الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «البقرة» (١)

لم قال تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) [الآية ٢] على سبيل الاستغراق ، وكم ضال قد ارتاب فيه ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [الآية ٢٣].

قلنا : المراد أنّه ليس محلّا للرّيب ، أو معناه : لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين ، أو هو نفي معناه النّهي : أي لا ترتابوا في أنه من عند الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) [الحج : ٧].

فإن قيل : لم قال تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢) والمتّقون مهتدون فكأنّ فيه تحصيلا لحاصل؟

قلنا : إنّما صاروا متّقين بما استفادوا من الهدى ، أو أراد أنه ثبات لهم على الهدى وزيادة فيه ، أو خصّهم بالذكر لأنّهم هم الفائزون بمنافعه حيث قبلوه واتّبعوه ، كقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) (٤٥) [النازعات] أو أراد الفريقين من يتّقي ومن لم يتّق ، واقتصر على أحدهما ، كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١].

فإن قيل : المخادعة إنّما تتصوّر في حق من تخفى عليه الأمور ليتحقّق الخداع في حقّه ؛ يقال : خدعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم ، والله تعالى لا يخفى عليه شيء فلم قال سبحانه (يُخادِعُونَ اللهَ) [الآية ٩]؟

قلنا معناه يخادعون رسول الله ، كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) [الفتح : ١٠] وقوله تعالى :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، المؤلف : محمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٦١

(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] أو سمّى نفاقهم خداعا ، لشبهه بفعل المخادع.

فإن قيل : لم حصر الفساد في المنافقين ، بقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [الآية ١٢] ومعلوم أنّ غيرهم مفسد؟

قلنا : المراد بالفساد ، الفساد بالنفاق وهم كانوا مختصّين به :

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [الآية ١٥] والاستهزاء من باب العبث والسخرية وهو قبيح ، والله تعالى منزه عن القبيح؟

قلنا : سمي جزاء الاستهزاء استهزاء ، مشاكلة ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] فالمعنى الله يجازيهم جزاء استهزائهم.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [الآية ١٩] ومعلوم أنّ الصّيب لا يكون إلّا من السماء؟

قلنا : الحكمة فيه ، أنّ السّياق ذكر السماء معرفة ، وأضافه إليها ليدلّ على أنّه من جميع آفاقها لا من أفق واحد ، إذ كل أفق يسمّى سماء ؛ قال الشاعر :

ومن بعد أرض بيننا وسماء

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٢٢) مع أنّ المشركين لم يكونوا عالمين ، أنّه لا ندّ له سبحانه ولا شريك له ، بل كانوا يعتقدون أنّ له أندادا وشركاء؟.

قلنا : معناه : وأنتم تعلمون ، أنّ الأنداد لا يقدرون على شيء ممّا سبق ذكره في الآية. أو وأنتم تعلمون أنّه ليس في التوراة والإنجيل جواز اتخاذ الأنداد.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ) [الآية ٢٤] فعرّف النار هنا ، ونكّرها في سورة التحريم؟

قلنا : لأنّ الخطاب في هذه مع المنافقين ، وهم في أسفل النار المحيطة بهم ، فعرّفت بلام الاستغراق أو العهد الذهني ؛ وفي تلك مع المؤمنين ؛ والذي يعذّب من عصاتهم بالنار يكون في جزء من أعلاها ، فناسب تنكيرها لتقليلها. وقيل : لأنّ تلك الآية نزلت بمكّة قبل هذه الآية فلم تكن النار التي وقودها النّاس والحجارة معروفة فنكّرها ؛ ثم نزلت هذه الآية بالمدينة ، فعرفت إشارة بها إلى ما عرفوه أولا.

٢٦٢

فإن قيل : إنّ «تلبسوا» و «تكتموا» في قوله تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [الآية ٤٢] ، ليسا فعلين متغايرين فينهوا عن الجمع بينهما ، بل أحدهما داخل في الاخر؟

قلنا : هما فعلان متغايران ، لأنّ المراد بتلبيسهم الحق بالباطل ، كتابتهم في التوراة ما ليس منها ، وبكتمانهم الحقّ بقولهم لا نجد في التوراة صفة محمد (ص).

فإن قيل : قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) ما فائدة الثاني ، والأوّل يدل عليه ويقتضيه؟

قلنا : قوله تعالى : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي ملاقو ثواب ربّهم ، ما وعدهم على الصبر والصلاة ، وقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) أي موقنون بالبعث ، فصار المعنى أنّهم موقنون بالبعث ، وبحصول الثواب الموعود ، فلا تكرار فيه.

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [الآية ٥٩] ، وهم لم يبدّلوا غير الذي قيل لهم ، لأنّهم قيل لهم قولوا حطّة فقالوا حنطة؟

قلنا : معناه فبدّل الذين ظلموا قولا قيل لهم ، وقالوا قولا غير الذي قيل لهم؟

فإن قيل : قوله سبحانه : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٣).

العثو : الفساد ، فيصير المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين؟

قلنا : معناه ولا تعثوا في الأرض بالكفر ، وأنتم مفسدون بسائر المعاصي.

فإن قيل : لم قال تعالى : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [الآية ٦١] وطعامهم كان المنّ والسلوى وهما طعامان؟

قلنا : المراد أنّه دائم غير متبدّل ، وإن كان نوعين.

فإن قيل : لم قال جلّ جلاله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الآية ٦١] وقتل النبيين لا يكون إلّا بغير الحق؟

قلنا : معناه بغير الحقّ في اعتقادهم ، ولأنّ التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمّهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل ، كما في عكسه ، كقوله تعالى. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [الأنبياء : ١١٢].

فإن قيل : لم قال تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) وانتقالهم من

٢٦٣

صورة البشر إلى صورة القردة ، ليس في وسعهم؟

قلنا هذا أمر إيجاد لا أمر إيجاب ، فهو من قبيل قوله عزوجل : (كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٧ وسورة يس : ٨٢].

فإن قيل : لم قال سبحانه : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [الآية ٦٨] ولفظة بين تقتضي شيئين فصاعدا ، فكيف جاز دخولها على ذلك ، وهو مفرد؟

قلنا : ذلك يشار به إلى المفرد والمثنّى والمجموع ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) [يونس : ٥٨] وقوله تعالى : (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (١٨٦) [آل عمران] وقوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) [آل عمران : ١٤] إلى قوله تعالى : (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) فمعناه عوان بين الفارض والبكر ، وسيأتي تمامه في قوله عزوجل : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [الآية ٢٨٥] إن شاء الله تعالى.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) [الآية ٧٤] كلاهما بمعنى واحد ، فما فائدة الثاني؟

قلنا : التفجّر يدلّ على الخروج بوصف الكثرة ، والثاني يدلّ على الخروج نفسه : وهما متغايران فلا تكرار.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [الآية ٧٩] والكتابة لا تكون إلّا باليد؟

قلنا : الحكمة فيه تحقيق مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم ، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم ، فإنّه يقال : كتب فلان كذا وإن لم يباشره بنفسه ، بل أمر غيره به من كاتب له ، ونحو ذلك.

فإن قيل : التولّي والإعراض واحد ، فلم قال تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) (٨٣).

قلنا : معناه : ثمّ تولّيتم عن الوفاء بالميثاق والعهد ، وأنتم معرضون عن الفكر والنظر في عاقبة ذلك.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الآية ٩٦] ما الحكمة في قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم من جملة الناس؟

قلنا : إنّما خصّوا بالذكر بعد العموم ،

٢٦٤

لأنّ حرصهم على الحياة أشدّ ، لأنّهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.

فإن قيل : قوله عزوجل : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) [الآية ١٠٢] يدلّ على أن علم السحر لم يكن حراما.

قلنا : العمل به حرام ، لأنّهما كانا يعلّمان الناس السحر ليجتنبوه ، كما قال الله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) [الآية ١٠٢]. نظيره لو سأل إنسان : ما الزنا؟ لوجب بيانه له ليعرفه فيجتنبه.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٢) لم أثبت لهم العلم أولا مؤكدا بلام القسم ، ثم نفاه عنهم.

قلنا : المثبت لهم ، أنّهم علموا علما إجماليّا ، أنّ من اختار السحر ماله في الاخرة من نصيب ؛ والمنفي عنهم ، أنّهم لا يعلمون حقيقة ما يصيرون إليه ، من تحسّر الاخرة ، ولا يكون لهم نصيب منها ؛ فالمنفي غير المثبت ، فلا تنافي.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (١٠٣) وإنّما يستقيم أن يقال : هذا خير من ذلك ، إذا كان في كل واحد منهما خير ، ولا خير في السحر؟

قلنا : خاطبهم على اعتقادهم أنّ في تعلم السحر خيرا ، نظرا منهم إلى حصول مقصودهم الدنيويّ به.

فإن قيل : لم قال سبحانه هنا : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [الآية ١٢٦] وقال في سورة إبراهيم صلوات الله عليه : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥]؟

قلنا : في الدّعوة الأولى كان مكانا قفرا ، فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا ؛ وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرّفه وطلب له الأمن ، أو كان بلدا آمنا فطلب له ثبات الأمن ودوامه.

فإن قيل : أيّ مدح وشرف لإبراهيم صلوات الله عليه في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠) مع ما له من شرف الرسالة.

قلنا : قال الزجاج : المراد بقوله تعالى : (لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١٣٠) أي لمن الفائزين.

فإن قيل : الموت ليس في وسع

٢٦٥

الإنسان وقدرته حتّى يصحّ أن ينهى عنه ، على صفة أو يؤمر به على صفة ، فلم قال تعالى : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢).

قلنا : معناه : اثبتوا على الإسلام ، حتّى إذا جاءكم الموت متّم على دين الإسلام ، فهو في المعنى أمر بالثبات على الإسلام والدوام عليه ، أو نهي عن تركه.

فإن قيل : قوله عزوجل : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [الآية ١٣٧]. إن أريد به الله تعالى فلا مثل له ، وإن أريد به دين الإسلام فلا مثل له أيضا ، لأن دين الحق واحد؟.

قلنا : كلمة مثل زائدة. معناه : فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به ، يعني بمن آمنتم به وهو الله تعالى ، أو بما آمنتم به وهو دين الإسلام ، و «مثل» قد تزاد في الكلام كما في قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وقوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] ومثل بمعنى واحد ؛ وقيل الباء زائدة كما في قوله تعالى : (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) [مريم : ٢٥] أي مثل إيمانكم بالله أو بدين الإسلام.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [الآية ١٤٣] وهو لم يزل عالما بذلك؟

قلنا : قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ) أي لنعلم كائنا موجودا ما قد علمناه ، أنّه يكون ويوجد ، أو أراد بالعلم التمييز للعباد ، كقوله تعالى : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [الأنفال : ٣٧].

إن قيل : لم قال تعالى : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) [الآية ١٤٤] وهذا يدل على أنّه (ص) ، لم يكن راضيا بالتوجّه إلى بيت المقدس ، مع أنّ التوجّه إليه كان بأمر الله تعالى وحكمه؟

قلنا : المراد بهذا ، رضا المحبّة بالطبع ، لا رضا التسليم والانقياد الأمر الله تعالى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) [الآية ١٤٥] ولهم قبلتان : لليهود قبلة ، وللنصارى قبلة؟.

قلنا : لمّا كانت القبلتان باطلتين مخالفتين لقبلة الحقّ ، فكانتا بحكم الاتحاد في البطلان قبلة واحدة.

فإن قيل : كيف يكون للظالمين من اليهود أو غير هم حجة على المؤمنين ، حتّى قال تعالى (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ

٢٦٦

عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [الآية ١٥٠]؟.

قلنا : معناه إلّا أن يقولوا ظلما وباطلا ، كقول الرجل لصاحبه : مالك عندي حق ، إلّا أن تظلم أو تقول الباطل ؛ وقيل معناه : والذين ظلموا منهم ، ف «إلّا» هنا بمعنى واو العطف ، كما في قوله تعالى : (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) [النمل] وقيل : «إلّا» فيهما بمعنى لكن. وحجّتهم أنّهم كانوا يقولون ، لمّا توجه النبي (ص) إلى بيت المقدس : ما درى محمّد أين قبلته حتّى هديناه ، وكانوا يقولون أيضا : يخالفنا محمّد في ديننا ويتّبع قبلتنا ، فلما حوّله الله تعالى إلى الكعبة انقطعت هذه الحجّة ؛ فعادوا يقولون : لم تركت قبلة بيت المقدس؟ إن كانت باطلة فقد صلّيت إليها زمانا ، وإن كانت حقّا فقد انتقلت عنها ؛ فهذا هو المراد به بقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) وقيل : المراد به قولهم : ما ترك محمّد قبلتنا إلّا ميلا لدين قومه وحبّا لوطنه ، وقيل : المراد به قول المشركين : قد عاد محمّد إلى قبلتنا لعلمه أنّ ديننا حق ، وسوف يعود إلى ديننا ، وإنما سمّى الله باطلهم حجة لمشابهته الحجة في الصورة ، كما قال الله تعالى : (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) [الشورى : ١٦] أي باطلة ، وقال سبحانه : (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) [غافر : ٨٣].

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَلا تَكْفُرُونِ) بعد قوله سبحانه : (وَاشْكُرُوا لِي) [الآية ١٥٢] والشكر نقيض الكفر ، فمتى وجد الشكر انتفى الكفر؟

قلنا : قوله تعالى : (وَاشْكُرُوا لِي) معناه استعينوا بنعمتي على طاعتي ، وقوله سبحانه (وَلا تَكْفُرُونِ) معناه لا تستعينوا بنعمتي على معصيتي. وقيل : الأوّل أمر بالشكر. والثاني أمر بالثبات عليه. فإن قيل : لم قال تعالى : (وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (٨٧) [آل عمران] وأهل دينه لا يلعنونه إذا مات على دينهم؟.

قلنا : المراد بالناس المؤمنون فقط ، أو هو على عمومه وأهل دينه يلعنونه في الاخرة ، قال الله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] وقال سبحانه : (كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها) [الأعراف : ٣٨].

٢٦٧

فإن قيل : ما الحكمة في لفظ «إله» في قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الآية ١٦٣].

قلنا : لو قيل : وإلهكم واحد ، لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في الإلهية ، يعني لا إله غيره ، ولم يكن إخبارا عن توحّده في ذاته ، بخلاف ما إذا كرّر ذكر الإله ، والآية إنّما سيقت لإثبات أحديّته في ذاته ، ونفي ما يقوله النّصارى أنه واحد ، والأقانيم ثلاثة : أي الأصول ؛ كما أنّ زيدا واحد وأعضاؤه متعددة ؛ فلما قيل إله واحد دل على أحديّة الذات والصفة. ولقائل أن يقول : قوله تعالى (واحِدٍ) يحتمل الأحديّة في الذات ، ويحتمل الأحدية في الصفات ، سواء كرّر ذكر الإله أو لم يكرر ، فلا يتم الجواب.

فإن قيل : ما الحكمة في التشبيه في قوله تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [الآية ١٧١] وظاهره تشبيه الكفّار بالرّاعي؟.

قلنا : فيه إضمار تقديره : ومثلك يا محمّد مع الكفار كمثل الرّاعي مع الأنعام ، أو تقديره : ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الرّاعي ، أو ومثل واعظ الذين كفروا كمثل الناعق بالبهائم ، أو ومثل الذين كفروا في دعائهم الأصنام كمثل الرّاعي.

فإن قيل : لم خصّ المنعوق بأنّه لا يسمع إلّا دعاء ونداء ، مع أنّ كلّ عاقل كذلك أيضا لا يسمع إلّا دعاء ونداء؟

قلنا : المراد بقوله تعالى : (لا يَسْمَعُ) [الآية ١٧١] أنّه لا يفهم كقولهم : أساء سمعا ، فأساء إجابة ، أي أساء فيهما.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الآية ١٧٤] وقال في موضع آخر (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩٣) [الحجر]؟

قلنا : المنفي كلام التلطّف والإكرام ، والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي.

فإن قيل : لم قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) [الآية ١٧٨] أي فرض ، والقصاص ليس بفرض ، بل الوليّ مخيّر فيه ، بل مندوب إلى تركه؟

قلنا : المراد به فرض على القاتل التمكين ، لا أنّه فرض على الوليّ الاستيفاء.

٢٦٨

فإن قيل : لم قال تعالى : (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [الآية ١٨٠] عطف الأقربين على الوالدين ، وهما أقرب الأقربين ، والعطف يقتضي المغايرة؟

قلنا : الوالدان ليسا من الأقربين ، لأنّ القريب من يدلي إلى غيره بواسطة ، كالأخ والعمّ ونحوهما ، والوالدان ليسا كذلك ، ولو كانا منهم لكان تخصيصهما بالذّكر لشرفهما ، كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [الآية ٩٨].

فإن قيل : لم قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [الآية ١٨٣] وصوم هذه الأمة ، ليس كصوم أمّة موسى وعيسى عليهما‌السلام؟.

قلنا : التشبيه في أصل الصوم لا في كيفيّته أو في كيفيّة الإفطار ، فإنّه ، في أول الأمر كان الإفطار مباحا من غروب الشمس إلى وقت النوم فقط ، كما كان في صوم من قبلنا ، ثم نسخ بقوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [الآية ١٨٧] ، أو في العدد أيضا على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : فرض على النصارى صوم رمضان بعينه ، فقدّموا عشرة أو أخّروا عشرة لئلّا يقع في الصيف ، وجبروا التقديم والتأخير بزيادة عشرين ، فصار صومهم خمسين يوما ، بين الصيف والشتاء.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [الآية ١٨٥] بعد قوله تعالى : (هُدىً لِلنَّاسِ).

قلنا : ذكر سبحانه أوّلا أنه هدى ، ثم ذكر أنّه بيّنات من الهدى : أي من جملة ما هدى الله به عبيده ، وفرّق به بين الحق والباطل ، من الكتاب السماوية الهادية الفارقة بين الحق والباطل ، فلا تكرار.

فإن قيل : ما الحكمة في إعادة ذكر المريض والمسافر؟

قلنا : الحكمة فيه أنّ الآية المتقدمة نسخ مما فيها تخيير الصحيح ، وكان فيها تخيير المريض والمسافر أيضا. فأعيد ذكرهما لئلّا يتوهم أنّ تخييرهما نسخ ، كما نسخ تخيير الصحيح.

فإن قيل : قوله تعالى : (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) [الآية ١٨٦] يدلّ على أنّه يجيب دعاء الداعين ،

٢٦٩

ونحن نرى كثيرا من الداعين لا يستجاب لهم؟

قلنا : روي عن النبي (ص) ، أنّه قال : «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم ، إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إمّا أن يعجّل دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الاخرة ، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ولأنّ قبول الدعاء شرطه الطاعة الله تعالى ، وأكل الحلال ، وحضور القلب وقت الدعاء ؛ فمتى اجتمعت هذه الشروط حصلت الإجابة ، ولأن الداعي قد يعتقد مصلحته في الإجابة ، والله تعالى يعلم أنّ مصلحته في تأخير ما سأل ، أو في منعه ، فيجيبه إلى مقصوده الأصلي ، وهو طلب المصلحة ، فيكون قد أجيب وهو يعتقد أنّه منع عنه.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [الآية ١٩٦] ومعلوم أنّ ثلاثة وسبعة عشرة ، ثم ما الحكمة في قوله تعالى : (كامِلَةٌ) والعشرة لا تكون إلّا كاملة ، وكذا جميع أسماء الأعداد ، لا تصدق على أقل من المذكور ، ولا على أكثر منه؟

قلنا : الحكمة في قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) أن لا يتوهم أنّ الواو بمعنى أو ، كما في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) [النساء : ٣] وألا تحل التسع جملة ، فنفى بقوله سبحانه : (تِلْكَ عَشَرَةٌ) ظنّ وجوب أحد العددين فقط ، إما الثلاثة في الحج ، أو السبعة بعد الرجوع ، وأن يعلم العددين من جهتين جملة وتفصيلا ، فيتأكّد العلم به ، ونظيره فذلكة الحساب ، وتنصيف الكتاب. وأما قوله تعالى : (كامِلَةٌ) فتأكيد كما في قوله تعالى : (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) [الآية ٢٣٣] أو معناه كاملة في الثواب مع وقوعها بدلا من الهدى ، أو في وقوعها موقع المتتابع مع تفرّقها ، أو في وقوعها موقع الصوم بمكّة مع وقوع بعضها في غير مكّة ، فالحاصل أنّه كمال ، وصفا لا ذاتا.

فإن قيل : ما الحكمة في تكرار الأمر بالذكر في قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) [الآية ١٩٨].

قلنا : إنّما كرره تنبيها على أنّه سبحانه أراد ذكرا مكرّرا ، لا ذكرا واحدا ، بل مرّة بعد أخرى ، ولأنه زاد في الثاني فائدة أخرى ، وهي قوله

٢٧٠

تعالى : (كَما هَداكُمْ) يعني اذكروه بأحديّته كما ذكركم بهدايته ، أو إشارة الى أنّه جلّ وعلا أراد بالذكر الأوّل الجمع بين الصلاتين بمزدلفة ، وبالثاني الدعاء بعد الفجر بها ، فلا تكرار.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) [الآية ١٩٨] إلى أن قال : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [الآية ١٩٩] وأراد به الإفاضة من عرفات بلا خلاف ، وبعد المجيء إلى مزدلفة والذّكر فيها مرتين ، كما فسّرنا كيف يفيضون من عرفات.

قلنا : فيه تقديم وتأخير تقديره : من ربّكم ثم أفيضوا من حيث أفاض النّاس ، فإذا أفضتم من عرفات.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [الآية ٢٠٣] ومعلوم أنّ المتعجّل التارك بعض الرمي ، إذا لم يكن عليه إثم ، لا يكون على المتأخّر الآتي بالرمي كاملا؟

قلنا : كان أهل الجاهلية فريقين ، منهم من جعل المتعجّل آثما ، ومنهم من جعل المتأخّر آثما ، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا ، أو معناه لا إثم على المتأخّر في تركه الأخذ بالرخصة ، مع أنّ الله تعالى يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه ، أو أنّ معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى ، لا على مجرّد الرخصة أو العزيمة في الرمي ؛ ثمّ قيل المراد به تقوى المعاصي في الحجّ ، وقيل تقوى المعاصي بعد الحجّ في بقيّة العمر ، بالوفاء بما عاهد الله تعالى عليه ، بعرفة وغيرها من مواقف الحجّ من التوبة والإنابة. والمشكل في هذه الآية قوله تعالى : (فِي يَوْمَيْنِ) والتعجيل المرخّص فيه ، إنّما هو التعجيل في اليوم الثاني من أيام التشريق.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠) وهو يدلّ على أنّها كانت إلى غيره ، كقولهم : رجع إلى فلان عبده ومنصبه؟

قلنا : هو خطاب لمن كان يعبد غير الله تعالى ، وينسب أفعاله إلى سواه ؛ فأخبرهم أنّه إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة ، ردّوا ما أضافوه لغيره بسبب كفرهم وظلمهم ؛ ولأنّ رجع يستعمل بمعنى صار ووصل ، كقولهم : رجع عليّ من فلان مكروه ، قال الشاعر [بحر الطويل] :

٢٧١

وما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ولأنّها كانت إليه قبل خلق عبيده ، فلمّا خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة ، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم ، ومنه قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر : ١٦] وقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) [الفرقان : ٢٦] وإنّما قال سبحانه : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠) ولم يقل إليه ، وإن كان قد سبق ذكره مرة ، لقصد التعميم والتعظيم.

فإن قيل : لم طابق الجواب السؤال في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [الآية ٢١٥] فإنّهم سألوا عن بيان ما ينفقون ، وأجيبوا عن بيان المصرف؟.

قلنا : قد تضمّن قوله تعالى : (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) بيان ما ينفقونه وهو كلّ خير ، ثمّ زيد على الجواب بيان المصرف ، ونظيره قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ) [طه].

فإن قيل : لم جاء «يسألونك» ثلاث مرات بغير واو : (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [الآية ٢١٥] ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) [الآية ٢١٧] ، (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) [الآية ٢١٩]. ثم جاء ثلاث مرات بالواو : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) [الآية ٢١٩] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) [الآية ٢٢٠](وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)؟ [الآية ٢٢٢].

قلنا : لأنّ سؤالهم عن الحوادث الأول وقع متفرّقا ، وعن الحوادث الأخر وقع في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع دلالة على ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٧). وعزمهم الطلاق ممّا يعلم ، لا ممّا يسمع؟

قلنا : الغالب أنّ العزم على الطلاق ، وترك الفيء ، لا يخلو من دمدمة ، وإن خلا عنها ، فلا بدّ له أن يحدّث نفسه ويناجيها بما عزم عليه ، وذلك حديث لا يسمعه إلّا الله تعالى ، كما يسمع وسوسة الشيطان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) [الآية ٢٢٨] ولا حقّ للنساء في الرجعة ، وأفعل يقتضي الاشتراك؟

قلنا : المراد أنّ الزوج إذا أراد الرجعة وأبت ، وجب إيثار قوله على قولها ، لأنّ لها حقا في الرجعة.

٢٧٢

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) [الآية ٢٢٨] والزوج أحقّ بالرجعة ، سواء أراد الإصلاح أو الإضرار بها ، بتطويل العدّة؟

قلنا : المراد أنّ الرجعة أصوب وأعدل ، إن أراد الزوج الإصلاح ، وتركها أصوب وأعدل ، إن أراد الإضرار.

فإن قيل : كيف الجمع بين قوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [الآية ٢٤٣] وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦].

قلنا : المراد بالآية الأولى إماتة العقوبة مع بقاء الأجل ، وبالآية الثانية الإماتة بانتهاء الأجل ؛ نظيره قوله تعالى في قصة موسى عليه‌السلام : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) [الآية ٥٦] لأنّها كانت إماتة عقوبة ، أو كان إحياؤهم آية لنبيّهم على ما عرف في قصّتهم ، فصار كإحياء العزيز حين مرّ على قرية ؛ وآيات الأنبياء نوادر مستثناة ، فكان المراد بالآية الثانية الموتة التي ليست بسبب آية نبي من الأنبياء ؛ أو إحياء قوم موسى آية له أيضا ، فكان هذا جوابا عاما ، مع أنّ في أصل السؤال نظرا ، لأنّ الضمير في قوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ) للمتّقين ، والمقصود في قوله تعالى (فِيها) الجنّات ، على ما يأتي بيانه في سورة الدخان ، إن شاء الله على وجه يندفع به السؤال من أصله.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ) [الآية ٢٤٧] والله تعالى لا يؤتي ملكه أحدا؟

قلنا : المراد بهذا الملك السلطنة ، والرياسة التي أنكروا إعطاءها لطالوت ؛ وليس المراد بأنّه يعطي ملكه لأحد ، لأنّ سياق الآية يمنعه.

فإن قيل : لم قال تعالى في الماء : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) [الآية ٢٤٩] ولم يقل ومن لم يشربه ، والماء مشروب لا مأكول؟ قلنا : طعم بمعنى أكل ، وبمعنى ذاق ، والذوق هو المراد هنا ، وهو يعمّ.

فإن قيل : لم خصّ موسى وعيسى (عليهما‌السلام) من بين الأنبياء بالذكر في قوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ) [الآية ٢٥٣]؟

٢٧٣

قلنا : لما أوتيا من الآيات الظاهرة والمعجزات الباهرة ، مع الكتابين العظيمين المشهورين.

فإن قيل : لم قال تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [الآية ٢٥٤] وفي يوم القيامة شفاعة الأنبياء وغيرهم بدليل قوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) [الآية ٢٥٥] وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] وقوله تعالى : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٣].

قلنا : هذه الآيات لا تدل على وجود الشفاعة يوم القيامة ، بل تدل على أنّها لا توجد ولا تنفع من غير إذنه تعالى ، ولا توجد لغير مرضيّ عنده ، وهذا لا يتعارض مع وجودها ، بل المتعارض معه هو الإخبار عن وجودها ، لا الإخبار عن إمكان وجودها ، ولو سلّم ، فالمراد به نفي شفاعة الأصنام والكواكب التي كانوا يؤمنون بها. ولهذا عرّض بذكر الكفّار ، بقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤) وقيل : المراد ، أنّه لا شفاعة في إثم ترك الواجبات ، لأنّ الشّفاعة في الاخرة في زيادة الفضل لا غير ، والخطاب مع المؤمنين في النفقة الواجبة وهي الزّكاة.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) على وجه الحصر ، وغيرهم ظالم أيضا؟

قلنا : لأنّ ظلمهم أشدّ ، فكأنّه لا ظالم إلّا هم ، نظيره قوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨].

فإن قيل لم قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [الآية ٢٥٧] بلفظ المضارع ، ولم يقل أخرجهم بلفظ الماضي ، والإخراج قد وجد ، لأنّ الإيمان قد وجد؟

قلنا : لفظ المضارع فيه دلالة على استمرار ذلك الإخراج ، من الله تعالى في الزمان المستقبل ، في حقّ من آمن ، بزيادة كشف الشبه ومضاعفة الهداية ، وفي حقّ من لم يؤمن ، ممّن قضى الله أنّه سيؤمن بابتداء الهداية وزيادتها ، أيضا ، ولفظ الماضي لا يدلّ على هذا المعنى.

فإن قيل : متى كان المؤمنون في ظلمات الكفر ، والكافرون في نور الإيمان ليخرجوا من ذلك؟

٢٧٤

قلنا : الإخراج يستعمل بمعنى المنع عن الدخول ، يقال لمن امتنع عن الدخول في أمر خرج منه وأخرج نفسه منه ، وإن لم يكن دخله ؛ فعصمة الله تعالى المؤمنين عن الدخول في ظلمات الضلال ، إخراج لهم منها ؛ وتزيين قرناء الكفّار لهم الباطل الذي يصدّونهم به عن الحقّ ، إخراج لهم من نور الهدى ؛ ولأنّ إيمان رؤساء أهل الكتاب بالنبي عليه الصّلاة والسلام قبل أن يظهر كان نورا لهم ، وكفرهم به بعد ظهوره خروج منه إلى ظلمات الكفر ، ولأنّه لمّا ظهرت معجزاته عليه الصّلاة والسلام ، وكان موافقه ومتّبعه خارجا من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومخالفه خارجا من نور العلم إلى ظلمات الجهل.

فإن قيل : لم انتقل إبراهيم (ع) إلى حجّة أخرى ، وعدل عن نصرة الأولى ، مع أنّه لم ينقطع بما عارضه به نمرود ، من قتل أحد المجوسيين وإطلاق الاخر ، فإن إبراهيم (ع) ما أراد هذا الإحياء والإماتة؟

قلنا : إمّا لأنّه رأى خصمه قاصر الفهم عن إدراك معنى الإحياء والاماتة التي أضافهما إبراهيم (ع) إلى الله تعالى ، حيث عارض معارضة لطيفة ، وعمي عن اختلاف المعنيين ؛ أو لأنّه علم أنّه فهم الحجة لكنه قصد التمويه والتلبيس على أتباعه وأشياعه ؛ فعدل إبراهيم (ع) إلى أمر ظاهر يفهمه كل أحد ، ولا يقع فيه تمويه ولا تلبيس.

فإن قيل : لم طبع الله على قلبه فلم يعارض بالعكس في طلوع الشمس؟

قلنا : لأنّه لو عارض به لم يأت الله بها من المغرب ، لأنّ ذلك أمارة قيام الساعة ، فلا يوجد إلّا قريبا من قيامها ، ولأنّه وأتباعه كانوا عالمين أن طلوعها من المشرق سابق على وجوده ، فلو ادّعاه لكذّبوه.

فإن قيل : لم قال عزير عليه‌السلام ـ كما ورد في التنزيل ـ منكرا مستبعدا (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) [الآية ٢٥٩] وهو نبيّ ، والنبي لا تخفى عليه قدرة الله تعالى ، على إحياء قرية خربة ، وإعادة أهلها إليها؟

قلنا : لم يقله منكرا مستبعدا لعظيم قدرة الله تعالى ، بل متعجبا من عظيم قدرته تعالى ، أو طلبا لرؤية كيفية الإعادة ، لأنّ كلمة «أنّى» بمعنى كيف أيضا. وقد نقل مجاهد أنّ المارّ على القرية القائل ذلك ، كان رجلا كافرا

٢٧٥

شاكّا في البعث ، وإن كان الأول هو المشهور.

فإن قيل : لم قال الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) [الآية ٢٦٠] وقد علم أنّه أثبت الناس إيمانا؟

قلنا : ليجيب بما أجاب به ، فتحصل به الفائدة الجليلة ، للسّامعين من طلبه لإحياء الموتى.

فإن قيل : ما المقصود بقول إبراهيم (ع) كما ورد في التنزيل : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [الآية ٢٦٠] مع أنّ قلبه مطمئنّ بقدرة الله على الإحياء؟

قلنا : معناه ليطمئنّ قلبي ، بعلم ذلك عيانا ، كما اطمأن به برهانا ؛ أو ليطمئن بأنّك اتخذتني خليلا ، أو بأني مستجاب الدعوة.

فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) [الآية ٢٦٠] أي فضمّهنّ ، ولفظ الأخذ مغن عنه؟

قلنا : الحكمة فيه تأمّلها ومعرفة أشكالها وصفاتها ، لئلّا يلتبس عليه بعد الإحياء ، فيتوهّم أنّه غيرها.

فإن قيل : لم مدح الله سبحانه المتّقين بترك المنّ ، ونهى عن المنّ أيضا ، مع أنّه وصف نفسه بالمنّان ، في نحو قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٦٤]؟

قلنا : منّ بمعنى أعطى ، ومنه المنّان في صفات الله تعالى. وقوله سبحانه : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي أنعم عليهم ، ونحو ذلك قوله تعالى : (فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) [سورة ص : ٣٩]. أما وقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) [محمد : ٤] ، فهو من الإنعام بالإطلاق من غير عوض. المنّ هنا بمعنى الاعتداد بالنعمة ، وذكرها واستعظامها ، وهو المذموم.

فإن قيل : قوله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧] من القسم الثاني.

قلنا : ذلك اعتداد بنعمة الإيمان ، فلا يكون قبيحا ، بخلاف نعمة المال ، ولأنه يجوز أن يكون من صفات الله تعالى ما هو مدح في حقّه ، ذم في حقّ العبد كالجبّار ، والمتكبّر ، والمنتقم ، ونحو ذلك.

فإن قيل : لم قال تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) [الآية ٢٦٦] ثمّ قال (فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) [الآية ٢٦٦]؟

قلنا : لمّا كان النخيل والأعناب أكرم

٢٧٦

الشجر ، وأكثرها منافع ، خصّهما سبحانه بالذّكر وجعل الجنّة منهما ، وإن كان فيها غير هما تغليبا لهما وتفضيلا.

فإن قيل : قوله تعالى : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) [الآية ٢٧٣] يدلّ بمفهومه على أنّهم كانوا يسألون الناس برفق ، فلم قال سبحانه : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) [الآية ٢٧٣].

قلنا : المراد به نفي السؤال والإلحاف جميعا ، كقوله تعالى : (لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) [الآية ٧١] ، أو كقول الأعشى :

لا يغمز الساق من أين ولا وصب معناه ليس بساقه أين ، ولا وصب ، فغمزها.

فإن قيل : لم قال تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) [الآية ٢٧٥] ، ألحق الوعيد بأكله مع أنّ لابسه ، ومدّخره ، وواهبه ، أيضا ، في الإثم سواء؟

قلنا : لمّا كان أكثر الانتفاع والهمّ بالمال ، إنّما هو الأكل ، لأنه مقصود لا غناء عنه ولا بدّ منه ، عبّر عن أنواع الانتفاع بالأكل كما يقال : أكل فلان ماله كلّه ، إذا أخرجه في مصالح الأكل وغيره؟

فإن قيل : لم خص الأكل بذكر الوعيد ، دون المطعم ، وكلاهما آثم؟

قلنا : لأنّ انتفاعه الدنيويّ بالرّبا ، أكثر من انتفاع المطعم.

فإن قيل : لم قال تعالى : (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [الآية ٢٧٥] والكلام إذ ذاك في الربا ، ومقصودهم تشبيهه بالبيع ؛ فقياسه إنّما الربا مثل البيع في حلّه؟

قلنا : جاءوا بالتمثيل على طريق المبالغة ، وذلك أنّه بلغ من اعتقادهم استحلال الربا ، أنّهم جعلوه أصلا في الحلّ والبيع ، وفرعا كقولهم : القمر كوجه زيد ، والبحر ككفّه ، إذا أرادوا المبالغة.

فإن قيل : كيف قلتم إنّ أهل الكبائر لا يخلدون في النار ، وقد قال الله تعالى في حق آكل الربا : (وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٧٥)؟.

قلنا : الخلود يستعمل بمعنى طول البقاء وإن لم يكن بصفة التأبيد ، يقال : خلّد الأمير فلانا في الحبس ، إذا طال حبسه ، أو أنّ قوله تعالى : (فَأُولئِكَ) إشارة إلى من عاد إلى استحلال الربا ،

٢٧٧

بقوله جلّ وعلا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [الآية ٢٧٥] بعد نزول آية التحريم ، وذلك يكون كافرا ، والكافر مخلّد في النار.

فإن قيل : إنظار المعسر ، فرض بالنصّ ، والتصدّق عليه تطوّع ، فلم قال تعالى : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [الآية ٢٨٠].

قلنا : كلّ تطوّع كان محصّلا للمقصود من الفرض ، بوصف الزيادة كان أفضل من الفرض ؛ كما أنّ الزهد في الحرام فرض ، وفي الحلال تطوّع ؛ والزهد في الحلال أفضل ، كما بيّنا كذلك هنا.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (بِدَيْنٍ) وقوله تعالى : (تَدايَنْتُمْ) [الآية ٢٨٢] مغن عنه.

قلنا : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله تعالى : (فَاكْتُبُوهُ) [الآية ٢٨٢] إذ لو لم يذكره لقال : فاكتبوا الدّين ، فالأول أحسن نظما ، أو لأنّ التداين مشترك بين الإقراض والمبايعة وبين المجازاة ، وإنّما يميّز بينهما بفتح الدال وكسرها ؛ ومنه قوله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) [الفاتحة] ، أي الجزاء ، ومنه أيضا قوله سبحانه (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) (١٢) [الذاريات] ، فذكر الدّين ليتعيّن أيّ المعنيين هو المراد.

فإن قيل : لم شرط السفر في الارتهان بقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) [الآية ٢٨٣] ، وجواز الرهن لا يختصّ بالسفر؟

قلنا : لم يذكره سبحانه ، لتخصيص الحكم به ، بل لمّا كان السفر مظنّة عوز الكاتب ، والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد ، لحفظ مال المسافرين بأخذ الرهان.

فإن قيل : ما الحكمة في ذكر القلب ، في قوله تعالى : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [الآية ٢٨٣] مع أنّ الجملة هي الموصوفة بالإثم لا القلب وحده؟

قلنا : كتمان الشهادة ، هو أن يضمرها ولا يتكلم بها ، فلمّا كان ذلك إثما مقترنا بالقلب ، ومكتسبا له أسند إليه ، لأنّ إسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ ، كما يقال : هذا ما أبصرته عيني ، وسمعته أذني ، ووعاه قلبي.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ

٢٧٨

اللهُ) [الآية ٢٨٤] ، وما يحدّث به الإنسان نفسه لا يأثم به ما لم يفعله ، إمّا لأنّه لا يمكن الاحتراز عنه في الوسع والطاقة ، أو بالحديث المشهور فيه؟

قلنا : قيل أريد بالآية العموم ، ثمّ نسخ بقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [الآية ٢٨٦] وقيل : لا نسخ فيه لأنّه خبر ، لا أمر أو نهي ، بل العموم غير مراد ، وإنّما المراد ما يمكن الاحتراز عنه ، وهو العزم القاطع والاعتقاد الجازم ، لا مجرّد حديث النفس والوسوسة. ولأنّ السّياق أخبر عن المحاسبة لا عن المعاقبة ، فهو سبحانه يوم القيامة يخبر العباد بما أبدوا وما أخفوا ، ليعلموا إحاطة علمه بجميع ذلك ؛ ثم يغفر لمن يشاء فضلا ، ويعذّب من يشاء عدلا ، كما أخبر جلّ وعلا في الآية.

فإن قيل : أيّ شرف للرسول (ص) ، في مدحه بالإيمان ، مع أنّه في رتبة الرسالة ودرجتها ، وهي أعلى من درجة الإيمان ، فما الحكمة في قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ) [الآية ٢٨٥].

قلنا : الحكمة فيه أن يبيّن للمؤمنين زيادة شرف الإيمان ، حيث مدح به خواصّه ورسله ؛ ونظيره في سورة الصافات قوله تعالى في خاتمة ذكر كلّ نبيّ (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٨١) [الصافات].

فإن قيل : روي عن ابن عباس أنّه قرأ : (ملائكته وكتابه) [الآية ٢٨٥] فسئل عن ذلك ، فقال كتاب أكثر من كتب فما وجهه؟

قلنا : قيل فيه إنّه أراد أن الكتاب جنس ، والكتاب جمع ، والجنس أكثر من الجمع ، لأنّ حقيقته في الكل على ما ذهب إليه بعضهم ؛ ويردّ على هذا أن يقال : الكلام في الجمع المضاف ، والمفرد المضاف للاستغراق عرفا وشرعا ، كقوله لعبده : أكرم أصدقائي ، وأهن أعدائي ، وقوله : زوجاتي طوالق وعبيدي أحرار ، بخلاف قوله : صديقي وعدوي وعبدي وامرأتي ، فظهر أنّ الجمع المضاف أكثر. فإن قيل : إنّ «بين» لا تضاف إلّا إلى اثنين فصاعدا ، فلم قال تعالى : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) [الآية ٢٨٥]؟

قلنا : أحد هنا بمعنى الجمع ، الذي هو آحاد كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقّة : ٤٧] فإنّه ثم بمعنى الجمع بدليل قوله تعالى : (عَنْهُ حاجِزِينَ)

٢٧٩

[الحاقة : ٤٧] فكأنّه قال : لا نفرق بين آحاد من رسله كقولك : المال بين آحاد الناس ، ولأنّ أحدا يصلح للمفرد المذكر والمؤنث ، وتثنيتهما وجمعهما نفيا وإثباتا ، تقول : ما رأيت أحدا إلّا بني فلان ، أو إلّا بنات فلان سواء ، وتقول إن جاءك أحد بكتابي فأعطه وديعتي ، يستوي فيه الكلّ ؛ فالمعنى لا نفرّق بين اثنين منهم أو بين جماعة منهم ، ومنه قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) [الأحزاب : ٣٢].

فإن قيل : من أين دلّ قوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [الآية ٢٨٦] على أنّ الأوّل في الخير ، والثاني في الشر؟

قلنا : قيل هو من كسب واكتسبت ، فإنّ الأول للخير والثاني للشر ، وهذا الرأي ليس دقيقا ، وليس لديه دليل ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً) [النساء : ١١٢] وقوله سبحانه : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣٨) [المدّثّر] وقوله : (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) [الشورى : ٣٤] وقوله : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) [الشورى : ٢٣] والاقتراف والاكتساب بمعنى واحد. وقيل : هو من «اللّام» و «على» ، وليس هذا الرأي بدليل أيضا ، لقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢٥) [الرعد] وقوله تعالى : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] وقوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) [الآية ١٥٧]. اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ «اللّام» و «على» عند الإطلاق يقتضيان ذلك ، أو لأنّهما يستعملان لذلك عند تقاربهما ، كما في هذه الآية ، لا نفرّق بين ذكر الحسنة والسيئة ، أو الحسن والقبيح ، ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤] أطلقه ، وأراد به الشرّ بدليل ما بعده. وقولهم : الدهر يومان : يوم لك ويوم عليك. وقولهم : فلان يشهد لك وفلان يشهد عليك. ويقول الرجل لصاحبه : هذا الكلام حجّة عليك لا لك ، قال الشاعر :

على أنّني راض بأن أحمل الهوى

وأخلص منه لا عليّ ولا ليا

 وأمّا قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصّلت : ٤٦] وإن كان مقيّدا ، إلّا أنّ فيه دلالة أيضا ، من جهة «اللّام» و «على» ، لأنّ القيد شامل للظرفية.

٢٨٠