التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

(وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤)) [٦٣ ـ ٦٤]

في الآيات تقرير بما كان من أمر رسالة عيسى عليه‌السلام ، فإنه قال لقومه حينما بعثه الله بالبينات : إني جئتكم بالحكمة ولأبين لكم الصواب في بعض ما أنتم فيه مختلفون ، ودعاهم إلى تقوى الله واتباعه ، وإلى طاعته فيما يأمرهم به وينهاهم عنه مما هو من حكمة الله وبيناته التي جاءهم بها ، وقرّر لهم أن الله ربّه وربّهم ، وحثّهم على عبادته وحده ، وبيّن لهم أن هذا هو الصراط المستقيم الذي يجب عليهم السير فيه.

تعليق على

رسالة عيسى عليه‌السلام

لقومه وشخصيته وأقواله

والآيات كذلك متصلة بالسياق ، وفيها تتمة للرد الذي تضمنته الآيات [٥٧ ـ ٥٩] كما هو المتبادر من حيث تقرير حقيقة شخصية عيسى وعبوديته لله تعالى ومدى رسالته. فعيسى لم يدّع الألوهية ولم ينسب نفسه إلى الله تعالى ابنا حقيقيا منفردا كنسبة الابن إلى الأب الطبيعية حتى تصحّ حجة المشركين واعتراضهم ، وإنما هو عبد الله ونبي من أنبيائه وقد دعا إلى عبادة الله وحده مقررا أنه ربّه وربّ الناس أجمعين.

وعلى هذا الشرح تكون الآيات الثلاث السابقة لهذه الآيات قد جاءت اعتراضية واستطرادية لتقرير قدرة الله تعالى ودعوة الناس إلى السير في الطريق القويم وعدم المماراة في الساعة وعدم اتباع الشيطان والتحذير من عداوته لهم.

ولقد احتوت الأناجيل الأربعة المتداولة والمعترف بها من النصارى أقوالا كثيرة لعيسى عليه‌السلام فيها صراحة حاسمة بأنه مرسل من قبل الله وبأنه ابن البشر

٥٢١

وبأن العبادة يجب أن تكون لله وحده وبأن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا مما فيه تقرير بربوبية الله الشاملة وامتناع الدلالة على قصد تقرير أبوة وبنوة طبيعيتين بينه وبين الله. وفيها انتقادات شديدة لما كان عليه بنو إسرائيل وبخاصة رجال دينهم من انحرافات دينية وخلقية واجتماعية مخالفة لشرائع موسى وجوهرها ودعوة إلى تصحيح سلوكهم بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة. وفيها تبشير بالمبادىء السامية الإيمانية والاجتماعية والأخلاقية بعبارات صريحة وبالأمثال الرائعة الحكيمة لذلك مما هو متسق مع ما احتواه القرآن والآيات التي نحن في صددها بصورة خاصة. ولقد أوردنا طائفة من نصوص الأناجيل في سياق سورة مريم فيها حكاية لأقوال عيسى عليه‌السلام بكونه مرسلا من قبل الله وإنه ابن البشر وإن العبادة يجب أن تكون لله وحده وإن الذي أرسله هو أبوه وأبو الناس جميعا وإنه لا صالح إلّا الله وحده مما له صلة بمحتوى الآيات التي نحن في صددها في شخصيته. فلم نر ضرورة للإعادة والتكرار. أما الانتقادات والأمثال والحكم والمبادئ والتعليمات التي صدرت عن عيسى عليه‌السلام مما عبرت عنه الآية : (قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) فهي كثيرة جدا ومبثوثة في جميع الأناجيل وسهلة التناول على من أراد لكثرتها ولذلك لم نر ضرورة إلى إيراد نصوص منها.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧)) [٦٥ ـ ٦٧]

(١) الذين ظلموا : بمعنى الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى.

(٢) الساعة : المتبادر أنها هنا بمعنى الأجل.

(٣) الأخلاء : جمع خليل ، وهو الصديق الوفي.

٥٢٢

جاءت الآيات معقبة على ما سبقها لتقرر أن ما كان من اختلاف الناس فيما بينهم إنما كان انحرافا وبغيا منهم ، ولتنذر الذين انحرفوا عن طريق الحق والهدى بعذاب شديد في يوم من الأيام ، ولتتساءل تساؤل المنكر المندد عما إذا كانوا ينتظرون حلول آجالهم حتى يتبعوا الحق الذي ظهر ، مع أن آجالهم لا تحل إلّا بغتة فتكون الفرصة المواتية لهم قد فاتت وصاروا إلى اليوم الموعود الذي ينقلب الأصدقاء فيه إلى أعداء ، وينشغل كل بنفسه ولا ينجو من المصير الرهيب إلّا الذين اتقوا الله واتبعوا طريقه.

والمتبادر أن اختلاف الأحزاب الذي أشارت إليه الآية الأولى هو اختلاف الناس في أمر عيسى ، وأن ما احتوته الآيات بعد ذلك هو استطراد فيه حثّ على التعجيل بالاعتراف بالحق واتباعه ، وإنذار للمهملين المنحرفين ، وتنويه وتطمين للمتقين الذين ساروا في طريق الحق.

ولقد شرحنا في سياق تفسير سورة مريم الاختلافات الكثيرة العجيبة التي كان النصارى عليها في أمر عيسى عليه‌السلام فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة.

(يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)) [٦٨ ـ ٧٣]

(١) تحبرون : من الحبور وهو السرور بما يتنعمون به.

في الآيات وصف لما سوف يلقاه المتقون الذين استثنوا في آخر الآية السابقة : فسوف يخاطب الله تعالى الذين آمنوا بآياته وأسلموا نفوسهم إليه

٥٢٣

وأخلصوا دينهم له وحده فيطمئنهم بأنهم لن يروا ما يبعث فيهم خوفا ولا حزنا. ويأمرهم بدخول الجنة مع أزواجهم وأمثالهم حيث يسرّون كل السرور ويطاف عليهم بأطباق الذهب وأكواب الذهب ويتمتعون بكل ما تشتهيه النفس وتلذ العين من المآكل والمشارب والفواكه والمشاهد ووسائل الراحة والسرور. ويقال لهم إنكم خالدون في هذا النعيم وقد استحققتموه بما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال.

والآيات متصلة بسابقاتها كما هو ظاهر ، والوصف الذي احتوته أخّاذ قوي الإغراء ، وقد استهدف فيما استهدفه حمل الناس على الاستجابة للدعوة لضمان هذا المصير السعيد لأنفسهم وتبشير المؤمنين المستجيبين وتبشيرهم.

ولقد روى مسلم والترمذي عن أبي سعيد حديثا جاء فيه : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ينادي مناد إنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا ، فذلك قوله تعالى (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢))» (١).

حيث ينطوي في الحديث توضيح تشويقي للآيات.

تعليق على صحاف الذهب

وأكواب الذهب

ولقد قلنا قبل : إن حكمة التنزيل اقتضت أن تكون أوصاف النعيم والعذاب الأخرويين مستمدة من مألوفات الناس في الدنيا للتقريب والتأثير مع ما ينطوي في ذلك من حقيقة إيمانية. ولقد ذكرت هنا صحاف الذهب وأكواب الذهب كآنية للطعام والشراب ، وذكر في سورة فاطر أن المؤمنين يحلون من أساور من ذهب

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠٥.

٥٢٤

ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير. وفي سورة الواقعة وصف مطنب لمجالس الشراب والطعام وأوانيها وخدمها ، ومثل ذلك في سورة الصافات ومثل هذا في سور أخرى لم يأت دور تفسيرها. فكلّ هذا مما يسوغ القول إن بعض سامعي القرآن من الأغنياء والمترفين من كان يعرف هذه الوسائل ويتمتع بها. وفي هذا صورة من صور بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصره.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)) [٧٤ ـ ٧٨]

(١) لا يفترّ عنهم : لا يخفف ولا ينقطع عنهم.

(٢) مبلسون : يائسون من النجاة.

(٣) وما ظلمناهم : هنا بمعنى ضد العدل أي ما جرنا عنهم.

(٤) ولكن كانوا هم الظالمين : بمعنى كانوا هم الذين جنوا على أنفسهم.

(٥) مالك : هو اسم كبير خزنة النار من الملائكة على ما عليه جميع المفسرين وهذا هو المفهوم من الآية أيضا.

احتوت الآيات وصف مصير الكافرين المنحرفين عن طريق الحق والهدى مقابلة لوصف مصير المتقين جريا على الأسلوب القرآني :

فالمجرمون بانحرافهم وآثامهم خالدون في عذاب جهنم ، ولن يخفف عنهم قط وسيكونون يائسين من النجاة منه. ولسوف يستغيثون بمالك كبير خزنة النار ليتوسط لهم عند الله في الموت والخلاص به من العذاب فيجيبهم بأن لا سبيل إلى ذلك وبأنهم ماكثون حيث هم إلى الأبد. فقد جاءهم الحق من الله بلسان رسوله فاستكبروا وكرهوا الحقّ وانصرفوا عنه فاستحقوا هذا المصير ، ولم يظلمهم الله به ولم يجر عليهم ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وجنوا عليها.

٥٢٥

والوصف قوي مخيف من شأنه أن يثير الرعب في السامعين ويحملهم على الارعواء وهو مما استهدفته الآيات فيما استهدفته على ما هو المتبادر.

ويلفت النظر إلى ما في هذه الآيات والتي قبلها من صراحة وحسم في تقرير استحقاق المتقين والمجرمين مصائرهم وفق أعمالهم حقا وعدلا ، وهو ما والت الآيات القرآنية في مختلف المناسبات تقريره مما مرت الأمثلة الكثيرة منه.

تعليق على

اسم مالك خازن النار واستطراد

إلى ذكر المذكورين في القرآن

من كبار الملائكة ومهامهم

والمفسرون متفقون على أن مالك هو من كبار الملائكة ، وعلى أنه خازن النار استنادا إلى بعض الأحاديث. وفحوى العبارة تفيد ذلك واسمه يأتي للمرة الأولى والوحيدة في القرآن. ولما كانت إحدى آيات سورة غافر قد ذكرت أن لجهنم خزنة وهي : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩)) ثم لما كانت إحدى آيات سورة المدثر تذكر أن عليها تسعة عشر من الملائكة : (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً ...) [٣١] وذكرت ذلك بدون عدد آية في سورة التحريم : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)) فيكون مالك والحالة هذه رئيس خزنة النار.

وقد ذكر في القرآن أسماء ملكين آخرين من كبار الملائكة هما جبريل وميكائيل في آيتي سورة البقرة هاتين : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)) وذكر

٥٢٦

جبريل في آية من سورة التحريم أيضا وهي : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)) ويلحظ أن مالك وجبريل فقط ذكرت مهمتهما أو بعض مهامهما دون ميكال. وقد ورد اسم ميكائيل في حديث نبوي رواه الترمذي جاء فيه : «ما من نبيّ إلّا وله وزيران من أهل السّماء ووزيران من أهل الأرض ، فأمّا وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل وأمّا وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر» (١).

ويلحظ أن اسم مالك صريح العروبة معنى واشتقاقا في حين أن اسمي جبريل وميكال معرّبان عن صيغ غير صريحة العروبة هي جبرائيل وميكائيل. وأمر الملائكة وما يقومون به من مهام لله عزوجل أمور غيبية ، ومن الواجب الإيمان بما جاء عنهم في القرآن ، والثابت من الحديث ، والوقوف عند ذلك بدون تزيد ، مع ملاحظة أن ذلك مما كان معروفا ومتداولا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته من طريق الكتابيين الذين ذكرت كتبهم التي وصلت إلينا ذلك ، وأن ذكر ذلك في القرآن والحديث بالصورة التي ذكروا فيها لا بد من أن يكون من مقتضيات حكمة الله ورسوله ومما يتصل بالدعوة المحمدية وأهدافها وإن لم تدركها العقول العادية ، مع احتمال أن يكون قصد التمثيل والتقريب والاتساق مع الصور المألوفة في حياة البشر وملوكهم من ذلك.

(أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)) [٧٩ ـ ٨٠]

(١) أبرموا : بيتوا وقرروا وأحكموا.

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ٢٨١.

٥٢٧

(٢) نجواهم : تآمرهم في السرّ والخفاء.

والآيتان معقبتان على ما سبقهما تعقيب تنديد بالكفار وإنذار لهم : فإذا كانوا بيتوا المناوأة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوة الحق وأحكموا تدبيرهم فإن الله قد بيت لهم أمرا وهو ذلك العذاب الشديد الذي وصفته الآيات السابقة. وإذا كانوا يظنون أن الله لا يسمع سرّهم ونجواهم فهم مخطئون لأن له عليهم رقباء يحصون كل ما يفعلون ويسجلونه.

والرقباء هم ملائكة الله ، وقد ذكرت مهمتهم المذكورة هنا في سورة (ق) في صورة أوضح : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨)) وما قلناه قبل قليل من وجوب الإيمان بما ورد في القرآن والحديث الصحيح من شؤون الملائكة وما يقومون به من مهام وخدمات لله والوقوف عند ذلك نقوله هنا مع التنبيه إلى ملاحظة كون هدف الآيات ـ أو من أهدافها كما هو المتبادر منها ـ إنذار السامعين وحملهم على تقوى الله واتقاء غضبه وعذابه.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)) [٨١ ـ ٨٥]

في الآيات :

١ ـ أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للكفار إذا ظللتم على زعمكم بأن لله ولدا فإني لا أزال أنكر ذلك وأعلن أني أول العابدين له وحده المقرين بتنزهه عما تصفون فهو ربّ السموات والأرض وربّ العرش ، وربوبيته المطلقة الشاملة تجعل زعمكم باطلا كل البطلان.

٥٢٨

٢ ـ وأمر آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتركهم وشأنهم بعد ذلك ليخوضوا في الحديث ويقضوا أوقاتهم في اللهو واللعب والعبث إلى أن يصيروا إلى المصير الرهيب في اليوم الموعود ، وبألا يحمل نفسه همهم فالله هو المتكفل بهم ، وبأن يظل يقرر ويعلن بأن الله عزوجل هو الإله في السماء وفي الأرض وهو المحيط علمه بكل شيء الحكيم الذي لا يقع شيء إلّا بمقتضى حكمته وحكمه وهو المتعالي الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما العالم وحده بموعد الساعة والذي إليه مصيرهم ومرجعهم.

والآيات متصلة بالسياق من حيث إن الكفار المشركين وعقيدتهم موضوع الكلام فيها ، وقد احتوت تسلية وتثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب موقف الكفار العنيد منه.

ولقد قال بعض المفسرين إن الآية الأولى قد أريد بها المساجلة في الجدل بحيث أريد بها القول إنه إذا كان يصح أن يكون لله ولد فأنا أول المصدقين الخاضعين لكل ما يثبت ويصح عن الله. كما قال بعضهم إن كلمة (الْعابِدِينَ) في معنى الجاحدين أو الرافضين (١).

والشرح الذي شرحناه للآيات هو ما عليه جمهور المفسرين (٢) ونرجو أن يكون هو الصواب.

(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)) [٨٦ ـ ٨٧]

روى المفسرون (٣) تأويلين للآية الأولى ، أحدهما : «إن الذين يدعوهم المشركون من دون الله مثل عيسى والعزير والملائكة لن يشفعوا إلّا لمن شهد

__________________

(١) انظر تفسير الآيات لابن كثير والزمخشري مثلا.

(٢) انظر أيضا تفسيرها في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري والبغوي.

(٣) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والزمخشري والخازن.

٥٢٩

بالحق وهم يعلمون ذلك» وثانيهما : «إن الذين يحقّ لهم الشفاعة ممن يدعوهم المشركون من دون الله هم الذين يشهدون بالحق ويعلمونه فقط مثل عيسى والعزيز والملائكة وهؤلاء لا يمكن أن يشفعوا للمشركين» ومعظم المفسرين أخذوا بالتأويل الأول وهو الصواب المتسق مع روح الآية مع القول إن المقصود هنا من الذين يدعوهم المشركون من دون الله هم الملائكة لأنهم هم موضوع الكلام من أول السورة ، أما الآية الثانية فقد احتوت تنديدا بتناقض المشركين فهم إذا سئلوا عمن خلقهم لما وسعهم إلّا القول إنه الله ، وتساؤل استنكاري وتنديدي عن انصرافهم عنه والحالة هذه إلى غيره وإشراك غيره معه.

والآيات متصلة بسابقاتها من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيها كما هو المتبادر ، والاتصال يبدو كذلك في الحديث عن الذين يدعوهم المشركون مع الله ويأملون شفاعتهم وهم الملائكة الذين زعموا أنهم بنات الله ، وهو الزعم الذي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان رفضه في الآيات السابقة.

وفي الآية الأولى تخييب لآمال المشركين فهم يرجون شفاعة الملائكة. والملائكة لا يمكنهم أن يشفعوا إلّا للمؤمنين بالحق العالمين به وقد استهدف فيما استهدف تسفيه المشركين وحملهم على الارعواء. وفي جملة (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦)) [٨٦] تلقين قرآني مستمر المدى بوجوب التزام الحق والشهادة به عن علم ويقين وتنويه بمن يكونون كذلك. ولقد قال بعضهم إن الآية الثانية نسخت بآيات القتال وهذا ما يكررونه في المناسبات المماثلة ، وقد ذكرنا وجه الحق في هذه الآية وأمثالها في مناسبات سابقة فنكتفي بهذه الإشارة.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)) [٨٨ ـ ٨٩]

تعددت الأقوال في تخريج كلمة (وَقِيلِهِ) ومحل عطفها ، والمتبادر أنها حكاية قول صادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعبر به عن ألمه من عناد الكفار ويأسه من إيمانهم.

٥٣٠

وقد سرى عنه في الآية الثانية وأمر بالصفح والإغضاء عنهم وإعلان السلام للناس وتركهم وشأنهم فسيعلمون من هو على الحق ومن هو على الضلال.

والصلة قائمة بين الآيتين وما سبقهما من حيث إن الكفار المشركين هم موضوع الكلام فيهما وقد جاءتا خاتمة قوية لموقف اللجاج والحجاج وللسورة معا جريا على النظم القرآني.

وقد انطوى في الجملة الأخيرة من الآية الثانية تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبثّ الوثوق والاستعلاء في نفسه. والأمر بالصفح عنهم وإعلان السلام للناس ينطويان على التوكيد بأسلوب رائع محبب بأن مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي الدعوة إلى الله ومكارم الأخلاق ثم ترك الناس وشأنهم يختارون ما يريدون دون ما إجبار ولا إبرام ولا عداء ولا حقد مع تقرير هذا له ولمن آمن به ، ومع الاطمئنان إلى أن ما يدعو إليه هو الحق والهدى ، وأن ذلك سوف يظهر للناس مما قد تكرر تقريره في القرآن كثيرا وبأساليب متنوعة. ولقد ظهر ذلك حقا وتحققت المعجزة القرآنية بدخول الناس في دين الله أفواجا وفيهم غالبية أهل مكة الذين كانوا يقفون المواقف العنيدة المناوئة التي حكتها الآيات والتي كانت تثير في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحزن والألم والحسرة.

ولقد روى المفسرون (١) عن بعض علماء التابعين مثل قتادة ومقاتل أن حكم الآية الثانية قد نسخ بآيات القتال ، وهذا القول قد تكرر في مناسبات مماثلة كثيرة سبقت أمثلة منها. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن النسخ قد يصح بالنسبة إلى الأعداء المعتدين على المسلمين والصادين عن الدعوة والطاعنين بالدين الإسلامي. أما الموادّون والمسالمون للمسلمين فالتعامل معهم في نطاق الصفح والسلام وتركهم وشأنهم بعد الدعوة وبيان هدى الله فهو محكم على ما أوردنا دلائله في سياق سورة (الكافرون) والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٥٣١

تعليق على جملة

(فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ)

وبالإضافة إلى ما قلناه في مدى هذه الجملة في مقامها فهناك ما يمكن أن يضاف إليه أيضا.

فالأمر هنا موجه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصفح عن الجاحدين برسالته وليقول لهم سلام ، وفي سورة الأنعام آية تأمره بأن يقول للمسلمين الفقراء الذين آمنوا به سلام عليكم [الآية / ٥٤] وهناك آيات كثيرة أخرى منها آيات تفيد أن السلام هو تحية أهل الجنة فيما بينهم [آية سورة يونس / ١٠ وآية سورة إبراهيم / ٢٣](تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) ومنها ما يفيد أن الملائكة يستقبلون المؤمنين في الآخرة بالسلام [النحل / ٣٢ والزمر / ٧٣ والرعد / ٢٤] ومنها ما أمر فيه بإلقاء السلام على أهل البيوت التي يدخلها المسلمون : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) (١) (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً ...) سورة النور : [٦١] ، ومنها ما وجّه للأنبياء من الله [آيات سورة الصافات / ١٠٩ ـ ١٣٠] ومنها ما حكي عن عباد الرحمن حينما يخاطبهم الجاهلون كما جاء في آية سورة الفرقان هذه : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)).

والسلام هو بمعنى الأمان وضد الخصام وفيه معنى التطمين والتحبب والتأنيس ، ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في الحثّ على تعاطيه وآدابه ، منها حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (٢). وحديث رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام تدخلوا الجنة بسلام» (٣). وحديث رواه الترمذي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «السلام قبل الكلام»

__________________

(١) أي على أهلكم وذويكم.

(٢) التاج ج ٥ ص ٢٢٣.

(٣) المصدر نفسه.

٥٣٢

وقال : «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم» (١). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» (٢). وحديث رواه الترمذي عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» (٣). وحديث رواه البخاري ومسلم عن أنس : «أنه كان يمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمرّ بصبيان فيسلّم عليهم» (٤) ، وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت يزيد قالت : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ علينا بالمسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» (٥). وحديث رواه الترمذي عن أبي جري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» (٦). وحديث رواه البخاري عن أسامة بن زيد : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» (٧). حيث يبدو من كل هذا تلقين جليل رباني ونبوي للمسلمين بأن يجعلوا السلام عنوانا لمقابلاتهم وصلاتهم بالناس على اختلاف فئاتهم مما فيه روعة وجلال ومما جعل السلام على الناس من العادات الحسنة التي تميز بها المسلمون منذ حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا ، ولقد بدأت السورة بعد مطلعها بالتنديد بالمشركين لعقيدتهم بكون الملائكة بنات الله وانتهت بمثل ذلك أيضا ، وهكذا تمّ الارتباط بين بدايتها ونهايتها مما يدل على ترابط فصولها ووحدة نزولها.

__________________

(١) انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٤ ـ ٢٢٧.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

(٧) المصدر نفسه.

٥٣٣

سورة الدخان

في السورة تنويه بليلة نزول الوحي بالقرآن ورسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس ، وتوكيد بصدق ذلك وتنديد بالكفار على إصرارهم على الكفر والعناد وإنذار لهم ، وتذكير بما كان من موقف فرعون وقومه المماثل من رسالة موسى وما كان من إغراقهم ونجاة بني إسرائيل ونعمة الله عليهم بسبب استجابتهم للدعوة. وحكاية لما كان يقوله الكفار في صدد إنكار البعث وتسفيه لقولهم وتوكيد حكمة الله وعدله في خلق الكون ومجيء يوم القيامة وبيان لمصير الكفار والمتقين فيه.

وفصول السورة مترابطة وآياتها متوازنة مما يسوّغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.

ولقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» (١). وروى الترمذي عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ حم الدخان في ليلة الجمعة غفر له» (٢) ، وأخرج الطبراني حديثا جاء فيه : «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم جمعة بنى الله له بيتا في الجنة» (٣).

وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بهذه السورة لا بدّ له من حكمة ، ولعلّ منها ما انطوى فيها من مواعظ وتنويه بالقرآن وليلة نزوله وبالإضافة إلى ذلك فيها دلالة على أن السورة كانت تامة الشخصية معروفة الاسم في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٨ ـ ١٩.

(٢) التاج ج ٤ ص ١٨ ـ ١٩.

(٣) التاج ج ٤ ص ١٨ ـ ١٩.

٥٣٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨)) [١ ـ ٨]

(١) يفرق : بمعنى يقضي أو يقرر.

(٢) حكيم : فيه الحكمة والإحكام.

ابتدأت السورة بحرفي «الحاء والميم» للاسترعاء والتنبيه على ما رجحناه في أمثالهما. وأعقبهما قسم بالكتاب المبين ثم تقريرات ربانية كجواب للقسم أو ما بمثابة ذلك :

١ ـ بأن الله قد أنزل الكتاب في ليلة عظيمة الشأن جرت عادته على قضاء كل أمر خطير محكم من أوامره فيها.

٢ ـ وبأنه قد أراد بإنزال الكتاب إنذار الناس وتنبيههم.

٣ ـ وبأنه قد أرسل رسوله بمهمة الرسالة العظمى رحمة بهم ، فهو السميع العليم ربّ السموات والأرض وما بينهما لا إله إلّا هو يحيي ويميت ربّ السامعين وربّ آبائهم الأولين.

٤ ـ وبأن هذه هي الحقيقة الناصعة إذا كان السامعون يريدون المعرفة واليقين.

والآيات في صدد توكيد نسبة القرآن إلى الله ، ثم في صدد توكيد صدق رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكونها رحمة للناس ، وهكذا جاء مطلع السورة متسقا في أسلوبه وهدفه مع مطالع شقيقاتها الحواميم.

٥٣٥

تعليق على آية

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ)

وما بعدها وما روي عن ليلة

نصف شعبان

ولقد اختلفت الأقوال في الليلة المذكورة فهناك من قال إنها ليلة القدر (١) واستند في ذلك إلى سورة القدر التي ذكرت أن القرآن أنزل في ليلة القدر ، وإلى آية سورة البقرة هذه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [١٨٥] ثم إلى الأحاديث المروية في صدد كون ليلة القدر هي في العشر الأخيرة من رمضان والتي أوردناها في سياق تفسير سورة القدر ، وهناك من قال إنها ليلة النصف من شعبان استئناسا من بعض أحاديث نبوية منها حديث جاء فيه : «ينزل الله جلّ ثناؤه ليلة النصف من شعبان إلى سماء الدنيا فيغفر لكلّ نفس إلّا إنسانا في قلبه شحناء أو مشركا بالله» ومنها حديث ثان جاء فيه : «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى» (٢). ومنها حديث عن ابن عباس جاء فيه : «يقضي الله الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها الموكلين بها» ويعني بذلك الملائكة على ما هو المتبادر (٣). ومنها حديث عن الحسن البصري جاء فيه : أن أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من هذه الليلة إلى مثلها في السنة المقبلة تفصل في هذه الليلة. أي ليلة نصف شعبان» (٤). وبعض الذين قالوا إنها ليلة القدر من رمضان رووا أن هذه الليلة هي الليلة التي تفصل فيها الأمور الهامة من سنة إلى سنة من أرزاق وآجال ومصائب (٥) وبذلك وفقوا بين القولين.

وأكثر الأقوال في جانب القول إنها ليلة القدر في رمضان وهو الأصوب

__________________

(١) انظر تفسير سورة القدر وتفسير الآية التي في صددها في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.

(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي.

(٤) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.

(٥) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والبغوي.

٥٣٦

والأولى الذي تلهمه الآية نفسها بمقارنتها بآيتي البقرة وسورة القدر. ويلحظ أن الأحاديث المساقة عن ليلة نصف شعبان ليس فيها إشارة صريحة إلى نزول القرآن فيها ، وهذا ما جعلنا نقول إنهم استأنسوا بها استئناسا ، هذا مع التنبيه على أنها لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. ولقد أنكر ابن كثير قول من قال إنها ليلة نصف شعبان وقال إن الذين يقولون ذلك قد أبعدوا النجعة وإن نص القرآن يؤيد أنها ليلة القدر في رمضان وأن الحديث النبوي عن ليلة شعبان مرسل ومثله لا يعارض به نص ثابت (١).

ولقد أعاد بعض المفسرين (٢) القول في مناسبة هذه الآية بأن الضمير في (أَنْزَلْناهُ) عائد إلى جميع القرآن حيث أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ثم صار ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما كما روي عن ابن عباس. وقد أورد الطبري في سياق هذه الآية رواية نزول صحف إبراهيم في أول رمضان والتوراة في السادس منه ، والزبور في السادس عشر ، والإنجيل في الثامن عشر ، والفرقان في الرابع والعشرين. وقد علقنا على هذا بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة القدر فلا نرى حاجة إلى إعادة أو زيادة.

والوصف الذي وصفت به هذه الليلة التي هي على الأرجح ليلة القدر في أواخر شهر رمضان في الآيات [٣ ـ ٤] من السورة قد يؤيد ما قلناه في سياق تفسير سورة القدر من أن تسمية (ليلة القدر) هي تسمية علمية وأنه كان لهذه الليلة خطورة دينية ما في أذهان السامعين.

هذا ، ونقول ـ تعليقا على ما روي من تقدير الآجال والأرزاق وقضاء الأقضية من سنة إلى سنة في ليلة النصف من شعبان أو في ليلة القدر وما اعتاده المسلمون من الاحتفال بليلة النصف من شعبان وقراءة أدعية خاصة فيها ـ إن الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة الإسناد ولا تظهر حكمة الله فيها ، ويجب التحفظ إزاءها. وإن الاحتفال بليلة النصف من شعبان ليس له أصل ثابت من سنة نبوية ولا صحابية.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.

(٢) انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والخازن.

٥٣٧

وقد يرد أن جملة (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤)) قد تقوي صحة الأحاديث الواردة. ولسنا نرى ذلك ، فالأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تذكر ليلة النصف من شعبان. وهذه الجملة تشير إلى الليلة التي أنزل فيها القرآن وهي ليلة القدر بنص القرآن. وقد يكون أريد بالجملة الإخبار بأن حكمة الله شاءت أن يقضي فيها الأمور الهامة التي منها إنزال الوحي والقرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء من قبله. ولعل عبارة (مُنْذِرِينَ (٣)) في الآية السابقة لها وعبارة (مُرْسِلِينَ (٥)) في الآية التالية لها مما يدعم هذا التوجيه ويبعد على ما هو المتبادر موضوع تقرير الآجال والأرزاق والأحداث السنوية ، والله أعلم.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦)) [٩ ـ ١٦]

جاءت الآيات معقبة على مطلع السورة : ومع أنه لم يسبق كلام عن أحد فالمتبادر من نص الآيات أن الضمير الغائب عائد إلى الكفار. وقد نددت أولا بالكفار لأنهم يتلقون ما يسمعون من آيات كتاب الله بالشك واللعب والهزء. وتوعدتهم ثانيا باليوم الذي ينتشر فيه من جانب السماء دخان عظيم يملأ الجو ويغشى الناس ويشعر الكفار يومئذ بما هو واقع عليهم من عذاب الله الأليم فيلجأون إليه لكشفه عنهم ويعلنون بأنهم مؤمنون. وتساءلت ثالثا تساءل المنكر المستنكر عما إذا كان هذا ينفعهم حينئذ وقد جاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالآيات الواضحة وهم في متسع من الوقت فأعرضوا عنه واستخفوا به ونسبوا إليه الجنون وتعلّم ما يقوله من الغير. ووجهت رابعا الكلام إليهم فالله سيستجيب إليهم هذه المرة ويكشف عنهم العذاب ردحا من الزمن ولكنهم سوف يعودون بعد كشفه إلى ما كانوا فيه من كفر وعناد وحينئذ تنزل بطشة الله الكبرى فيهم وينتقم منهم.

٥٣٨

وتأويل (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)) الذي أوردناه في الفقرة (رابعا) هو ما عليه جمهور المفسرين بناء على بعض الروايات. وقد تبادر لنا تأويل آخر لجملة (إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥)) وهو (إنكم راجعون إلينا على كل حال يوم البطشة الكبرى أي يوم القيامة ولو كشفنا عنكم العذاب ردحا من الزمن استجابة لدعائكم) وهناك من أوّل البطشة الكبرى بيوم القيامة وهذا مما يؤيد تأويلنا والله أعلم.

تعليق على آية

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠))

وما بعدها

وما روي في سياقها

ولقد رويت رواية عن ابن مسعود فيها بيان لمدى ومفهوم هذه الآيات ، حيث قال ردا على من قال إن الآيات هي في صدد إنذار الكفار بالعذاب الأخروي ما مفاده : إن هذا ليس من العلم. وإن من العلم أن يقول الإنسان لما لا يعلم لا أعلم. إن قريشا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان أو يرون بينهم وبين السماء كهيئة الدخان من الجهد. فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا له : استسق الله لمضر فإنها قد هلكت ، فاستسقى لهم فسقوا فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم فأنذرهم الله بالبطشة الكبرى. وكانت يوم بدر.

وقد أورد هذه الرواية معظم المفسرين وإن كان بعضهم أوردها مختلفة بعض الشيء عما أوردها البعض الآخر ، ومن ذلك أن أبا سفيان هو الذي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : جئت تأمر بصلة الرحم وقد هلك قومك فادع لهم (١). ورواها

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.

٥٣٩

البخاري ومسلم والترمذي بدون ذكر أبي سفيان (١).

ويروي المفسرون (٢) إلى هذه الرواية حديثا عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أول الآيات : الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر والدخان». فسأله حذيفة : وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١)) ثم قال : يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة ـ يعني الدخان ـ أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة وأمّا الكافر فتكون منه بمنزلة السكران». حيث يبدو أن هذا الحديث في صدد تفسير الآيات وينقض تفسير ابن مسعود لها وكونها في صدد حادث واقعي حدث في مكة في زمن النبي (٣). ومع أن الطبري ضعف هذا الحديث ورجح صحة تفسير ابن مسعود فإن الطبراني روى حديثا آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصف بأن إسناده جيد جاء فيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ ربكم أنذركم ثلاثا : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كلّ مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال» (٤). حيث قد يؤيد هذا حديث حذيفة ويفيد أن الدخان هو علامة من علامات آخر الزمان.

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٦.

(٢) انظر كتب التفسير السابقة الذكر. وقد أورد المفسرون هذا الحديث بشيء من التغاير مع الاتفاق في الجوهر ومنهم من روى صيغة من صيغة عن حذيفة بن أسيد الغفاري والنص الذي أوردناه من الطبري. ومما ورد في النص الوارد في تفسير ابن كثير عن حذيفة بن أسيد : «لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا». وقال ابن كثير عقب هذا : تفرد مسلم بإخراجه في صحيحه. وهناك نصوص أخرى مقتضبة فيها الدخان كعلامة من علامات الساعة أيضا.

(٣) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري أيضا.

(٤) انظر تفسير ابن كثير.

٥٤٠