التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

توكيدا بأنهم لو عادوا إلى الدنيا كما طلبوا لعادوا إلى ما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وينطوي في هذا تعليل لذلك بأنهم إنما كانوا يصدرون عن نية خبيثة وطوية فاسدة.

ولقد أوّل المؤولون الشطر الأول من هذه الآية بتأويلين أحدهما : «إنهم إنما قالوا ما حكته الآية الأولى عنهم لأنهم بدا لهم عاقبة وبال ما كانوا يخفونه من المساويء والمعاصي». وثانيهما : «إنهم ظهر لهم مصداق ما كانوا مستيقنين منه من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما كان يدعو إليه ويبلغه ويبشر وينذر به والذي كانوا يجحدونه استكبارا وحسدا وغيظا». وكلا التأويلين وارد. ولقد أشير إلى الأول في آية سورة السجدة [١٢] وآية سورة فاطر [٣٧] وأشير إلى الثاني في آية سورة ص [٧] وآيات سورة فاطر [٤٢ و ٤٣] وآية سورة الزخرف [٣١].

وواضح أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إنذار الكفار وإثارة الخوف في قلوبهم وتصوير ما استقر في نفوسهم من تعمد العناد والكفر وفقدهم الرغبة الصادقة في الإيمان والصلاح وفيهما تطمين وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أيضا بالإضافة إلى ما فيهما من مشهد أخروي يجب الإيمان به.

(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠)) [٢٩ ـ ٣٠]

في الآية الأولى حكاية لما كان يقوله الكفار حيث كانوا يزعمون ويؤكدون أنه ليس من حياة وراء هذه الحياة ، وأنهم لن يبعثوا بعد الموت. وفي الآية الثانية ردّ إنذاري موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أو إلى سامع القرآن إطلاقا ، وهذا من أساليب الخطاب العربي بسبيل توكيد بعثهم وحكاية لما سوف يكون بينهم وبين الله تعالى إذ ذاك حيث يسألهم حينما يقفون أمامه أليس ما يرونه هو الحق الذي كانوا ينكرونه ، فيجيبون بالإيجاب فيقول لهم إذا ذوقوا العذاب جزاء إنكارهم وكفرهم.

والآيتان معطوفتان كذلك على سابقاتهما واستمرار في السياق. وفيهما قصد الإنذار مع توكيد البعث والجزاء. وما جاء في الآيتين من أقوال الكفار قد تكرر

٨١

كثيرا ومرّ منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها لأن الموافقة المماثلة كانت تتكرر وتتجدد.

(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢)) [٣١ ـ ٣٢]

(١) الساعة : في أكثر مواضع القرآن تأتي كناية عن وقت قيام القيامة وقد أوّلها المفسرون هنا كذلك أيضا. غير أن الذي يتبادر لنا والله أعلم أنها هنا بمعنى ساعة أجل المكذبين في الحياة ، لأن هذا هو الأكثر تأثيرا على السامعين الموجه إليهم الإنذار من حيث إن موعد قيام الساعة العام متأخر عنهم.

(٢) يزرون : يحملون.

الآية الأولى تقرر خسران المكذبين بلقاء الله والبعث ، وتحكي ما سوف يستشعرون به من الحسرة والندامة على ما فرطوا في حياتهم وأضاعوا الفرصة حينما تأتيهم الساعة بغتة ويلقون الله حاملين خطاياهم وآثامهم ، وبئست من حمل. والثانية تقرر بأسلوب فيه توكيد وتنديد بأن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا وأن الآخرة هي خير وأبقى للذين يتقون الله تعالى وأن هذا مما يجب أن يدركوه لو تعقلوا وترووا. وفي صيغة الاستفهام معنى التثريب والتنديد.

والآيتان معقبتان على الآيات السابقة كما هو المتبادر وفيهما تنديد وإنذار للكفار وتصوير لما سوف يحل بهم من الندامة بأسلوب آخر ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن المتبادر أن من حكمة ذكره قصد إثارة الخوف والارعواء فيهم وقد تكرر ذلك في آيات كثيرة ، مرّت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.

ويلحظ أن وصف حالة ندم الكفار يوم القيامة على ما قدموا قد تكرر في

٨٢

السياق وهذا مما يدعم قصد الإنذار وإثارة الخوف والارعواء قبل فوات الوقت ، وبالتالي قصد الإصلاح في الآيات كما هو المتبادر.

تعليق على جملة

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)

وقد يتبادر إلى الوهم أن الآية الأخيرة هي في صدد الدعوة إلى الفراغ من الدنيا ونبذها والذي يستلهم من روح الآية أن القصد هو تعظيم شأن الآخرة وتعظيم شأن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح والتقوى والاعتقاد فيها اعتقادا يجعل المرء يراقب الله في أعماله ولا يستغرق في متاع الدنيا وشهواتها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس. وتوكيد كون الحياة الدنيا بقصر أمدها وبنسبتها إلى الحياة الأخروية الخالدة هي بمثابة لعب ولهو لا يتحمل استغراقا مثل هذا الاستغراق.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)) [٣٣ ـ ٣٦]

الآيات موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبيل تثبيته وتسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له ـ من أنه مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر ـ يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها ، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء

٨٣

الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حرّ ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم ، والناس أقسام فمنهم ذوو قلوب حية ، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.

والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.

وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة ، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا : وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة ، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.

وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.

تعليق على جملة

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ)

لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال : «إنّ أبا جهل قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحن لا نكذّبك ولكنّا نكذّب بما جئت به فأنزل الله

٨٤

الآية» (١). وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له إنهم كذبوني فقال له إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلّغه الآية عن الله». والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. وهذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مرّ في سياق تفسير الآية [٢٨] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.

على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك ، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا ، والله أعلم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)) [٣٧ ـ ٣٩]

في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم : بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في

__________________

(١) روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج ج ٤ ص ٩٨.

٨٥

السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه ، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه ، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصمّ الذين لا يسمعون ، والبكم الذين لا ينطقون ، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم.

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها ، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة.

ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى ، فالكفار يتحدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولا سيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحدّ مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا.

تعليق على آية

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ

ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ)

١ ـ قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر ، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون ، وهذا وجه سديد.

٨٦

٢ ـ وقالوا ورووا في صدد جملة (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذرّ هل تدري فيم تنتطحان؟ قال : لا ، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما». وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة» وحديث غير معزو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه : «يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول كوني ترابا فتكون ترابا». وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض ، والله أعلم.

٣ ـ أما جملة (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة كل ما هو كائن حين خلقه عليه وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [٨٩] لتأييد تأويله. وقد ردّ قائلو هذا على من قال إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن

٨٧

ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها ، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات.

وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية ، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [٥٩] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [٧٥] ويونس [٧٥] وهود [٦] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سور أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا.

وفي كل ما تقدم نفي لكون (الكتاب) في الجملة قد عنى (القرآن) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها وكونها عنت (القرآن) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التمحل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء.

وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقرير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه ، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النصّ القرآني. والله تعالى أعلم.

٨٨

تعليق على جملة

(مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [آية سورة البقرة ٢٦] وإنما يضل الظالمين [آية سورة إبراهيم ٢٧] ويهدي إليه من أناب [آية سورة الرعد ٢٧] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [٧] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١)) [٤٠ ـ ٤١]

(١) الساعة : المرجح أنها هنا بمعنى الأجل والموت بالنسبة للسامعين على ما شرحناه قبل قليل. وروح الآيات هنا مؤيدة لتأويلها بذلك بقوة عند إمعان النظر فيها.

في الآية الأولى أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الكفار عما إذا كانوا يدعون غير الله حينما يحدق بهم خطر أو عذاب أو حينما يشعرون بدنو أجلهم وحلول ساعتهم إذا

٨٩

كانوا صادقين في دعواهم الإيمان به. وفي الآية الثانية تعقيب تقريري بواقع ما يفعلون وإلزامهم الحجة حيث إنهم لا يدعون فعلا إلى الله وحده ، وينسون شركاءهم في مثل هذه المواقف على اعتقاد أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر والبلاء.

والآيتان استمرار في حكاية موقف الجدل والمناظرة. وهما متصلتان بالسياق كما هو المتبادر. وفيهما تنديد وإلزام وإفحام للمشركين الذين لا يلجأون إلا إلى الله تعالى وحده في أوقات الخطر في حين أنهم يشركون معه غيره ويتصاممون عن الدعوة إليه وحده في أوقات الرخاء. وهذا الذي احتوته الآية الثانية احتوته آيات عديدة أخرى بصراحة أكثر ، مرّ مثال منها في سورة يونس [الآيات ٢٢ ـ ٢٣].

والآية الثانية قوية الصراحة في صدد بيان عقيدة المشركين في الله والشركاء كما هو المتبادر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)) [٤٢ ـ ٤٥]

(١) البأساء : البؤس وشدة الفقر.

(٢) الضراء : الأسقام والعلل.

(٣) يتضرعون : يتذللون إلى الله ليكشف البأساء والضراء عنهم.

(٤) فلو لا : بمعنى فهلّا.

(٥) مبلسون : يائسون من النجاة ، ولعلها بمعنى أنهم ضاعت عليهم فرصة النجاة.

٩٠

(٦) ظلموا : هنا بمعنى أجرموا وبغوا وتمردوا وكفروا.

في الآيات تقرير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة ، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ ، فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرّع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيّها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.

والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر ، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم وإعراضهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة ، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.

والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين ، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلّا امتحانا ربانيا.

ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه واتباع آياته وأوامره في كل حال ، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحبّ فإنما هو استدراج ثم تلا الآية» (١). وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء

__________________

(١) النص من تفسير ابن كثير.

٩١

فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله ليملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته» (١). وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن في سورتي الأعراف والقلم اللتين مرّ تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [١٨٣ و ١٨٤] في الأعراف و [٤٤ و ٤٥] في القلم.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧)) [٤٦ ـ ٤٧]

(١) نصرف الآيات : نقلب وجوه الكلام في القرآن.

(٢) يصدفون : يعرضون.

في الآيتين أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسؤال الكفار عما إذا كان غير الله يستطيع أن يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وعقولهم إذا ما طرأت عليها الطوارئ فذهبت بها ، وعما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى إذا أرسل عذابه عليهم فجأة بدون مقدمة ، أو جهرة بعد مقدمات هل يمكن أن يهلك به غير الظالمين الباغين حتى يقفوا هذا الموقف الظالم الباغي الذي فيه اغترار وطمأنينة إلى الدهر. والفقرة الثانية من الآية الأولى جاءت معقبة ومنددة ، فالله تعالى يضرب لهم الأمثال ويبيّن لهم الحقائق بأساليب متنوعة في آياته ولكنهم يعرضون عنها.

والآيتان استمرار للسياق بسبيل إنذار الكفار والتنديد بهم والتعقيب على مواقفهم المحكية كما هو المتبادر وفي السؤالين اللذين أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيههما إلى الكفار واللذين لا شك في أنه وجههما مقرعا منددا إفحام وإلزام قويان مستمدان من عقيدة المشركين التي حكتها آيات سابقة بكون الله تعالى هو المتصرف

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٦٤.

٩٢

المطلق وحده في الكون ، وهو وحده الذي يكشف الضرّ ويدفع البلاء.

وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة التي تكررت كثيرا بأن عذاب الله إنما يحيق بالظالمين بسبب ظلمهم ، أي إجرامهم وعصيانهم وبغيهم.

(وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩)) [٤٨ ـ ٤٩]

والآيتان كذلك متصلتان بالسياق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر حيث احتوتا تقريرا ربانيا بعد الآيات الإنذارية والتقريعية التي سبقتهما بأن الله تعالى إنما يرسل رسله للتبشير والإنذار ، ثم يكون الناس صنفين حسب مواقفهم منهم. فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات لهم البشرى والفوز ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يكذبون لهم العذاب جزاء ما وقع منهم من فسق وتمرد على الله.

وفي الآيات أيضا نصّ من النصوص القرآنية الحاسمة بأن رحمة الله وأمنه وعذابه إنما يكون حسب سلوك الناس من إيمان وصلاح وفسق وعصيان باختيارهم بعد أن يكونوا قد بشروا وأنذروا من قبل رسل الله تعالى.

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (٥٠)) [٥٠]

أمرت الآية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن أنه لا يزعم لنفسه أنه يملك خزائن الله أو يعلم الغيب أو أنه ملك ، وإنما هو رسول أرسله الله للتبشير والدعوة ولا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إلا وفقا لوحي الله ، وبأن يسأل الكفار سؤال استنكار وتبكيت عما إذا كان يستوي الأعمى والبصير ، وبأن يندد بهم لأنهم لا يتفكرون في الأمور.

ولقد عزا الطبري إلى مجاهد وغيره تأويل الكافر والمؤمن والضال والمهتدي

٩٣

لكلمتي الأعمى والبصير. والمقام قد يتحمل ذلك وإن كان احتمال حقيقة العمى والإبصار فيه أقوى ورودا فيما روي على سبيل التمثيل والمقارنة.

تعليق على آية

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا

أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)

والآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتوضيح كما هو المتبادر وضمير الجمع المخاطب فيها عائد إلى الكفار المشركين موضوع الآيات السابقة التي حكت مواقفهم وتحديهم ونددت بهم وأنذرتهم. وهي قوية رائعة نافذة في تقريرها طبيعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم البشرية ومهمته التبشيرية والإنذارية وفي أمرها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول إنه ليس ملكا ، وليس عالما بالغيب وليس مالكا لخزائن الله وبأن ليس له إلّا أن يقف عند حدود ما يوحى إليه به. وقد سبق تقرير ذلك وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله في سورتي الأعراف ويونس.

ولقد رأينا المفسر الخازن يقول في سياق تفسيره للآية إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما نفى عن نفسه ما نفاه تواضعا لله واعترافا بالعبودية له. وهو قول غريب ، وقد غفل المفسر عن أن ما نفاه عن نفسه هو حقيقة منبثقة من طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن مرة بعد أخرى ، وعن أن الله تعالى هو الذي أمره بقول ذلك ، وليس الكلام من النبي مباشرة. وهذا لا يمنع من القول بأن موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ولا شك رائعا أخاذا حينما نفذ أمر الله تعالى فأعلن للناس جميعهم المؤمنين منهم والمشركين على السواء ما أمر بنفيه عن نفسه.

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (٥٢)

٩٤

وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥)) [٥١ ـ ٥٥]

(١) يخافون أن يحشروا إلى ربهم : يخافون يوم حشرهم إلى ربهم.

(٢) فتكون من الظالمين : فتكون من الجائرين في عملهم.

(٣) فتنّا بعضهم ببعض : جعلنا التفاوت بينهم اختبارا لمعرفة سلوكهم إزاء بعضهم.

(٤) ولتستبين سبيل المجرمين : قرئت سبيل بالرفع وبالنصب (١). ومعنى الجملة في الحالة الأولى (ولتظهر الطريق الذي يسلكه المجرمون) ومعنى الجملة في الحالة الثانية (ولتعرف أيها النبي السبيل الذي يسلكه المجرمون).

في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي ولا شفيع ، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.

وفي الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه ، فإذا طردهم كان من الظالمين الجائرين.

وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلك من اختبار رباني. فقد كان زعماء الكفار حينما يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومنّ عليهم بهدايته. وردّ عليهم بأن

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبري.

٩٥

الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.

وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبرّ بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.

وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.

والآيات وحدة مترابطة الأجزاء ، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك ، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء ، ولتأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.

تعليق على الآية

(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ)

والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين

لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة (١) جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا هؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوه أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) الطبري أكثرهم استيعابا للروايات.

٩٦

خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي همّ بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [٥٤] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه : «كنّا مع رسول الله ستة نفر فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدّث نفسه فأنزل الله عزوجل (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ...) [٥٢] إلخ (١).

ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة من صور السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين ، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد ، ويطلبون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض الشيء ، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مرّ تفسيرها.

ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٦٥.

الجزء الرابع من التفسير الحديث* ٧

٩٧

فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [٢٨ ـ ٢٩] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ والرد فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها ، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة ، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية مواقف الكفار وتعجيزاتهم ، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.

وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلّم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة ، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه ، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب ، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح ، ويندد بمن يتبجح بعلوّ طبقته ويحتقر ما دونه.

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (٥٦) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (٥٧) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (٥٨)) [٥٦ ـ ٥٨]

(١) يقصّ الحق : قال المفسرون معنى يقص هنا يقول. وروى الطبري أن

٩٨

كلمة (يقص) قرئت (يقضي) ورأى في ذلك وجاهة أكثر لأنها تتسق بذلك مع الجملة التالية لها.

(٢) الفاصلين : من الفصل بمعنى القضاء بين الناس.

(٣) الظالمين : هنا بمعنى الطاغين المنحرفين المجرمين.

في الآيات أمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من اتباع أهوائهم ، لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربّه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم ، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم ، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين ، وهو الأعلم بالظالمين الباغين.

والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار من حجاج ونقاش.

ومن المحتمل أن تكون جملة (لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ) ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة ، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مرّ بعضها منها في آيات سورة الإسراء [٧٣ ـ ٧٤] وآيات سورة القلم [٩ ـ ١٠] أما جملة (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به وكان الكفار يتحدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مرّ بعضها ، مثل آيات سورة يونس [٤٨ ـ ٥٠] وآية سورة هود [٨] وآيات سورة الشعراء [٢٠٢ ـ ٢٠٨].

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه : «إنها قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد ، فقال : لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل

٩٩

ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه‌السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم عليّ ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا». وقال ابن كثير إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.

وينطوي في الحديث أولا : مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتسكينه وتطمينه. وثانيا : حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. وثالثا : صورة من صدق عاطفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.

أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا ، فرد أقبح ردّ ورشق حتى أدمي. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها ، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (٦١) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ

١٠٠