التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

تعليق على الآية

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)

والآيات الخمس التالية لها

ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الأولى روايات تفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظل مستخفيا حتى نزلت ، فخرج هو وأصحابه وهذه الروايات لم ترد في كتب الصحاح. ولقد استدللنا من نصوص السور المبكرة في النزول على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهر بالدعوة منذ نزول الوحي عليه وظل على ذلك دون انقطاع. وكل ما يمكن أن يصح هو أنه كان يلتزم جانب الحذر في الاجتماع والصلاة بأصحابه حماية لهم على ما شرحناه في سياق سورتي العلق والمزمل وقد يكون الاستخفاء الذي ترويه الروايات هو هذا.

ولقد روى الطبري وغيره في سياق الآية الثانية أن خمسة من ذوي الأسنان والشرف في قريش كانوا أكثر المستهزئين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع اختلاف في أسمائهم فلما تمادوا دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآية. وصار النبي بعدها يومىء على واحد منهم بعد الآخر فلا تلبث أن تصيبه نازلة فتقتله. وفي رواية إن جبريل نزل فأخذ النبي يشير إليهم واحد بعد آخر فيقول له كفيته ثم يصاب بنازلة فتقتله. وفي رواية إن الآية نزلت لتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشيره ثم كانوا من هلكى بدر فتحققت البشرى.

والروايات لم ترد في الصحاح وقد تكون الأسماء التي ذكرت فيها ممن كانوا أشد أذى ومناوأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غيرهم. ولكن روح الآيتين ومقامهما يلهمان أنهما جزء من السياق السابق ، وإنهما بسبيل تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبث القوة والجرأة في نفسه مع بشرى من الله عزوجل بأنه كافيه وحاميه وعاصمه من المستهزئين بصورة عامة. وهي قوية رائعة في تلقينها وتطمينها وفي الخطة الحكيمة التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بترسمها إزاء موقف الكفار وعنادهم. وجاءت خاتمة قوية للسورة التي احتوت فصولا في مواقف الكفار وأقوالهم وإنذارهم وطابع الختام بارز عليهما كما هو المتبادر. ولقد تحققت بشرى الله عزوجل لرسوله بأنه قد كفاه المستهزئين وعصمه

٦١

منهم فكانت معجزة من معجزات القرآن. وذلك بما كان من عدم قدرتهم عليه رغم مؤامراتهم ، وثم بما كان من انتصاره عليهم وهزيمة الشرك الساحقة وهلاك معظم رؤساء المستهزئين والمناوئين ودخول الناس في الله أفواجا ، ثم في سلامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المكر والكيد والمؤامرات التي عمد أولئك الرؤساء إليها ضده والتي حكاها القرآن في آية سورة الأنفال هذه : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)).

ونقف عند جملة (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) لنقول إنها كما قلنا بسبيل تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الظرف الذي نزلت فيه وينبغي أخذها على هذا الاعتبار لا على اعتبار أمر الله لنبيه بإهمال المشركين وتجاوزهم. فدعوة المشركين إلى الله من مهمة النبي الأصلية. والقرآن واصل أوامره للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمواصلة الجهد في سبيل هذه المهمة. والنبي ظل يواصلها فعلا والأمر (فَاصْدَعْ) ينطوي على وجوب هذه المواصلة بحيث يكون معنى (وَأَعْرِضْ) في مقامها (لا تأبه بمناوأتهم) وقد تكرر مثل هذا في المواقف المماثلة ومرت أمثلة منه في السور التي سبق تفسيرها. وبعضهم يرى أن الجملة ترك المشركين وشأنهم وأنها نسخت بآيات القتال في العهد المدني ، وقد يصدق النسخ بالنسبة لمن وقف وظل يقف من الإسلام والمسلمين موقف الأذى والعدوان ، وهذا ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة أيضا.

٦٢

سورة الأنعام

في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار من مناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من همّ وغمّ من جرّائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على مواقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي يقومون بها. واستشهاد بالذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصلة القرآن بالله وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة الله تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه. وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح ، وحجاج في صددها بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين الكفار وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء.

والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة ، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عباس قال : «نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح» وعن أسماء بنت يزيد قالت : «نزلت سورة الأنعام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة». وليس شيء من هذه الأحاديث واردا في كتب الصحاح بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة

٦٣

متلاحقة وهذا يلهم بحد ذاته أن تكون نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.

والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [٢٠ و ٢٢ و ٩١ و ٩٣ و ١١٤ و ١٤١ و ١٥٢ و ١٥٣] مدنيات. وروى البغوي عن ابن عباس أن الآيات [٩١ و ٩٢ و ٩٣ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣] مدنيات. وسياق هذه الآيات وفحواها وانسجامها مع ما قبلها وبعدها على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها يسوغ الشك في هذه الروايات وترجيح مكية الآيات والله أعلم.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (٣) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٥) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦)) [١ ـ ٦]

(١) يعدلون : يساوون أو يجعلون لله تعالى معادلين ومساوين وهم شركاؤهم.

(٢) ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده : معظم المفسرين على أن الأجل الأول هو فترة الحياة الأولى إلى الموت والأجل الثاني هو موعد بعث الله الأموات للحساب الأخروي.

معاني الآيات واضحة وقد احتوت تنديدا بالكفار المشركين لتسويتهم بين الله تعالى وشركائهم ومماراتهم في البعث ، وإعراضهم عما يأتيهم من ربهم مع أنه هو الذي خلقهم وهو رب السموات والأرض يعلم سرهم وجهرهم وما يكسبون ؛

٦٤

وجعل لهم أجلا في الحياة ثم أجلا للبعث والحساب. ثم أنذرتهم بأنهم سوف يرون تحقيق ما أوعدوا به جزاء استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها ، وذكرتهم بالأمم التي من قبلهم والتي أهلكها الله لمثل ذلك السبب وكانت أقوى منهم قوة وتمكينا.

والآيات مقدمة استهلالية بين يدي حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار ، وروحها تلهم أن الكفار كانوا يعترفون بالله وكونه صاحب الأمر في الكون ، وأنهم كانوا يعرفون خبر الأمم السابقة التي أهلكها الله لمواقفهم من رسله وآياته ، وبهذا وذاك تبدو قوة الحجة والإلزام في الآيات وهذا وذاك مما قررته آيات وفصول قرآنية كثيرة مرت أمثلة عديدة منها.

ولقد قال بعض المؤولين على ما رواه البغوي إن جملة (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) تعني الكفر والإيمان غير أن الجمهور على أنها تعني الليل والنهار وهو الأوجه المتساوق مع روح الآيات هنا وفي مكان آخر. وإن كان القرآن استعمل في آيات أخرى هذه الجملة لذلك المعنى كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [١] وتكرر هذا في غير سورة.

والمؤولون يصرفون تعبير (خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) إلى خلقه آدم الأول الذي ذكر بأنه خلقه من طين ومن تراب في آيات عديدة أخرى مرّ بعضها في السور التي سبق تفسيرها. غير أن ورود التعبير بضمير الجمع المخاطب لا بد له من حكمة وقد يكون من ذلك تذكير السامعين من بني آدم بأصل خلقتهم وقدرة على خلقهم وبعثهم ثانية حين ينقضي الأجل المعلوم.

(وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)) [٧]

(١) قرطاس : الورق أو ما يقوم مقامه للكتابة من مواد مصنوعة. وجملة

٦٥

(كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) تعني قرطاسا مكتوبا عليه كتابة.

في الآية وصف لشدة عناد الكفار وتكذيبهم حتى لو أنزل الله تعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرطاسا عليه كتابة فلمسوه بأيديهم لقالوا إن هذا سحر وليس حقيقة.

ولقد روى بعض المفسرين (١) أن الآية نزلت جوابا لتحدي بعض زعماء الكفار حيث قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم لن يؤمنوا حتى ينزل عليه كتاب في قرطاس ومعه أربعة من الملائكة يشهدون على صحة صدوره من الله وعلى صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والرواية لم ترد في الصحاح ولكن القرآن حكى مثل هذا التحدي عن زعماء كفار قريش في سورتي المدثر والإسراء. حيث جاء في الأولى هذه الآية : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢)) وحيث جاء في الثانية : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [٩٣] والذي يتبادر لنا من نظم الآية وعطفها على ما سبقها أنها جاءت مع الآيات السابقة واللاحقة لها سياقا واحدا بسبيل تصوير كون مواقف ومطالب الكفار هي عنادا وليست رغبة في القناعة عن حسن نية. وهذا لا يمنع أن يكون انطوى في الآية جواب على تحدّ وقع من الكفار في ظروف نزولها. ويكون الجواب في هذه الحالة من نوع الأجوبة السلبية التي تكررت في القرآن واقتضتها حكمة الله بعدم الاستجابة لتحدي الكفار كلما طالبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

تعليق على كلمة «قرطاس»

وبمناسبة ورود كلمة قرطاس لأول مرة نقول إن من المفسرين من قال إنه الورق ومن قال إنه الصحيفة ومن قال إنه الكاغد (٢). وقد وردت الكلمة في القرآن

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي والخازن والبغوي.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير مثلا.

٦٦

مرة أخرى بصيغة قراطيس في إحدى آيات هذه السورة بمعنى الصحف أو أوراق الصحف.

وعلى كل حال فالمتبادر أنه مادة ملساء خاصة بالكتابة ولعله الورق الحريري الذي يقال له البارشمن والذي روي أنه كان مستعملا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البلاد المتحضرة. أو لعله الورق المصري المصنوع من البردي والمسمى بالبابيروس. وورود الكلمة في القرآن يدل على أن الورق أو ما يمكن أن يوصف بهذا الوصف كمادة يكتب عليها مما كان معروفا ومستعملا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته قبل نزول القرآن.

ولقد روت الروايات أنه كان يكتب في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حياته ممتدا إلى ما قبله على الرق المتخذ من جلد الأنعام وعلى أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج. وقد يكون هذا صحيحا ، غير أن أسلوب الآية وعدم ورود ذكر لغير القرطاس والرق (١) في القرآن كمادة للكتابة قد يدل على أن الكتابة على هاتين المادتين هي المألوف الذي لا يرد على البال غيره. ولما كان القرطاس قد تكرر ذكره في القرآن وجاء في صيغة جمع كما قلنا آنفا فيكون هو المألوف في الدرجة الأولى. ويكون ما استقر في الأذهان من بدائية أهل عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته وكون أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج هي مادة الكتابة عندهم مبالغا فيه كثيرا.

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (٩)) [٨ ـ ٩]

(١) وللبسنا عليهم ما يلبسون : أوجه التأويلات لهذه الجملة أنها بمعنى

__________________

(١) الرق هو ما يتخذ من جلود الأنعام وجمعه رقوق. وقد ورد ذكره كشيء يكتب عليه في آيات سورة الطور هذه : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣)).

٦٧

(التبس عليهم الأمر فألبسهم الله ما ألبسوه لأنفسهم من الشك في كون رسل الله إليهم بشرا مثلهم).

تعليق على طلب

«الكفار استنزال الملائكة وردّ القرآن عليهم»

في الآيات حكاية تحدّ للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ملك يؤيد صلته بالله. وردّ عليهم أولا : بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم ، وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير. وثانيا : بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل ، وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته. ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك.

ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى. ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحدّ من بعض الكفار. وحيث يسوغ هذا أن يقال إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحدّ وجدل وجاهي والرد عليه. وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف ، على أن احتمال كون الآيات استمرارا للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحدّ قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم.

ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة مباشرة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها. حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان

٦٨

العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه.

والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل وهناك آيات تفيد أن سنّة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه. ومن ذلك ما تفيده آيات [٦٨ ـ ٨٠] من سورة هود والآية [١٧] من سورة مريم.

وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل وأن جبريل جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل ، والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد.

ولقد علل المفسرون والمؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر. والله أعلم.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)) [١٠ ـ ١١].

جاءت الآيتان معقبتين على سابقاتهما وبسبيل تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنذار الكفار

٦٩

حيث قررتا أن ما يفعله هؤلاء قد فعلته الأمم السابقة مع رسلهم وقد حاق بهم شر ذلك. وعلى الكفار أن يسيروا في الأرض ليروا آثار بلاء الله تعالى وتدميره وكيف كانت عاقبة المكذبين وليتعظوا بذلك ، وهناك آيات عديدة مر بعضها في سور سبق تفسيرها تذكر أن من سامعي القرآن من زار أماكن الأقوام السابقين ورأوا آيات تدمير الله فيها مثل آيات الفرقان [٤٠] والصافات [١٣٣ ـ ١٣٨] والعنكبوت [٣٨] حيث يبدو أن الأمر بالسير ورؤية آثار بلاء الله في الأقوام السابقة هو من قبل الإلزام والإفحام.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣)) [١٢ ـ ١٣]

في الآيتين توكيد بأسلوب السؤال التقريري بأن كل ما في السموات والأرض هو لله وهو المتصرف المطلق في كل ما تحرك وسكن في الليل والنهار وأن رحمته قضت أن يجمع الناس جميعا إلى يوم القيامة وأنه ليس في هذا أي مجال للريب ، وهناك يرى الذين لا يؤمنون أنهم هم الذين خسروا وأضاعوا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.

هذا ومن المفسرين والمؤولين من قال إن جملة (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [١٢] هي في مقام قسم رباني جوابه في الجملة التي بعدها. ومنهم من تبادر له من الجملتين أن من الرحمة التي كتبها الله على نفسه أن أمهل الكفار وأمدّ لهم في الدنيا لعلهم يغنمون الفرصة ويدينوا بدين الحق. وأن منها حكمته التي اقتضت البعث والحساب الأخرويين لينال أهل الدنيا جزاء أعمالهم خيرا كانت أم شرا ، ولا تحتمل التأويلات من الوجاهة.

ولقد أورد المفسرون في سياق جملة (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) الأعراف : [١٥٦] أحاديث نبوية في مدى رحمة الله تعالى. وقد أوردنا هذه

٧٠

الأحاديث في سياق جملة (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) في سورة الأعراف الآية [١٥٦] فنكتفي بهذا التنبيه مع التنبيه على أن جملة آية الأعراف أوسع شمولا ومدى منها هنا كما هو المتبادر والله أعلم.

(قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦)) [١٤ ـ ١٦]

معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين.

ولقد روى بعض المفسرين (١) أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلّا الفقر ونحن نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا.

ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨)) [١٧ ـ ١٨]

(١) القاهر فوق عباده : الجملة بمعنى صاحب القدرة والسيطرة على عباده.

__________________

(١) انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي.

٧١

والآيات استمرار كذلك في السياق وتعقيب عليه كما هو المتبادر ، ومعانيها واضحة. وكأنما أريد أن يقال للكفار في هذه الآيات وسابقاتها بسبيل الرد والتنديد إنكم إذا كنتم تتخذون أولياء غير الله ظنا منكم بأنهم يمكنهم أن يكشفوا عنكم ضرا أو يجلبوا لكم نفعا فإنكم في ضلال. فلن يملك ذلك إلّا الله تعالى الذي فطر السموات والأرض. والذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل الناس ولا يستحق العبادة والاتجاه وإسلام النفس إلّا هو وحده الذي له القدرة والسيطرة على كل عباده والذي لا يقضي إلّا بما فيه الحكمة الخبير بكل شأن وأمر.

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩)) [١٩]

في الآية أوامر ربانية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأمره بأن يسأل عمن هو أعظم شهادة وأن يقرر أنه هو الله تعالى وأن يعلن أنه يجعل الله شهيدا بينه وبين الذين يتجادل معهم على أن الله هو الذي أوحى إليه بالقرآن لينذر به الناس السامعين ومن يبلغه خير هذا الإنذار من الغائبين ، وبأن يعلن إذا أصرّ المشركون على إشراك آلهة أخرى مع الله أنه بريء مما يشركون وأنه لا يشهد إلّا بأن الله واحد لا شريك له.

وقد روى البغوي والطبرسي أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اذكر لنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم فإننا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فنزلت الآية ردا عليهم.

وروى الطبري أن بعض أشخاص من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له ما تعلم مع الله إلها غيره. فقال لا إله إلا الله. بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو. فأنزل الله هذه الآية مع التي بعدها. ورواية الطبري تقتضي أن تكون الآية مدينة. وليس هناك رواية بذلك باستثناء الآية [٢٠] على ما ذكرناه في مقدمة السورة. وفحوى الآية أنها في صدد جدال مع المشركين. وفي الآية [٢٠] تأييد دعوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يعقل

٧٢

أن تكون نزلت للرد على اليهود الذين آذنت أنهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يعرفون أبناءهم بصفتهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) البقرة : [١٤٦] وهذا وذاك يسوغ الشك في رواية الطبري ، أما الرواية الأولى فإن شطرها الثاني مناقض للآية [٢٠] كما هو واضح.

والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية أنها استمرار في السياق وأن ضمير الجمع المخاطب الذي يعود إلى الكفار على الأرجح يربط بينها وبين موقف الجدل الوجاهي الذي حكته الآيات السابقة ثم أخذت ترد عليه ردا بعد رد منددة ومنذرة ومقرعة ومذكرة.

تعليق على الآية

(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً) ... إلخ

وأسلوب الآية نافذ إلى الأعماق في صدد الدعوة إلى الله وحده. والجملة على أي مظهر من مظاهر الشرك ثم في جعل الله شهيدا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقول إلا الحق ولا يبلغ إلّا الصدق. وأن القرآن هو من وحي الله وجملة (وَمَنْ بَلَغَ) تتضمن عموم الدعوة المحمدية وخلودها وشمولها لكل ظرف ومكان وجنس ونحلة كما هو المتبادر.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية وردت صيغ مقاربة لها في كتب الصحاح. منها حديث رواه الشيخان عن أبي بكرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليبلغ الشاهد الغائب فإنّ الشاهد عسى أن يبلّغ من هو أوعى له منه» (١). وحديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بلّغوا عنّي ولو آية» (٢). وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نضّر الله امرأ سمع منا شيئا فبلّغه كما سمع فربّ مبلّغ أوعى من سامع» (٣).

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٥٨ ـ ٦٠.

(٢) التاج ج ١ ص ٥٨ ـ ٦٠.

(٣) التاج ج ١ ص ٥٨ ـ ٦٠.

٧٣

وينطوي في الأحاديث إيجاب نبوي صريح على كل مسلم في كل زمن ومكان تبليغ شيء مما يعرف من آيات الله وأحاديث رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأي كان لا يعرف ذلك. سواء أكان مسلما أم غير مسلم ، فكأنما حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا ما أمر به في الآية من إنذار السامعين بالقرآن ومن يبلغه خبره من غيرهم على المسلمين استمرارا لتحقيق أمر الله تعالى له. وهذا يعني واجب الدعوة إلى الإسلام على كل مسلم في كل زمن ومكان. والمتبادر أن هذا الواجب أشد إيجابا على القادرين عليه علما وسلطانا واستطاعة. وبالدرجة الأولى على أولياء أمر المسلمين الذين هم خلفاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المسلمين والإسلام. فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله مبشرا وداعيا ونذيرا لجميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ونحلهم وأمر المسلمين أن يجعلوه أسوة وأن يستمروا على نهجه ولا ينقلبوا على أعقابهم بعده كما جاء في آية سورة آل عمران هذه : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [١٤٤] وكما جاء في آية سورة الأحزاب هذه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [٢١] فصار واجب التبليغ والدعوة واجبا لازما على كل مسلم وكل بحسب قدرته واستطاعته. مع شرط مهم هو أن يكون الصدق والإخلاص رائدهم في كل ما يبلغونه وأن يتحروا في ذلك أشد التحري وأن لا يكون فيه كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه حيث جاء في حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو : «ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (١). وفي القرآن آيات عديدة فيها إنذار رهيب لمن يكذب على الله تعالى منها آية سورة الأعراف [٢٧] التي سبق تفسيرها ومنها آية الزمر هذه : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)).

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٥٨.

٧٤

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)) [٢٠]

في الآية تقرير رباني بأن الكتابيين يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق دعوته وصحة وحي الله إليه بالقرآن معرفة يقين كما يعرفون أبناءهم. وبأن الذين لا يؤمنون بذلك هم الذين خسروا أنفسهم وأشقوها بعنادهم ومكابرتهم.

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدينة ولقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم في المدينة إن الله قد أنزل على نبيه هذه الآية. وسأله كيف هذه المعرفة. فقال له عرفته حين رأيته كما أعرف ابني هذا وإني أشهد أنه رسول الله حقا. ولقد توقفنا في رواية مدنية الآية مع غيرها مما ذكر أنها مدنيات في تعريف السورة لانسجامها مع السياق. وقد تكون رواية مدينة هذه الآية ملتبسة بهذه الرواية. وإنه ليتبادر لنا بقوة أنها متصلة بالسياق وبخاصة بالآية السابقة لها مباشرة اتصال تدعيم. فقد جعلت الآية السابقة لها الله تعالى شهيدا على صدق وحي الله بالقرآن وجاءت هذه الآية لتقرر ذلك بطريق إشهاد أهل الكتاب. ولعل فيها ردا على ما روته الرواية التي أوردناها من قبل ، التي ذكرت أن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم سألوا عنه اليهود والنصارى فأنكروه.

تعليق على جملة

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ)

والآية تتضمن تقريرا يقينيا بأن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معرفة يقينية كما يعرفون أبناءهم. وينطوي فيها تقرير كونهم يعرفون صدق دعوته وصحة الوحي القرآني. وكان هذا يتلى علنا ، فلا بد من أنه كان مستندا إلى مشاهد ووقائع ثابتة لا تدحض.

ولقد كان ذلك فعلا وهو ما حكته آية سورة الأعراف [١٥٧] وآيات سورة

٧٥

القصص [٥٢ و ٥٣] وآيات سورة الإسراء [١٠٧ ـ ١٠٩] التي سبق تفسيرها من مشاهد قوية صريحة.

وفي سور مكية أخرى تسجيل لذلك منها الآية [١٠] من سورة الأحقاف والآية [٤٧] من سورة العنكبوت والآية [٣٦] من سورة الرعد.

وفي سور مدنية تسجيلات أخرى من ذلك في آيات البقرة [١٢١ ، ١٤٦] وآل عمران [١١٢ ـ ١١٤ و ١٩٩] والنساء [٥٥] والمائدة [٨٢ و ٨٣] التي أوردناها في سياق تفسير آية الأعراف المذكورة.

وفي هذه السورة آية تذكر أن الذين أوتوا الكتاب يعرفون أن القرآن منزّل من الله بالحق.

وإذا كان القرآن المدني قد سجل حقا مواقف مناوئة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته من طوائف من أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم مما تضمنته سلسلة آيات البقرة [٤٠] وما بعدها إلى الآية [١٧٥] وآيات آل عمران [١٩ ـ ٢٥ و ٦٤ ـ ١٢٠] والنساء [٤٣ ـ ٥٦ و ١٥٠] والمائدة [٤٥ ـ ٨٦] والتوبة [٢٩ ـ ٣٥] والجمعة [٥ ـ ٨] ففي سياق التسجيل تقريرات بأن موقفهم هذا آت من الغيظ والحسد والرغبة في كنز الذهب والفضة وأكل الأموال بالباطل مع علمهم في قرارة أنفسهم بصحة نبوة النبي والوحي القرآني كما يظهر لمن يقرأ هذه الآيات.

ومن الجدير بالذكر أنه ليس في القرآن المكي ذكر لمواقف مناوئة من أهل الكتاب حيث يدل هذا على أنهم استجابوا للدعوة التي عرفوا أنها الحق وانضووا إليها ، حيث ينطوي في هذا شهادة عيانية خالدة من أهل الكتاب بصدق وحي الله بالقرآن وبصدق الرسالة المحمدية وإيمانهم بهما حينما يرتفع قوله عن كل منفعة مادية وحقد وحسد وأنانية ومكابرة ويرغبون في الحق والهدى كما كان شأن الجماعة التي كانت في مكة التي كانت متنوعة الجنسيات وفيهم أولو العلم والاطلاع. وحجة خالدة على مدى الدهر على كل من يقف موقف الجاحد المعطل من القرآن والرسالة المحمدية.

٧٦

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١))

[٢١].

(١) ومن أظلم : ومن أشد جرما وبغيا.

الآية استمرار في السياق كما هو المتبادر ، وقد قال بعض المفسرين (١) في تأويل جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) إنها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن تقوّل على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله) ومعظم المفسرين (٢) أولوها بمعنى (ليس أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أن له شركاء) وكلا التأويلين وجيه ومتسق مع السياق. وفي حال الأخذ بالتأويل الأول تكون الجملة بمثابة تعقيب وتدعيم لجملة إشهاد الله على صحة الوحي القرآني الواردة في الآية [١٩] بأسلوب قوي رائع. وفي حال الأخذ بالتأويل الثاني تكون الجملة بمثابة تعقيب على أمر الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدم مجاراة المشركين في شهادتهم بأن مع الله آلهة أخرى وبإعلان براءته مما يشركون وهذا كذلك مما ورد في الآية المذكورة أيضا.

ولعل الآيات التالية لهذه الآية ترجح التأويل الثاني الذي قال به معظم المفسرين.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)) [٢٢ ـ ٢٤]

(١) ثم لم تكن فتنتهم : بعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم تكن عاقبة فتنتهم)

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا.

٧٧

وبعضهم أوّلها بمعنى (ثم لم يكن اعتذارهم) وكلا التأويلين وجيه.

(٢) كذبوا على أنفسهم : بمعنى خدعوا أنفسهم.

(٣) ضل عنهم : غاب عنهم شركاؤهم الذين أشركوهم مع الله افتراء عليه.

في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة ، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا ، ويغيب عنهم الشركاء الذين أفتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء.

والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى (الظالمين) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته.

وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته.

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [٢٣] مدينة مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥)) [٢٥]

(١) وقرا : صمما.

في الآية إشارة إلى موقف من مواقف المناظرة التي كانت تحدث بين

٧٨

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار حيث كانوا يستمعون إليه حينما يتلو القرآن فلا ينفذون إلى ما فيه من علوية وروحانية عنادا ومكابرة ولا يجدون ما يقولونه إلّا أنه أساطير الأولين وقصصهم وكتبهم.

وقد أورد المفسرون (١) في سياقها رواية جاء فيها أن أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن الحارث وآخرين من زعماء المشركين كانوا يستمعون القرآن فقالوا للنضر : ما يقول محمد؟ قال : ما أدري إلّا أني أراه يحرّك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم ، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقا ، فقال أبو جهل : كلا ، كلا إن الموت أهون علينا من أن نقرّ بذلك (٢).

وضمير (منهم) وعطف الجملة على ما سبقها يدلان على أن الآية من سلسلة السياق. ولم تنزل لحدتها فصلا مستقلا ، وهذا لا يمنع أن يكون قد حدث ما ذكرته الرواية فأشير إليه في الآية.

تعليق على جملة

(وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً)

وجملة (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) معترضة أو استطرادية. ويتبادر أنها بسبيل تصوير شدة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان والتصديق مهما رأوا من آيات الله. وقد تكرر مثل هذا التعبير في مثل هذه المناسبة. ومن ذلك آيات سورة الإسراء [٤٥ ـ ٤٦] التي مرّ تفسيرها وعلّقنا عليها بما فيه الكفاية وما قلناه هناك ينسحب على هذه الآية بما في ذلك ما لمحناه من قصد التسجيل لواقع الكفار حين نزولها. ويتبادر لنا أنه قصد بالعبارة هنا بخاصة تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهوين عناد الكفار ومواقفهم عليه. والأسلوب الاستطرادي مما يؤيد ذلك.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي والطبرسي.

(٢) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير لهذه الآيات.

٧٩

(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦)) [٢٦]

قال المفسرون (١) في تأويل الآية إن زعماء المشركين كانوا ينأون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن القرآن فلا يؤمنون به وينهون غيرهم عن الإيمان به فجمعوا بذلك بين القبيحين. وهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم دون أن يشعروا. ورووا مع ذلك (٢) أن الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان يدافع عنه ولا يؤمن به في الوقت نفسه.

وقد صوب الضحاك وقتادة ومجاهد والطبري التأويل الأول وهو ما نراه الأوجه ، ولا سيما إذا لوحظ أن الآية جاءت في سياق تعنيف زعماء الكفار على مواقف عنادهم ومكابرتهم ثم في سياق جدلهم في القرآن. وليس في السياق مجال للاستطراد إلى وصف موقف عمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والآية بعد معطوفة على ما قبلها وليست فصلا مستقلا. والآيات التالية لها هي استمرار في السياق أيضا. أما الشطر الثاني من الآية فقد جاء بمثابة تعقيب على ما حكاه شطرها الأول حيث قرر أن ما يفعله الكفار إنما يضرون به أنفسهم ويهلكونها به دون أن يشعروا ويدروا.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨)) [٢٧ ـ ٢٨]

الآيتان معطوفتان على الآية السابقة في صدد الإشارة إلى مواقف الكفار وإنذارهم والضمير فيها راجع إليهم. وقد حكت الآية الأولى ما سوف يشعرون به من الندم على هذه المواقف حينما يقفون على النار يوم القيامة ويتيقنون من مصيرهم الرهيب فيها فيأخذون يتمنون العودة إلى الدنيا فلا يكذبون بآيات الله ويكونون من المؤمنين برسله. وقد احتوت الآية الثانية تنديدا وتبكيتا للكفار ثم

__________________

(١) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.

(٢) انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.

٨٠