الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٢

والجماعة (١) ، وقال بعضهم للواحد : «شكاعاة» (٢).

وقوله تعالى (وَقُولُوا حِطَّةٌ) [الآية ٥٨] أي : «قولوا» «لتكن منك حطة لذنوبنا» ، كما تقول للرجل : «سمعك إليّ». كأنّهم قيل لهم :

قولوا : «يا ربّ لتكن منك حطّة لذنوبنا». وقد قرئت نصبا ، على أنّه بدل ، من اللفظ بالفعل. وكلّ ما كان بدلا من اللفظ بالفعل ، فهو نصب الفعل ، كأنّه قال : «احطط عنّا حطّة» (٣) فصارت بدلا من «حطّ» ، وهو شبيه بقولهم : «سمع وطاعة» ، فمنهم من يقول : «سمعا وطاعة» ، إذا جعله بدل : «أسمع سمعا وأطيع طاعة». وإذا رفع ، فكأنّه قال : «أمري سمع وطاعة». قال الشاعر [من الطويل وهو الشاهد الثامن والسبعون] :

أناخوا بأيدي عصبة وسيوفهم

على أمّهات الهام ضربا شاميا

وقال الاخر (٤) [من الوافر وهو الشاهد التاسع والسبعون] :

تركنا الخيل وهي عليه نوحا

مقلّدة أعنّتها صفونا (٥)

وقال بعضهم : «وهي عليه نوح» ، جعلها في التشبيه هي النوح ، لكثرة ما كان ذلك منها ، كما تقول : «إنّما أنت شرّ» و «إنّما هو حمار» في الشّبه ، أو تجعل الرفع ، كأنّه قال : «وهي عليه صاحبة نوح» ، فألقى الصاحبة ، وأقام النوح مقامها. ومثل ذلك قول الخنساء (٦) [من البسيط وهو الشاهد الثمانون] :

__________________

(١). هو رأي سيبويه «اللسان» «شكع».

(٢). في الصحاح «سلا» ، والجامع ١ : ٤٠٨ ، والبحر ١ : ٢٠٥ ، نقلت آراء الأخفش في «السلوى» و «دفلى» و «سلامى» و «شكاعى».

(٣). في إعراب القرآن ١ : ٥٠ والجامع ١ : ٤١٠ ، نقلت آراء الأخفش هذه.

(٤). هو عمرو بن كلثوم التغلبي.

(٥). هو من معلّقته المستفيضة الشهرة. وقد جاء في مجاز القرآن ١ : ٤٠٤ ، ب «تظل جياده نوحا عليه» ورفع أعنتها» ، وفي شرح القصائد السبع ٣٨٩ ، وشرح القصائد التسع ٢ : ٦٣١ ، وشرح القصائد العشر ٢٢٧ ، وشرح المعلّقات السبع ١٤٦ ، ب «عاكفة عليه» ونصب «أعنّتها».

(٦). هي تماضر بنت عمرو بن الشريد ؛ وانظر ترجمتها في الأغاني ١٣ : ١٣٥ ، وطبقات الشعراء ١ : ٢١٠ ، والشعر والشعراء ١ : ٣٤٨.

١٨١

ترتع ما رتعت حتّى إذا ذكرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

ومثله قراءة من قرأ : (قالوا معذرة الى ربّكم) (٢) ، أي كأنّهم قالوا : «موعظتنا إيّاهم معذرة» ، وقد نصب (٣) على : «نعتذر معذرة» وقال تعالى (فَأَوْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٠](طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد : ٢١] على قوله (إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) [محمد : ١٨](فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) جعل الطاعة مبتدأ ، فقال (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) خير من هذا ، أو جعل طاع مبتدأ ، فقال «طاعة وقول معروف خير من هذا». وزعم يونس (٤) أنّه قيل لهم «قولوا حطة» أي : تكلّموا بهذا الكلام. كأنه فرض عليهم أن يقولوا هذه الكلمة مرفوعة.

وقال تعالى (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) [الآية ٥٩] وقال أيضا (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (٥) [المدّثّر] وقرأ بعضهم (والرّجز) (٥). وذكروا أن «الرّجز» : صنم ، كانوا يعبدونه ؛ فأما «الرجز» ، فهو : «الرجس. (والرّجس : النّجس) قال تعالى (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨] و «النجس» : القذر.

وقال تعالى(فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ

__________________

(١). في الديوان ٢٦ ب «اذكرت» ، وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ١٦٩ أيضا.

(٢). الأعراف ٧ : ١٦٤ ؛ وهي في السبعة ٢٩٨ قراءة عاصم ، وفي الكشف ١ : ٤٨١ ، والتيسير ١١٤ ، إلى غير حفص ؛ وفي معاني القرآن ١ : ٣٩٨ أنّها ما آثرته القرّاء ، وفي البحر ٤ : ٤١٢ إلى الجمهور.

(٣). والنّصب ما عليه رسم المصحف ، وهو في السبعة ٢٩٨ إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية ؛ وفي الكشف ١ : ٤٨١ ، والتيسير ١١٤ ، إلى حفص ؛ وفي البحر ٤ : ٤١٢ إلى زيد بن علي وعاصم في رواية ، وعيسى ابن عمر وطلحة بن مصرف.

(٤). هو يونس بن حبيب وقد مرّت ترجمته فيما سبق.

(٥). قراءة ضمّ الرّاء هي في معاني القرآن ٣ : ٢٠٠ إلى السّلمي ومجاهد وأهل المدينة ؛ وفي الطّبري ٢٩ : ١٧٤ إلى بعض المكّيين والمدنيين ؛ وفي السّبعة ٦٥٩ الى حفص والمفضّل عن عاصم ؛ وفي الكشف ٢ : ٣٤٧ والتيسير ٢١٦ إلى حفص ؛ وفي الجامع ١٩ : ٦٧ الى الحسن وعكرمة ومجاهد وابن محيصن وحفص عن عاصم ، وقال هي لغة ؛ وفي البحر ٨ : ٣٧١ إلى الحسن ومجاهد والسلمي وأبي شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص. أمّا قراءة كسر الرّاء ففي معاني القرآن ٣ : ٢٠٠ نسبت الى عاصم والأعمش والحسن ؛ وفي الطّبري ٢٩ : ١٤٧ إلى بعض قرّاء المدينة وعامّة قرّاء الكوفة ؛ وفي السّبعة ٦٥٩ إلى غير حفص والمفضّل عن عاصم ، والى عاصم في رواية ؛ وفي الكشف ٢ : ٣٤٧ والتيسير ٢١٦ وفي الجامع ١٩ : ٦٧ والبحر ٨ : ٣٧١ الى الجمهور.

١٨٢

عَيْناً) [الآية ٦٠] يكسر الشين بنو تميم (١) ، وأما أهل الحجاز فيسكّنون (٢).

وقوله تعالى (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) (٦٠). من «عثي» «يعثى» وقال بعضهم : «يعثو» من «عثوت» ، ف «أنا أعثو» ، مثل : «غزوت» ف «أنا أغزو».

باب زيادة «من»

وأمّا قوله تعالى (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها) [الآية ٦١] فدخلت فيه (من) كنحو ما تقول في الكلام : «أهل البصرة يأكلون من البرّ والشّعير» وتقول : «ذهبت فأصبت من الطّعام» ، تريد «شيئا» ولم تذكر الشيء. كذلك (يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) شيئا ، ولم يذكر الشيء ، وان شئت جعلته ، على قولك : «ما رأيت من أحد» ، تريد : «ما رأيت أحدا» ، و «هل جاءك من رجل» تريد هل جاءك رجل. فان قلت : «إنّما يكون هذا في النفي والاستفهام» فقد جاء في غير ذلك ؛ قال تعالى (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) [الآية ٢٧١] فهذا ليس باستفهام ولا نفي. وتقول : «زيد من أفضلها» ، تريد : هو أفضلها ، وتقول العرب : «قد من حديث ، فخلّ عنّي حتّى أذهب» يريدون : قد كان حديث (٣). ونظيره قولهم : «هل لك في كذا وكذا ولا يقولون : «حاجة ، و : لا عليك» يريدون : لا بأس عليك.

وأمّا قوله تعالى (اهْبِطُوا مِصْراً) [الآية ٦١] و (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٩٩) [يوسف] فزعم بعض الناس ، أنّه جلّ جلاله يعني فيهما جميعا «مصر» بعينها ، ولكن ما كان من اسم مؤنّث على هذا النحو «هند» و «جمل» فمن العرب من يصرفه ، ومنهم من لا يصرفه. وقال بعضهم :

__________________

(١). وهي في الشواذ ، ٥ و ٦ الى الأعمش ؛ وفي الجامع ١ : ٤٢٠ الى مجاهد وطلحة وعيسى ؛ وفي البحر ١ : ٢٢٩ الى مجاهد وطلحة وعيسى بن يحي بن وثاب وابن أبي ليلى ويزيد وأبي عمرو في رواية غير مشهورة ، وإلى الأعمش ، وقد أيّد في المحتسب ٨٥ ، وفي الجامع والبحر ، كما سبق لها أنها لغة تميم ؛ وقال في الجامع ، وهذا من لغتهم نادر ؛ ولهجة تميم ١٧٣.

(٢). في البحر ١ : ٢٢٩ نسبت هذه القراءة إلى أبي عمرو في رواية مشهورة عنه ، والأعمش في رواية أيضا ، وفي الجامع ١ : ٤٢٠ أنّها لغة أهل الحجاز.

(٣). نقلت عنه هذه المعاني في اعراب القرآن ١ : ٥٢ و ٦٣ ، والجامع ٥٢ و ٦٣ ، والبحر ١ : ٢٣٢ ، والمشكل ١ : ٩٦.

١٨٣

«أمّا التي في «يوسف» فيعني بها «مصر» ، بعينها ، والتي في «البقرة» ، يعني بها مصرا من الأمصار.

وأما قوله تعالى (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الآية ٦١] فمعنى باؤوا : «رجعوا به» أي صار عليهم ، وتقول «باء بذنبه يبوء بوءا» (١). وقال تعالى (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩] مثله.

باب من تفسير الهمز

أمّا قوله تعالى (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ) [الآية ٦١] و (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) [آل عمران : ١١٢] كل ذلك جماعة العرب تقوله.

ومنهم ، من يقول «النّبآء» ، أولئك الذين يهمزون «النبيء» ، فيجعلونه مثل «عريف» و «عرفاء» (٢). والذين لم يهمزوه ، مثل بنات الياء ، فصار مثل «وصيّ» و «أوصياء» ، ويقولون أيضا : «هم وصيّون». وذلك أنّ العرب تحوّل الشيء من الهمزة حتّى يصير كبنات الياء (٣) ، ويجتمعون على ترك همزة نحو «المنسأة» ولا يكاد أحد يهمزها ، إلّا في القرآن ، فإنّ أكثرهم قرأها بالهمز وبها نقرأ (٤) ، وهي من «نسأت». وجاء ما كان من «رأيت» ، على «يفعل» أو «تفعل» أو «نفعل» أو «أفعل» غير مهموز ، وذلك أنّ الحرف الذي كان قبل الهمزة ، ساكن ، فحذفت الهمزة وحرّك الحرف الذي قبلها بحركتها كما تقول : «من أبوك» (٥).

__________________

(١). في الصحاح (بوء) نقلت هذه الجمل والعبارات منسوبة الى الأخفش.

(٢). أشار الى هذه اللغة في البيان ١ : ٨٧ و ٨٨ ولم يحدّد. وهم أهل مكّة «اللسان نبأ» وبعض أهل المدينة في القراءة «اللسان نبا» واللهجات العربية ٢٦١.

(٣). قراءة النبيئين بالهمز في الشواذ ٥٧ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٤٣١ الى نافع.

(٤). سبأ ٣٤ : ١٤ وهي في معاني القرآن ٢ : ٣٥٦ إلى عاصم والأعمش ، وفي الطبري ٢٢ : ٧٤ الى عامّة قرّاء الكوفة ، وفي السبعة ٥٢٧ والكشف ٢ : ٢٠٣ الى غير نافع وأبي عمرو ، وزاد في الاستثناء في التيسير ١٨٠ والجامع ١٤ : ٢٧٩ ابن ذكوان ، وفي البحر ٧ : ٦٢٧ الى ابن ذكوان والوليد بن عتبة والوليد بن سلم وسائر السّبعة إلّا نافعا وأبا عمرو ، وأمّا قراءة الألف بلا همزة فهي في معاني القرآن ٢ : ٣٥٦ إلى أهل الحجاز والحسن وأبي عمرو وأنها لغة قريش ، وفي الطبري ٢٢ : ٧٣ إلى عامّة قرّاء أهل المدينة وبعض أهل البصرة ، وفي السبعة ٥٢٧ والكشف ٢ : ٢٠٣ والتيسير ١٨٠ والجامع ١٤ : ٢٧٩ والبحر ٧ : ٢٦٧ الى نافع وأبي عمرو ، وفي المحتسب ٢ : ١٨٧ الى أبي عمرو وابن أبي إسحاق في ثاني قراءتيه.

(٥). في اللسان «حرف الهمزة» قالوا. لا بالك ولاب لغيرك ولاب لشائنك. ولم يبيّن لغة من هي؟

١٨٤

قال تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (١٢) [النجم] وقال : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٦) [التكاثر : ٦] وقال : (إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ) [الأنفال : ٤٨] وقال : (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٦٠) [الأعراف] وأمّا قوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) (١) [الماعون] و (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) (١١) [العلق] وما كان من «أرأيت» في هذا المعنى ، ففيه لغتان ، منهم من يهمز (١) ، ومنهم من يقول «أرايت» (٢). وإنّما يفعل هذا ، في «أرأيت» هذه التي وضعت للاستفهام ، لكثرتها. فأما «أرأيت زيدا» ، إذا أردت «أبصرت زيدا» ، فلا يتكلّم بها إلّا مهموزة أو مخفّفة. ولا يكاد يقال «أريت» ، لأنّ تلك كثرت في الكلام ، فحذفت كما حذفت في أمانّه ظريف» ، يريدون : «أما إنّه ظريف» فيحذفون ، ويقولون أيضا : «لهنّك لظريف» يريدون : «لأنّك لظريف». ولكن الهمزة حذفت كما في قولهم [من البسيط وهو الشاهد الحادي والثمانون] :

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّي ولا أنت ديّاني فتخزوني (٣)

وقال الشاعر (٤) [من الكامل وهو الشاهد الثاني والثمانون] :

أرأيت إن أهلكت مالي كلّه

وتركت مالك فيم أنت تلوم (٥)

فهمز ، وقال الاخر (٦) : [من المتقارب وهو الشاهد الثالث والثمانون] :

أريت امرأ كنت لم أبله

أتاني وقال اتّخذني خليلا

فلم يهمز : وقال (٧) [من الكامل وهو الشاهد الرابع والثمانون] :

__________________

(١). هم بنو تميم. اللهجات العربية ٢٥٦.

(٢). هم أهل الحجاز. اللهجات العربية ٢٥٦.

(٣). البيت لذي الإصبع العدواني. ديوانه ٨٩ ، ومجالس العلماء ٧١ ، والأمالي ١ : ٢٥٥.

(٤). هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل الليثي ، من شعراء صدر الدولة الأموية.

(٥). مجاز القرآن ٢ : ١١.

(٦). هو أبو الأسود ظالم بن عمرو الدّؤلي ، والبيت في ديوانه ٣٨ ، ومجاز القرآن ٢ : ١١ ، واللسان «رأي» ، والصحاح «رأي».

(٧). هو العبّاس بن مرداس السلمي.

١٨٥

يا خاتم النّبآء إنّك مرسل

بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا (١)

وأمّا قوله تعالى (بِما عَصَوْا) [الآية ٦١] فجعله اسما هنا كالعصيان يريد : بعصيانهم ، فجعل «ما» و «عصوا» اسما.

وقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [الآية ٦٣] فهذا على الكلام الأوّل ، كأنّه «أذكروا إذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا» ثم : «فقلنا لكم» : «خذوا» (٢). كما تقول : «أوحيت إليه : قم» ، كأنّه يقول : «أوحيت إليه ، فقلت له : «قم» وكان في قولك : «أوحيت إليه» دليل على أنّك قد قلت له.

وأمّا قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) [الآية ٦٥] كأنّه يقول : «ولقد عرفتم» كما تقول : «لقد علمت زيدا ولم أكن أعلمه» (٣). وقال تعالى (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ) [الأنفال : ٦٠] كأنّه يقول : «يعرفهم». وقال تعالى (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) [التوبة : ١٠١] أي : لا تعرفهم نحن نعرفهم. وإذا أردت العلم الاخر قلت : «قد علمت زيدا ظريفا» لأنّك تحدّث عن ظرفه. فلو قلت : «قد علمت زيدا» لم يكن كلاما.

وأمّا قوله تعالى (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٦٥) فلأنّك تقول : «خسأته» فخسئ» «يخسأ خسأ (٤) شديدا» ف «هو خاسئ» و «هم خاسئون».

وأمّا قوله تعالى (فَجَعَلْناها نَكالاً) [الآية ٦٦] ، فتكون على القردة ، وتكون على العقوبة ، التي نزلت بهم ، فلذلك أنّثت.

وأما قوله تعالى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [الآية

__________________

(١). ديوانه ٩٥ والكتاب ٢ : ١٢٦.

(٢). في إيضاح الوقف ١ : ٥١٩ ، وإعراب القرآن ١ : ٥٤ ، أفيد هذا الرأي ، ونسب بعبارة مقاربة.

(٣). في إعراب القرآن ١ : ٥٤ ، والجامع ١ : ٤٣٩ ، أفيدت هذه الآراء منسوبة إلى الأخفش.

(٤). هكذا وردت الأمثلة الفعلية تحمل بابين للفعل ، يبدو منهما أنّ المتعدي يصاغ من باب «فتح» ، واللازم المطاوع من باب «فرح».

١٨٦

٦٧] ، فمن العرب والقرّاء من يثقّله (١) ، ومنهم من يخفّفه (٢) ؛ وزعم عيسى بن عمر ، أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف ، أوّله مضموم ، فمن العرب من يثقله ، ومنهم من يخفّفه ، نحو : «اليسر» و «اليسر» ، و «العسر» و «العسر» «الرحم» و «الرحم» (٣). وقال بعضهم (عُذْراً) [المرسلات : ٦] خفيفة ، (أو نذرا) [المرسلات : ٦] مثقلة ، وهي كثيرة وبها نقرأ (٤). وهذه اللغة التي ذكرها عيسى بن عمر ، تحرّك أيضا ثانيه بالضم.

وأمّا قوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ) [الآية ٦٨] فارتفع ، ولم يصر نصبا ، كما ينتصب النفي ، لأنّ هذه صفة في المعنى للبقرة. والنفي المنصوب لا يكون صفة من صفتها ، إنّما هو اسم مبتدأ ، وخبره مضمر ، وهذا مثل قولك : «عبد الله لا قائم ولا قاعد» ، أدخلت «لا» ، للمعنى وتركت الإعراب على حاله لو لم يكن فيه «لا».

وأمّا قوله تعالى (بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ) [الآية ٦٩] ف «الفاقع» : الشديد الصفرة. ويقال : «أبيض يقق» : أي : شديد البياض ، و «لهاق» و «لهق» و «لهاق» ، و «أخضر ناصر» ، و «أحمر قانئ» و «ناصع» و «فأقم». ويقال : «قد

__________________

(١). اللهجات العربية ١٧١ هي لغة الحجاز وهي في السبعة ١٥٧ و ١٥٨ و ١٥٩ قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر والكسائي في رواية الى نافع وعاصم. وفي حجّة ابن خالويه ٥٨ ، أنّها إلى عاصم في رواية أبي بكر ، وفي الكشف ١ : ٢٤٧ إلى القرّاء عدا حمزة ، وفي التيسير ٧٤ الى حفص ، وفي الجامع ١ : ٤٤٧ والبحر ١ : ٢٥٠ كذلك ، وزاد في الأخير غير حمزة أو إسماعيل أو خلف أو القزّاز والمفضّل من أخذ بالقراءة الاخرى.

(٢). اللهجات العربية ١٧١ هي لغة بكر بن وائل وكثير من تميم ، وهي في السبعة ١٥٨ و ١٥٩ و ١٦٠ الى حمزة ، وفي رواية الى عاصم وأبي عمرو ونافع ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٥٨ و ٥٩ إلى حمزة وعاصم برواية حفص ، وأضاف أنّها لغة تميم وأسد وقيس ؛ وفي الكشف ١ : ٢٤٧ أضاف إلى حمزة والقرّاء حفصا ، وفي التيسير ٧٤ إلى حمزة ، وفي الجامع ١ : ٤٤٧ الى الكوفيين ، وفي البحر ١ : ٢٥٠ إلى حمزة وإسماعيل وخلف والقزاز عن عبد الوارث والمفضّل.

(٣). وقد نقل هذا الرأي ونسب في الجامع ١ : ٤٤٧. والمشكل ١ : ٤٤٨.

(٤). في معاني القرآن ٣ : ٢٢٢ الى عاصم ، وفي الطّبري ٢٩ : ٢٣٣ إلى عامّة قرّاء المدينة والشّام وبعض المكّيين وبعض الكوفيين ، وفي السبعة ٦٦٦ الى ابن كثير ونافع وابن عامر والى عاصم في رواية ، وفي الكشف ٢ : ٣٥٧ تثقيل الذّال في الثانية الى الحرمين وأبي بكر وابن عامر ، وفي التيسير ٢١٨ كذلك ، وفي الجامع ١٩ : ١٥٦ نسب هذه القراءة إلى ابراهيم التيمي وقتادة وأبي عبّاس ، وإسكان الأولى الى السّبعة كلّهم ، وفي البحر ٨ : ٤٠٥ إلى أبي جعفر في رواية وإلى شيبة وزيد بن علي والحرمين وابن عامر وأبي بكر.

١٨٧

قنأت لحيته» ف «هي تقنأ قنوأ» أي : احمرّت. قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد الخامس والثمانون] :

كما قنأت أنامل صاحب الكرم (١)

و «قاطف الكرم». وقال آخر (٢) [من الكامل وهو الشاهد السادس والثمانون] :

من خمر ذي نطف أغنّ كأنّما

قنأت أنامله من الفرصاد (٣)

وأمّا في قوله تعالى (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) [الآية ٧٠] فجعل «البقر» مذكّرا مثل «التّمر» و «البسر» كما تقول : «إنّ زيدا تكلّم يا فتى» وإن شئت قلت (يشّابه) (٤) وهي قراءة مجاهد (٥) ذكّر «البقر» يريد «يتشابه» ثم أدغم التاء في الشين. ومن أنّث «البقر» قال (تشّابه) (٦) فأدغم ، وإن شاء حذف التاء الاخرة ، ورفع ، كما تقول «إنّ هذه تكلّم يا فتى» لأنها في «تشابه» إحداهما تاء «تفعل» ، والأخرى التي في «تشابهت» ؛ فهو في التأنيث معناه «تفعل» ، وفي التذكير معناه «فعل» ؛ و «فعل» أبدا مفتوح ، كما ذكرت لك ، والتاء محذوفة إذا أردت التأنيث ، لأنّك تريد «تشابهت» فهي «تشابه» وكذلك كل ما كان من نحو «البقر» ، ليس بين

__________________

(١). هذا ما ورد من الشعر.

(٢). هو الأسود بن يعفر كما في الصحاح «قنأ» و «فرصد» واللسان «قنأ» و «فرصد» وديوان الأسود بن يعفر ٢٩.

(٣). في الجمهرة الصدر (يسعى بها ذو تومتين كأنما) وفي الصحاح «قنأ» «مشمر» بدل «كأنما» وفي «فرصد» كما رواه الأخفش وفي اللسان «قنأ» كما رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» بدل «كأنما» وفي المخصّص ٤ : ٤٣ ب «منطق» وقال روي بالفاء والقاف. وفي التّاج «قبأ» مثل رواية الصحاح الاولى وفي «فرصد» ب «منطق» وما في ديوان الأسود بن يعفر :

من خمر ذي نطف أغنّ منطّق

وافى بها كدراهم الأسجاد

يسعى بها ذو تومتين مشمّر

قنأت أنامله من الفرصاد

(٤). في الشواذ ٧ إلى محمد ذي الشامة وكذلك وفي الكشّاف ١ : ١٥١ وفي البحر ١ : ٢٥٤ الى ابن مسعود.

(٥). هو أبو الحجّاج مجاهد بن جبر المكّي ، علم من المتابعين وأئمة التفسير ، قرأ على ابن عبّاس وعبد الله بن السائب ، وله اختيار في القراءة وتوفي سنة ١٠٣. طبقات ابن الخياط ٢٨٠ ، وطبقات القرّاء ٢ : ٤٤ ، والمعارف ٤٤٤ ، وميزان الاعتدال ٣ : ٤٣٩.

(٦). في الشواذ ٧ إلى ابن مسعود ، وبتخفيف الشّين إلى الحسن. وفي الجامع ١ : ٤٥١ إلى الحسن والأعرج ، وفي البحر ١ : ٢٥٤ أضاف «في احدى الروايتين).

١٨٨

الواحد والجماعة فيه ، إلّا الهاء ، فمن العرب من يذكّره (١) ومنهم من يؤنّثه (٢) ، ومنهم من يقول : «هي البرّ والشّعير» (٣) وقال تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (١٠) [ق] فأنّث على تلك اللغة ، وقال «باسقات» فجمع ، لأن المعنى جماعة. وقال الله جل ثناؤه (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) [النور : ٤٣] ، فذكّر في لغة من يذكّر ، قال (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) (١٢) [الرعد] فجمع ، على المعنى ، لأنّ المعنى سحابات.

وقال تعالى (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] وقال سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢] على المعنى واللفظ.

وقد قال بعضهم : إنّ الباقر (٤) مثل «الجامل» يعني «البقر» و «الجمال» قال الشاعر [من الكامل وهو الشاهد السابع والثمانون] :

مالي رأيتك بعد أهلك موحشا

خلقا كحوض الباقر المتهدّم

وقال (٥) [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثمانون] :

فإن تك ذا شاء كثير فإنّهم

ذوو جامل لا يهدأ اللّيل سامره (٦)

وأمّا قوله تعالى (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ) [الآية ٧١] «مسلّمة» على «إنّها بقرة مسلّمة».

(لا شِيَةَ فِيها) [الآية ٧١] يقول : «لا وشي فيها» من «وشيت شية» كما تقول : «وديته دية» و «وعدته عدة».

وإذا استأنفت (أَلْآنَ) [الآية ٧١] ، قطعت الألفين جميعا لأنّ الألف الأولى مثل ألف «الرّجل» وتلك تقطع

__________________

(١). هم تميم وأهل نجد «اللهجات العربية ٥٠١».

(٢). هم أهل الحجاز.

(٣). انظر الهامش السابق ، والمزهر ٢ : ٢٧٧.

(٤). في الكشّاف ١ : ١٥١ الى محمّد ذي الشامة. وذكرها في الإملاء ١ : ٤٣ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٤٥٢ الى يحيى بن يعمر.

(٥). هو الحطيئة. ديوانه ١٨٤ ، واللسان «جمل» والخزانة ٣ : ٣٨٩.

(٦). في الأصل : له جامل ما يهدأ الليل سامره والصدر والتصحيح من الديوان ، وفي الصحاح «جمل» ب «لهم» بدل «له» واللسان «جمل» كذلك. وفي الخزانة «لنا» بدل «له» ولا بدل «ما» وأشار الى الروايات الاخرى.

١٨٩

إذا استؤنفت ، والأخرى همزة ثابتة تقول «ألان» فتقطع ألف الوصل ، ومنهم من يذهبها ويثبت الواو التي في (قالُوا) [الآية ٧١] لأنّه إنّما كان يذهبها لسكون اللام ، واللّام قد تحركت لأنّه قد حوّل عليها حركة الهمزة (١).

وأما قوله تعالى (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [الآية ٧٢] فإنّما هي «فتدارأتم» ، ولكنّ التاء تدغم أحيانا ، كذا في الدّال لأنّ مخرجها من مخرجها. فلمّا أدغمت فيها حوّلت ، فجعلت دالا مثلها ، وسكّنت فجعلوا ألفا قبلها حتى يصلوا إلى الكلام بها ، كما قالوا : «اضرب» فألحقوا الالف حين سكنت الضّاد. ألا ترى أنك إذا استأنفت قلت «ادّارأتم» ومثلها (يَذْكُرُونَ) (٢) و «تذّكّرون» (٣) و (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (٤) ومثله في القرآن كثير. وإنّما هو «يتدبّرون» فأدغمت التاء في الدال ، لأنّ التاء قريبة المخرج من الدال ، مخرج الدال بطرف اللسان وأطراف الثنيتين ، ومخرج التاء بطرف اللسان وأصول الثنيتين. فكلّ ما قرب مخرجه ، فافعل به هذا ، ولا تقل في «يتنزّلون» : «ينزّلون» لأنّ النون ليست من حروف الثنايا كالتاء.

وقال تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [الآية ٧٤] وليس قوله : (أَوْ أَشَدُّ) كقولك : «هو زيد أو عمرو» إنّما هذه (أَوْ) التي في معنى الواو ، نحو قولك ، «نحن نأكل البرّ أو الشّعير أو الأرزّ ، كلّ هذا نأكل» ف (أَشَدُّ) ترفع على خبر المبتدأ. وإنما هو «وهي أشدّ قسوة» وقرأ بعضهم (فهي كالحجارة) فأسكن الهاء ، وبعضهم يكسرها. وذلك أنّ لغة العرب في «هي» و «هو» ولام الأمر ، إذا كان قبلهن واو ، أو فاء ، أسكنوا أوائلهن. ومنهم من يدعها. قال تعالى (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [القصص : ٧٠] وقال تعالى : (وَهُوَ

__________________

(١). نقله في الجامع ١ : ٤٥٥.

(٢). في سبع آيات أوّلها الأنعام ٦ : ١٢٦ ، وآخرها النحل ١٦ : ١٣.

(٣). ليس في الكتاب الكريم فعل مضارع مسند الى المخاطبين من «ذكر» بتضعيف الذال والكاف ، بل فيه بتاءين غير مدغمين في ثلاثة مواضع وبتاء واحدة ، وتضعيف الكاف ، في سبع عشرة آية ، راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم ، باب ذكر.

(٤). المؤمنون ٢٣ : ٦٨ وفي الأصل «القرآن» بدل «القول» و «القرآن» في اثنتين أخريين هما في (النّساء ٤ : ٨٢ ومحمّد ٤٧ : ٢٤) والفعل معه «يتدبّرون» غير مجزوم.

١٩٠

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١). وقال : (فَلْيَعْبُدُوا) [قريش : ٣] يجوز فيها ، في غير القرآن ، الوقف والكسر.

باب إنّ وأنّ

قال سبحانه وتعالى (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الآية ٧٤] فهذه اللّام ، كما نعلم ، لام التوكيد ، وهي منصوبة ، تقع على الاسم الذي تقع عليه «إنّ» ، إذا كان بينها وبين «إنّ» حشو من الكلام ، نحو أن نقول : «إنّ في الدار لزيدا». وتقع هذه اللام أيضا في خبر «إنّ» ، وتصرف «إنّ» إلى الابتداء ، تقول : «أشهد إنّه لظريف» كأن اللاحق ، في مثل هذا الترتيب ، يعمل في السابق ، قال الله عزوجل (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١) [المنافقون] وقال : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) [العاديات] وهذا لو لم تكن فيه اللام كان «أنّ ربّهم» ، لأنّ «أنّ» الثقيلة إذا كانت وهي وما عملت فيه بمنزلة «ذاك» أو بمنزلة اسم فهي أبدا «أنّ» مفتوحة. وإن لم يحسن مكانها وما عملت فيه اسم ، فهي «إنّ» على الابتداء. ألا ترى إلى قوله تعالى (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤٧) [البقرة] يقول : «اذكروا هذا» وقال تعالى : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ) [الصافات] لأنه يحسن في مكانه «لو لا ذاك» وكل ما حسن فيه «ذاك» أن تجعله مكان «أنّ» وما عملت فيه فهو «أنّ». وإذا قلت (يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) لم يحسن أن تقول : يعلم لذلك». فان قلت : «اطرح اللام أيضا وقل «يعلم ذاك» فاللام ليست مما عملت فيه «إنّ». وأمّا في قوله تعالى : (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ) [الفرقان : ٢٠] فلم تنكسر إلّا هذه من أجل اللام [و] لو لم تكن فيها لكانت «أنّ» أيضا لأنّه لا يحسن أن تقول «ما أرسلنا قبلك إلّا ذاك» و «ذاك» هو القصة. قال الشاعر (٢) : [من

__________________

(١). ابراهيم ١٤ : ٤ وفي مواقع كثيرة اخرى. راجع المعجم المفهرس.

(٢). هو كثيّر عزّة. انظر ديوانه ٢٧٣ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٧٢.

١٩١

المنسرح وهو الشاهد التاسع والثمانون] :

ما أعطياني ولا سألتهما

إلّا وإني لحاجزي كرمي

فلو ألقيت من هذه اللام أيضا لكانت «أن». وقال تعالى (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) (١٤) [الأنفال] كأنه قال : «ذاك الأمر» وهذا قوله تعالى (وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) تقع في مكانه «هذا». وقال (ذلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) (١٨) [الأنفال] كأنه على جواب من قال : «ما الأمر»؟ أو نحو ذلك فيقول للذين يسألون : «ذلكم.» كأنه قال : «ذلكم الأمر ، وأنّ الله موهن كيد الكافرين» فحسن أن يقول : «ذلكم» و «هذا». وتضمر الخبر أو تجعله خبرا مضمرا. قال تعالى (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١١٩) [طه] لأنّه يجوز أن تقول : «إنّ لك ذاك» و «هذا» وهذه الثلاثة الأحرف ، يجوز فيها كسر «إنّ» على الابتداء. (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ) [آل عمران : ٣٩] فيجوز أن تقول : «فنادته الملائكة بذاك» وإن شئت رفعته على الحكاية ، كأنه يقول : «فنادته الملائكة فقالت : إنّ الله يبشّرك» ، لأنّ كلّ شيء بعد القول حكاية ، تقول : «قلت : «عبد الله منطلق» قلت : «إنّ عبد الله زيدا منطلق» ، إلّا في لغة من أعمل القول من العرب كعمل الظنّ فذاك ينبغي له أن يفتح «أنّ». وقال تعالى (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢ والمؤمنون : ٥٢] فيزعمون أن هذا ، ولأنّ «هذه أمّتكم واحدة وأنا ربّكم فاتّقون» يقول : «فاتّقون لأنّ هذه أمّتكم» وهذا يحسن فيه كذاك ، فإن قلت : «كي تلحق اللام ولم تكن في الكلام». فإنّ طرح اللام وأشباهها من حروف الجرّ ، من «أنّ» حسن ، ألا تراه يقول : «أشهد أنّك صادق» ، وإنّما هو : «أشهد على ذلك». وقال تعالى (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١٨) [الجن] يقول : «فلا تدعوا مع الله أحدا لأنّ المساجد لله» ، وفي هذا الإعراب ضعف ، لأنّه عمل فيه ما بعده ، أضافه اليه بحرف الجر.

ولو قلت «أنّك صالح بلغني» لم يجز ، وإن جاز في ذلك. لأنّ حرف الجر لمّا تقدّم ضميره قوي. وقد قرئ

١٩٢

مكسورا (١). وقال بعضهم : «إنّما هذا على (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ١] و «أوحي إليّ أنّ المساجد لله» و «أوحي إليّ أنه لمّا قام عبد الله». وقد قرئ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) (٢) ففتح كلّ «أن» يجوز فيه على الوحي.

وقرأ بعضهم (وإنّه تعالى جدّ ربّنا) (٣) فكسروها من قول الجن (٤). فلما صار بعد القول صار حكاية ، وكذاك ما بعده ، مما هو من كلام الجن.

وأمّا «إنّما» ، فإذا حسن مكانها «أنّ» فتحتها ، وإذا لم تحسن كسرتها. قال تعالى ، حكاية عن الرسول محمد (ص) ، (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [فصّلت : ٦] فالآخرة يحسن مكانها «أنّ» فتقول : «يوحي إليّ أنّ إلهكم إله واحد» قال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد التسعون] :

أراني ـ ولا كفران لله ـ إنّما

أواخي من الأقوام كلّ بخيل (٦)

لأنّه لا يحسن هاهنا «أنّ» فلو قلت : «أراني أنّما أواخي من الأقوام» لم يحسن. وقال (٧) [من الخفيف وهو الشاهد الحادي والتسعون] :

__________________

(١). قراءة فتح الهمزة في الطّبري ٢٩ : ١٠٦ إلى أبي جعفر القارئ ونافع وقرّاء الكوفة وعاصم ، وفي الكشف ٢ : ٣٣٩ إلى كل القرّاء ، وفي الجامع ١٩ : ٧ إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وفي البحر ٨ : ٣٥٢ إلى الجمهور. وقراءة كسر الهمزة في الطّبري «كالسابق» إلى أبي عمرو ، وفي الجامع ١٩ : ٧ إلى غير من أخذ بالأولى ، وفي البحر ٨ : ٣٥٢ إلى ابن هرمز وصلحة.

(٢). الجن ٧٢ : ٣ في الطّبري ٢٩ : ١٠٥ إلى أبي جعفر القارئ وقرّاء الكوفة وفي التيسير ٢١٥ إلى ابن عامر وحفص والكسائي ، وفي الجامع ١٩ : ٧ و ٨ إلى علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمي وأبي جعفر وشيبة ، وفي البحر ٢ : ٣٤٧ إلى الحرميين والأبوين.

(٣). في الطّبري ٢٩ : ١٠٦ إلى نافع وعاصم وأبي عمرو ، وفي التيسير ٢١٥ إلى غير ابن عامر أو حفص أو حمزة أو الكسائي ، وفي الجامع ١٩ : ٧ إلى غير من أخذ بقراءة الفتح وقال «واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم».

(٤). أشار في معاني القرآن ٣ : ١٩١ إلى أنه «كان عاصم يكسر ما كان قول الجن ، ويفتح ما كان من الوحي».

(٥). هو كثيّر عزّة. ديوانه ٥٠٨ والكتاب ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٦.

(٦). في همع الهوامع ١ : ١٤٧ صدره بلفظ «آية» بدل «إنّما» وفي الدرر ١ : ١٢٧ جعل صدره : ألا ربّما طالبت غير منيل.

وفي الهمع ١ : ٢٤٧ البيت كله ب «أنّني» بدل «إنّما» و «أوافي» بدل «أواخي» وفي الدرر ١ : ٢٠٥ ب «أنني» و «أواتي» بالتاء من المواتاة.

(٧). هو عمرو بن الإطنابة الخزرجي الشاعر الجاهلي. الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٤٦٥ ، والاشتقاق ٤٥٣ ، وانظر المرتجل ٢٣٠ ، وشرح ابن يعيش ٨ : ٥٦.

١٩٣

أبلغ الحارث بن ظالم المو

عد والناذر النّذور عليّا

أنّما تقتل النّيام ، ولا

تقتل يقظان ذا سلاح كميّا

فحسن أن تقول : «أنّك تقتل النّيام» (١). وأمّا قوله عزوجل (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٣٥) [المؤمنون] فالآخرة بدل من الأولى.

وأمّا «إن» الخفيفة فتكون في معنى «ما» كقول الله عزوجل (إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) [الملك : ٢٠] اي : ما الكافرون. وقال (إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ) [الزخرف : ٨١] أي : ما كان للرحمن ولد (فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٨١) [الزخرف] من هذه الأمّة للرّحمن ، بنفي الولد عنه.

أي : أنا أوّل العابدين بأنّه ليس للرحمن ولد. وقرأ بعضهم (فأنا أوّل العبدين) (٢) يقول : «أنا أوّل من يغضب من ادّعائكم لله ولدا» ويقول : «عبد» «يعبد» عبدا» أي : غضب. وقال تعالى (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٥٢] فهي مكسورة أبدا إذا كانت في معنى «ما» وكذلك (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ) [الأحقاف : ٢٦] ، ف «إن» بمنزلة «ما» ، و «ما» التي قبلها بمنزلة «الذي». ويكون للمجازاة نحو قوله تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [الآية ٢٨٤](وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا) [التغابن : ١٤]. وتزاد «إن» مع «ما» ، يقولون : «ما إن كان كذا وكذا» أي : «ما كان كذا وكذا» ، «ما إن هذا زيد». ولكنها تغير «ما» فلا ينصب بها الخبر. وقال الشاعر (٣) [من الوافر وهو الشاهد الثاني والتسعون] :

وما إن طبّنا جبن ولكن

منايانا وطعمة آخرينا (٤)

__________________

(١). في الكتاب ١ : ٤٦٥ و ٤٦٦ هذه الآراء بهذه الشواهد من الشعر والآي.

(٢). في الطّبري ١٦ : ١٢٠ إلى أبي عبد الرحمن واليماني ، وفي المحتسب ٢ : ٢٥٧ كذلك وفي البحر ٨ : ٢٨ إلى «بعضهم».

(٣). هو فروة بن المسيك المرادي ، تحصيل عين الذهب ١ : ٤٧٥ ، والكامل ١ : ٢٩٥ ، واللسان «طيب» ، وقيل بل هو عمرو بن قعاس ، وقيل الكميت شرح شواهد المغني ٣٠ و ٣١.

(٤). في الكتاب ١ : ٤٧٥ ب «دولة» بدل «طعمة» وفي إعراب القرآن للزّجّاج ١ : ١٣٩ والصحاح «طيب» ، و «اللسان» «طيب» ، والتاج «طيب» ، والكامل ١ : ٢٩٥ ، والمغني ١ : ٢٥ ، وشرح وشواهد المغني ٣٠ ، وهمع الهوامع ١ : ١٢٣ ، والدرر ١ : ٩٤ ، وشرح التصريف ٣ : ١٢٨ ، كلها بلفظ «دولة». وانظر الخزانة ٢ : ١٢١.

١٩٤

وتكون خفيفة في معنى الثقيلة ، وهي مكسورة ، ولا تكون إلّا وفي خبرها اللام ، يقولون : «إن زيد لمنطلق» ولا يقولونه بغير لام ، مخافة أن تلتبس بالتي معناها «ما». وقد زعموا أنّ بعضهم يقول : إن زيدا لمنطلق» يعملها على المعنى ، وهي مثل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) [الطارق] ، يقرأ بالنصب (١) ، والرفع ، و «ما» زيادة للتّوكيد ، واللام زيادة للتوكيد ، وهي التي في قوله تعالى (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (٧٨) [الحجر] ، ولكنها ، إنّما وقعت على الفعل ، حين خفّفت ، كما تقع «لكن» على الفعل ، إذا خفّفت. ألا ترى أنك تقول : «لكن قد قال ذاك زيد». ولم تعرّ من اللام في قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) (٧٨) ، وعلى هذه اللغة فيما نرى ـ والله اعلم ـ (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٢) ، وقد شدّدها قوم فقالوا (إنّ هذان) (٣) وهذا لا يكاد يعرف ، إلّا أنّهم يزعمون أنّ بلحارث بن كعب يجعلون الياء في أشباه هذا ألفا ، فيقولون : «رأيت أخواك» و «رأيت الرجلان» (٤) ، وأوضعته علاه» و «ذهبت

__________________

(١). قراءة النصب ترتبط بتخفيف «ما» على أنها زيادة للتوكيد ، واللام زيادة للتوكيد أيضا ، ويكون المعنى «إن كل نفس لعليها حافظ» وليست «لما» التي بمعنى إلّا و «ان» نافية. وقد قرأ بتخفيف «ما» في الطّبري ٣٠ : ١٤٢ نافع من أهل المدينة وأبو عمرو من أهل البصرة. وفي السبعة ٦٧٨ إلى ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي ، وفي البحر ٨ : ٤٥٤ إلى الجمهور.

(٢). طه ٢٠ : ٦٣ وفي الطّبري ١٦ : ١٧٩ أنّ وهب بن منبه وقتادة تأوّلا ، وفي السبعة ٤١٩ إلى عاصم في رواية ، وفي حجّة ابن خالويه ٢١٧ إلى ابن كثير وحفص ، عن عاصم ، وفي الكشف ٢ : ٢٩ إلى ابن كثير وحفص ، وفي التيسير ١٥١ كذلك ، وفي الجامع ١١ : ٢١٦ إلى الزهري والخليل بن احمد والمفضل وابان وابن محيصن وابن كثير وعاصم في رواية حفص ، وابن كثير يشدّد نون «هذان» ، وفي البحر ٦ : ٢٥٥ إلى ابن بحرية وأبي حياة والزهري وابن محيصن وحميد وابن سعدان وحفص وابن كثير.

(٣). في الطّبري ١٦ : ١٨٠ و ١٨٢ إلى عامة قرّاء الأمصار ، وفي السبعة إلى نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وإلى عاصم في رواية وفي حجة ابن خالويه ٢١٧ إلى القرّاء كلّهم عدا ابن كثير وحفصا وعن عاصم ، وفي الكشف ٢ : ٩٩ ، وفي التيسير ١٥١ كذلك ، وفي الجامع ١١ : ٢١٦ إلى المدنيين والكوفيين. وفي البحر ٦ : ٢٥٥ إلى أبي جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيّوب وخلف في اختياره وأبي عبيدة وأبي حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير وابن جبير الأنطاكي والأخوين والصاحبين من السبعة.

(٤). هي لغة بني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد ومراد وعذرة وكناية وهمدان ومزادة وبني العنبر وبطون من ربيعة وبكر بن وائل ، همع الهوامع ١ : ٤٠ والبحر ٦ : ٢٥٥ واللهجات العربية ٣٨.

١٩٥

إلاه» (١) ، فزعموا أنه على هذه اللغة بالتثقيل تقرأ. وزعم أبو زيد (٢) أنّه سمع أعرابيا فصيحا من بلحارث يقول : «ضربت يداه» و «وضعته علاه» يريد : يديه وعليه. وقرأ بعضهم (إنّ هذين لساحران) (٣) وذلك خلاف الكتاب. وقال الشاعر (٤) [من الرجز وهو الشاهد الثالث والتسعون] :

طاروا عليه (٥) فشل (٦) علاها

واشدد بمثنى (٧) حقب حقواها

ناجية وناجيا أباها

وأمّا «أن» الخفيفة فتكون زائدة مع «فلمّا» و «لمّا» قال تعالى (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ) [يوسف : ٩٦] وانما هي «فلمّا جاء البشير» وقال (وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا) [العنكبوت : ٣٣] يقول «ولمّا جاءت» وتزاد أيضا مع «لو» يقولون : «أن لو جئتني كان خيرا لك» يقول «لو جئتني». وتكون في معنى «أي» ؛ قال تعالى (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٦] يقول «أي امشوا». وتكون خفيفة في معنى الثقيلة في مثل قوله تعالى : (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [يونس : ١٠] و (أن لعنة الله عليه) (٨) على قولك «أنه لعنة الله»

__________________

(١). هي لغة بني الحارث بن كعب اللسان «علا» والخزانة ٣ : ١٩٩ ونوادر أبي زيد ٥٨.

(٢). هو أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري المتوفّى سنة ٢٢٥ ه‍ أحد أعلام مدرسة البصرة ، انظر ترجمته في أخبار النحويين البصريّين ٤١ ، ومراتب النحويين ٤٢ ، وطبقات ١٦٥ ، ونزهة الألباء ٨٥ ، وإنباه الرواة ٢ : ٣٠ ، وبغية الوعاة ٢٥٤.

(٣). في معاني القرآن ٢ : ١٨٣ إلى أبي عمرو ، وفي تأويل مشكل القرآن ٥١ زاد عيسى بن عمرو عاصما الجحدري ، وفي الطّبري ١٦ : ١٨١ أغفل الجحدري ، وزاد يونس في ١٦ : ١٧٩ ان السدّي تأوّل بها ، وفي السبعة ٤١٩ إلى أبي عمرو وحده ، وكذلك في حجّة ابن خالويه ٢١٧ ، والكشف ٢ : ٩٩ ، والتيسير ١٥١ ، وفي الجامع ١١ : ٢١٦ ، إلى عائشة وعثمان من الصحابة ، وإلى الحسن وسعيد بن جبير وابراهيم النخعي من التابعين ، وأبي عمرو وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري من القرّاء ، وفي البحر ٦ : ٢٥٥ إلى عائشة والحسن والنخعي والجحدري والأعمش وابن جبير وأبي عبيد وأبي عمرو.

(٤). هو بعض أهل اليمن ، وأنشده أبو الغور ، النوادر ٥٨ و ٦٤.

(٥). في الصحاح «علا» والخزانة ٣ : ١٩٩ واللسان «علا» والخصائص ٢ : ٢٦٩ ب «علاهن».

(٦). في الصحاح واللسان ب «فطر».

(٧). في الأصل : «بمثنا» وفي النوادر ٥٨ بمتني بالتاء المثناة ، وياء بعد النون ، وفي ١٦٤ كما في رواية الأخفش «مثنى» ، وفي اللسان «بمثني» بناء مثلثة وياء بعد النون.

(٨). النور ٢٤ : ٧ ؛ والقراءة المشهورة : (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ).

١٩٦

و «أنه الحمد لله». وهذه بمنزلة قوله تعالى (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) [طه : ٨٩] و (وحسبوا ألّا تكون فتنة) (١) ولكن هذه إذا خفّفت وهي إلى جنب الفعل ، لم يحسن إلّا إن معها «لا» ، حتّى تكون عوضا من ذهاب التثقيل والإضمار. ولا تعوض «لا» في قوله تعالى (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) لأنّها لا تكون ، وهي خفيفة ، عاملة في الاسم. وعوّضها «لا» إذا كانت مع الفعل لأنّهم أرادوا أن يبيّنوا أنّها لا تعمل في هذا المكان ، وأنها ثقيلة في المعنى. وتكون «أن» الخفيفة تعمل في الفعل ، وتكون هي الفعل اسما للمصدر ، نحو قوله تعالى : (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٤) [القيامة] إنّما هي «على تسوية بنانه».

باب من الاستثناء

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) [الآية ٧٨] منصوبة ، لأنه مستثنى ، ليس من أوّل الكلام ، وهذا الذي يجيء في معنى «لكن» ، خارجا من أوّل الكلام ، إنّما يريد «لكن أمانيّ» ، و «لكنّهم يتمنّون».

وإنّما فسّرناه ب «لكن» لنبيّن خروجه من الأوّل. ألا ترى أنك إذا ذكرت «لكن» وجدت الكلام منقطعا من أوّله ، ومثل ذلك في القرآن كثير (منه قوله عزوجل) (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) [الليل] وقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) [النساء : ١٥٧] وقوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً) [هود : ١١٦] كأنّه يقول : «فهلّا كان منهم من ينهى» ثم كأنّه قال : «ولكن قليلا منهم من ينهى» ثمّ كأنّه قال «ولكن (٢) قليل منهم قد نهوا» فلمّا جاء مستثنى خارجا من الأوّل انتصب. ومثله (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) [يونس : ٩٨] كأنه يقول «فهلّا كانت» ثمّ قال : «ولكنّ قوم يونس» ف «إلا» تجيء في معنى «لكنّ». وإذا عرفت أنها في معنى «لكنّ» ، فينبغي أن تعرف خروجها من أوّله. وقد يكون (إلّا قوم

__________________

(١). المائدة ٥ : ٧١ ؛ القراءة المشهورة (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، وبها نقرأ.

(٢). وردت لكن في الأصل مخفّفة في كل الامثلة ، فورد ما بعدها مرفوع.

١٩٧

يونس) رفعا (١) ، تجعل «إلّا» وما بعده ، في موضع صفة بمنزلة «غير» ، كأنّه قال : «فهلّا كانت قرية آمنت غير قرية قوم يونس» ومثلها (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] فقوله تعالى (إِلَّا اللهَ) صفة ، ولو لا ذلك لانتصب ، لأنه مستثنى مقدّم ، يجوز إلقاؤه من الكلام. وكلّ مستثنى مقدّم ، يجوز إلقاؤه من الكلام نصب ، وهذا قد يجوز إلقاؤه ، فلو قلت «لو كان فيهما آلهة لفسدتا» جاز ، فقد يجوز فيه النّصب ، ويكون مثل قوله «ما مرّ بي أحد إلّا مثلك». قال الشاعر (٢) فيما هو صفة [من الطويل وهو الشّاهد الرابع والتسعون] :

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة

قليل بها الأصوات إلّا بغامها

وقال (٣) [من الوافر وهو الشاهد الخامس والتسعون] :

وكلّ أخ مفارقه أخوه

لعمر (٤) أبيك إلا الفرقدان

ومثل المنصوب الذي في معنى «لكن» ، قوله الله عزوجل (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) [يس] ؛ وهو في الشعر كثير وفي الكلام.

قال الفرزدق (٥) [من الطويل وهو الشاهد السادس والتسعون] :

وما سجنوني غير أنّي ابن غالب

وأنّي من الأثرين غير الزّعانف (٦)

يقول : «ولكنّني» ، وهو مثل قولهم :

«ما فيها أحد إلّا حمارا» لما كان ليس من أوّل الكلام جعل على معنى «لكنّ»

__________________

(١). في الشواذ ٥٨ إلى الجرمي والكسائي.

(٢). هو ذو الرّمة ، انظر ديوانه ٢ : ١٠٠٤ ، والكتاب وتحصيل عبن الذهب ١ : ٣٧٠.

(٣). هو عمرو بن معد يكرب الزبيدي. ديوانه ١٨١ ، والكتاب ١ : ٣٧١ ، والكامل ٣ : ١٢٤٠ ، والدرر ١ : ١٩٤ ، والبيان والتبيين ١ : ٢٢٨ ، وشرح سقط الزند للبطليوسي ٣ : ٩٧٧ ، والخزانة ٢ : ٥٢ ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٣٧١ ؛ وقيل هو سوار بن المضرب ، تحصيل عين الذهب ١ : ٣٧١ ؛ وقيل هو حضرمي بن عامر الاسدي ، الخزانة والمؤتلف والمختلف ١١٦ ، وشرح شواهد المغني والدرر ١ : ١٩٤.

(٤). في الأصل لعمرو بالواو.

(٥). هو همّام بن غالب ، انظر ترجمته في الأغاني ٨ : ١٨٦ و ١٩ : ٢ ، وطبقات الشعراء ٢ : ٢٩٩ ، والشعر والشعراء ١ : ٤٧١.

(٦). البيت في ديوانه ٥٣٦ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٦٧.

١٩٨

ومثله [من الخفيف وهو الشاهد السابع والتسعون] :

ليس بيني وبين قيس عتاب

غير طعن الكلا وضرب الرّقاب (١)

وقوله (٢) [من الطويل وهو الشاهد الثامن والتسعون] :

حلفت يمينا غير ذي مثنوية

ولا علم إلّا حسن ظنّ بغائب (٣)

باب الجمع

وأمّا تثقيل (الْأَمانِيُ) فلأنّ واحدها «أمنيّة» مثقّل. وكلّ ما كان واحده مثقّلا مثل : «بختيّة» و «بخاتيّ» فهو مثقّل. وقد قرأ بعضهم (إلّا أماني) فخفّف (٤) ، وذلك جائز ، لأنّ الجمع على غير واحده ، وينقص منه ، ويزاد فيه. فأما «الأثافي» ؛ فكلّهم يخفّفها ، وواحدها «أثفيّة» مثقّلة ، وإنّما خفّفوها ، لأنّهم يستعملونها في الكلام والشعر كثيرا ، وتثقيلها في القياس جائز (٥). ومثل تخفيف «الأماني» ، قولهم : «مفتاح» و «مفاتح» (٦) وفي «معطاء» «معاط» (٧) قال الأخفش (٨) : «قد سمعت بلعنبر تقول : «صحاري» و «معاطيّ» فتثقل.

وقوله تعالى (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٧٨) أي : «فما هم إلّا يظنّون».

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) [الآية

__________________

(١). هو لابن الأيهم التغلبي ، الكتاب ، وتحصيل عين الذهب ١ : ٣٦٥ ، والبيت في شرح البطليوسي لسقط الزند ١ : ١٧٥ ، وشرح المفصّل ٢ : ٨٠.

(٢). هو النابغة الذبياني. ديوانه ٥٥ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ٣٦٥.

(٣). في الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «صاحب» بدل غائب ، وهي رواية أشار إليها الأخفش أيضا بعد البيت.

وكذلك في شرح النحاس لأبيات سيبويه.

(٤). في الطّبري ٢ : ٢٦٤ قراءة بعض القراء ، وفي المحتسب ٩٤ إلى أبي جعفر وشيبة والحسن ، بخلاف ، والحكم بن الأعرج ، وفي الجامع ٢ : ٥ إلى أبي جعفر وشيبة والأعرج ، وزاد في البحر ١ : ٢٧٦ عليه ابن جماز ، عن نافع وهارون عن أبي عمرو.

(٥). في اللسان : «أنف» قال الأخفش اعتزمت العرب أثافي ، أي أنهم لا يتكلمون بها إلّا مخفّفة.

(٦). في اللسان «فتح» والجمع مفاتيح أيضا ، قال الأخفش هو مثل قولهم أماني وأماني يخفف ويشدد.

(٧). في اللسان (عطا) : قوم معاطي ومعاط ، قال الأخفش : هذا مثل قولهم مفاتيح ومفاتح وأماني وأمان ، ونسب إلى سيبويه أنه «لا يمتنع معاطي كأثافي». وقد نقل عنه هذا الرأي مبتسرا ، في البحر ١ : ٢٧٦ والجامع ٢ : ٥.

(٨). هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر ، الذي نقل عنه سيبويه اللغات ، انظر ترجمته في مراتب النحويين ٣٢ ، وطبقات اللغويين ٤٠ ، ونزهة الألباء ٢٨٠ ، وإنباه الرواة ٢ : ٥٧ ، أو بغية الوعاة ٢٩٦.

١٩٩

٧٩]يرفع «الويل» ، لأنّه اسم مبتدأ ، جعل ما بعده خبره. وكذلك «الويح» ، و «الويل» ، و «الويس» ، إذا كانت بعدهنّ هذه اللام ، ترفعهن. أمّا «التّعس» ، و «البعد» ، وما أشبههما فهو نصب أبدا ، وذلك أنّ كلّ ما من هذا النحو تحسن إضافته بغير لام ، فهو رفع باللام ، ونصب بغير لام ، نحو (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) [المطففين] و «ويل لزيد» ولو ألقيت اللام قلت : «ويل زيد» ، و «ويح زيد» ، و «ويس زيد» ، فقد حسنت إضافته بغير لام ، فلذلك رفعته باللام مثل (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) (١). وأما قوله (أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ) [هود : ٩٥] و (أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [هود : ٦٨] و (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) [محمد : ٨] فهذا لا تحسن إضافته بغير لام. ولو قلت : «تعسهم» أو «بعدهم» ، لم يحسن. وانتصاب هذا كلّه بالفعل ، كأنّك قلت : «أتعسهم الله تعسا» «وأبعدهم الله بعدا». وإذا قلت «ويل زيد» ، فكأنّك قلت «ألزمه الله الويل» (٢). وأمّا رفعك إيّاه باللام ، فإنّما كان ، لأنّك جعلت ذلك ، واقعا واجبا لهم في الاستحقاق. ورفعه على الابتداء ، وما بعده مبني عليه ، وقد ينصبه قوم ، على ضمير الفعل ، وهو قياس حسن ، فيقولون : «ويلا لزيد» و «ويحا لزيد». قال الشاعر (٣) [من الطويل وهو الشاهد التاسع والتسعون] :

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها

فويلا لتيم من سرابيلها الخضر (٤)

ال الأخفش (٥) «حدّثني عيسى بن

__________________

(١). تكرّرت هذه الآية الكريمة في عشرة مواضع من «المرسلات» ؛ وأمّا في «المطفّفين» فقد وردت مرّة واحدة في الآية العاشرة من هذه السورة ؛ أمّا في «الطور» ٥٢ : ١١ فقد وردت الآية الكريمة بلفظ (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١١) أي بزيادة الفاء ، على أوّل الآية ، كما وردت في المرسلات والمطفّفين.

(٢). نقل هذه العبارة ، وأفاد المعنى في اعراب القرآن ١ : ٥٩ ، والجامع ٢ : ٨ ، والإملاء ١ : ٤٦.

(٣). هو جرير بن عطية بن الخطفي ، الشاعر المشتهر ، الذي انتخب النقاد العرب من شعره ، خير ما قالته العرب في فنون الشعر المختلفة. انظر ترجمته وأخباره في الأغاني ٧ : ٣٧ و ١٠ : ٢ و ٢٠ : ١٦٩ ، وطبقات الشعراء ٣٧٤ ، والشعر والشعراء ٤٦٤.

(٤). في الديوان ١ : ٥٩٤ ب «فيا خزي تميم» ، وفي الفاخر ٢٨٦ ب «فيا ويل تيم» ، وهو في الكتاب وتحصيل عين الذهب ١ : ١٦٧ وفي شرح المفصّل ١ : ١٢١ ، واللسان «ويل».

(٥). هو أبو الخطاب عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الأكبر ، انظر ترجمته فيما سبق.

٢٠٠