الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٢

سورة البقرة

٢

٤١
٤٢

المبحث الأول

أهداف سورة «البقرة» (١)

سورة البقرة أطول سورة في القرآن الكريم. لقد استغرقت جزءين ونصفا من ثلاثين جزءا يتكوّن منها القرآن. ولذلك كان الرجل إذا حفظ سورة البقرة عظم في عيون المسلمين. وهي أول سورة نزلت بالمدينة ، وعدد آياتها (٢٨٦) آية وعدد كلماتها ٦١٢١ كلمة.

قصة التسمية

سمّيت سورة البقرة بهذا الاسم لأنّها انفردت بذكر حادثة قتل وقعت في بني إسرائيل على عهد موسى عليه‌السلام وكان للبقرة ، وهي الحيوان المعروف الذي اتّخذ بنو إسرائيل من نوعه إلها في وقت مّا يعبدونه من دون الله ، كان لها شأن إلهيّ عجيب في هذه الحادثة. لقد وقعت الجناية وقتل القتيل واختلف أهل الحي الذي وقعت الجناية بينهم في : من يكون القاتل. وأخذ كلّ يدفع الجناية عن نفسه ويتّهم بها غيره ، وفيهم من يعلم عين الجاني ويكتم أمره.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) (٧٢).

وترافع القوم إلى موسى عليه‌السلام ليحكم في هذه الجناية التي خفي مرتكبها.

سأل موسى ربّه ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة ويضربوا القتيل بلسانها ، فيحيا ، فيخبر بقاتله. وبسبب ما طبع عليه بنو إسرائيل من العناد في تنفيذ الأوامر فقد وقفوا كالسّاخرين أو الهازئين من الأمر

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أهداف كل سورة ومقاصدها» لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٤٣

بذبح البقرة في هذا المقام ، حتى لقد قالوا لموسى كما ورد في التنزيل : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)؟ [الآية ٦٧].

وما كان لنبيّ الله أن يسخر أو يهزأ ، ولكنّها القلوب الملتوية تنصرف عن الحق وتعاند في قبوله ، فسألوه عن البقرة :

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) [الآية ٦٨](ما لَوْنُها) [الآية ٦٩].

وأكثروا من السؤال وشدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم ، وسألوا موسى ، ما هذه البقرة : أكما عهدنا هذا الجنس من الحيوان ، أم هي خلق آخر تفرّد بمزيّة ، واختصّ بإعجاز؟ فأوضح الله سبيلهم وبيّن أنّها بقرة لا مسنّة ولا فتيّة بل هي وسط بين ذلك ، فليفعلوا ما يؤمرون.

وبيّن الله لهم أنّها بقرة صفراء فاقع لونها تسرّ النّاظرين وقال :

(بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها) [الآية ٧١].

وأخيرا وبعد حيرة ومشقّة عثروا عليها.

كانت البقرة ملكا لشيخ كبير فقير ، وكان عبدا صالحا زاهدا فلم يترك من المال سوى بقرة واحدة كان يأخذها إلى المرعى ثم يتوجه إلى بارئه بقلب خالص ونفس ثابتة فيقول : اللهم إنّي استودعتك إيّاها لا بني حتّى يكبر. وما زال الرجل يترقرق في صدره هذا الأمل القوي بنور الله حتى مات. وبقيت البقرة لابنه اليتيم. واستمرّ اليتيم ، يرعى البقرة ، يحدوه شعاع من الأمل ورثه من الصالحات الباقيات لأبيه.

ولما أمر الله بني إسرائيل بذبح البقرة ، وشدّد عليهم في صفاتها ولونها وسنها ، ووجد القوم أنّ هذه الصفات لا تنطبق إلّا على بقرة هذا اليتيم الذي بارك الله له فيها ، اشتروها منه بمال وفير ، وذبحوها ، وضربت جثة القتيل ببعض أعضائها ، فتمت إرادة الله ، وحدثت المعجزة ، وأحيا الله القتيل ، ونطق باسم قاتله. قال تعالى :

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٧٣).

ثم قست قلوب اليهود بعد أن شاهدوا هذه المعجزة فصارت قلوبهم كالحجارة أو أشدّ قسوة. وبدل أن يهتدوا بهذه الآية إلى طريق الإيمان ،

٤٤

أشاحوا عن الحقّ وساروا في الضّلال ، وقتلوا الأنبياء وحرّفوا كلام الله ، ودبّروا الفتن والدسائس. وقد حذّرنا الله من كيدهم ، وأمرنا ألّا نصغي إلى فتنتهم وتفرقتهم ، وأن نأخذ الحذر منهم وأن نعدّ العدّة لمقاومتهم واستخلاص الحقوق المغتصبة من أيديهم. قال رسول الله (ص) : «لن تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود فيختبئ أحدهم «وراء» الحجر فيقول الحجر يا عبد الله هذا يهودي ورائي فاقتله».

وفي قصة البقرة عبرة للمشدّدين فإنّ الله أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا بقرة. فلو بادروا إلى ذبح أيّ بقرة لأجزأتهم ، ولكنهم تشدّدوا في تعرّف صفاتها ، فكانوا كلّما طرحوا سؤالا زيدوا تشديدا حتّى صارت البقرة نادرة.

وفي الأثر : «لا تكونوا كبني إسرائيل شدّدوا فشدّد عليهم».

وفي القرآن : (فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٤٤) [الأعراف].

الأهداف العامة

لسورة البقرة

سورة البقرة من أجمع سور القرآن الكريم ، وقد اشتملت على الأهداف الآتية :

١ ـ بيان أصول العقيدة وذكر أدلّة التوحيد ومبدأ خلق الإنسان.

٢ ـ بيان أصناف الخلائق أمام هداية القرآن. وقد ذكرت أنّهم أصناف ثلاثة : المؤمنون ، والكافرون ، والمنافقون.

٣ ـ تعرضت السورة لتاريخ اليهود الطويل ، وناقشتهم في عقيدتهم ، وذكّرتهم بنعم الله على أسلافهم ، وبما أصاب هؤلاء الأسلاف حينما التوت عقولهم عن تلقي دعوة الحق من أنبيائهم السابقين ، وارتكبوا من صنوف العناد والتكذيب والمخالفة. واقرأ في ذلك قوله تعالى في السورة.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٤٠).

إلى آخر آية البر في منتصف السورة تقريبا وهي :

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الآية ١٧٧].

وهذا الغرض من أغراض السورة استدعاه جوار المسلمين لليهود في المدينة.

٤ ـ والنصف الأخير من سورة البقرة اشتمل على التشريع الإسلامي الذي

٤٥

اقتضاه تكوّن المسلمين جماعة متميزة عن غيرها ، في عبادتها ومعاملاتها وعاداتها.

وقد ذكرت السورة من ذلك القصاص في القتل العمد ، وذكرت الصيام والوصية والاعتكاف ، والتحذير من أكل أموال الناس بالباطل. وذكرت الأهلّة وأنّها جعلت ليعتمد الناس عليها في أوقات العبادة والزراعة غيرها ، وذكرت الحجّ والعمرة ، وذكرت القتال وسببه الذي يدعو إليه ، وغايته التي ينتهي إليها. وذكرت الخمر والميسر واليتامى ، وحكم مصاهرة المشركين ؛ وذكرت حيض النساء والتطهر منه والطلاق والعدّة والخلع والرّضاع. وذكرت الأيمان وكفّارة الحنث فيها ، وذكرت الإنفاق في سبيل الله ، وذكرت البيع والربا ، وذكرت طرق الاستيثاق في الديون بالكتابة والاستشهاد والرهن. ويبدأ هذا السياق من قوله تعالى بعد آية البر :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [الآية ١٧٨].

إلى ما قبل آخر السورة. وكان يتخلل كل ذلك ـ على طريقة القرآن ـ ما يدعو المؤمنين إلى التزام هذه الأحكام وعدم الاعتداء فيها ، من قصص ووعد ووعيد ، وإرشاد إلى سنن الله في الكون والجماعات ، ثم تختم سورة البقرة ببيان عقيدة المؤمنين على نحو ما بدأت في بيان أوصاف المتقين.

ونجد في آخر السورة قوله تعالى :

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) (٢٨٦)

ومن ثم يتناسق البدء والختام وتتجمّع موضوعات السورة وأهدافها ، ويؤكد آخرها أولها وتصير السورة كتلة واحدة ، ينتفع المسلمون بها في تنظيم أحوالهم في العبادات والمعاملات. وهي دعامة من دعائم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر قال تعالى :

٤٦

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن : ١١].

أصناف الخلق أمام

دعوة الإسلام

جهر عليه الصلاة والسلام بدعوته في مكة. ولمّا يئس من انتشار الدعوة بمكة هاجر إلى المدينة. وهناك بنى مسجده واتخذه مقرّا لنشر الدعوة. وقد آمن به أهل المدينة ولقّبوا ب «الأنصار» ، وأصبحت للإسلام قوة جديدة ولم يبق بيت من بيوت المدينة إلا دخله الإسلام. ولما كانت سورة البقرة أول سورة نزلت بالمدينة ، استمرّ نزول آياتها بضع سنين ، فقد عنيت بذكر أصناف الناس أمام دعوة الإسلام فقسّمتهم إلى ثلاثة أصناف.

الصنف الأول : المؤمنون ، وقد وصفهم الله بخمس صفات هي : الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، وإخراج الزكاة والصدقات ، والإيمان بالكتب والرسل ، واليقين الكامل بالحساب والجزاء.

وهم بهذه الصفات أهل لهداية الله ، وللفلاح والرشاد.

الصنف الثاني : الكافرون ، وقد وصفهم القرآن بأنّهم فقدوا الاستعداد لقبول الحق بسبب فساد فطرتهم ، وإحكام الغشاوة على قلوبهم ، وانسداد مسالك الفهم والإدراك في وجدانهم ، وقد سمّاهم القرآن بالكافرين والفاسقين والخاسرين والضالّين.

هؤلاء الكفار سدّت عليهم منافذ الخير وسبل الهداية ، وأعلنوا الكفر والعناد.

وهذان الصنفان كثيرا ما تحدث القرآن عنهما في سورة المكيّة وسوره المدنيّة ، لأنّ الدعوة الإسلامية لم تخل في مرحلة من مراحلها من مؤمن بها ، مصدق لها ، كافر بها جاحد لآياتها.

الصنف الثالث : المنافقون ، ووجود هذه الطائفة نشأ بعد الهجرة إلى المدينة ودخول الأنصار في الإسلام وظهور قوة المسلمين وبخاصة بعد غزوة بدر ، فاضطر نفر من الكبراء أن يتظاهروا باعتناق الدين الجديد ، ومن هؤلاء عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي كان قومه ينظمون له الخرز ليتوّجوه ملكا عليهم قبيل وصول الإسلام إلى المدينة. وقد وصفتهم سورة البقرة بالنفاق والتلوّن وألقت عليهم الأضواء ، وذكر المنافقون في سورة التوبة بصفات متعددة ، منها

٤٧

التخلف عن الجهاد والتظاهر بالإيمان ، والتخلي عن تبعاته. ولا نكاد نجد سورة مدنية تخلو من ذكرهم ، ولفت الأنظار إلى أوصافهم ، وتحذير المؤمنين من كيدهم وخداعهم.

اليهود في المدينة

في ثنايا الحملة على المنافقين ، الذين في قلوبهم مرض ، نجد إشارة إلى شياطينهم. والظاهر من سياق سورة البقرة ، ومن سياق الأحداث في السيرة ، أنّها تعني اليهود الذين تضمنت السورة حملات شديدة عليهم. أما قصتهم أمام الإسلام في المدينة فيمكن تلخيصها بما يأتي :

كان لليهود مركز ممتاز في المدينة ، بسبب أنهم أهل كتاب بين الأمّيين من العرب ـ الأوس والخزرج ـ وكان اليهود يثيرون الفرقة والخصام بين الأوس والخزرج ، فلما جاء النبي (ص) إلى المدينة ، آخى بين المهاجرين والأنصار ، وقضى على الخلاف والنزاع بين الأوس والخزرج ، بسبب أخوّة الإسلام ووحدة المسلمين.

وقد اشتد حقد اليهود وحسدهم للنبي (ص). لقد حسدوه مرتين : مرة لأن الله اختاره رسولا من ولد إسماعيل ، وحسدوه لما لقيه من نجاح سريع شامل في محيط المدينة.

على أنه كان هناك سبب آخر لعداوة اليهود للإسلام منذ الأيام الأولى ، ذلك هو شعورهم بالخطر من عزلهم عن المجتمع المدني الذي كانوا يزاولون فيه القيادة العقلية والتجارة الرابحة والربا المضعف ، وإلا فعليهم أن يستجيبوا للدعوة الجديدة ، ويذوبوا في المجتمع الإسلامي ، وهما أمران ـ في تقديرهم ـ أحلاهما مر.

لهذا كله وقف اليهود من الدعوة الإسلامية موقف التكذيب والإنكار ، رغم يقينهم بصدقها.

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩).

(وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٠١).

٤٨

وقد استغرق الجزء الاول من سورة البقرة دعوة اليهود للدخول في دين الله مع تذكيرهم بعثراتهم وخطاياهم والتوائهم وتلبيسهم منذ أيام موسى عليه‌السلام.

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٢٩).

٤٩
٥٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «البقرة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة البقرة بعد سورة المطفّفين ، وهي أوّل سورة نزلت بالمدينة ، وأطول سورة في القرآن ، فيكون نزولها فيما بين الهجرة وغزوة بدر.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لأنّ قصة بقرة بني إسرائيل ذكرت فيها ، وتبلغ آياتها ستا وثمانين ومائتي آية.

الغرض منها وترتيبها

لما هاجر النبيّ (ص) إلى المدينة ، أظهر له أحبار اليهود فيها العداوة بغيا وحسدا ، ومال إليهم المنافقون من الأوس والخزرج ، فكان أولئك الأحبار يسألونه ويتعنّتونه ويأتونه باللّبس ليلبسوا الحق بالباطل ، فنزلت سورة البقرة في أولئك الأحبار وفي ما يسألون عنه ، وفي أولئك المنافقين الذين مالوا إليهم ، وفي ما نزل من أحكام العبادات والمعاملات بعد استقرار الإسلام بالمدينة ، وبعد أن صار بها للمسلمين جماعة تحتاج إلى هذه الأحكام في أمر دينها ودنياها.

فيكون الغرض المقصود من هذه السورة الرد على أولئك الأحبار ومن مال إليهم من المنافقين ، وبيان فساد ما شغبوا به في أمر القرآن ، وفي أمر النّبيّ (ص) ، وقد جرّ هذا إلى ذكر كثير من أمورهم ، بعضها جرى مجرى الترغيب ، بعضها مجرى الترهيب ، ثم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفني في القرآن» ، للشيخ عبدا المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٥١

تخلص من هذا إلى بيان ما نزل على المسلمين في هذا العهد من الأحكام اللازمة لهم في عباداتهم ومعاملاتهم.

وقد ابتدأت هذه السورة بإثبات نزول القرآن من عند الله ، ليكون تمهيدا لبيان فساد ذلك الشّغب الذي قام في امره وفي أمر النّبيّ (ص) ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعد سورة الفاتحة ، فضلا عن أنّها أطول سورة في القرآن.

دعوة تنزيل القرآن

الآيات [١ ـ ٢٢]

قال الله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) فذكر أنّ القرآن نزل قطعا من عنده ، وأخذ في التنويه بشأنه ، فذكر أنّه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ، إلى غير هذا ممّا ذكره من أوصافهم ، ثم ذكر مخالفيهم من أحبار اليهود والمنافقين ، ووصف نفاق المنافقين من المشركين أشنع وصف ، وضرب في شناعة أمرهم المثل بعد المثل ، ثم أمرهم أن يعبدوه لأنّه هو الذي خلقهم والذين من قبلهم ، وجعل لهم الأرض فراشا والسماء بناء (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢).

الاستدلال على تنزيل القرآن

الآيات [٢٣ ـ ٢٥]

ثم قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢٣) فأقام الدليل على تنزيل القرآن من عنده بتحدّيهم أن يأتوا بسورة من مثله ، وأمرهم أن يدعوا في ذلك آلهتهم ليعينوهم على الإتيان به ، ثمّ حذرهم من الاستمرار في الكفر بعد ذلك التحدّي ، وبشّر المؤمنين بأنّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥).

الردّ على مقالة اليهود الأولى

في القرآن

الآيات [٢٦ ـ ٩٠]

ثم قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) ، فردّ على مقالتهم الأولى ، وذلك أنّه لما

٥٢

ضرب المثل بالذباب والعنكبوت وذكر النحل والنمل قال اليهود : ما أراد الله بذكر هذه الأشياء الخسيسة؟ وقال المنافقون : لا نعبد إلها يذكر هذه الأشياء. فردّ عليهم بأنّه لا يستحيي أن يضرب ذلك مثلا ، وقد كانت العرب تضرب الأمثال بمثل هذا ، فتقول : هو أحقر من ذرّة ، وأجمع من نملة.

ثم ذكر أنّ المؤمنين يعلمون أنّه الحق من ربهم ، وأنّ الكافرين ينكرون ويضلّون به ، لأنهم فاسقون ينقضون ما أخذ عليهم من العهد لأول خلقهم أن يؤمنوا بما يأتيهم من هديه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من اتّباع دينه ، ويفسدون في الأرض بالقتل والغصب والنهب وسائر أنواع الفساد ، ثم أنكر على المنافقين منهم أن يكفروا به مع أنهم كانوا أمواتا فأحياهم إلخ ، ومع أنّه هو الذي خلق لهم ما في الأرض جميعا إلخ.

ثم انتقل السّياق من هذا إلى ذكر قصة آدم ليمهّد بها إلى ذكر ما أخذه من العهد عليهم عند خلقهم ، ولهذا ختمها بقوله : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣٩).

ثمّ انتقل السّياق من توبيخ المنافقين على كفرهم به إلى توبيخ اليهود الذين يزيّنون لهم هذا الكفر ، ويؤثرونهم على النّبيّ (ص) وهو يدعو إلى الإيمان به ، وفي هذا مشاركة لهم في كفرهم به ، فأخذ يذكرهم بنعمته عليهم ، ويأخذهم تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب ، ويذكر في هذا ما مضى من أحوالهم وأخبارهم ، فأمرهم أولا أن يذكروا نعمته عليهم ، وأن يفوا بالعهد الذي أخذه عليهم فلا يؤثروا من يكفر به على من يؤمن به ، وأن يؤمنوا بالقرآن الذي نزل مصدّقا لما معهم ، ونهاهم أن يلبسوا الحق بالباطل بمثل تلك المقالة في إنكار ما ضربه مثلا من الذباب ونحوه ، إلى غير هذا ممّا أمرهم به ونهاهم عنه.

ثم أمرهم سبحانه ثانيا أن يذكروا نعمته عليهم وتفضيله لهم على العالمين ، وأن يتّقوا يوما لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ، وأخذ يذكّرهم ببعض نعمه عليهم وبعض ما مضى من أحوالهم وأخبارهم ، فذكر أنّه نجاهم من آل فرعون ، وكانوا يسومونهم سوء

٥٣

العذاب من ذبح الأبناء واستحياء النساء ، وأنّه فرق بهم البحر فأنجاهم وأغرق آل فرعون ، وأنّه وعد موسى أربعين ليلة فعبدوا العجل من بعده فعفا عنهم ، ولم يعاقبهم بما عاقب به من قبلهم ، وأنّه أنزل على موسى التوراة لهدايتهم ، وأنه أمرهم بقتل أنفسهم لعبادتهم العجل ثم نسخ ذلك الأمر رحمة بهم ، وأنّهم قالوا لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [الآية ٥٥] فأخذتهم الصاعقة عقوبة لهم. ثم بعثهم من بعد موتهم وظلّل عليهم الغمام وأنزل عليهم المنّ والسّلوى ، وأنه أمرهم أن يدخلوا بيت القدس على حالة مخصوصة فبدّلوا في ذلك وغيّروا ، فأخذ من بدّل وغيّر بما أخذه به ، وأنّ موسى استسقى لهم فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا بعدد أسباطهم ، وأنّهم لم يصبروا على طعام واحد في تيههم (المنّ والسلوى) فطلبوا منه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض بقلا وقثّاء وبصلا ، فأمرهم بأن يهبطوا مصرا من الأمصار ليجيبهم إلى سؤالهم ، وذكر أنّ مثل هذا ممّا ضربت به عليهم الذّلة والمسكنة ، وممّا كان سببا في غضب الله عليهم ، لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيّين بغير الحق ، ويرتكبون من العصيان والاعتداء ما ترتكبون ، وقد استطرد من هذا إلى ذكر حسن جزائه لمن آمن به من المسلمين واليهود والنصارى والصابئين ، جمعا بين الوعد والوعيد ، وذكرا للترغيب بعد الترهيب.

ثم عاد السياق فذكر أنّه سبحانه أخذ عليهم ميثاقهم أن يؤمنوا به ، ورفع فوقهم الطور عند أخذه عليهم ، فنقضوا ميثاقهم وكفروا به ، ولولا فضله عليهم لأهلكهم بذلك كما أهلك من قبلهم ، وذكر أنّهم يعلمون الذين اعتدوا منهم في السبت فمسخوا قردة جزاء لهم على اعتدائهم ، وأنّ موسى ذكر لهم أنّ الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة فلم يبادروا إلى امتثال أمره ، بل أخذوا يطلبون منه أن يسأل ربه ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا فارض ولا بكر ، ثم طلبوا منه أن يسأله ما لونها؟ فأجابهم بأنّها بقرة صفراء فاقع لونها ، ثم طلبوا منه أن يسأله ثانيا ما هي؟ فأجابهم بأنّها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها ، فذبحوها بعد كل هذا وما كادوا يفعلون. ثم ذكر بعد هذا معجزتها في النفس التي قتلوها ولم

٥٤

يعرفوا قاتلها ، وأنّ قلوبهم قست بعد هذه المعجزة ، حتى صارت كالحجارة ، أو أشد قسوة.

ثم ذكر أنّ مثل هؤلاء لا يصح للنّبيّ (ص) وأصحابه أن يطمعوا في إيمانهم ، لأنهم في ذلك مثل أسلافهم.

فمنهم من يسمع بشارة التوراة بالنّبيّ (ص) ، ثم يحرفها من بعد ما عقلها وعرفها ، وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا أنّ صاحبكم نبي ، ولكن إليكم خاصّة. وإذا خلا بعضهم إلى بعض تعاتبوا على هذا الإقرار مع ما فيه من التحريف. ومنهم أمّيّون جهلاء لا يعلمون التوراة إلّا أمانيّ يمنّيهم بها أحبارهم ، فيزعمون أنّ الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأنّ النار لا تمسّهم إلّا أياما معدودة بقدر أيام الخلق ، وهي ستة أيام ، ثم ردّ عليهم ذلك بأنّ من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فهو مخلّد في النار ، ومن آمن وعمل صالحا فهو مخلّد في الجنّة. ثم ذكر لهم بعضا من سيئاتهم ، وأنه أخذ عليهم ميثاقهم أن يخصوه بالعبادة ويحسنوا إلى الوالدين وذي القربى ، إلى غير هذا بما أخذ ميثاقهم عليه ، فتولّوا عنه إلّا قليلا منهم ، وأنّه أخذ عليهم ميثاقهم ألّا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا فريقا منهم من ديارهم ، فخالفوا هذا أيضا ، ثم ذكر أنّ جزاء من يفعل ذلك إنّما هو الخزي في الدنيا ، ويوم القيامة يردّ إلى عذاب أشدّ من عذاب دنياه.

ثم أخذ السياق يوبّخهم على كفرهم واعتيادهم له من قديمهم ، فذكر أنّهم كانوا كلّما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا عليه ، فرسولا يكذّبون ورسولا يقتلون. ثم ذكر أنّهم لما جاءهم القرآن أنكروه على عادتهم ، مع أنّه جاء مصدّقا لما معهم ، ومع أنّهم كانوا من قبله يستفتحون على مشركي العرب بالرسول المنتظر ، فلمّا جاءهم ما كانوا ينتظرونه كفروا به حسدا أن يكون هناك رسول من غيرهم (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩٠).

الردّ على مقالتهم الثانية

الآيات [٩١ ـ ٩٦]

ثم قال تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ

٥٥

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٩١) فذكر مقالتهم الثانية في القرآن ، وهي زعمهم أنهم مأمورون ألّا يؤمنوا إلّا بما أنزل إليهم ، وقد ردّ عليهم بأن القرآن أتى مصدّقا لما معهم ، وبأنهم قتلوا أنبياءهم وقد أتوهم بما أنزل إليهم ، وبأنّ موسى أتاهم بالتوراة فعبدوا العجل حين غاب عنهم أربعين يوما ، وبأنه أخذ ميثاقهم أن يأخذوا ما أتاهم بقوة ويسمعوا له ، فقالوا سمعنا وعصينا ولم ينزعوا عبادة العجل من قلوبهم ، وبأنّهم لو كانوا هم المخصوصين بالآخرة حتى لا تكون رسالة في غيرهم لتمنّوا الموت استعجالا لثوابها ، وهم لا يتمنّونه أبدا خوفا من سوء أعمالهم ، وما يعلمه الله من كفرهم وظلمهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٩٦).

الرد على مقالتهم الثالثة

الآيات [٩٧ ـ ١٠٥]

ثم قال تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧) فذكر مقالتهم الثالثة ، وهي طعنهم في القرآن بأنّه نزل به جبريل وهو عدوهم ، لأنّه ينزل بالشدة والقتال ، وميكائيل ينزل بالبشر والرخاء ، فردّ عليهم بأنّ جبريل إنّما نزّله بإذنه ، وهدّدهم على هذه العداوة لله وملائكته ، وذكر أنّه أنزل من ذلك آيات بيّنات لا يكفر بها إلّا الفاسقون ، ثمّ وبّخهم على نقض عهدهم مع النّبي (ص) بطعنهم في القرآن ، وعلى أنّهم ينبذونه وراء ظهورهم وهو مصدّق لما معهم ، ويتبعون ما ينسبونه زورا إلى سليمان وهاروت وماروت من كتب السحر ونحوها ، فيستعملونها في الأعمال السحرية كالتفريق بين الرجل وزوجه ، ويتعلّمون منها ما يضرّهم ولا ينفعهم ، ولو أنّهم آمنوا بالقرآن بدل الايمان بها لكان خيرا لهم ، ثم حذّر المؤمنين من مشاركتهم في بعض كفرهم ، وكانوا يقولون للنّبي (ص) : (راعنا) إذا تلا عليهم شيئا من العلم ليتمهل عليهم ، فأمروا أن يقولوا بدلها : (انظرنا) ليخالفوهم في مقالتهم ، ثم حذّر المؤمنين من اتباعهم في هذا أو

٥٦

نحوه فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥).

الرد على مقالتهم الرابعة

الآيات [١٠٦ ـ ١١٠]

ثم قال : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦) ، فذكر مقالتهم الرابعة في القرآن ، وهي طعنهم في معجزته ، وقول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء فقرأه ، وفجّر لنا أنهارا ، نتّبعك ونصدقك. فذكر لهم أنه سبحانه لا ينسخ آية من آيات الرسل أو ينسيها باية أخرى إلّا كانت الأخرى خيرا من الأولى أو مثلها ، وأنّه هو الذي يتصرف في تلك الآيات كيف يشاء بما له من ملك السماوات والأرض ، وأنّه لا شريك له في ذلك الملك ، ثم وبّخهم وذكر أنهم يتعنّتون بسؤال هذه الآيات كما تعنت أسلافهم على موسى بسؤال مثلها ، ثم حذّر المؤمنين من انخداعهم بتعنّتهم في ذلك ، وذكر أنّهم يودّون به أن يردّوهم كفارا حسدا لهم على إيمانهم ، وأمرهم أن يعفوا ويصفحوا حتى يأتيهم بأمره فيهم ، إنّ الله على كل شيء قدير (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (١١٠).

الرد على مقالتهم الخامسة

الآيات [١١١ ـ ١١٧]

ثم قال تعالى : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١١١) فذكر مقالتهم الخامسة ، وهي قول اليهود والنصارى كما ورد في التنزيل : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) لأنه لا دين إلّا دينهم. وقد ردّ عليهم بأنّ تلك أمانيّ لا دليل عليها ، وبأنّ كل من آمن به وأحسن في عمله فله أجره عنده لو لم يكن يهوديا أو نصرانيا ، وبأنّ كلّا من اليهود والنصارى يطعن في دين الاخر ، ولا يسلّم بأنّه يدخل الجنّة ، مع أنّهم جميعا يتلون التوراة ، وبأنّ المشركين الذين لا علم عندهم يزعمون أيضا أنّ الاخرة لهم ، وبأنّهم

٥٧

يمنعون مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، ويسعون في خرابها ، ومثله لا يصح له أن يزعم أنّه لا يدخل الجنة غيره ، وإنّما جزاؤه الخزي في الدنيا ، وله في الاخرة عذاب عظيم. ثم ذكر أنّ له المشرق والمغرب ، وأنّ الناس أينما يولّوا وجوههم فثمّ وجهه ، فلا يصحّ أن يسعى في خراب المساجد لاختلاف قبلتها ، كما فعل النصارى مع اليهود في بيت المقدس. ثمّ ذكر ، إلى هذا ، من قبائح النصارى ، أنهم يزعمون أنّ لله ولدا ، وهو من الكفر الذي لا يصحّ لصاحبه أن يطمع في دخول الجنة ، وردّ عليهم هذا بأنّ له ما في السماوات والأرض كلّ له قانتون (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١١٧).

الرد على مقالتهم السادسة

الآيات [١١٨ ـ ١٣٤]

ثم قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (١١٨) فذكر مقالتهم السادسة ، وهي قول بعضهم للنّبي (ص) : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله ، كما تقول ، فقل لله فليكلمنا حتّى نسمع كلامه. وقد ردّ عليهم بأنّ هذا من التعنّت الذي يسلكه من جاء قبلهم مع رسلهم ، وبأنه قد أرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، وليس عليه إلّا أن يبلّغه ، ولا يسأل بعد هذا عن تعنّتهم وكفرهم ، لأنّهم لا يرضون عنه حتى يتّبع ملتهم ، ولأنّ الهدى هداه ولو شاء لهداهم ، وبأنّ المنصفين منهم يؤمنون بما أنزل إليه ، ويعرفون أنه الرسول المبشّر به. ولما كانت هذه شهادة منهم وفيها أكبر حجة عليهم ، عاد السياق إلى تذكيرهم ثالثا بنعمته سبحانه عليهم وتفضيلهم على العالمين ، وتخويفهم من يوم لا يغني فيه أحد عن أحد شيئا ؛ ليحملهم على الإقرار بهذه الشهادة ، ثم شرع في ذكر قصة إبراهيم وإسماعيل (ع) وبنائهما البيت بمكّة ، إلى أن ذكر دعاء إبراهيم له أن يبعث في أهلها رسولا منهم يعلّمهم الكتاب والحكمة ، ليدلّهم على موضع البشارة به في كتبهم ، ويحملهم على الإقرار بها كما أقرّ بها من آمن منهم. ثمّ ذكر لهم أنّ الملّة هي ملّة إبراهيم التي لا يرغب عنها إلّا من سفه نفسه ، وهي دين التوحيد الخالص الذي

٥٨

أسلم فيه لرب العالمين ، ووصّى بنيه به من بعده ، وكذلك وصّى يعقوب بنيه به أيضا ، ثمّ ختم ذلك بأنّ ما قصّه من أمرهم ، وما كانوا عليه من الإسلام والتوحيد لا يعود نفعه إلّا إليهم ، ولا ينتفع اليهود والنصارى بانتسابهم إليهم لمخالفتهم لهم (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤).

الرد على مقالتهم السابعة

الآيات [١٣٥ ـ ١٤١]

ثم قال تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١٣٥) ، فذكر مقالتهم السابعة ، وهي قول بعضهم للنّبيّ (ص) : ما الهدى إلّا ما نحن عليه ، فاتّبعنا يا محمّد تهتد. وقد قالت النصارى مثل ذلك أيضا ، فجمع مقال الفريقين ليرد عليهم جميعا ، ثم ردّ عليهم بأمره (ص) أن يقول لهم : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي بل نتبع ملة إبراهيم الخالصة من الشرك الذي وقعوا فيه ، وبأمره المسلمين أن يقولوا لهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ) (١٣٦) ، فإن آمنوا بذلك ولم يفرقوا بين أحد من الأنبياء ، فقد اهتدوا إلى الدين الذي يجمعهم ، وإن لم يؤمنوا به فسيبقون على ما هم فيه من شقاق ، وهذا الدين هو صبغة الله لا ما صارت إليه اليهودية والنصرانية ، ثم أمر النّبيّ (ص) أن يذكر لهم أنّه إنّما يدعوهم إلى الإيمان بربهم ، أفيحاجون فيه وهو ربهم جميعا ، أم يقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى ، والله يعلم أنّهم لم يكونوا كذلك (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٣٤).

الرد على مقالتهم الثامنة

الآيات [١٤٢ ـ ١٧٧]

ثم قال تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٤٢) ، فذكر مقالتهم الثامنة ، وهي قول بعضهم بعد تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة : يا محمد ، ما ولّاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ وأنت تزعم أنك على ملّة إبراهيم ودينه ، ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك. وإنّما

٥٩

يريدون بذلك فتنته عن دينه ، فأمر النّبي (ص) أن يردّ عليهم بأنّ المشرق والمغرب لله يولّي إليهما من يشاء ، وبأنّه بهذه القبلة يجعلهم أمة وسطا بين أمم الشرك بالشرق ، وأهل الكتاب من اليهود والنصارى بالغرب ، ليكونوا شهداء عليهم بعد تبليغهم دينهم ، وبأنّه لم يعد بالقبلة إلى ما كانت عليه قبل الهجرة إلّا ليميّز بين المؤمنين الصادقين الذين يعلمون أنها الحق ، والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويتأثّرون بتلك المقالة ، وبأنّ قبلة بيت المقدس لم تكن القبلة اللائقة بالمسلمين ، ولهذا كان النّبي (ص) يقلّب وجهه بالدعاء لتحوّل قبلتهم إلى الكعبة ؛ والمنصفون من أهل الكتاب يعلمون أنها الحق من ربهم. أما غيرهم ، فلا يؤمنون بها وإن أتا هم بكل آية عليها. غير أنّهم مختلفون في قبلتهم ، فإذا اتّبع قبلة بعضهم أغضب غيرهم.

ثمّ ذكر أنّ لكل أمة قبلة هو مولّيها ، فليستبق المسلمون إلى الخيرات من الأعمال الصالحة ، لأنّها هي المقصود الأهمّ ، وشأن القبلة دون شأنها. ثم أمره أن يولّي وجهه شطر المسجد في أي مكان كان لأنه الحق منه ، وأمر المسلمين أن يتّبعوه في ذلك لئلا يكون للناس عليهم حجة ، وكان اليهود يقولون : لم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتّى هديناه. وكان أكثر العرب يقولون : إنه كان يقول على ملة إبراهيم ، والآن ترك التوجه إلى الكعبة ، ومن ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم.

ثم ذكر حكمة ثانية لذلك ، وهي أن يتمّ عليهم نعمته بجعل كعبتهم قبلتهم ، كما جعل رسولهم منهم ، ثم أمرهم أن يقابلوا ذلك بذكره وشكره ؛ وأن يستعينوا على ذلك بالصبر والصلاة والجهاد في سبيله ، فإذا أصابهم في ذلك شيء من الخوف والجوع ونحوهما ، فليصبروا عليه ليكون لهم بشرى الصابرين ، ثم ختم ذلك ببيان أن الصفا والمروة من شعائر الله بالمسجد الحرام الذي أمروا بالتوجّه إليه ، وكان الأنصار من أهل المدينة كارهين أن يطوّفوا بينهما.

ولما انتهى السياق من الرد عليهم في ذلك ، شرع في تهديدهم على كتمان ما جاء في التوراة من البشارة بالنّبيّ (ص) ، فذكر أنّ من يفعل ذلك منهم يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، وأنّ من

٦٠