الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٩٢

وقوله تعالى (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [الآية ١٦] فهذا على قول العرب : «خاب سعيك» وإنّما هو الذي خاب ، وإنّما يريد «فما ربحوا في تجارتهم» ومثله (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (١) (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ) [الآية ١٧٧] إنّما هو «ولكنّ البرّ برّ من آمن بالله» (٢) وقال الشاعر (٣) [من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون] :

وكيف تواصل من أصبحت

خلالته كأبي مرحب (٤)

وقال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون] :

وشرّ المنايا ميّت وسط أهله

كهلك (٦) الفتاة أسلم الحيّ حاضره (٧)

إنما يريد «وشر المنايا منية ميّت وسط أهله» ، ومثله : «أكثر شربي الماء» و «أكثر أكلي الخبز» وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال تعالى (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] يريد : «أهل القرية» ، (وَالْعِيرَ) [يوسف : ٨٢] أي : «واسأل اصحاب العير». وقال تعالى : (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) [الآية ١٧١] فكأنّه يريد ـ والله أعلم ـ «مثلكم ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به». فحذف هذا الكلام ، ودلّ ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) يقول «مثلهم في دعائهم الالهة كمثل الذي ينعق بالغنم» لان ـ آلهتهم لا تسمع ولا تعقل ، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.

وقوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ

__________________

(١). سبأ ٣٤ : ٣٣. وفي إعراب القرآن ٢ : ٨٨٠ والجامع ١٤ : ٣٠٢ عن الأخفش «هذا مكر الليل والنهار».

(٢). عبارة الكتاب ١ : ١٠٨ نفسها.

(٣). هو النابغة الجعدي أبو ليلى عبد الله بن قيس.

(٤). شعر النابغة الجعدي ٢٦ ، وفي الكتاب ١ : ١١٠ للمعنى نفسه ، وفي مجالس ثعلب ٧٧ ب «يصاحب» بدل «تواصل» ، وفي الأمالي ١ : ١٩٢ ب «تصادق» وانظر اللسان «خلل» ، والصحاح «خلل» ، والإنصاف ١ : ٤٤.

(٥). هو الحطيئة جرول بن أوس العبسي.

(٦). في ديوان الحطيئة ٤٥ بلفظ «هالك» بدل «ميت» ، و «ايقظ» بدل «أسلم» ، وفي الكتاب ١ : ١٠٩ بلفظ «الفتى قد» بدل «الفتاة». وكذلك في الإنصاف ١ : ٤٤.

(٧). عبارة تكاد تطابق عبارة الكتاب ١ : ١٠٩.

١٤١

ناراً) [الآية ١٧] فهو في معنى «أو قد» ، مثل قوله «فلم يستجبه» أي «فلم يجبه» وقال الشاعر (١) [من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون] :

وداع دعا يا من يجيب الى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي : «فلم يجبه».

قال تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) فكان (الذي) بمعنى جميعا فقال (وَتَرَكَهُمْ) لأن «الذي» في معنى الجميع ، كما يكون «الإنسان» في معنى «الناس».

وقال تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) (١٧) (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) فرفع على تأويل : «هم صمّ بكم عمي» رفعه على الابتداء ولو كان على أوّل الكلام لكان النصب فيه حسنا.

وأما (حَوْلَهُ) [الآية ١٧] فانتصب على الظرف ، وذلك أنّ الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء ، كما قال الشاعر (٢) [من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون] :

هذا النهار بدا لها من همّها

ما بالها بالليل زال زوالها

نصب «النهار» على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما «زوالها» فإنه كأنه قال : «أزال الله الليل زوالها».

وأما (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [الآية ٢٠] فمنهم من قرأ (يخطف) (٣) من «خطف» ، وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف (٤). وقد رواها يونس (يخطّف) (٥) بكسر الخاء لاجتماع

__________________

(١). هو سعد بن كعب الغنويّ. والبيت في الأصمعيّات ٩٦ ، وفي المجاز ١ : ٦٧ و ١١٢ و ٢٤٥ و ٣٢٦ ، والصّحاح «جوب» ، والعجز في أدب الكاتب ٤١٩.

(٢). هو الأعشى ميمون ، وهو في الصبح المنير ٢٢ يضم زوالها ، واللسان «زول».

(٣). في الشواذ ٣ نسبت إلى ابن مالك ومجاهد. وفي المحتسب ٦٢ إلى مجاهد والحسن. وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى يونس وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب وفي البحر ١ : ٨٩ إلى مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن زيد.

(٤). في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ونقلها الجامع ١ : ٢٢٢.

(٥). في معاني القرآن ١ : ١٧ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ ، والمحتسب ٥٩ ، كذلك وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن ، وقتادة ، وعاصم الجحدري ، وأبي رجاء العطاردي.

١٤٢

الساكنين. ومنهم من قرأ (يخطف) (١) على «خطف يخطف» وهي الجيدة (٢) ، وهما لغتان. وقال بعضهم (يخطّف) (٣) وهو قول يونس من «يختطف» ، فأدغم التاء في الطاء ، لأنّ مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم (يخطّف) فحوّل الفتحة على الذي كان قبلها (٤) ، والذي كسر ، كسر لاجتماع الساكنين ، فقال (يخطّف) (٥) ومنهم من قال (يخطّف) (٦) كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء ، أتبع الكسرة وهي قبلها وذلك في كلام العرب كثير ، فهم يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة ، يقولون «قتلوا» و «فتحوا» يريدون : «اقتلوا» و «افتحوا» (٧). وقال ابو النجم (٨) [من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون] :

تدافع الشّيب ولم تقتّل (٩)

وسمعناه من العرب مكسورا كلّه ، فهذا مثل «يخطف» إذا كسرت ياؤها (لكسرة خائها) وهي بعدها فأتبع الاخر الاول.

وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) [الآية ٢٠] فمنهم ، من يدغم

__________________

(١). في السبعة ١٤٦ هي اتفاق ، وحجّة الفارسي ٢٩٤ كذلك.

(٢). في الصحاح «خطف» بعبارة مقاربة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ كذلك.

(٣). في معاني القرآن ١ : ١٨ ، والجامع ١ : ٢٢٢ بلا نسبة.

(٤). في معاني القرآن ١ : ١٨ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ إلى الأعمش ، وفي البحر ١ : ٩٠ إلى الحسن والجحدري وابن أبي إسحاق ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن وحده ، وفي اللسان (خطف) اليه ايضا.

(٥). وفي الشواذ ٣ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ إلى الحسن أيضا وقتادة وعاصم الجحدري وأبي رجاء العطاردي ، وفي البحر ١ : ٩٠ كذلك.

(٦). في معاني القرآن ١ : ١٧ بلا نسبة ، وفي الشواذ ٣ إلى الأعمش ، وفي المحتسب ٥٩ بلا نسبة ، وفي الجامع ١ : ٢٢٢ بلا نسبة ، وفي البحر ١ : ٩٠ إلى الحسن والأعمش ، وفي إعراب القرآن ١ : ٢٥ بلا نسبة. وفي اللسان «خطف» إلى الحسن.

(٧). قياسا على الشاهد الشعري اللاحق يبدو أنّ هذه لغة عجلية أو نجديّة كما يوحي هامش ٣ / ه ٨٢٠ من الكامل للمبرّد.

(٨). هو أبو النجم الفضل بن قدامة العجلي. طبقات الشعراء ٢ : ٧٣٧ ، الشعر والشعراء ٦٠٣ ، ومعجم المرزباني ١٨٠ ، والكامل للمبرّد ٣ : ٨١٩ ، والأغاني (بولاق) ٩ : ٧٧.

(٩). في اللسان (فلل) ب «تدافع الشيب ولم تقتل» وفي «فلن» تدافع الشّيب ولم تقتّل. وفي المقاصد النحوية ٤ : ٢٢٨ بلا شكل. والخزانة ١ : ٤٠١ كذلك.

١٤٣

ويسكن الباء الاولى لأنهما حرفان مثلان (١). ومنهم ، من يحرّك فيقول (لذهب بّسمعهم) (٢) وجعل «السمع» في لفظ واحد ، وهو جماعة ، لأنّ «السمع» قد يكون جماعة و «قد يكون واحدا ، ومثله قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [الآية ٧] ومثله قوله تعالى (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [ابراهيم : ٤٣] وقوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) [القمر : ٤٥] ومثله (وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [النساء : ٤].

وقوله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [الآية ٢٢] فقطع الألف ، لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير ، فإذا صغّرت قلت : «أنيدادا». وواحد «الأنداد» : ندّ. و «الندّ» : المثل.

وقوله تعالى (الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [الآية ٢٤] ف «الوقود» : الحطب. و «الوقود» الاتّقاد وهو الفعل. يقرأ (الْوَقُودِ) (٣) و (الوقود) (٤) ويكون أن يعني بها الحطب ، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك «الوضوء» وهو : الماء ، و «الوضوء» وهو الفعل ، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد (٥).

وقوله تعالى : (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الآية ٢٥] فجرّ «جنات» وقد وقعت عليها «أنّ» ، لأنّ كلّ جماعة في آخرها تاء زائدة ، تذهب في الواحد ، وفي تصغيره ، فنصبها جرّ ، ألا ترى أنّك تقول : «جنّة» فتذهب التاء. وقال أيضا (خَلْقِ السَّماواتِ) [الأنعام : ١] (٦) و «السماوات» جرّ ،

__________________

(١). في السبعة ١١٦ أنّه مذهب أبي عمرو.

(٢). في السبعة ١١٣ أنّه مذهب نافع ، و ١١٥ مذهب ابن كثير ، و ١١٦ مذهب عاصم ، و ١٢٢ مذهب حمزة ، و ١٢٣ مذهب الكسائي وابن عامر.

(٣). قراءة الفتح في الجامع ١ : ٢٣٦ بلا نسبة ، وفي الإملاء ١ : ٢٥ إلى الجمهور ، وفي البحر ١ : ١٠٧ إلى الجمهور

(٤). قراءة الضّمّ في الشواذ ٤ إلى مجاهد وطلحة ، وفي الجامع ١ : ٢٣٦ أضاف الحسن ، وفي البحر ١ : ١٠٧ زاد الحسن باختلاف ، ثم أبا حياة ، وعيسى بن عمر الهمداني.

(٥). في إعراب القرآن ١ : ٣٠ نقل السراي ، وأشار إلى اللغتين أيضا ولم يعز هما ، وفي الصّحاح «ووضئ» نقل عبارة الأخفش بنصّها تقريبا ، وذكره ، ويقرب من ذلك ما في الجامع ١ : ٢٣٦ ، ولم نعثر على معاد كلّ من اللغتين ، وإن كان ما في اللهجات العربية ١٩١ ـ ١٩٦ يشير إلى أنّ الضّمّ سمة من سمات لهجة البدو وتميم ، وأن الفتح سمة لهجة الحضر وأهل الحجاز.

(٦). ورد هذا التعبير في القرآن الكريم مرات كثيرة ، أوّلها الانعام ٦ : ١ ؛ انظر المعجم المفهرس «الأرض».

١٤٤

و «الأرض» نصب ، لأنّ التاء زائدة. ألا ترى أنك تقول : «سماء» ، و (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا) [الأحزاب : ٦٧] (١) لان هذه ، ليست تاء ، إنّما هي هاء ، صارت تاء بالاتصال ، وإنّما تكون تلك في السكوت ، ألا ترى أنّك تقول : «رأيت ساده» فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ (أطعنا ساداتنا) (٢) جرّ لأنّك إذا قلت : «ساده» ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء ، تقول : «رأيت سادات» ، وإنّما جرّوا هذا في النصب ، ليجعل جرّه ونصبه واحدا ، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا ، تقول : «مسلمين و «صالحين» نصبه وجره بالياء. وقوله تعالى (بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧] و (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) [الحجرات : ٢] فإن التاء من اصل الكلمة تقول «صوت» و «صويت» فلا تذهب التاء ، و «بيت» و «بويت» فلا تذهب التاء. وتقول : «رأيت بويتات العرب» فتجرّ ، لأن التاء الاخرة زائدة ، لأنّك تقول : «بيوت» ، فتسقط التاء الاخرة. وتقول : «رأيت ذوات مال» لأن التاء زائدة ، وذلك لأنك لو سكتّ على الواحدة لقلت : «ذاه» ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلّم بها إلا مع المضاف اليه.

وقوله تعالى (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [الآية ٢٥] لأنه في معنى «جيئوا به» ، وليس في معنى «أعطوه». فأمّا قوله : (مُتَشابِهاً) فليس أنّه أشبه بعضه بعضا ، ولكنّه متشابه في الفضل.

أي : كل واحد له من الفضل في نحوه ، مثل الذي للآخر في نحوه.

وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ) [الآية ٢٦] ف «يستحيي» لغة أهل الحجاز (٣) بياءين وبنو تميم يقولون

__________________

(١). الأحزاب ٣٣ : ٦٧ ؛ وفي الطبري ٢٢ : ٥٠ إلى عامّة قرّاء الأمصار ، وهي الراجحة ؛ وفي السّبعة ٥٢٣ إلى غير ابن عامر ، وفي حجّة ابن خالويه ٢٦٥ بلا نسبة ، وفي الكشف ٢ : ١٩٩ مثل السبعة ، وكذلك في التيسير ١٧٩ ، وفي البحر ٧ : ٢٥٢ إلى الجمهور ، وفي الكشاف ٣ : ٥٦٢ بلا نسبة.

(٢). في معاني القرآن ٢ : ٣٥٠ إلى الحسن ، وكذلك في الطبري ٢٢ : ٥٠ ، وهي المرجوحة ، وفي السبعة ٥٢٣ إلى ابن عامر وحده ، وفي حجة ابن خالويه ٢٦٥ بلا نسبة ، وفي الكشف ٢ : ١٩٩ إلى ابن عامر ، وكذلك في التيسير ١٧٩ ، وفي الجامع ١٤ : ٢٤٩ إلى الحسن ، وفي الكشّاف ٣ : ٥٦٢ بلا نسبة ، وفي البحر ٧ : ٢٥٢ إلى الحسن وأبي رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر ، والعامة في الجامع في البصرة.

(٣). البحر ١ : ١٢٠ لغة الحجاز وهي قراءة الجمهور. وانظر اللهجات العربية ١٥١ و ٥٤٥ ، والقراآت واللهجات ٣٧ ولهجة تميم ٥٦.

١٤٥

«يستحي» بياء واحدة (١) ، والأولى هي الأصل ، لأنّ ما كان من موضع لامه معتلا ، لم يعلّوا عينه. ألا ترى أنّهم قالوا : «حييت» و «جويت» فلم تعلّ العين. ويقولون : «قلت» و «بعت» فيعلّون العين ، لمّا لم تعتلّ اللام ، وإنّما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة ، كما قالوا «لم يك» و «لم يكن» و «لا أدر» و «لا أدري».

وقال تعالى (مَثَلاً ما بَعُوضَةً) [الآية ٢٦] (٢) لأن «ما» زائدة في الكلام ، وإنّما هو «إنّ الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا». وناس من بني تميم يقولون (مثلا مّا بعوضة) (٣) يجعلون (ما) بمنزلة «الذي» ويضمرون «هو» كأنهم قالوا : «لا يستحيي أن يضرب مثلا ، الذي هو بعوضة» يقول : «لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضة ، مثلا».

وقوله تعالى (فَما فَوْقَها) [الآية ٢٦] قال بعضهم : «أعظم منها» وقال بعضهم : كما تقول : «فلان صغير» فيقول : «وفوق ذلك» يريد : «أصغر من ذلك».

وقوله تعالى (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) [الآية ٢٦] فيكون «ذا» بمنزلة «الذي». ويكون «ما ذا» اسما واحدا ، إن شئت بمنزلة «ما» ، كما قال تعالى : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] فلو كانت «ذا» بمنزلة «الذي» ، لقالوا «خير» ، ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب ، لأنّه لو قال : «ما الذي قلت» ، فقلت «خيرا» أي : «قلت خيرا» ، لجاز. ولو قلت : «ما قلت» :

__________________

(١). في الشواذ ٤ قراءة ابن محيصن وابن كثير ، بخلاف ؛ وفي الجامع ١ : ٢٤٢ أضاف أنّها لغة تميم وبكر بن وائل ، ولم يذكر الخلاف. وفي البحر ١ : ١٢١ قراءة ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن ويعقوب ، وهي لغة بن تميم ، وفي الكشاف ١ : ١١٤ اقتصر على قراءة ابن كثير في رواية شبل ، وذكر اللغتين ولم ينسبهما. وفي الإملاء ١ : ٢٦ عدّها شذوذا ولم ينسبها. وانظر اللهجات العربية ١٥١ و ٥٤٥ ، والقراآت واللهجات ٣٧ ، ولهجة تميم ٥٦. وفي الصحاح «حيا» نقلت عبارة الأخفش بنصّها تقريبا.

(٢). في معاني القرآن ١ : ٢١ و ٢٢ لم تنسب قراءة ، وكذلك المشكل ٢٤ ، وفي البحر ١ : ٢٢ قراءة الجمهور.

(٣). في معاني القرآن ١ : ٢٢ ، علّل الرفع ولم ينسبه قراءة وفي المجاز ١ : ٣٥ أنّها قراءة رؤبة وأنّها لغة تميمية ، وفي الشواذ ٤ نسب الرفع قراءة إلى رؤبة بن العجاج ، وفي المحتسب ١ : ٦٤ كذلك. وفي المشكل ٢٤ ، لم ينسب قراءة ، وفي الجامع ١ : ٢٤٣ نسب قراءة إلى الضّحّاك وابراهيم بن أبي عبلة ورؤبة ، وقال إنها لغة تميم ، وفي البحر ١ : ١٢٣ أضيف قطرب أيضا. وفي الكشاف ١ : ١١٥ إلى رؤبة قراءة وفي الإملاء ١ : ٢٦ عدّت شذوذا بلا عزو.

١٤٦

«فقلت» : «خير» أي : «الذي قلت خير» ، لجاز ؛ غير أنّه ليس على اللفظ الأول ، كما يقول بعض العرب ، إذا قيل له : «كيف أصبحت»؟ قال : «صالح» أي : «أنا صالح». ويدلّك على أنّ «ما ذا» اسم واحد ، قول الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثلاثون] :

دعي ما ذا عملت ، سأتّقيه

ولكن بالمغيّب نبّئيني

فلو كانت «ذا» ها هنا بمعنى (الذي) لم يكن كلاما.

وأمّا قوله تعالى (عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) [الآية ٢٧] ف «أن يوصل» بدل من الهاء ، في «به» كقولك «مررت بالقوم بعضهم».

وأمّا «ميثاقه» ، فصار مكان «التوثّق» ، كما قال تعالى (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١٧) [نوح] والأصل «إنباتا» ، وكما قال «العطاء» في مكان «الإعطاء».

وقوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الآية ٢٨] فإنّما يقول كنتم ترابا ونطفا فذلك ميّت. وهو سائغ في كلام العرب ، تقول للثوب : «قد كان هذا قطنا» و «كان هذا الرّطب بسرا». ومثل ذلك ، قولك للرجل : «اعمل هذا الثوب» إنّما معك غزل.

هذا باب من المجاز

وأمّا قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَ) [الآية ٢٩] وهو إنما ذكر سماء واحدة ، فهذا لأنّ ذكر «السماء» ، قد دلّ عليهنّ كلّهنّ. وقد زعم بعض المفسّرين ، أنّ «السماء» جميع ، مثل «اللبن». فما كان لفظه لفظ الواحد ، ومعناه الجماعة ، جاز أن يجمع ، فقال (فَسَوَّاهُنَ) فزعم

__________________

(١). في الكتاب ١ : ٤٠٥ بلا عزو ، ولم يعزه الأعلم في الهامش ؛ وفي المقاصد النحوية ١ : ١٩١ معزوّا إلى سحيم بن وثيل الرياحي ، وروي عن الأصمعي أنّه لأبي زبيد الطائي ، والى المثقّب العبدي عائذ بن محصن بن ثعلبة ، وفي ١ : ٤٨٨ معزوا إلى سحيم بن وثيل الرّياحي. وفي الخزانة ٢ : ٥٥٤ ش ٤٤٤ ، أنّه مجهول القائل ، وأنكر ما زعمه العيني في المقاصد عن عزوه الى المثقب ؛ وفي شرح شواهد المغني «ما» بلا عزو. وفي «أما» معزوّا إلى المثقّب العبدي ؛ وفي الدر ١ : ٦٠ إنكار نسبته إلى المثقّب ، ولا وجود له في شعر المثقب العبدي. وفي اللسان (أبي) منسوبا إلى أبي حية النميري ، وقبله :

أبا لموت الذي لا بدّ أنّي

ملاق ، لا أباك تخوّفيني

وورد صدره في التمام ٥٢ ، وشذور الذهب ٣٢٨ بلا عزو.

١٤٧

بعضهم ، أنّ قوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) [المزّمّل : ١٨] جمع مذكر ك «اللّبن». ولم نسمع هذا من العرب ، والتفسير الأول جيد.

وقال يونس (١) : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) ذكر كما يذكر بعض المؤنث ، كما قال الشاعر (٢) [من المتقارب وهو الشاهد الحادي والثلاثون] :

فلا مزنة ودقت ودقها

ولا أرض أبقل إبقالها

وقوله (٣) [من المتقارب وهو الشاهد الثاني والثلاثون] :

فإمّا تري لمّتي بدّلت

فإنّ الحوادث أودى بها

وقد تكون «السماء» ، يريد به الجماعة ، كما تقول : «هلك الشاة والبعير» ، يعني كل بعير ، وكل شاة.

وكما قال تعالى (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] أي : من الأرضين.

وأمّا قوله جل جلاله (اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [الآية ٢٩] ، فإنّ ذلك لم يكن من الله تبارك وتعالى لتحوّل ، ولكنه يعني فعله ، كما تقول : «كان الخليفة في أهل العراق يوليهم ثم تحوّل الى أهل الشام» انما تريد (٤) تحوّل فعله.

وأمّا قوله سبحانه ، حكاية على لسان الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [الآية ٣٠] ، فلم يكن ذلك إنكارا منهم ، على ربّهم ، إنّما سألوا ليعلموا ، وأخبروا عن أنفسهم ، أنّهم يسبّحون ويقدّسون. أو قالوا ذلك ، لأنّهم كرهوا أن يعصى الله ، لأنّ الجنّ ، قد كانت أمرت قبل ذلك فعصت.

وأما قوله تعالى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

__________________

(١). هو يونس بن حبيب وقد مرت ترجمته قبلها.

(٢). هو عامر بن الجوين الطائي ، الكتاب ١ : ٤٢٠ ، ومجاز القرآن ٢ : ٦٧ ، والمذكّر والمؤنث للمبرّد ١١٢ ، وجاء برواية «أبقلت» ووصف همزة «إبقالها» في المقاصد ٢ : ٤٦٤ ، وجاء منسوبا إلى الخنساء في شواهد العامليّ ١٥٠.

(٣). هو الأعشى ميمون بن قيس ، والبيت في الصبح المنير ١٢٠ بلفظ «فإمّا تريني ولي لمّة» و «ألوى» بدل «أودى».

وهو في الكتاب ١ : ٣٣٩ بلفظ رواية الأخفش ، وفي مجاز القرآن ١ : ٢٦٧ بلفظ «فإن تعهديني ولي لمة» ، وفي معاني القرآن ١ : ١٢٨ بلفظ : «فإن تعهدي لامرئ لمة» و «أزري» بدل «ألوى». وفي المذكّر والمؤنّث للمبرّد ١١٢ بلفظ «فإن تبصريني» ، وفي شرح القصائد السبع الطوال ٤٠٥ ، بلفظ معاني القرآن.

(٤). في الأصل : يريد بالياء.

١٤٨

وَنُقَدِّسُ لَكَ) [الآية ٣٠] ، وقال (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] وقال أيضا (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) [النصر : ٣] فذلك لان الذكر كلّه ، تسبيح وصلاة. تقول : «قضيت سبحتي من الذكر والصلاة» فقال «سبّح بالحمد». أي : «لتكن سبحتك بالحمد لله». وقوله تعالى (أَتَجْعَلُ فِيها) جاء على وجه الإقرار كما قال الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثالث والثلاثون] :

ألستم خير من ركب المطايا

وأندى العالمين بطون راح

أي : أنتم كذلك.

وقوله جلّ شأنه (الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ) [الآية ٣١] ، فيريد عرض عليهم أصحاب الأسماء ، ويدلّك على ذلك قوله (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) [الآية ٣١] ، فلم يكن ذلك ، لأنّ الملائكة ادّعوا شيئا ، إنما أخبر عن جهلهم بعلم الغيب ، وعلمه بذلك ، وفعله ، فقال تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣١) أي كما يقول الرجل للرجل : «أنبئني بهذا إن كنت تعلم» ، وهو يعلم أنه لا يعلم ، يريد أنه جاهل.

فأعظموه عند ذلك ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) [الآية ٣٢] بالغيب على ذلك. ونحن نعلم أنه لا علم لنا بالغيب» ، إخبارا عن أنفسهم ، بنحو ما خبّر الله عنهم. وقوله سبحانه (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا) فنصب «سبحانك» لأنه أراد «نسبّحك» ، جعله بدلا من اللفظ بالفعل ، كأنه قال : «نسبّحك بسبحانك» ، ولكن «سبحان» مصدر لا ينصرف. و «سبحان» في التفسير : براءة وتنزيه قال الشاعر (٢) [من السريع وهو الشاهد الرابع والثلاثون] :

أقول لمّا جاءني فخره

سبحان من علقمة الفاخر

يقول : براءة منه.

هذا باب الاستثناء

وقوله تعالى (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الآية ٣٤] ، فانتصب ، لأنّك شغلت

__________________

(١). هو جرير بن عبد الله بن الخطفي ، والبيت في ديوانه ١ : ٨٩ ، ومجاز القرآن ١ : ٣٥ و ١٨٤ و ٢ : ١١٨ و ١٥٠.

(٢). هو الأعشى ميمون بن قيس ؛ والبيت في الصبح المنير ١٠٦ بلفظ «فجره» ، و «الفاجر» في الكتاب ١ : ١٦٣ كما في رواية الأخفش ، وفي مجاز القرآن ١ : ٣٦ و ١٣٢ كذلك.

١٤٩

الفعل بهم عنه ، فأخرجته من الفعل من بينهم. كما تقول : جاء القوم إلّا زيدا» ، لأنّك لمّا جعلت لهم الفعل ، وشغلته بهم ، وجاء غيرهم ، شبّهته بالمفعول به بعد الفاعل ، وقد شغلت به الفعل.

هذا باب الدعاء

وهو قوله تعالى (يا آدَمُ اسْكُنْ) [الآية ٣٥] و (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) [الآية ٣٣] و (يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ) [الأعراف : ١٠٤] فكلّ هذا إنّما ارتفع ، لأنّه اسم مفرد ، والاسم المفرد مضموم في الدعاء ، وهو في موضع نصب ، ولكنه جعل كالأسماء التي ليست بمتمكّنة. فإذا كان مضافا انتصب لأنه الأصل. وإنّما يريد «أعني فلانا» و «أدعو» ، وذلك مثل قوله تعالى (يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا) [يوسف : ١١] و (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] ، إنّما يريد : «يا ربّنا ظلمنا أنفسنا» وقوله (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) [الآية ١٢٧].

هذا باب الفاء

قوله سبحانه (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [الآية ٣٥] فهذا الذي يسميه النحويون «جواب الفاء». وهو ما كان جوابا للأمر والنهي ، والاستفهام ، والتمنّي ، والنفي ، والجحود. ونصب ذلك كلّه ، على ضمير (١) «أن» ، وكذلك الواو. وإن لم يكن معناها مثل معنى الفاء.

وإنما نصب هذا ، لأنّ الفاء والواو من حروف العطف ، فنوى المتكلم أن يكون ما مضى من كلامه اسما ، حتى كأنه قال «لا يكن منكما قرب الشجرة» ، ثم أراد أن يعطف الفعل اسما ، على اسم ، وهذا تفسير جميع ما انتصب من الواو والفاء. ومثل ذلك قوله جلّ شأنه (لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] (٢) ، هذا جواب النهي و (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ

__________________

(١). أي على إضمار «أن» ، وكثيرا ما استعمل الأخفش هذه الكلمة بهذا المعنى.

(٢). وكتابتها في المصحف كما أثبت ، ولكنّها جاءت في الأصل والكتاب ١ : ٤٢١ بفتح الياء والحاء. وقد استشهد بها لجواز الجزم والنصب ، وفي الجامع ١١ : ٢١٥ أنّ ضم الياء وكسر الحاء قراءة الكوفيّين ، وهي لغة تميم ؛ وأنّ فتح الياء والحاء قراءة سائر الآخرين ، وهي لغة أهل الحجاز.

١٥٠

فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] جواب النفي. والتفسير ما ذكرت لك.

وقد يجوز ، إذا حسن ، أن تجري الاخر على الأوّل ، أن تجعله مثله ، نحو قوله تعالى (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) [القلم] أي : «ودّوا لو يدهنون». ونحو قوله تعالى (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ) [النساء : ١٠٢] جعل الأول فعلا ، ولم ينو به الاسم ، فعطف الفعل على الفعل ، وهو التمني ، كأنه قال «ودّوا لو تغفلون ولو يميلون» وقال تعالى : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) (٣٦) [المرسلات] أي «ولا يؤذن لهم ولا» يعتذرون». وما كان بعد هذا ، جواب المجازاة بالفاء والواو ، فإن شئت أيضا نصبته على ضمير «أن» ، إذا نويت بالأوّل ، أن تجعله اسما ، كما قال أيضا : (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) [الشورى : ٣٣](أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ) [الشورى] فنصب (١) ، ولو جزمه على العطف كان جائزا (٢) ، ولو رفعه على الابتداء ، جاز أيضا (٣). وقال تعالى : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) [الآية ٢٨٤] فتجزم (فَيَغْفِرُ) ، إذا أردت العطف (٤) ، وتنصب إذا أضمرت «إن» ، ونويت أن يكون الأوّل اسما (٥) ، وترفع

__________________

(١). في الطبري ٢٥ : ١٣٥ ، قرّاء الكوفة والبصرة ، وفي السبعة ٥٨١ الى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ٢ : ٢٥١ ، والتيسير ١٩٥ والجامع ١٦ : ٣٤ ، إلى غير نافع وابن عامر ، وفي البحر ٧ : ٥٢١ إلى الجمهور ، وفي معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، وحجّة ابن خالويه ٢٩٣ بلا نسبة.

(٢). في معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، والكشّاف ٤ : ٢٢٧ ، والبحر ٧ : ٥٢١ بلا عزو.

(٣). نسبت قراءة الرفع إلى عامّة قراء المدينة. الطبري ٢٥ : ٣٥ ، وفي السبعة ٥٨١ ، والكشف ٢ : ٢٥١ ، والتيسير ١٩٥ ، والجامع ١٦ : ٣٣ ، إلى نافع وابن عامر وفي البحر ٧ : ٥٢١ زاد الأعرج ، وأبا جعفر ، وشيبة وزيد بن علي ؛ ولم ينسبه في معاني القرآن ٣ : ٢٤ ، ولا حجّة ابن خالويه ٢٩٣.

(٤). في السبعة ١٩٥ نسبت إلى ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٣٢٣ إلى غير ابن عامر وعاصم ؛ وفي التيسير ٨٥ كالسبعة ؛ والجامع ٣ : ٤٢٤ كذلك ؛ وفي البحر ٢ : ٣٦٠ إلى غير ابن عامر وعاصم ويزيد ويعقوب وسهل ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٨٠ بلا عزو.

(٥). في الجامع ٣ : ٤٢٤ نسبت إلى ابن عباس ، والأعرج ، وأبي العالية ، وعاصم الجحدري ، في رواية ؛ وفي البحر ٣٦٠ إلى ابن عباس والأعرج وابن حياة. وفي حجّة ابن خالويه ٨٠ ، بلا نسبة.

١٥١

على الابتداء (١) وكلّ ذلك من كلام العرب وقال تعالى : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ١٤] ثم قال (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) [التوبة : ١٥] فرفع (وَيَتُوبُ) لأنّه كلام مستأنف ليس على معنى الاول. ولا يريد «قاتلوهم : «يتب الله عليهم» ولو كان هذا لجاز فيه الجزم لما ذكرت ؛ وقال الشاعر (٢) [من الوافر وهو الشاهد الخامس والثلاثون] :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشّهر الحرام

ونمسك بعده بذناب عيش

أجبّ الظهر ليس له سنام

فنصب «ونمسك» على ضمير «أن» ، ونرى أن يجعل الأوّل اسما ، ويكون فيه الجزم أيضا على العطف ، والرفع على الابتداء. قال الشاعر (٣) [من الطويل وهو الشاهد السادس والثلاثون] :

ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى

مصارع مظلوم مجرّا ومسحبا (٤)

ومن يغترب عن قومه لا يجد له

على من له رهط حواليه مغضبا (٥)

وتدفن منه المحسنات وإن يسئ

يكن ما أساء النار في رأس كبكبا (٦)

ف «تدفن» يجوز فيه الوجوه كلها.

قال الشاعر (٧) [من الطويل وهو الشاهد السابع والثلاثون] :

__________________

(١). في السّبعة ١٩٥ إلى عاصم وابن عامر ، وفي الكشف ١ : ٣٢٣ ، والتيسير ٨٥ والجامع ٣ : ٤٢٤ كذلك ، وزاد في البحر ٢ : ٣٦٠ يزيدا ويعقوب وسهلا.

(٢). هو النابغة الذبياني وهما في ديوانه ٢٣١ و ٢٣٢ ، بلفظ الأخفش عينه.

(٣). الأعشى ميمون بن قيس.

(٤). الأبيات في الصبح المنير ٨٥ ، وقد جاءت مرتّبة بتوسّط هذا البيت لا بتقدمه. وبلفظ «ويحطم بظلم لا يزال يرى له» ، وانظر الصحاح «كبكب» ، واللسان «زيب» و «كبكب» ، وتاج العروس «زيب».

(٥). بلفظ «متى» بدل «ومن». وفي الكتاب ١ : ٤٤٩ كما عند الأخفش وفي إعراب الزجّاج ٣ : ٩٠٦ كذلك.

(٦). بلفظ «المحسنات» بدل «الصالحات» ، وكذلك في الكتاب ١ : ٤٤٩ ، ومعاني القرآن ٢ : ٢٩٠ ، وإعراب الزجّاج ٣ : ٩٠٦.

(٧). هو النابغة الذبياني.

١٥٢

فإن يرجع النّعمان نفرح ونبتهج

ويأت معدّا ملكها وربيعها (١)

وإن يهلك النّعمان تعر مطيّة

وتخبأ في جوف العياب قطوعها (٢)

وقال تبارك وتعالى (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] فهذا لا يكون إلّا رفعا ، لأنّه الجواب الذي لا يستغنى عنه.

والفاء إذا كانت جواب المجازاة ، كان ما بعدها أبدا مبتدأ ، وتلك فاء الابتداء لا فاء العطف. ألا ترى أنك تقول «ان تأتني فأمرك عندي على ما تحبّ». فلو كانت هذه فاء العطف لم يجز السكون ، حتى تجيء لما بعد «إن» بجواب. ومثلها (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [الآية ١٢٦] وقرأ بعضهم (فأمتعه ثم اضطرّه) (٣) ف (أَضْطَرُّهُ) إذا وصل الألف ، جعله أمرا. وهذا الوجه ، إذا أراد به الأمر ، يجوز فيه الضم والفتح. غير أنّ الألف ألف وصل ، وإنّما قطعتها ، «ثمّ» في الوجه الاخر ، لأنّ كل ما يكون معناه «أفعل» ، فإنه مقطوع ، من الوصل كان أو من القطع ، قال تعالى : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) [النمل : ٣٩ ـ ٤٠] وهو من «أتى» «يأتي» وقال أيضا بقراءة من قرأ قوله سبحانه من الآية ٢٣ من سورة يس : (أتّخذ من دونه آلهة) فترك ألف التي بعد ألف الاستفهام ، لأنّها ألف «أفعل». وقال الله تبارك وتعالى فيما يحكي عن الكفّار : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (١٠) [المنافقون] فقوله تعالى (فَأَصَّدَّقَ) جواب للاستفهام ، لأنّ (لَوْ لا) ها هنا بمنزلة «هلّا» وعطف (وَأَكُنْ) على موضع (فَأَصَّدَّقَ) ، لأنّ جواب الاستفهام ، إذا ما لم يكن فيه فاء ، جزم. وقد قرأ بعضهم (فأصدق وأكون) (٤) عطفها على ما بعد

__________________

(١). في الديوان ب «أن» بلا فاء. وبعده بيت آخر هو :

ويرجع الى غسان ملك وسؤدد

وتلك المعنى لو أننا نستطيعها

(٢). في الديوان : «يخبأ» بالياء المثنّاة من تحت. وفي معاني القرآن ١ : ٨٧ كما في رواية الأخفش.

(٣). في معاني القرآن ١ : ٧٨ نسبت إلى ابن عبّاس ، وفي الطّبري ٣ : ٥٤ كذلك ، وزاد في الجامع ٢ : ١١٩ قتادة ومجاهدا ، وفي البحر ١ : ٣٨٤ أغفل قتادة وزاد «غير هما».

(٤). في معاني القرآن ٣ : ١٦٠ أنّها لعبد الله بن مسعود ، وفي تأويل مشكل القرآن ١ : ٥٦ إلى أبي عمرو بن العلاء ، وفي الطّبري ٢٨ : ١١٨ بزيادة محيصن ، وفي السبعة ٦٣٧ إلى أبي عمرو ، وحده وفي الشواذ ١٥٧ الى ابن عبّاس ـ

١٥٣

الفاء ، وذلك خلاف الكتاب. وقد قرئ قوله تعالى من الآية ١٨٦ من سورة الأعراف : (ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم) بالجزم (١). فجزم (يذرهم) ، على أنّه عطف على موضع الفاء ، لأنّ موضعها يجزم ، إذا كانت جواب المجازاة ، ومن رفعها على أن يعطفها على ما بعد الفاء ، فهو أجود ، وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف (٢). وقال تعالى (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) [الآية ٢٧١] جزم (٣) ورفع (٤) على ما فسّرت. وقد يجوز في هذا ، وفي الحرف الذي قبله النصب (٥) لأنه قد جاء بعد جواب المجازاة ، مثل (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) [الشورى : ٣٥](وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) [آل عمران] فانتصب

__________________

ـ وابن جبير وفي الكشف ١ : ٣٢٢ الى أبي عمرو ، وفي التيسير ٢١١ كذلك ، وفي الجامع ١٨ : ١٣١ زاد ابن محيصن ، وفي البحر ٨ : ٢٧٥ إلى الحسن وابن جبير وأبي رجاء وابن ابي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري وأبي عمرو ، وكذا في مصحف عبد الله وأبيّ.

(١). هي في السبعة ٢٩٩ إلى حمزة والكسائي ، وعامّ في رواية ، وفي الكشف ١ : ٤٨٥ ، والتيسير ١١٥ ، بإسقاط عاصم ، وفي البحر ٤ : ٤٣٣ إلى ابن مصرف ، والأعمش ، والخويي ، وأبي عمرو فيما ذكر أبو حاتم ، وفي حجّة ابن خالويه ١٤٣ ، والجامع ٧ : ٣٣٤ بلا نسبة.

(٢). هي في السبعة ٢٩٨ إلى ابن مجاهد ، وأبي عمرو في رواية ؛ وابن كثير ، ونافع ، وابن عامر ؛ واقتصر في التيسير ١١٥ على عاصم وأبي عمرو ؛ وفي البحر ٤ : ٤٣٣ كذلك. وفي حجّة ابن خالويه ١٤٣ ، والجامع ٧ : ٢٣٤ بلا نسبة.

(٣). في الطّبري ٥ : ٥٨٥ إلى عامّة قرّاء أهل المدينة والكوفة والبصرة. وفي السبعة ١٩١ ، إلى عاصم في رواية ، ونافع وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ١ : ٣١٧ أسقط عاصما ؛ والجامع ٣ : ٣٣٥ كذلك ؛ وفي البحر ٢ : ٣٢٥ باختلاف بين النون والياء والتاء في «نكفر» ، زاد الأعمش وابن عباس وعكرمة. وفي حجّة ابن خالويه ٧٩ بلا نسبة.

(٤). في الطبري ٥ : ٥٨٤ بالتاء في (تكفر) إلى ابن عباس ، وبالياء بلا نسبة ؛ وفي السبعة كالسّابق ، إلى ابن كثير وأبي عمرو وعاصم في رواية أبي بكر ، ونافع في رواية أبي خليد ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٧٩ بلا نسبة ، وفي الكشف ١ : ٣١٧ إلى غير نافع وحمزة والكسائي ؛ وفي المشكل ٧٩ بالياء في (يكفر) بلا نسبة وفي الجامع ٣ : ٣٣٥ إلى أبي عمرو وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر وفي البحر ٢ : ٣٢٥ إلى ابن عامر وابن هرمز وابن كثير وأبي عمرو وأبي بكر باختلاف بين الياء والتاء والنون في (تكفر).

(٥). في البحر ٢ : ٣٢٥ إلى الأعمش في رواية ، وعكرمة أيضا ، وشهر بن حوشب باختلاف بين الياء والتاء في (الكفر).

١٥٤

الاخر ، لأنّ الأوّل نوى أن يكون بمنزلة الاسم ، وفي الثاني الواو (١). وإن شئت جزمت على العطف ، كأنّك قلت «ولمّا يعلم الصابرين» (٢). فإن قال قائل : «ولمّا يعلم الله الصابرين» (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) فهو لم يعلمهم؟ قلت بل قد علم ، ولكنّ هذا ، فيما يذكر أهل التأويل ، ليبيّن للناس ، كأنّه قال «ليعلمه الناس» كما قال جلّ جلاله (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) [الكهف] وهو قد علم ، ولكن ليبيّن ذلك. قد قرأ أقوام ، أشباه هذا ، في القرآن (ليعلم أيّ الحزبين) (٣) ولا أراهم قرءوه ، إلّا لجهلهم بالوجه الاخر.

وممّا جاء بالواو (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) [الآية ٤٢] إن شئت ، جعلت (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) نصبا ، إذا نويت أن تجعل الأول اسما ، فتضمر مع (تَكْتُمُوا) «أن» ، حتّى تكون اسما. وإن شئت عطفتها ، فجعلتها جزما على الفعل الذي قبلها. قال تعالى (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما) [الأعراف : ٢٢] فعطف القول على الفعل المجزوم ، فجزمه. وزعموا أنّه في قراءة ابن مسعود (وأقول لكما) (٤) على ضمير «أن» ، ونوى أن يجعل الأوّل اسما ، وقال الشاعر (٥) [من الطويل وهو الشاهد الثامن والثلاثون] :

لقد كان في حول ثواء ثويته

تقضّي لبانات ويسأم سائم (٦)

 ـ ثواء وثواء أو ثواء رفع نصب وخفض ـ فنصب على ضمير «أن» لأنّ

__________________

(١). في معاني القرآن ١ : ٢٣٥ إلى غير الحسن ، وفي الطّبري ٧ : ٢٤٧ أنّ القراءة على هذا الحرف ، وفي الجامع ٤ : ٢٢٠ إلى الحسن ويحيى بن يعمر ، وفي البحر ٣ : ٦٦ إلى ابن وثاب النخعي.

(٢). في معاني القرآن ١ : ٢٣٥ إلى الحسن ، والطّبري ٧ : ٢٤٧ كذلك ، وفي الشواذ ٢٢ إلى الحسن ، وفي البحر ٣ : ٦٦ إلى الجمهور وإلى الحسن وابن يعمر وابن حياة وعمرو بن عبيد. وقد نقله في الإملاء ١ : ١٥٠ ، مع وجه ثالث هو الرفع.

(٣). يبدو أنّ الأخفش أوّل من أشار إلى هذه القراءة ، لأنّها تروى عنه في الشواذ ٧٨ ، والبحر ٦ : ١٠٣ ، وهي قراءة الزهري ، كما في الجامع ١٠ : ٣٤٠ ، والبحر كما سبق.

(٤). تفرّد الأخفش برواية هذه القراءة.

(٥). هو الأعشى ميمون بن قيس.

(٦). البيت في الصبح المنير ٥٦ ، بلفظ رواية الأخفش نفسه ، وفي مجاز القرآن ١ : ٧٢ بلفظ «تقضي» ، وفي الكتاب ١ : ٤٢٣ بلفظ «تقضي لبانات ويسأم».

١٥٥

التقضّي اسم ، ومن قال «فتقضى» رفع «ويسأم» ، لأنه قد عطف على فعل. وهذا واجب ، وقال الشاعر (١) [من الطويل وهو الشاهد التاسع والثلاثون] :

فإن لم أصدق ظنّكم بتيقّن

فلا سقت الأوصال منّي الرّواعد

ويعلم أكفائي من الناس أنّني

أنّا الفارس الحامي الذمار المذاود (٢)

وقال الشاعر (٣) [من الوافر وهو الشاهد الأربعون] :

فإن يقدر عليك أبو قبيس

نمطّ بك المنيّة في هوان (٤)

وتخضب لحية غدرت وخانت

بأحمر من نجيع الجوف آن (٥)

فنصب هذا كلّه ، لأنّه نوى أن يكون الأوّل اسما ، فأضمر بعد الواو «أن» ، حتى يكون اسما مثل الأوّل ، فتعطفه عليه. وأمّا قوله تعالى (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) [الآية ١٦٧] و (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠٢) [الشعراء] فهذا على جواب التمني ، لأن معناه «ليت لنا كرّة». وقال الشاعر : [من الوافر وهو الشاهد الحادي والأربعون] :

فلست بمدرك ما فات منّي

ب «لهف» ولا ب «ليت» ولا «لو أني» (٦)

فأنزل «لو أني» ، بمنزلة «ليت» ، لأنّ الرجل إذا قال : «لو أنّي كنت فعلت كذا وكذا» ، فإنما تريد «وددت لو كنت فعلت». وإنما جاز ضمير «أن» في غير الواجب ، لأنّ غير الواجب يجيء ما بعده ، على خلاف ما قبله ناقضا له.

فلمّا حدث فيه خلاف لأوّله ، جاز هذا الضمير. والواجب يكون آخره على أوّله ، نحو قول الله عزوجل(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ

__________________

(١). هو حسّان بن ثابت الأنصاري.

(٢). البيت في ديوانه : ١٩٥ ب يعلم والمناجد.

(٣). هو النابغة الذبياني.

(٤). البيت في ديوانه ١٤٩ ب «تحط بك المنية في رهان» ، وفي الصحاح (قبس) ب «يحط» بدل «نمط» و «المعيشة» بدل «المنية» وفي اللسان «قبس» كما في الصحاح.

(٥). البيت في ديوانه ٤٩ ب «تخضب» ، وفي الجامع ١٧ : ١٧٥ ب «تخضب» كذلك.

(٦). في الصحاح واللسان «لهف» ، وفي الخصائص ٣ : ١٣٥ وشرح القطر ٢٠٥ ، ب «راجع» بدل «مدرك».

١٥٦

ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) [الحج : ٦٣] فالمعنى : «اسمعوا أنزل الله من السماء ماء» فهذا خبر واجب و (أَلَمْ تَرَ) تنبيه. وقد تنصب الواجب في الشعر. قال الشاعر (١) [من الوافر وهو الشاهد الثاني والأربعون] :

سأترك منزلي لبني تميم

وألحق بالحجاز فأستريحا (٢)

وهذا لا يكاد يعرف. وهو في الشعر جائز. وقال طرفة (٣) [من الطويل وهو الشاهد الثالث والأربعون] :

لها هضبة لا يدخل الذلّ وسطها

ويأوي إليها المستجير فيعصما (٤)

واعلم أنّ إظهار ضمير «أن» ، في كلّ موضع أضمر فيه من الفاء ، لا يجوز ، ألا ترى أنّك إذا قلت : «لا تأته فيضربك» ، لم يجز أن تقول : «لا تأته فأن يضربك» وإنّما على «أن» فلا يحسن إظهاره ، كما لا يجوز في قولك «عسى أن تفعل» : «عسى الفعل» ولا في قولك : «ما كان ليفعل» : «ما كان لأن يفعل» ، ولا إظهار الاسم الذي في قولك «نعم رجلا» فرب ضمير لا يظهر ، لأنّ الكلام إنّما وضع على أن يضمر ، فإذا ظهر ، كان ذلك على غير ما وضع في اللفظ ، فيدخله اللبس.

وأمّا قوله تعالى (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) [الآية ٣٦] ، فإنّما يعني «الزّلل» ، تقول : «زلّ فلان» و «أزللته» و : «زال فلان» و «أزاله فلان» ، والتضعيف القراءة الجيّدة ، وبها نقرأ (٥). وقال بعضهم : (فأزالهما) أخذها من «زال».

__________________

(١). هو المضيرة بن حبناء بن عمرو الحنظلي. شرح الشواهد للسيوطي ١٦٩ ، وقيل بل هو المغيرة بن حنين بن عمرو التميمي الحنظلي «المقاصد النحوية ٤ : ٣٩٠ ، وشرح الشواهد للعاملي ٣٨٦ ، ولم يجد البغدادي الشاهد في شعر المغيرة بن حبناء ، الخزانة ٤ : ٦٠١.

(٢). البيت في الكتاب ١ : ٤٢٣ وعجز في ١ : ٤٤٨ ، والعجز أيضا في شرح الأبيات للفارقي ١١٠ ، وبرواية أخرى فيه بلفظ «لأستريحا».

(٣). هو طرفة بن العبد البكري ، ترجمته في الشعر والشعراء ١ : ١٨٥ وطبقات الشعراء ١ : ١٣٨ والخزانة ١ : ٤١٤ وأسماء المغتالين ٢ : ٢١٢.

(٤). ديوان طرفة ١٩٤ بلفظ «لنا» بدل «لها» ، و «ينزل» بدل «يدخل» ؛ وفي شرح الأبيات للفارقي ١١١ ب «ليعصما» بدل «فيعصما».

(٥). في الطبري ١ : ٥٢٤ إلى عامة القرّاء ، والجامع ١ : ٣١١ إلى الجماعة ، والكشف ١ : ٢٣٥ والتيسير ٧٣ إلى غير حمزة ، وفي حجّة ابن خالويه ٥١ ، والإملاء ١ : ٣١ بلا نسبة.

١٥٧

تقول : «زال الرجل» و «أزاله فلان» (١).

وقال سبحانه (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [الآية ٣٦] (٢) فإنّما قال (اهْبِطُوا) والله أعلم ، لأنّ إبليس كان ثالثهم ، فلذلك جمع.

وقال تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [الآية ٣٧] فجعل آدم المتلقّي (٣). وقد قرأ بعضهم (آدم) نصبا ورفع الكلمات ، جعلهن المتلقّيات (٤).

وقال تعالى (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) [الآية ٣٨] وذلك ، أن «إمّا» في موضع المجازاة ، وهي «إمّا» لا تكون «أمّا» وهي «إن» زيدت معها «ما» (٥) ، وصار الفعل الذي بعدها بالنون الخفيفة ، او الثقيلة ، وقد يكون بغير نون. وإنّما حسنت فيه النون ، لمّا دخلته «ما» ، لأنّ «ما» نفي ، وهو ما ليس بواجب ، وهي من الحروف التي تنفي الواجب ، فحسنت فيه النون ، نحو قولهم «بعين مّا أرينّك» (٦) حين أدخلت فيها «ما» ، حسنت النون. ومثل «إمّا» ها هنا قوله تعالى (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٢٦) [مريم] ، وقوله (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) [المؤمنون] فالجواب في قوله (فَلا تَجْعَلْنِي). وأشباه هذا ، في القرآن والكلام ، كثير. وأمّا «إمّا» في غير هذا

__________________

(١). وفي السبعة ١٥٣ ، والكشف ١ : ٢٣٥ ، والتيسير ٧٣ ، والجامع ١ : ٣١١ ، إلى حمزة ؛ وفي الشواذ ٤ إليه بإماله ؛ وفي البحر ١ : ١٦١ كذلك ، وأضاف إليه أبا عبيدة ونسبها بلا إمالة إلى الحسن وأبي رجاء وفي الطبري ١ : ٥٢٤ ، وحجّة ابن خالويه ٥١ ، والكشّاف ١ : ١٢٨ ، والإملاء ١ : ٣١ بلا نسبة.

(٢). في الأصل (اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) وهي الآية الثالثة والعشرين بعد المائة من السورة العشرين (طه). وفي الآية الثامنة والثلاثين من سورة البقرة ، أي الآية التي ستأتي بعد آيتين (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ) [الآية ٣٨] وهذا يدل على أنّ الأخفش كان يقتضب الكلام ولم يكن يقرأ في نسخة من الكتاب الكريم.

(٣). في الطبري ١ : ٥٤٢ هي قراءة الحجّة من القراء وأهل التأويل ومن علماء السلف والخلف ؛ وفي الكشف ١ : ٢٣٦ ، والتيسير ٧٣ ، والبحر ١ : ١٦٥ ، إلى غير ابن كثير وفي حجّة ابن خالويه ٥١ بلا نسبة.

(٤). في السبعة ١٥٣ ، والكشف ١ : ٢٣٦ ، والتيسير ٧٣ ، والجامع ١ : ٣٢٦ ، والبحر ١ : ١٦٥ ، إلى ابن كثير وفي معاني القرآن ١ : ٢٨ ، والطّبري ١ : ٥٤٢ ، إلى بعض القرّاء بلا تعيين ؛ وفي حجّة ابن خالويه ٥١ بلا نسبة.

(٥). هذا الرأي لسيبويه المغني ١ : ٥٩.

(٦). هو مثل معناه «اعمل كأنّي أنظر إليك» ، يضرب في الحثّ على ترك البطء ؛ وما صلة دخلت للتأكيد ، ولأجلها دخلت النون في الفعل ، ومثله : ومن عضة ما ينبتنّ شكيرها. مجمع الأمثال ١ : ١٠٠.

١٥٨

الموضع ، الذي يكون للمجازاة ، فلا تستغني حتّى ترد «إمّا» مرتين ، نحو قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) [الإنسان] ونحو قوله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) [مريم : ٧٥] وإنّما نصب ، لأنّ «إمّا» هي بمنزلة «أو» ، ولا تعمل شيئا ، كأنّه قال «هديناه السبيل شاكرا أو كفورا» ، فنصبه على الحال و «حتّى رأوا ما يوعدون العذاب أو الساعة» ، فنصبه على البدل.

وقد يجوز الرفع بعد «إمّا» ، في كلّ شيء يجوز فيه الابتداء ، ولو قلت : «مررت برجل إمّا قاعد وإمّا قائم» جاز ، وهذا الذي في القرآن ، جائز أيضا ، ويكون رفعا ، إلا أنّه لم يقرأ.

وأمّا التي تستغني عن التثنية ، فتلك تكون مفتوحة الألف أبدا نحو قولك «أمّا عبد الله فمنطلق» ، وقوله تعالى (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) [الضحى] و (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) [فصّلت : ١٧] فكلّ ما لم يحتج فيه الى تثنية «أمّا» ، فألفها مفتوحة ، إلّا تلك التي في المجازاة.

و «أمّا» أيضا لا تعمل شيئا ، ألا ترى أنّك تقرأ (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) (١٠) فتنصبه ب «تنهر» ، ولم تغيّر «أمّا» شيئا منه.

باب الاضافة

أمّا في قوله تعالى (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) [الآية ٣٨] فانفتحت هذه الياء على كل حال ، لأنّ الحرف الذي قبلها ساكن. وهي الألف التي في «هدى». فلمّا احتجت الى حركة الياء ، حرّكتها بالفتحة ، لأنّها لا تحرّك إلّا بالفتح. ومثل ذلك قوله جل شأنه (عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها) [طه : ١٨] ولغة للعرب يقولون «عصيّ يا فتى» (١) ، و (هديّ فلا خوف عليهم) (٢) لما كان

__________________

(١). هي لغة هذيل الكشاف ١ : ١٣٠ ، و ٣ : ٥٧ ، والجامع ١ : ٣٢٨ ، والبحر ١ : ١٦٩ ، واللهجات العربية ١٥٣ و ٤٢٥.

(٢). في المحتسب ١ : ٧٦ إلى النبي (ص) وأبي الطفيل وعبد الله بن أبي إسحاق وعاصم الجحدري وعيسى بن عمر الثقفي ، وفي البحر ١ : ١٦٩ اقتصر على عبد الله بن أبي إسحاق وعاصم وعيسى بن أبي عمر (كذا) ، وفي الجامع ١ : ٣٢٨ اقتصر على الجحدري ، وفي الكشّاف ١ : ١٣٠ ، والكشف ١ : ١٨٤ ، بلا نسبة ، وفي البيان ١ : ٧٦ إلى النبي (ص) ، والإملاء ١ : ٣٢ بلا نسبة.

١٥٩

قبلها حرف ساكن ، وكان ألفا ، قلبته الى الياء ، حتّى تدغمه في الحرف الذي بعده ، فيجرونها مجرّى واحدا وهو أخفّ عليهم. وأمّا قوله تعالى (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣) [ق] و (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) [الحجر : ٤١] و (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) [آل عمران : ٥٥ ولقمان : ١٥]. فإنّما حركت بالإضافة ، لسكون ما قبلها ، وجعل الحرف الذي قبلها ياء ولم يقل «علاي» (١) ولا «لداي» كما تقول «على زيد» ، و «لدى زيد» ، ليفرّقوا بينه وبين الأسماء ، لأن هذه ليست بأسماء. و «عصاي» ، و «هداي» ، و «قفاي» ، أسماء. وكذلك (أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) [يوسف : ٤٣] و (يا بشراي هذا غلام) (٢) لأنّ آخر «بشرى» ساكن.

وقرأ آخرون قوله تعالى ، من الآية ١٩ من سورة يوسف : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) (٣) ، لا يريد الاضافة ، وبه نقرأ.

فإذا لم يكن الحرف ساكنا ، كنت في الياء بالخيار ، إن شئت أسكنتها وإن شئت فتحتها ، نحو : (إنّي أنا الله) (٤) و (إِنِّي أَنَا اللهُ) (٥) ، و (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) [نوح : ٢٨] (٦)

__________________

(١). لغة بلحارث بن كعب «اللسان «علا» ، وقيل لغة طيء ، اللهجات العربيّة ٥٨٥.

(٢). يوسف ١٢ : ١٩. نسبت في الطبري ١٦ : ٣ إلى عامة قرّاء أهل المدينة مع إدغام الألف في الياء ؛ وفي السبعة ٣٤٧ بإسكان الياء إلى نافع ، وفتحها إلى ابن كثير ، ونافع أيضا وأبي عمرو وابن عامر ، وفي الكشف ٢ : ٧ والتيسير ١٢٨ إلى غير الكوفيّين ؛ وفي الجامع ٩ : ١٥٣ إلى أهل المدينة وأهل البصرة ، وبإدغام الالف في الياء إلى ابن إسحاق ، وفي البحر ٥ : ٢٩٠ إلى ورش عن نافع ، مع سكون ياء الإضافة وإلى أبي الطفيل والحسن بن أبي إسحاق والجحدري ، بقلب الألف ياء وإدغامها وأنها لغة هذيل وناس غيرهم ، وفي معاني القرآن ٢ : ٣٩ ، وحجّة ابن خالويه ١٦٩ بلا نسبة.

(٣). في الطبري ١٦ : ٤ إلى عامة قراء الكوفيين ، وفي السبعة ٣٤٧ إلى عاصم وحمزة والكسائي ، وفي الكشف ٢ : ٧ ، والتيسير ١٢٨ ، والجامع ٦ : ١٥٣ ، والبحر ٥ : ٢٩٠ ، إلى الكوفيين ، وفي معاني القرآن ٢ : ٣٩ ، وحجّة ابن خالويه ، ١٦٩ ، بلا نسبة.

(٤). القصص ٢٨ : ٣٠ ، وهي في السبعة ٤٩٦ قراءة عاصم وأبي بكر ، وفي الكشف ١ : ٣٢٧ إلى ابن كثير ، و ٣٢٨ إلى الكسائي. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.

(٥). في السبعة ٤٩٦ الى نافع وابن كثير وأبي عمرو ، وفي الكشف ١ : ٣٢٥ إلى نافع برواية ، ورش وإلى قالون ، ٢ : ١٧٦ إلى الحرميين وأبي عمرو ، وفي التيسير ٦٣ كذلك.

(٦). في السبعة ٦٥٤ إلى عاصم وهشام برواية حفص ، وإلى نافع برواية ابي قرة ، وفي الحجّة ٣٢٥ بلا نسبة ؛ وفي الكشف ١ : ٣٢٥ إلى نافع برواية ورش ، وإلى قالون ، و ٣٢٩ إلى ابن عامر في رواية هاشم ، و ٢ : ٣٣٨ إلى حفص وهشام ؛ وفي التيسير ٦٩ إلى هشام. وهي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.

١٦٠