الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٢

تاب منهم عن الكتمان وآمن يقبل الله توبته ، ومن أصرّ على الكفر استحقّ تلك اللعنة ، ثم شرع يوبخ اليهود على انقيادهم لأولئك الأحبار الذين يكتمون عنهم ذلك ، واتخاذهم أندادا من دون الله ، فذكر سبحانه لهم أنّ إلههم واحد لا شريك له ، وأنّ في خلق السماوات والأرض وغيرهما آيات دالّة على تفرّده بالألوهية ، فلا يليق بهم أن يتّخذوا أحبارهم الذين يكتمون عليهم ذلك أندادا من دونه ، فيحبّوهم كحبّه ولا يعصوهم في شيء. ولو يرون ما أعدّ لهم من العذاب لتدبّروا في أمرهم ، لأنّهم حين يرونه تتقطع بهم الأسباب ، ويتبرّأ المتبوعون من التابعين ، فلا يمنعون عنهم شيئا من العذاب. ويودّ التابعون لو أنّ لهم كرّة إلى الدنيا لتبرءوا منهم كما تبّرأوا منهم ، ثم أمرهم بعد هذا التحذير البالغ من أحبارهم أن يأكلوا ممّا في الأرض حلالا طيّبا ، ولا يتّبعوا خطواتهم في ما يحرمون عليهم من الطيبات ، لأنّهم يتّبعون بهذا خطوات الشيطان وهو أشدّ أعدائهم ، ويقولون على الله ما لا يعلمون تقليدا لأحبارهم ، ولكنّهم إذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله من حل تلك الطيبات ، أبوا إلّا تقليد أولئك الأحبار ، ولو كانوا لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ، ومثل من يدعوهم إلى ذلك كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلّا دعاء ونداء ، ولا يفهم ممّا يدّعي به شيئا. ثم ترك دعاءهم إلى ذلك لأنّه لا يرجى صلاحهم ، وأمر المؤمنين بما أمر به أولئك المخالفين ، وأن يشكروه على ما أحلّ من ذلك ، وذكر لهم أنّه لم يحرّم عليهم إلّا الميتة والدم وما ذكر معهما ، ثم عاد السياق إلى أولئك الأحبار فذكر أنّهم يكتمون ما أنزل الله من البشارة بالنّبي (ص) ، ويشترون بهذا ثمنا قليلا من دنياهم ، وهددهم بأنهم يأكلون به نارا في بطونهم ، وينالون به غضبه عزوجل عليهم في أخراهم ، إلى غير هذا ممّا ذكره في تهديدهم ؛ ثم ذكر أنّهم استحقوا ذلك بأنّه نزّل القرآن بالحق فلم يؤمنوا به ، ووقعوا في ذلك الشغب والشقاق البعيد ، وهو الذي جاء في تلك المقالات التي ردّت عليهم.

ثم ختم ذلك الجدال معهم بأنّ ما يتعلقون به من أمر القبلة لا يذكر فيما يجب من البرّ ، ولكن البرّ من آمن بالله واليوم والاخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال ، على حبه ، ذوي

٦١

القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، إلى غير هذا من أنواع البرّ ، ثم مدح من جمع ذلك كله فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (١٧٧).

حكم القصاص

الآيتان [١٧٨ ـ ١٧٩]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [الآية ١٧٨] ، فشرع في بيان الأحكام التي أراد ذكرها في هذه السورة ، وذلك بعد أن حاجّ اليهود ، ومهّد لذلك بأنّ المهم هو ما جاء به القرآن من الأحكام ، لا ما تعلّقوا به من أمر القبلة ونحوه ، ولا شك أنّ في هذا ما تستشرف به النفس لبيانها ، وتتطلّع إلى معرفة بعضها ، وقد بدأ منها بحكم القصاص الذي يراد به حفظ النفس ، وهو من أهم أغراض الشرائع. وقد كان اليهود يوجبون فيه القتل فقط ، وكان العرب لا يقتصرون على قتل القاتل ، فأتى الإسلام فيه بالقصاص العادل ، وندب إلى أخذ الدّية والعفو عن القاتل ، ثم ختمه بما في القصاص من الفوائد العظيمة (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٧٩).

حكم الوصية

الآيات [١٨٠ ـ ١٨٢]

ثم قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (١٨٠) وكانوا قبل الإسلام يوصون للأبعدين طلبا للفخر والشرف ، ويتركون الأقارب في الفقر والمسكنة ، فجعل الوصية لهم لأنّهم أولى بمال قريبهم. ثم حذّر من تبديل الوصية إلّا إذا كان فيها جنف أو إثم (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٨٢).

حكم الصيام

الآيات [١٨٣ ـ ١٨٧]

ثم قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٨٣) فذكر أنّه أوجب عليهم الصوم كما أوجبه على الذين من قبلهم ، وأنه في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ؛ وأوجب الفدية على من لا يطيق الصوم فيه لمرض أو نحوه ، وندب إلى إحيائه بالتكبير والذكر والدعاء ، ثم ذكر أنه أحلّ لهم ليلة الصيام الرفث والأكل

٦٢

والشرب إلى طلوع الفجر ، إلى أن قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (١٨٧).

تحريم الكسب الحرام

الآية [١٨٨]

ثم قال تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [الآية ١٨٨] ، فحرّم أن يأكل بعضهم أموال بعض بالباطل ، وأن يرشوا بها الحكام ليأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وهم يعلمون.

حكم الأهلة

الآية [١٨٩]

ثم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) [الآية ١٨٩] ، وقد سألوه عن الأهلّة ما بالها تبدو دقيقة كالخيط ثم تزيد حتّى تمتلئ وتستوي ثم تنقص حتّى تعود كما بدت؟ فأجابهم ببيان حكمها ، وهو أنّها مواقيت للناس والحج ، لأنه لم يبعث إليهم ليعلمهم مثل ذلك من علم الفلك ؛ ثم ضرب لسؤالهم مثلا من يأتي البيوت من ظهورها ، وكنّى بهذا عن العدول عن الطريق الصحيح في السؤال ؛ ثمّ أمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها ، ويتّقوه ، لعلّهم يفلحون.

حكم القتال

الآيات [١٩٠ ـ ١٩٦]

ثم قال تعالى (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (١٩٠) ، فأذن لهم في قتال من يقاتلهم ، ونهاهم عن قتال من لم يقاتلهم ، ثم أمرهم أن يقتلوا من أمروا بقتالهم في أي مكان وجدوهم فيه ، ونهاهم أن يقاتلوهم عند المسجد الحرام إلّا إذا بدءوهم بالقتال ، إلى أن ختم ذلك بأمرهم بالجهاد بأموالهم أيضا ، فقال :

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥).

حكم الحج والعمرة

الآيات [١٩٦ ـ ٢١٤]

ثم قال تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) [الآية ١٩٦] ، فذكر أحكام الحج والعمرة إلى أن أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام ، ثم ذكر أنّ الذين يشهدون هذه المناسك : منهم كافر لا

٦٣

يقصد من ذكره ودعائه إلّا الدنيا فقط ، ومنهم مسلم يقصد من ذكره الدنيا والاخرة. ثم أمرهم بذكره سبحانه في أيام التشريق ، ونفي الإثم عمّن تعجّل في يومين منها وعمّن تأخّر إلى آخرها ؛ ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك فريق المنافقين ، وأنّ من يسمعه يعجبه قوله في الحياة الدنيا ، وأنّه يشهد الله على إخلاصه وهو ألدّ الخصام. وأنّه إذا انصرف من مناسكه سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ، وأنّه إذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم.

ثم ذكر أنّ ممّن يشهد هذه المناسك مؤمنين يبتغون بها رضاه ، ويتّقونه حقّ تقواه ؛ ثم خاطب أولئك المنافقين الذين يظهرون الإيمان ، فأمرهم أن يدخلوا في السّلم ، ويتركوا ذلك الفساد في الأرض ، وحذّرهم أن يزلّوا عن ذلك ، وخوّفهم هول يوم القيامة حين يأتي أمره بالحساب والعذاب ، وأمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم ما جرى لبني إسرائيل حين زلّوا ليعتبروا بهم ؛ ثم ذكر السبب في نفاقهم وهو اغترارهم بزينة الحياة الدنيا ، واعتقادهم أنهم أعلى منزلة من المؤمنين الصادقين ، لغناهم وفقرهم. وقد كان هذا هو السبب في كفر من قبلهم ؛ فإنّ الناس كانوا أمّة واحدة قائمة على الحق ، ولم يختلفوا إلّا بسبب البغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا ، وقد هدى الله المؤمنين الصادقين لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ؛ ثم ذكر أنّه لا بدّ لمن يريد الاخرة أن يناله من الشدائد والفقر ما نال المؤمنين قبله من الرسل والذين آمنوا معهم (مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤).

أحكام متفرقة

الآيات [٢١٥ ـ ٢٢٥]

ثم قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥) ، فرجع السياق بعد ذلك الاستطراد إلى الكلام على الأحكام ، وذكر حكم الإنفاق من جهة مصرفه وأنّه يصرف للوالدين ومن ذكر معهما ، ثم حكم فرض القتال ، وأنّه يجوز في الشهر

٦٤

الحرام للضرورة ، ثم ذكر تحريم الخمر والميسر ، ثم ذكر حكم الإنفاق من جهة أنّه يكون من فضل الأموال ، ثم ذكر كفالة الأيتام بالإصلاح لهم ومخالطتهم في المأكل والمشرب ، ثم ذكر حكم نكاح المؤمنين للمشركات ونكاح المشركين للمؤمنات ؛ ثم ذكر تحريم الوطء في الحيض ؛ ثم ذكر جواز إتيان النساء على أيّ وجه فيما يجوز إتيانهنّ فيه ؛ ثم ذكر حكم الحلف به ، وأنه لا يؤاخذ باللغو فيه : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥).

حكم الإيلاء والعدة والطلاق

الآيات [٢٢٦ ـ ٢٣٧]

ثم قال تعالى : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢٦) فذكر الإيلاء وعدّة المولّى عليها ، ثم ذكر عدّة المطلقة بعد الدخول : أنه يجوز مراجعتها إن طلقت مرة أو مرتين ، ولا يجوز مراجعتها إن طلقت ثلاثا إلّا إذا نكحها شخص آخر ، ولا يجوز إمساكها ضرارا بأن يرجعها في آخر عدّتها ليطلّقها ثانيا وتأخذ في عدّة أخرى ، ولا يجوز منعها من الزواج بعد انقضاء عدتها غيرة عليها ، وإذا كان لها ولد فلها حق الرضاعة والنفقة حولين كاملين. ثم ذكر عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وأنه يجوز التعريض بخطبتها في عدّتها ؛ ثم ذكر أنّه لا عدّة للمطلقة قبل الدخول ، ولها من المهر نصفه ، ولمّا بيّن حقوق الرجال والنساء في ذلك أرشدهم إلى التسامح فيها ، فقال : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧).

حكم الصلاة في الأمن والخوف

الآيتان [٢٣٨ ـ ٢٣٩]

ثم قال تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨) ، فأمرهم بالمحافظة على الصلوات في حال الأمن ، بأن يأتوا بها مستوفية الأركان. فإذا كانوا في شدة خوف أتوا بها كيف أمكنهم رجالا أو ركبانا (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩).

حكم الوصية للأزواج

الآية [٢٤٠]

ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ

٦٥

(مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) [الآية ٢٤٠] ، فذكر أنّ الذين يتوفون منهم عليهم الوصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكناه ، فإن خرجن قبل ذلك بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله لهنّ فيما سبق فلا حرج عليهنّ فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف أي نكاح صحيح ، وكانوا في الجاهلية يوجبون عليهنّ القيام بهذه الوصية.

حكم نفقة المطلقات

الآيتان : [٢٤١ ـ ٢٤٢]

ثم قال تعالى : (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١) والمراد بالمتاع هنا نفقتهنّ مدة العدّة ، وقد جعل ذلك حقا على المتّقين (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢).

الترغيب في الجهاد

بالنفس والمال

الآيات [٢٤٣ ـ ٢٨٤]

ثم قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣) ، فأخذ يرغب في الجهاد بالنفس والمال بعد أن أذن للمسلمين فيه وفرضه عليهم ، وقد مهّد لذلك بذكر قصة تدل على أنّ الحذر من الموت لا يفيد ، لأنّ الحذر من الموت هو الذي يخوّفهم من الجهاد ؛ فذكر قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالقتال فتقاعسوا خوفا على أنفسهم ، فأرسل الله عليهم وباء قضى على كثير منهم ، فاعتبر به من نجا وجاهد في سبيل الله شكرا له على نجاته ؛ ثم أمر المسلمين بالقتال في سبيله بعد هذا التحذير ، ووعد من ينفق منهم شيئا فيه بأن يضاعفه له أضعافا كثيرة.

ثم ذكر لهم قصة ثانية تقتلع (١) خوف الجهاد من نفوسهم لقلّة عددهم ، وتشتمل على عظات تنفعهم في جهادهم ، وهي قصة بني إسرائيل حين طلبوا من نبيهم صموئيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون تحت رايته ، فلمّا كتب

__________________

(١). ويجوز أن تكون هذه القصة تفصيلا للقصة الأولى.

٦٦

عليهم القتال تولوا إلّا قليلا منهم. ولما ذكر لهم صموئيل أنّ الله بعث لهم طالوت ملكا عابوه لفقره. فردّ عليهم بأنّه يفضلهم ببسطة العلم والجسم ، وبأنّه سبحانه يؤتي ملكه من يشاء ولا ينازعه أحد في ملكه ، ثم ذكر ابتلاءه لجند طالوت حين خرج بهم ، وأنّه لم يصبر على هذا الابتلاء إلا قليل منهم ، فساروا معه حتى إذا رأوا جالوت وجنوده قالوا لا طاقة لنا بهم ، وقال الذين يظنون أنّهم ملاقو الله ، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، ثم برزوا لهم واستعانوا بالله عليهم ، فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة جزاء له على قتله ؛ ثم ختم القصة ببيان حكمة الجهاد في سبيله ، فذكر أنّه لولا دفع العصاة بالطائعين لفسدت الأرض ، ثم نوّه بشأن ما تلاه من الآيات ، في تلك القصة وجعلها دليلا على أنّه من المرسلين ؛ ثم ذكر أنّه فضّل بعضهم على بعض في الآيات ، وأنّه سبحانه لو شاء ، لهدى الناس ولم يقتتلوا من بعد ما جاءهم منها ، ولكنّهم اختلفوا : فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، وقاتل الكافرون المؤمنين فقاتلوهم كما يقاتلونهم. ثم أخذ يحضّهم على الجهاد بطريق الترغيب ، فأمرهم أن ينفقوا فيه ممّا رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا يقبل فيه فداء ، ولا تفيد فيه صداقة ولا شفاعة ، ثم ذكر من عظمته ما يؤكد ذلك ، ويثبت أنّه لا يمكن أن يشفع أحد عنده إلّا بإذنه ، وهو لا يأذن بالشفاعة إلّا في حق الطائعين المجاهدين في سبيله ، ثم ذكر أنّه لا يكرههم بذلك على الإنفاق والجهاد ، لأنه لا إكراه في الدين ، وقد تبيّن الرشد من الغيّ ، فمن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت فقد استمسك بالعروة الوثقى ، ثم ذكر أنّه هو الذي يتولّى المؤمنين فيخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأنّ الكافرين أولياؤهم الطاغوت فيخرجونهم من النور إلى الظلمات ؛ وبهذا يصير المؤمنون إلى الإيمان باختيارهم وتوفيق الله لهم ؛ ويصير الكافرون إلى الكفر باختيارهم وإيثارهم ولاية الطاغوت لهم ؛ ثم ضرب لذلك ثلاثة أمثال : أولها مثل إبراهيم ونمرود ، فقد أفحمه إبراهيم بدليله ولكنّه تولى الطاغوت فأضلّه ؛ وثانيها مثل الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، فقال : أنّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم تولّاه الله فهداه ؛ وثالثها مثل إبراهيم حين قال : ربّ

٦٧

أرني كيف تحيي الموتى؟ فأراه ذلك وتولّاه فزاده إيمانا على إيمانه.

ثم عاد السياق إلى الترغيب في إنفاق المال في سبيل الله ليفصّل تلك الأضعاف الكثيرة التي ذكرت في الطريق الأول ، ويضرب سبحانه لذلك مثل الحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، ويبيّن ما يجب في ذلك من ترك المنّ والأذى ، لأنّهما يبطلان ثوابه عنده ، ومن اختيار الطيبات للإنفاق ، فينفق كل شخص من طيبات كسبه ، ولا يسمع للشيطان الذي يخوفه من الفقر فيحسن له الإنفاق من الخبيث ، بل يسمع لله الذي يعدّه مغفرة منه.

ثم أخذ في الكلام على الربا لأنّه هو الذي يربي في النفس الشحّ بالإنفاق ، وذلك لأنه يزيد في المال ، والإنفاق ينقص منه ، فقبّح حال الذين يأكلون الربا ، وهددهم عليه أقوى تهديد ، وذكر أنه يمحق المال الذي يدخله الربا ، ويربي المال الذي يدخله الإنفاق والصدقات ، وأنّه لا يحب من يأكل الربا من كل كفّار أثيم ؛ وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الإنفاق وغيره لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ثم أمر الذين كانوا يتعاطون الربا قبل تحريمه أن يتركوا ما بقي منه ، وآذنهم بحربه إن لم يفعلوا ما أمرهم به ، وإذا تابوا فليس لهم إلّا رؤوس أموالهم ، وإذا أعسر لها المدين أمهل إلى أن تتيسّر له ، والتصدق بها خير لهم لو كانوا يعلمون.

ثم أحلّ لهم السلم ليجدوا منه وسيلة للحصول على ما يحتاجون إليه من المال بدل الربا ، وأمرهم إذا تداينوا بدين أن يكتبوه ويشهدوا عليه ، وإن كانوا على سفر ولم يجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ، ثم نهاهم عن كتمان الشهادة في ذلك ، وأخبرهم بأنّه يعلم ما يفعلونه فيها ، وهو الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وإن يبدوا ما في أنفسهم أو يخفوه يحاسبهم به : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٨٤).

الخاتمة

الآيتان [٢٨٥ ـ ٢٨٦]

ثم قال تعالى (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) (٢٨٥) ، فختم السورة بذكر إيمان الرسول والمؤمنين بالقرآن والملائكة وغيرهم

٦٨

ممّا ذكره ، ليختمها بذكر إيمانهم بعد أن بدأها بذكر كفر المنافقين واليهود. وذكر ما ذكر من حسن إخلاصهم وطاعتهم ، وطلبهم منه وهو لا يكلّف نفسا إلّا وسعها ، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، ألّا يؤاخذهم بنسيانهم أو خطئهم ، ولا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم من اليهود وغيرهم ، إلى أن قال على لسانهم :

(وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦).

٦٩
٧٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «البقرة» (١)

قال بعض الأئمّة : تضمّنت سورة الفاتحة الإقرار بالربوبيّة ، والالتجاء إليها في دين الإسلام ، والصيانة عن دين اليهود والنصارى ، وتضمّنت سورة البقرة قواعد الدين ، وآل عمران مكمّلة لمقصودها.

فالبقرة بمنزلة إقامة الدليل على الحكم ، و «آل عمران» بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم. ولهذا ورد فيها كثير من المتشابه لمّا تمسّك به النصارى.

في «آل عمران» أوجب الحج. أمّا في البقرة ، فذكر أنّه مشروع ، وأمر بإتمامه بعد الشروع فيه (٢). في «آل عمران» ، كان خطاب النصارى ، كخطاب اليهود في البقرة ، أكثر من خطابهم في سواها ، لأنّ التوراة أصل ، والإنجيل فرع لها ، والنّبي (ص) لمّا هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم ، وكان جهاده للنصارى في آخر الأمر ، كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب ، ولهذا كانت السور المكّية فيها الدين الذي اتفق عليه الأنبياء ، فخوطب به جميع الناس ، والسور المدنية فيها خطاب من أقرّ بالأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين ، فخوطبوا ب «يا أهل الكتاب» ، «يا بني إسرائيل» ، «يا أيّها الذين آمنوا».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). وذلك في قوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) (١٩٦).

٧١

وأمّا سورة النساء فتضمّنت أحكام الأسباب التي بين الناس ، وهي نوعان : مخلوقة لله ، ومقدورة لهم ، كالنسب والصهر ، ولهذا افتتحت بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها). وقال : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء ١] فانظر إلى هذه المناسبة العجيبة ، والافتتاح ، وبراعة الاستهلال ، حيث تضمنت الآية المفتتح بها ما في أكثر السورة من أحكام : من نكاح النساء ومحرّماته ، والمواريث المتعلقة بالأرحام ، وأنه ابتدأ هذا الأمر بخلق آدم ، ثم خلق زوجته منه ، ثم بثّ منهما رجالا كثيرا ونساء في غاية الكثرة.

أما المائدة ، فسورة العقود تضمنت بيان تمام الشرائع ، ومكمّلات الدين ، والوفاء بعهود الرسل ، وما أخذ على الأمة ، ونهاية الدين ، فهي سورة التكميل ، لأنّ فيها تحريم الصيد على المحرم ، الذي هو من تمام الإحرام. وتحريم الخمر ، الذي هو من تمام حفظ العقل والدين ، وعقوبة المعتدين من السرّاق والمحاربين ، الذي هو من تمام حفظ الدماء والأموال ، وإحلال الطيبات ، الذي هو من تمام عبادة الله. ولهذا ذكر فيها ما يختصّ بشريعة محمد (ص) والتيمّم ، والحكم بالقرآن على كل ذي دين. ولهذا كثر فيها لفظ الإكمال والإتمام (١). وذكر فيها : أنّ من ارتدّ عوّض الله بخير منه ، ولا يزال هذا الدين كاملا ، ولهذا ورد أنّها آخر ما نزل (٢) لما فيها من إرشادات الختم والتمام. وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات من أحسن الترتيب. انتهى.

وقال بعضهم : افتتحت البقرة بقوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) فإنّه إشارة إلى الصراط المستقيم بقوله في الفاتحة : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) ، فإنّهم لما سألوا الله الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم : ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه ، كما أخرج ابن جرير وغيره من حديث

__________________

(١). وذلك في قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة : ٣] وأمثالها.

(٢). أخرجه الحاكم في المستدرك عن عائشة : ٢ : ٣١١ وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ؛ والإمام أحمد في المسند عن معاوية بن صالح عن عائشة : ٦ : ١٨٨.

٧٢

عليّ مرفوعا : «الصراط المستقيم كتاب الله» (١). وأخرجه الحاكم في المستدرك عن ابن مسعود موقوفا (٢).

وهذا معنى حسن ، يظهر فيه سرّ ارتباط «البقرة» ب «الفاتحة».

وقال الخويي (٣) : أوائل هذه السورة ، مناسبة لأواخر سورة الفاتحة ، لأنّ الله تعالى لمّا ذكر أنّ الحامدين طلبوا الهدى ، قال : قد أعطيتكم ما طلبتم : هذا الكتاب هدى لكم فاتّبعوه ، وقد اهتديتم إلى الصراط المستقيم المطلوب المسؤول.

ثم إنّه ذكر في أوائل هذه السورة الطوائف الثلاث الذين ذكرهم في الفاتحة : فذكر الذين على هدى من ربّهم ، وهم المنعم عليهم. والذين اشتروا الضلالة بالهدى ، وهم الضالّون : والذين باؤوا بغضب من الله ، وهم المغضوب عليهم (٤). انتهى.

أقول : قد ظهر لي بحمد الله وجوه من هذه المناسبات. أحدها : أنّ القاعدة التي استقرّ بها القرآن : أنّ كل سورة تفصيل لإجمال ما قبلها ، وشرح له ، وإطناب لإيجازه. وقد استقرّ لي ذلك في غالب سور القرآن ، طويلها وقصيرها. وسورة البقرة ، قد اشتملت على تفصيل جميع مجملات الفاتحة.

فقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) تفصيله : ما وقع فيها من الأمر بالذكر في عدة آيات ، ومن الدعاء في قوله سبحانه : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [الآية ١٨٦]. وفي قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦). وبالشكر في قوله :

__________________

(١). أخرجه ابن جرير عن علي من حديث حمزة الزيات. جامع البيان : ١ : ١٧٣.

(٢). المستدرك : ٤ : ٨٣.

(٣). هو أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر أبو العباس. توفي بدمشق عام ٦٢٧ انظر عيون الأنباء : ٢ : ١٧١ ، شذرات الذهب : ٣ : ٢٥.

(٤). ذكر السيوطي : أن للخويي تفسيرا نقل عنه في الإتقان (٢ : ٧ ، ١٢ و ٣ : ٢٩ و ٤ : ١٤٤) ولم نعثر عليه ، ولعلّ هذا النقل منه.

٧٣

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (١٥٢).

وقوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) تفصيله قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢). وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٩). ولذلك افتتحها بقصة خلق آدم (ع) الذي هو مبدأ البشر (١) ، وهو أشرف الأنواع عن العالمين ، وذلك شرح لإجمال (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

وقوله تعالى : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). وقد أومأ إليه بقوله في قصّة آدم (ع) : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٥٤). وفي قصّة إبراهيم (ع) لمّا سأل الرزق للمؤمنين خاصة بقوله : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ) [الآية ١٢٦]. فقال : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [الآية : ١٢٦].

وذلك لكونه رحمانا. وما وقع في قصة بني إسرائيل : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) [الآية ٥٢]. إلى أن أعاد الآية بجملتها في قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) (١٦٣). وذكر آية الدّين (٢) إرشادا للطالبين من العباد ، ورحمة بهم. ووضع عنهم الخطأ والنسيان والإصر وما لا طاقة لهم به ، وختم بقوله : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) [الآية ٢٨٦] وذلك شرح قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وقوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤). وتفصيله : ما وقع من ذكر يوم القيامة في عدّة مواضع ، ومنها قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) [الآية ٢٨٤]. والدين (في الفاتحة) : الحساب : (في البقرة).

وقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) مجمل شامل لجميع أنواع الشريعة الفرعية ، وقد فصّلت في البقرة أبلغ

__________________

(١). وذلك في قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [الآية ٣٠] إلى قوله : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [الآية ٣٧].

(٢). هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [الآية ٢٨٢].

٧٤

تفصيل ، فذكر فيها : الطهارة ، والحيض ، والصلاة ، والاستقبال ، وطهارة المكان ، والجماعة ، وصلاة الخوف ، وصلاة الجمع ، والعيد ، والزكاة بأنواعها ، كالنبات ، والمعادن ، والاعتكاف ، والصوم وأنواع الصدقات ، والبر ، والحج ، والعمرة ، والبيع ، والإجازة ، والميراث والوصية ، والوديعة ، والنكاح ، والصّداق ، والطلاق ، والخلع ، والرجعة ، والإيلاء ، والعدّة ، والرّضاع ، والنفقات ، والقصاص ، والدّيات ، وقتال البغاة ، والردّة ، والأشربة ، والجهاد ، والأطعمة والذبائح ، والأيمان ، والنذور ، والقضاء ، والشهادات ، والعتق.

فهذه أبواب الشريعة كلّها مذكورة في هذه السورة.

وقوله تعالى : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) شامل لعلم الأخلاق. وقد ذكر منها في هذه السورة الجمّ الغفير ، من التوبة ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتفويض ، والذكر ، والمراقبة ، والخوف ، وإلانة القول.

وقوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخره ، تفصيله : ما وقع في السورة من ذكر طريق الأنبياء ، ومن حاد عنهم من النصارى ، ولهذا ذكر في الكعبة أنّها قبلة إبراهيم ، فهي من صراط الذين أنعم عليهم ، وقد حاد عنها اليهود والنصارى معا ، ولذلك قال في قصّتها : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢). تنبيها على أنّها الصراط الذي سألوا الهداية إليه.

ثم ذكر : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) [الآية ١٤٥]. وهم المغضوب عليهم ، والضالّون ، الذين حادوا عن طريقهم. ثم أخبر بهداية الذين آمنوا إلى طريقهم. ثم قال : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣). فكانت هاتان الآيتان تفصيل إجمال لقوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) إلى آخر السورة.

وأيضا قوله أوّل السورة : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) إلى آخره في وصف الكتاب ، إخبار بأنّ الصراط الذي سألوا الهداية إليه هو : ما تضمّنه الكتاب ، وإنّما يكون هداية لمن اتّصف بما ذكر (من صفات المتّقين). ثم ذكر أحوال الكفرة ، ثم أحوال المنافقين ، وهم من اليهود ، وذلك تفصيل لمن حاد عن

٧٥

الصراط المستقيم ، ولم يهتد بالكتاب (١).

وكذلك قوله هنا : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) [الآية ١٣٦]. فيه تفصيل النبيّين المنعم عليهم. وقال في آخرها : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) [الآية ١٣٦] ، تعريفا بالمغضوب عليهم ، والضالّين ، الذين فرقوا بين الأنبياء. ولذلك عقّبها بقوله : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [الآية ١٣٧]. أي : إلى الصراط المستقيم ، صراط المنعم عليهم كما اهتديتم.

فهذا ما ظهر لي ، والله أعلم بأسرار كتابه.

الوجه الثاني : أنّ الحديث والإجماع على تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضالّين بالمنافقين ، وقد ذكروا في سورة الفاتحة على حسب ترتيبهم في الزمان ، فعقّب بسورة البقرة ، وجميع ما فيها (من) خطاب أهل الكتاب لليهود خاصة ، وما وقع فيها من ذكر النصارى لم يقع بذكر الخطاب (٢).

ثم (عقبت البقرة) بسورة آل عمران ، وأكثر ما فيها من خطاب أهل الكتاب للنصارى ، فإنّ ثمانين آية من أولها نازلة في وفد نصارى نجران ، كما ورد في سبب نزولها (٣) وختمت بقوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) [آل عمران : ١٩٩]. وهي في النجاشي وأصحابه من مؤمني النصارى ، كما ورد به الحديث (٤). وهذا وجه بديع في ترتيب السورتين ، كأنّه لما ذكر في الفاتحة الفريقين ، قصّ في كلّ سورة ممّا بعدها حال كل فريق

__________________

(١). هذا تفصيل للصراط المستقيم عن طريق التبصير بأعداء الصراط المستقيم ، والتحذير منهم على وجه التفصيل.

وسيأتي تفصيل للصراط المستقيم في «آل عمران» عن طريق التبصير بالعوائق النفسية التي تحول دون الإنسان وسلوك الصراط المستقيم ، باعتبار النفس عدوّا للإنسان. وبهذا تظهر عظمة الأسلوب القرآني في الإجمال والتفصيل ، وفي استيعابه كل شيء.

(٢). وإنّما جاء على أسلوب الخبر ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [الآية ٦٢]. وقوله (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [الآية ١١١].

(٣). انظر تفسير القرآن العظيم : (٢ : ٤٠) لمعرفة سبب النزول ، وقصة نجران في سيرة ابن هشام : ١ : ٥٧٣) وما بعدها.

(٤). في إسلام النجاشي ، انظر البخاري في الجنائز : ٢ : ١٠٨ ومسلم في الجنائز ٣ : ٥٤ ، ٥٥ ، وانظر تفسير الطبري : ٧ : ٤٩٦.

٧٦

على الترتيب الواقع فيها ، ولهذا كان صدر سورة النساء في ذكر اليهود ، وآخرها في ذكر النصارى (١).

الوجه الثالث : أنّ سورة البقرة أجمع سور القرآن للأحكام والأمثال ، ولهذا سمّيت في أثر : فسطاط القرآن (٢). الذي هو : المدينة الجامعة ، فناسب تقديمها على جميع سوره.

الوجه الرابع : أنّها أطول سورة في القرآن ، وقد افتتح بالسبع الطوال (٣) ، فناسب البداءة بأطولها.

الوجه الخامس : أنّها أول سورة نزلت بالمدينة ، فناسب البداءة بها ، فإنّ للأولية نوعا من الأولوية.

الوجه السادس : أنّ سورة الفاتحة كما ختمت بالدعاء للمؤمنين بألّا يسلك بهم طريق المغضوب عليهم ولا الضالّين إجمالا ، ختمت سورة البقرة بالدعاء بألّا يسلك بهم طريقهم في المؤاخذة بالخطإ والنسيان ، وحمل الإصر ، وما لا طاقة لهم به تفصيلا ، وتضمّن آخرها أيضا الإشارة إلى طريق المغضوب عليهم والضالّين بقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [الآية ٢٨٥]. فتاخت السورتان وتشابهتا في المقطع ، وذلك من وجوه المناسبة في التتالي والتناسق.

__________________

(١). وذلك قوله تعالى في سورة النساء : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [الآية ٤٦] ، وما ألحق بعدها. وقوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ) (١٧١) [النساء].

(٢). أخرجه الدارمي : ٢ : ٤٤٦ عن خالد بن سعدان.

(٣). السبع الطوال هي : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، ويونس ، وسيأتي سبب وضع الأنفال والتوبة بينها.

٧٧
٧٨

المبحث الرابع

مكنونات سورة «البقرة» (١)

١ ـ (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [الآية ٣٠].

هو آدم ، كما دلّ عليه السياق ، وورد في مرسل ضعيف أنّ «الأرض» المذكورة : مكة ـ لكن قال ابن كثير (٢) : إنّه مدرج (٣) ـ وذلك ما أخرجه ابن جرير (٤) ، وابن أبي حاتم ، من طريق عطاء بن السائب ، أنّ عبد الرّحمن بن سابط ، أنّ النّبيّ (ص) قال : «دحيت الأرض من مكّة ، وأوّل من طاف بالبيت الملائكة ، قال تعالى (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [الآية ٣٠] يعني : مكّة».

٢ ـ (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) [الآية ٣٥].

هي حوّاء ، بالمدّ. روى ابن جرير (٥) من طريق السّدّيّ بأسانيده : سألت (٦) الملائكة آدم عن حوّاء ما اسمها؟ قال : حوّاء. قالوا : ولم سمّيت حواء؟ قال : لأنها خلقت من حيّ.

٣ ـ (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) [الآية ٣٥].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسيوطي ، إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). في «تفسيره» ١ : ٧٠ ، وضعيف إسناده أيضا.

(٣). المدرج : هو إدخال الراوي نفسه كلمة ـ قد تكون أحيانا للتفسير ـ أو أكثر ، على متن الحديث ـ إذا كان الإدراج في المتن كما هو هنا ـ ، وقد يكون الإدراج في المستند أيضا.

(٤). ١ : ١٥٦.

(٥). ١ : ١٨٢.

(٦). وفي «الطبري» و «الدر المنثور» : «قالت له الملائكة».

٧٩

أخرج ابن جرير (١) وابن أبي حاتم ، من طريق عكرمة ، عن ابن عبّاس : أنّها السّنبلة. وله طرق عنه صحيحة.

وأخرج ابن جرير (٢) من طريق السّدّي بأسانيده : أنها الكرم ، وزعم يهود أنها الحنطة.

وأخرج أبو الشيخ (٣) من وجه آخر عن عكرمة ، عن ابن عبّاس ، قال : هي اللوز. وإسناده ضعيف ؛ وعندي أنها تصحّفت بالكرم.

وأخرج عن زيد بن عبد الله بن قسيط (٤) قال : هي الأترج (٥).

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : هي النّخلة.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد (٦) قال : هي تينة.

وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن قتادة (٧) بلفظ : هي التين.

فهذه ستة أقوال (٨).

٤ ـ (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الآية ٣٦].

أخرج ابن جرير (٩) ، عن ابن عبّاس : أنه خطاب لآدم ، وحوّاء ، وإبليس ، والحيّة.

__________________

(١). ١ : ١٨٣. وفي سنده : النضر بن عبد الرّحمن ، ضعيف جدا. ورواه أيضا : ابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر. انظر «الدر المنثور» ١ : ٥٢ و «تفسير الطبري» تخريج العلّامة أحمد شاكر للأثر (٧١٨).

(٢). ١ : ١٨٤ ، وابن سعد في «الطبقات» ١ : ٥٣ : وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. «الدر المنثور» ١ : ٥٣.

(٣). في «الدر المنثور» ١ : ٥٣ : «ابن جرير» عوضا عن «أبي الشيخ» ؛ غير أني لم أجده في «تفسير الطبري».

(٤). يزيد بن عبد الله بن قسيط : أبو عبد الله المدني ، الأعرج ، ثقة الحديث ، مات سنة (١٢٢ ه‍!).

(٥). الأترج : شجر يعلو ، ناعم الأغصان والورق والثمر ، وثمره كالليمون ، وهو ذهبي اللون ، زكي الرائحة ، حامض الماء.

(٦). في «تفسير الطبري» ١ : ١٨٤ : عن ابن جريج عن بعض أصحاب النّبيّ (ص). ومجاهد ، هو ابن جبر ، أبو الحجاج ، ثقة الحديث ، إمام في التفسير والعلم ، ومن علماء التابعين ، توفي في أوائل القرن الثاني الهجري ، وله ثلاث وثمانون سنة.

(٧). قتادة بن دعامة السّدوسي ، أبو الخطاب البصري ، محدّث ثقة ثبت ، ومفسّر لغوي. يقال إنّه ولد أكمه. قال فيه الإمام أحمد : قتادة أحفظ أهل الحديث. توفي سنة ١١٨.

(٨). قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله تعالى ١ : ١٨٥ بعد أن أورد الروايات في ذلك : «ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على اليقين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة».

(٩). ١ : ١٩١ ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور».

٨٠