفرار من الجهاد ، وتذكر ما أعده الله للمجاهدين والمكافحين في سبيل الحق من عز الدنيا وشرف الآخرة ، قال تعالى :

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠).

١١٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «النساء» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة النساء بعد سورة الممتحنة ، ونزلت سورة الممتحنة عقب صلح الحديبية. وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة ، فيكون نزول سورة النساء في ما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأن كثيرا من الأحكام التي ذكرت فيها تتعلق بالنساء. وتبلغ آياتها ستا وسبعين ومائة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة في كثير من الأحكام التي شرعت بعد سورة البقرة ، فذكر فيها ما شرع من هذه الأحكام ، كما ذكر في سورة البقرة ما شرع من الأحكام في عهدها. وقد اشتملت سورة النساء مع هذا على بيان حال أهل الكتاب والمنافقين في الزمن الذي نزلت فيه ، وكانوا قد غلوا في أمرهم مع المسلمين ، وزادوا في إيذائهم عما كانوا عليه في الزمن الذي نزلت فيه سورتا البقرة وآل عمران ، فقوبلوا ، في هذه السورة ، بما يليق بذلك من الشدة في الخطاب ، وأمر المسلمون فيها باستعمال الشدة معهم ، وكانوا يؤمرون في سورتي البقرة وآل عمران باللين معهم والصبر على أذاهم.

وقد ابتدأت هذه السورة بآية جاءت مطلعا بارعا لما جاء بعدها من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز. المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١٩

الأحكام ، ثم جاء بعدها آيات كثيرة من الأحكام والشرائع ، ثم استطرد منها إلى شرح أحوال اليهود من أهل الكتاب ، ثم عاد السياق بعد ذلك إلى ما كان عليه من بيان الشرائع والأحكام ، ثم استطرد منه إلى الكلام ثانيا في أحوال المنافقين وأهل الكتاب ، ثم ختمت السورة بالعودة إلى سياقها الأول ، ليكون آخرها مشاكلا ، بهذا ، لأولها.

وقد جاءت سورة النساء بعد سورتي البقرة وآل عمران : لأنها تشبههما في الطول ، وفي ما تناولته من بيان بعض الأحكام العملية ، وشرح بعض أحوال أهل الكتاب والمنافقين.

براعة المطلع

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [الآية الأولى] ، فأمر الناس بالتقوى لما سيأتي في السورة من الأحكام. والتقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي. ثم ذكر أنه خلقنا من نفس واحدة وجعل منها زوجها ، لأن كثيرا من هذه الأحكام قد شرع لتنظيم العلاقة بين الزوجين ثم كرر الأمر بتقوى الله الذي يتساءلون به والأرحام (إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١).

أحكام اليتامى والسفهاء

الآيات [٢ ـ ٦]

ثم قال تعالى : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ) [الآية ٢] ، فأمرهم بأن يؤتوا اليتامى أموالهم بالإنفاق عليهم منها وتسليمها لهم بعد بلوغهم. ونهاهم أن يضموا أموالهم في الإنفاق ، لتتميز أموالهم وحدها ، ولا يدخل شيء منها في أموالهم. ثم أمرهم أن يتركوا نكاح اليتيمة إذا خافوا أن يطمعهم ذلك في أموالها وأموال إخوتها فلا يقسطوا فيها. ووسّع عليهم في نكاح غيرها إلى أربع ، حتى لا يكون لهم عذر في نكاح اليتيمة في تلك الحالة ، ثم أمرهم أن يؤتوا النساء مهورهن حتى لا يظنوا أنها بخلاف مهر اليتيمة يحلّ لهم الطمع فيها ، وأحل لهم أن يأخذوا منها ما تطيب نفوسهن به ، لأنهن يحلّ لهن التصرف فيها بخلاف اليتيمة لرشدهن ، ثم نهاهم أن يؤتوا السفهاء من اليتامى وغيرهم أموالهم ، وأمرهم أن يبتلوا اليتامى عند بلوغهم ، فإذا ظهر أنهم غير سفهاء دفعت إليهم أموالهم. ثم

١٢٠