التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

وفحواها يلهمان أن الخطاب فيها موجه للكفار وأنها بسبيل حثهم على الانتهاء من موقف الجحود والمكابرة قبل فوات الوقت والندم على ذلك. كذلك الأمر بالنسبة للتقريع الذي احتوته الآية الثانية والمقصود به في الدرجة الأولى كما هو المتبادر هم الجاحدون الظالمون. ويلحظ أن ما احتوته الآية الثانية قد احتوت مثله إحدى الآيات الأخيرة من السورة السابقة وقد وجه التقريع فيها للكافرين.

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)) [٤٩ ـ ٥٠]

(١) يزوجهم : هنا بمعنى ينوعهم ويجعلهم أصنافا خليطا من ذكور وإناث.

في الآيتين تنويه بشمول ملك الله وقدرته ومشيئته : فكل ما في السموات والأرض ملك له. وبيده خلق كل شيء وعلى الوجه الذي تتعلق به إرادته ومشيئته. ويدخل في ذلك حمل الأمهات ونوعه. فهو الذي يهب لمن يشاء إناثا فقط ولمن يشاء ذكورا فقط. وهو الذي يهب لمن يشاء أصنافا متنوعة من ذكور وإناث معا ، وهو الذي يجعل من يشاء عقيما وكل ذلك وفقا لمقتضيات علمه وحكمته فهو العليم بكل شيء القادر على كل شيء.

وقد يبدو أن الآيتين منقطعتان عن الموضوع والسياق السابقين ، غير أنه تبادر لنا شيء من الصلة بينهما وبين ما جاء في آخر الآية الأخيرة التي احتوت تنديدا بما جبل عليه الإنسان من البطر عند النعمة والكفر واليأس عند المصيبة. ولقد كان العرب يحبون ويشتهون الذكور ويكرهون ولادة البنات ويسخطون على نسائهم حينما يلدن إناثا ويعتبرون ذلك مصيبة على ما تفيده آيات قرآنية عديدة منها سورة

٤٨١

النحل هذه : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٥٩). فلعل شيئا مما ذكرته الآية الأخيرة السابقة لهذه قد وقع في ظروف نزول السورة فاحتوت الآيتان ردا على ذلك وتنديدا بالفرحين البطرين ، أو باليائسين الساخطين ، وتقريرا بأن ذلك مشهد من مشاهد نواميس الله في خلقه ونتيجة لتقديره ومشيئته. فلا موجب للبطر ولا لليأس. وهكذا تكون الآيتان في هذه الحالة قد استهدفتا معالجة نفسية لحالة قائمة يتساوى فيها المسلمون وغير المسلمين. والمعالجة مستمرة التلقين والمدى لأنها تعالج حالة مستمرة تثير الفرح والسخط كما هو المتبادر. فكل شيء يجري وفق النواميس التي أودعها الله في خلقه وفي نطاق تقديره ومشيئته وعلى الناس والمسلمين منهم أن يذكروا ذلك فلا يبطروا ولا يسخطوا ويرضوا بتقدير الله ومشيئته اللذين هما خارجان عن نطاق قدرتهم ومشيئتهم.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣)) [٥١ ـ ٥٣]

في الآية الأولى إشارة إلى مشاهد ثلاثة لاتصال الله في الكلام بالبشر أو اتصالهم به في ذلك. فالله لم يكن ليكلم أي إنسان مواجهة. والناس الذين يصطفيهم للاتصال به يتصل بهم إما بطريق الوحي أو من وراء حجاب أو بواسطة رسول من قبله فيوحي إليهم ما يشاء بأمره وإذنه ، وهو العلي المتسامى في شأنه وكنهه ، الحكيم الذي يفعل ما يفعل ويختار ما يختار وفقا لمقتضى حكمته.

٤٨٢

وفي الآيتين الثانية والثالثة إشارة إلى ما كان من اتصال الله سبحانه بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد وجّه الخطاب في أولاهما له. فبمقتضى حكمة الله وسننه أوحى إليه روحا من أمره وإذنه. ولم يكن يدري قبل ذلك حقيقة كتب الله ووحيه وكيفية الإيمان به دراية يقينية ولقد جعل الله ذلك نورا يهدي به من يشاء من عباده. وكان من شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن اهتدى به أن صار يهدي به غيره إلى صراط مستقيم وهو صراط الله الذي له ما في السموات والأرض والذي ترجع جميع الأمور إليه.

تعليق على آية

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ)

وما بعدها

وقد روى المفسر البغوي وتابعه الخازن أن هذه الآيات نزلت بناء على سؤال وقع من بعض يهود المدينة ويقتضي هذا أن تكون الآيات مدنية. ولم نطلع على رواية تفيد ذلك ويلحظ كذلك أن الأسلوب القرآني على الإجابة على السؤال هو حكايته أو حكاية موضوعه أولا وهذا غير موجود هنا.

والذي يتبادر لنا أن هذه الآيات التي جاءت خاتمة للسورة متصلة بمطلع السورة الذي احتوى إشارة إلى أن الله سبحانه يوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما يوحي إلى الأنبياء من قبله. وأن حكمة التنزيل قد اقتضت ربط أول السورة بخاتمتها. وهذا مما كان في سور أخرى أيضا مرّ منه بعض الأمثلة. فإذا صح ما قلناه ففيه مشهد من مشاهد النظم القرآني كما فيه دلالة على أن السورة نزلت دفعة واحدة أو فصولا مترابطة متتابعة مهما بدا على هذه الآيات أنها جاءت كفصل مستقل عن الآيات السابقة لها مباشرة.

وهذا لا ينفي بطبيعة الحال احتمال كون الإيضاح الذي احتوته الآيات قد

٤٨٣

جاء جوابا على سؤال صدر من مسلمين أو كتابيين أو كفار في ظروف نزول السورة أو قبيلة أو إجابة على حيرة الناس بما كان يخبر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صلة بالله. فهذه المسألة مما يحار فيها كل امرئ ويود أن يعرف كنهها أو ما يشفي غليله منها. وفي الآيات الأولى من السورة ذكر أن الله شرع من الدين ما وصّى به الأنبياء من قبل محمد وما أوحاه الله إليه مثلهم ، مما يمكن أن يكون المناسبة للتساؤل والاستيضاح ، وهذه المناسبة قائمة في الآيات الأولى من السورة أيضا.

ونقول تعليقا على مدى الآيات : إن الآية الأولى احتوت الإشارة إلى مشاهد ثلاثة في صدد اتصال الله بمن يشاء من عباده بالكلام : الأول أن يكون وحيا ، والثاني من وراء حجاب ، والثالث برسول يرسله ويوحي بواسطته وبإذنه ما يشاء.

وأصل معنى (الوحي) هو السرعة أو اللمحة الخاطفة. أو الإلهام والقذف في القلب. وقد يعني هذا أن الوحي في الآية يعني شعورا ذاتيا وقلبيا بما ينقذف في نفس الموحى إليه من أفكار ومواضيع كإشعاع تضيء به نفسه فيشعر أنه يلهم إلهاما علويا ربانيا في قالب كلامي.

والرسول الوارد ذكره في الآية والذي هو المشهد الثالث من المشاهد هو على ما قاله جمهور المفسرين : «الملك الذي كان ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». واستعمال تعبير «فيوحي إليهم» بالنسبة إليه يلهم أن اتصال الملك بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كذلك اتصال روحي أو قلبي. وقد ذكر هذا بصراحة في آيات سورة الشعراء هذه : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤) ، وفي آية سورة البقرة هذه مع صراحة باسم الملك : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) (٩٧) [٩٧].

ولعل الفرق بين المشهدين الأول والثالث هو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشعر في الأول بملقن منفصل عن ذاتيته لما ينقذف في قلبه من وحي الله في حين أنه يشعر بذلك في المشهد الثالث.

٤٨٤

أما المشهد الثاني وهو : (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) فالمستلهم من العبارة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع كلاما مفهوما يلقى عليه فيعيه دون أن يرى من يلقيه مع شعوره أنه الله عزوجل. وهو على كل حال اتصال خارجي وليس باطنيا وقلبيا ، ومن ذلك على ما هو المتبادر ما أخبرت به آيات سورة الأعراف والنمل والقصص وطه ، من الكلام الرباني الذي كلّم به موسى عليه‌السلام على ما مرّ تفسيره.

ونحن إذ نشرح هذا إنما نفعل بالنسبة للعبارات الواردة ، أما فهم حقيقة هذا الاتصال وحقيقة الشعور به وإدراكهما فهما في الحقيقة خصيصان بالذين يصطفيهم الله تعالى لوحيه وصلته وكلامه. وهما بالنسبة لغيرهم حقيقة إيمانية يجب الإيمان بها لأنها مما أخبر به هؤلاء المصطفون ، وهم صادقون فيما أخبروا به وقد عبروا عنه بأمر الله ووحيه بما يمكن أن تتسع له الألفاظ التي يتفاهم البشر بها ، وأما كنه الأمر فهو سرّ متصل بسرّ واجب الوجود وأنبيائه الذي يعجز العقل الإنساني عن إدراكه مع ما يقوم عليه من الدلائل المتنوعة التي لا ينكرها إلّا المكابرون.

وما قلناه هو في صدد شرح المراتب أو المشاهد التي احتوت الآية الأولى الإشارة إليها. أما مشهد الاتصال الرباني بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد استعمل في بيانه كلمتا (أَوْحَيْنا) و (رُوحاً). وجمهور المفسرين على أن الكلمة الثانية تعني الملك جبريل. ومع أن اسم هذا الملك قد ذكر في آية البقرة التي أوردناها آنفا والتي ذكر فيها أنه كان ينزل القرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع أن كلمة الروح استعملت في آيات سورة الشعراء التي مرت في مقام تنزيل الروح بالقرآن على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا فإن العبارة تلهم كون مشهد الاتصال النبوي بالله المشار إليه هنا خاصة هو مشهد إلهامي وإيحائي وروحاني ، وأن مشهد تنزيل جبريل يمكن أن يكون هو المشهد الثالث الذي عبر عنه بجملة (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً). على أنه ليس في الحقيقة تعارض بين ما تلهمه العبارة هنا وما تلهمه آيات سورتي الشعراء والبقرة ، لأن الإنزال على القلب لا يعدو كما يستلهم من روح الآيات مشهدا إلهاميا وإيحائيا وروحانيا أيضا.

٤٨٥

ولقد أوردنا حديثا رواه البخاري عن عائشة في سياق سورة العلق عن أول نزول الوحي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه صورة من صور الوحي. ونورد هنا ثلاثة أحاديث روى أحدها البخاري ومسلم والترمذي وروى ثانيها وثالثها مسلم ، فيها صور أخرى لتتم بذلك وبما جاء في الأحاديث الصحيحة ، صورة الوحي الرباني بما أمكن استلهامه ، ونرجو أن يكون فيه الصواب. ولقد روي الأول عن عائشة وجاء فيه : «إنّ الحارث بن هشام سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف يأتيك الوحي؟ فقال : أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فينفصم عني وقد وعيت عنه ما قال. وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول. قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا». وروي الثاني والثالث عن عبادة بن الصامت ، وجاء في الثاني : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربّد وجهه». وجاء في الثالث : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ونكس أصحابه رؤوسهم فلما انجلى عنه رفع رأسه» (١).

هذا ، وفيما احتوته الآية الثانية من تقرير كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يدري ما الكتاب ولا الإيمان قبل الاتصال الرباني به صراحة على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن يعرف من أمر نبوته شيئا إلّا بعد اتصال وحي الله به. وهذا نفي قاطع قرآني للروايات المتداولة في كتب الموالد والشمائل وهذا لا ينفي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفكر في آلاء الله وملكوته وتضطرب نفسه في سبيل تحري حقيقة الله وملّة إبراهيم الحنيفية وطريق الدين القويم الذي يجب أن يسلكه. وتنقبض نفسه مما كان يراه من سخف عقائد قومه وتقليدهم وشركهم كما لا ينفي أن يكون قد انتهى إلى الإيمان بالله وحده ربّا للعالمين يجب الاتجاه إليه وحده وعبادته وحده والاستعانة به وحده ونبذ ما عداه قبل نزول الوحي عليه.

ولقد كان هذا حقا ، وهو ما كان يحمله على اعتكافاته الروحية في غار حراء

__________________

(١) انظر الأحاديث الثلاثة في التاج ج ٣ ص ٢٢٥.

٤٨٦

على ما شرحناه في سورة الضحى فتصفو روحه ، حتى تأهّل للاتصال العلوي وتلقي وحي الله وروحه وشعّت في نفسه حقيقة الإيمان اليقيني نورا إلهيا اهتدى به وحمل رسالته والدعوة إليه ليهدي به الناس إلى صراط الله المستقيم.

ولقد قال بعض المفسرين (١) إن قصد العبارة هو نفي معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشرائع الإيمان والإسلام التفصيلية وأشكال الصلاة ومواقيتها معرفة مستندة إلى وحي رباني توقيفي ، وأن العبارة لا تنفي أن يكون قد حصل عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيمان عام عقلي ، وهذا لا ينقض ما قررناه بل يتسق معه كما هو المتبادر.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في كتب تفسير البغوي والخازن والطبرسي.

٤٨٧

سورة الزخرف

في السورة حملة على المشركين بسبب عقيدتهم بأن الملائكة بنات الله وتمسكهم الأعمى بتقاليد الآباء واستكبارهم عن الاستجابة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يكن من العظماء. وحكاية لاعترافهم بأن الله خالق السموات والأرض وخالقهم أيضا. وفصول من المناظرة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول عقائدهم. وتذكير بإبراهيم وموقفه من قومه وبموسى ورسالته لفرعون وبعيسى ورسالته وتقرير لمسؤولية قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القرآن ورسالته ، وتطمين للنبي وتسليته. وتنويه بعظمة الله وشمول ربوبيته ، ووصف رائع لمصائر المتقين والمجرمين في الآخرة.

وفصول السورة مترابطة ومتساوقة ، وبدايتها مرتبطة بنهايتها أيضا مما فيه الدلالة على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.

وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [٥٤] مدنية ، وهي منسجمة في السياق والموضوع انسجاما تاما وهذا ما يحمل على الشك في تلك الرواية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ

٤٨٨

كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)) [١ ـ ٨]

(١) أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين : بمعنى هل ننصرف عن تذكيركم بسبب أنكم قوم مسرفون في المكابرة والعناد.

وابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء إلى ما بعدهما ثم أعقبهما قسم رباني بالكتاب المبين الواضح في أهدافه ودعوته بأن الله إنما أنزل القرآن باللغة العربية ليستطيع العرب المخاطبون به أن يفهموه ويعقلوه. وأنه ـ في أم الكتاب عند الله ـ عليّ الشأن حكيم الأسلوب والمقاصد.

واحتوت الآيات بعد ذلك :

١ ـ سؤالا استنكاريا موجها للكفار السامعين المخاطبين عما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى يترك تذكيرهم بسبب إسرافهم في المكابرة والعناد أو تجاوز حدوده.

٢ ـ وتذكيرا بأن الله أرسل قبلهم أنبياء عديدين فكان أقوامهم يستهزئون بهم فأهلكهم وكانوا أشد بطشا منهم ، وعلى هذا جرت سنة الله في الأمم السابقة لهم.

تعليق على آية

(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) (٥)

وحكمة متابعة الله في إرسال رسله

والمتبادر أن الآيات بسبيل تسجيل موقف وجاهي من مواقف المناظرة والجدل واللجاج بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ، وأن الآية [٥] احتوت ردا على قول يمكن أن يكونوا قالوه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن طال إنذار القرآن وتقريعه وأصروا على موقفهم وعنادهم وهو لما ذا تتعب نفسك بعد كل هذا ولا تيأس منا وتتركنا وشأننا؟. فأوحى الله بالآيات للردّ عليهم وبيان حكمة الله في متابعة إرسال رسله رغم استهزاء أقوامهم بهم حيث اقتضت حكمته سبحانه تذكير الناس دورا بعد دور ولم تكن

٤٨٩

مكابرة الناس وإسرافهم ليجعلاه يحيد عن هذه الحكمة حتى يظل طريق الهدى والحق واضحا بينا ، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال وتلقين مستمر المدى في وجوب متابعة الدعاة إلى الحق لدعوتهم والصبر عليها والثبات فيها برغم ما يمكن أن يلقوه من إعراض وصدّ واستخفاف لأن ذلك من مقتضى حكمة الله لما فيه من قوام المجتمع البشري وحياته.

تعليق على تعبير

(أُمِّ الْكِتابِ)

وجمهور المفسرين على أن تعبير (أُمِّ الْكِتابِ) هو اللوح المحفوظ (١).

غير أن الذي يتبادر لنا أنه بمعنى مصدر التنزيل على سبيل توكيد كون القرآن صادرا عن الله تعالى. ولعل هذا التوكيد متصل بما حكته آيات سورة فصلت ثم آيات سورة الشورى السابقتين لهذه السورة لما كان يحتج به الكفار في معرض الإنكار باختلاف لغة القرآن عن لغة الكتب السماوية الأولى. فالقرآن صادر عن الله تعالى الذي صدرت عنه هذه الكتب. وإذا كانت لغته عربية فإن ذلك بقصد أن يفهمه المخاطبون ولا يحتجوا بعجمته كما احتجوا بعجمة الكتب السماوية الأولى مما انطوى في آية سورة الأنعام هذه : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ) (١٥٦). على أن هذا التأويل لا يتعارض مع مفهوم اللوح المحفوظ الذي شرحناه في تفسير سورة البروج شرحا يغني عن التكرار.

تعليق على تكرار توكيد عروبة

القرآن وصلته بالله

هذا ، ويلحظ أن عروبة القرآن وصلته بالله تعالى كانتا موضوعا رئيسيا في السور الثلاث السابقة وبخاصة في سورتي فصلت والشورى ثم في هذه السورة

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري إلخ.

٤٩٠

فضلا عمّا قبلها مما يدل على اشتداد لجاج الكفار في هذا الموضوع ، وعلى صحة ترتيب هذه السور وتتابعها في النزول. وهو على ما هو المتبادر سبب ما روى عن سلسلة الحواميم وأوردناه في مقدمة سورة غافر من أحاديث.

وأسلوب الآيات والتوكيد يؤيد ما قلناه أكثر من مرة من أن المقصد من تعبير القرآن والكتاب كان في بدء الأمر القسم الذي احتوى الآيات المحكمات في مبادئ الدعوة وأسسها.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)) [٩ ـ ١٤]

(١) مهدا : المستقر أو الممهد.

(٢) سبلا : طرقا ومسالك.

(٣) بقدر : بحساب.

(٤) أنشرنا : أخرجنا وهنا بمعنى أحيينا.

(٥) الأزواج : كناية عن أنواع المخلوقات وأصنافها.

(٦) وما كنا له مقرنين : ما كنا قادرين على جعله قرينا مطيعا لنا.

وجه الخطاب في الآية الأولى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلو سألهم عمن خلق السموات والأرض لما وسعهم إلّا أن يجيبوا بأنه هو الله العزيز القوي الغني عن الغير العليم بكل شيء.

٤٩١

أما الآيات التالية فقد احتوت تقريرات عن مشاهدة قدرة الله ونعمه على السامعين. وعباراتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر. وقد انتهت بتقرير كون ذلك مما يوجب ذكر نعمة الله وحمده على ما يسرّه للسامعين من وسائل الاعتراف به وإنابتهم إليه.

وضمير الجمع المخاطب والجمع الغائب في الآيات عائد إلى الكفار على ما يفيده فحواها. وهي والحالة هذه متصلة بسابقاتها في صدد محاججة الكفار وإفحامهم كما أنها تمهيد لما في الآيات التالية لها ، وهذا مما جرى عليه أسلوب النظم القرآني.

والجواب في الآية الأولى حكاية مفروضة على لسان الكفار ، وأسلوبها يلهم أن جواب الكفار لن يكون إلّا إيجابا ، فهم لا ينكرون الله تعالى وإنما يشركون معه غيره للاستشفاع والزلفى ويعترفون أنه الخالق الرازق المدبر المتصرف في الكون النافع الضار وحده. ويدعونه وحده في الشدائد والأخطار على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها ، ومن هنا جاء الإفحام والإلزام.

ولقد روى البغوي بطرقه عن علي بن أبي ربيعة أنه : «شهد عليا رضي الله عنه حين ركب فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى قال الحمد لله ثم قال سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون ، ثم حمد ثلاثا وكبّر ثلاثا ثم قال : لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنّه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له : ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعل مثل ما فعلت وقال مثل ما قلت ثم ضحك فقلنا ما يضحكك يا نبيّ الله؟ قال : عجبت للعبد إذا قال لا إله إلا الله ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلّا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلّا هو» (١). وأورد ابن كثير حديثا عن

__________________

(١) أورد ابن كثير هذا الحديث أيضا عن الإمام أحمد بفرق مهم وهو : «يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال ربّ اغفر لي ويقول علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري» وقال الترمذي والنسائي رويا هذا الحديث أيضا.

٤٩٢

عبد الله بن عمر رواه الإمام أحمد قال : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا ركب راحلته كبّر ثلاثا ثم قال : سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. ثم يقول : اللهمّ إني أسألك في سفري هذا البرّ والتقوى ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن علينا السفر واطو لنا البعيد. اللهمّ أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل. اللهمّ اصحبنا في سفرنا وأخلفنا في أهلنا». وكان إذا رجع إلى أهله قال : «آئبون تائبون إن شاء الله عابدون لربنا حامدون». حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور استلهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للآيات القرآنية فرأى أن في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها تعليما له وللمسلمين أيضا بما ينبغي أن يفعلوا إذ يتمتعون بما سخّره الله لهم من وسائل الركوب فكان ما روته الأحاديث منه وصار ذلك سنة شريفة للمسلمين من بعده.

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)) [١٥ ـ ١٩]

(١) جعلوا له من عباده جزءا : كناية عن نسبتهم الأولاد إلى الله تعالى على اعتبار أن الأولاد جزء من آبائهم.

(٢) أصفاكم بالبنين : بمعنى خصكم بالبنين واصطفاهم لكم.

(٣) بما ضرب للرحمن مثلا : بما جعله ندا ومماثلا للرحمن.

(٤) كظيم : كتوم لغيظه على شدته.

(٥) ينشأ في الحلية : الحلية هي ما تتزين به النساء ومعنى الجملة ينشأ في الزينة ، وهو شأن النساء بوجه الإجمال والقصد من الجملة التنديد بهم لأنهم جعلوا

٤٩٣

النساء ـ اللاتي يقضين حياتهن في التزين واللهو ـ أندادا لله تعالى.

(٦) في الخصام غير مبين : غير بليغ وغير قوي في الجدل والخصومة. وهذا كذلك من شأن النساء وفي هذه الجملة ما في الجملة الأولى من القصد.

(٧) أشهدوا خلقهم : هل كانوا حاضرين حينما خلقهم الله.

في الآية الأولى إشارة تنديدية إلى عقيدة المشركين الكفار في الملائكة وفي الآيات التالية لها مناقشة وردّ وتسفيه وإنذار لهم بسببها.

فقد سوّغوا أن يكون بعض عباد الله جزءا منه أي أولادا وفي هذا ما يدل على شدة جحود الإنسان وانحرافه عن الحق والمنطق. ثم سوّغوا أن يكون أولاد الله من البنات فقط في حين أنهم يتمنون أن يكون أولادهم ذكورا وفي حين أن أحدهم إذا بشّر بالبنات التي ينسبونهن إلى الله اسودّ وجهه وامتلأ صدره غيظا ولم يكد يقدر على كتمه وكظمه. وهذا يدل على شدة سخفهم لأن النساء في العادة والإجمال ضعيفات في قوة الخصومة والنضال يقضين حياتهن في التزين واللهو وهذا مما لا ينبغي أن يكون عليه أولاد الله إذا كان يصح أن يكون له أولاد سبحانه وتعالى. والبنات اللاتي نسبوهن إلى الله هم الملائكة وهم عباده فهل كانوا حاضرين حينما خلقوا ليقولوا هذا القول الذي لا يجوز أن يقوله إلا شاهد عيان ، ولسوف يحصي الله على الكفار المشركين هذه الأقوال ليسألهم عنها ويحاسبهم عليها حسابا عسيرا.

والآيات متصلة بسابقاتها واستمرار لها كما هو المتبادر. وأسلوبها جدلي ، والحجة في الجدل تكون أقوى بطبيعة الحال إذا كانت مستمدة مما يسلم به الفريق الثاني ولهذا جاءت الحجة هنا قوية ملزمة والسخرية لاذعة محكمة.

تعليق على

ما احتوته الآيات [١٦ ـ ١٨]

من وصف الإناث وتوضيح لنظرة القرآن

للمرأة ومركزها في الإسلام

وقد يبدو لأول وهلة من فحوى الآيات [١٦ ـ ١٨] أنها بسبيل الانتقاص من

٤٩٤

قدر البنات والإناث ومركزهن وتهوين شأنهن بالنسبة للبنين والذكور والذي يتبادر لنا أن ما ورد في الآيات هنا وفي آيات أخرى جاءت في مثل المناسبة التي جاءت فيها هذه الآيات هو تعبير عما كان سائدا في أذهان العرب الذين تندد الآيات بمشركيهم واعتباراتهم لتكون الحجة فيها أشد إلزاما وإفحاما. وليس هو رأي القرآن المباشر في المرأة وبخاصة المسلمة ، أما هذا الرأي فإن ما ورد في القرآن المكي والمدني معا يسوّغ القول إنه قد رفع من شأنها ومركزها اللذين كانا منخفضين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته ، بل جعلها مساوية للرجل في كل شيء تقريبا. فقد اعتبرها والرجل متساويين في أصل الخلقة ، ونشوء الجنس والرابطة الزوجية على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة ، واعتبرها أهلا لكل تكليف كلّف به الرجل ، وكل واجب أوجب عليه وكل خطاب خوطب به ، وأباح لها كل ما أباح له وحرّم عليها كل ما حرّم عليه ومنحها كل ما منحه ، ورتب عليها كل نتيجة ر؟ ها عليه من كل ذلك في الحياة الدنيا والآخرة معا. واعتبرها صاحبة الحق في كل تصرف من التصرفات الشخصية والمدنية والملية المشروعة دون أن يتوقف ذلك على إذن الرجل مهما كانت نسبته إليها ، وثبت حقها في الإرث ومنحها فيه ما فيه الكفاية بل وأكثر من الكفاية مما هو من مفاخر الشريعة الإسلامية ومفرداتها ومعجزاتها الباهرة التي رشحتها للخلود. وما قد يكون هناك من بعض التحفظات والاستدراكات القرآنية فإنه متصل بالحياة الزوجية أو بطبيعتها الجنسية وليس من شأنه أن ينتقص مما ذكرناه شيئا على ما سوف نشرحه في مناسباته إن شاء الله ، وهو من الكثرة والتنوع بما لا يتسع له المقام هنا.

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)) [٢٠ ـ ٢٢]

(١) ما عبدناهم : الضمير راجع إلى الملائكة.

٤٩٥

(٢) يخرصون : يظنون أو يخمنون أو يتوهمون.

(٣) من قبله : الضمير راجع إلى القرآن.

(٤) أمة : هنا بمعنى ملة أو طريقة أو دين.

في الآيات :

١ ـ حكاية لما كان يعتذر به المشركون عن عبادة الملائكة حيث كانوا يقولون إن الله لو لم يشأ أن نعبدهم لمنعنا من عبادتهم.

٢ ـ وردّ تسفيهي على هذه الحجة الواهية بتقرير كونهم لا يستندون فيها إلى علم وبيّنة وإنما هم متوهمون توهما.

٣ ـ وتساؤل على سبيل الاستنكار والتحدي عما إذا كان الله تعالى قد أنزل عليهم قبل القرآن كتابا يستندون إليه فيما هم عليه من عقائد ويدلون به من حجج ويستمسكون به دون القرآن.

٤ ـ وحكاية لما كانوا يقولون حينما تلزمهم الحجة حيث كانوا يقولون : إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن سائرون على هداهم وسيرتهم فيها.

والآيات كما هو ظاهر متصلة بسابقاتها اتصال سياق وموضوع وتعقيب. وتلهم أن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن ما هم عليه متصل بشريعة ربانية يتوارثونها جيلا عن جيل. وقد تكررت حكاية هذه الحجة عنهم مرارا مرت منها أمثلة في السور السابقة حيث يبدو أنهم كانوا يكررونها في كل مناسبة ومناظرة. والروايات تذكر وبعض الآيات تلهم أنهم كانوا يظنون أن ما هم عليه من عقائد وتقاليد هو من ملّة إبراهيم على ما شرحناه في سياق سورة (الأعلى) وغيرها من السور السابقة.

تعليق على آية

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)

وما بعدها

والآيات تنطوي على معنى التنديد بالحجة التي كان المشركون يحتجون بها

٤٩٦

وتقرير كون صحة العقيدة والفكرة وبطلانهما لا يجوز أن يكون مستندا إلى قدمها وتوارثها عن الآباء وإنما يجب أن تكون قائمة على بينة وعلم ومصلحة ، وفي هذا تلقين جليل قرآني مستمر المدى.

وفي الآية الأولى ردّ مستمر التلقين والمدى أيضا على كل حجة مماثلة لتبرير الآثام والاعوجاجات التي يرتكبها الناس ويقولون إن الله لو شاء لما ارتكبوها. وفيها كذلك تسفيه مستمر التلقين والمدى لكل من يلقي الكلام على عواهنه من غير سند إلى علم وبينة أو يتمسك برأيه تمسكا أعمى بدون منطق ودليل.

ولقد اعتبر الزمخشري الآية الأولى دليلا على صحة مذهب المعتزلين الذين يقولون باكتساب الإنسان أعماله بمشيئته بما في ذلك الكفر والشرك والإيمان لأنها نددت بالمشركين الذين يقولون لو شاء الله ما أشركنا وقررت ضمنا أن شركهم إنما كان باختيارهم وكسبهم فاستحقوا التنديد والإنذار. وغمز المجبرة الذين يخالفون مذهب المعتزلة في ذلك. وقد ردّ عليه القاضي ابن المنير وقابل الغمز بمثله (١). والآية هي بسبيل حكاية قول المشركين والتنديد بهم لأنهم أرادوا تبرير شركهم. والأولى أن تبقى في هذا النطاق لتظل الحجة فيها والتلقين المستمر قويين. وقد تكرر فحواها في مثل هذه الحجة والتلقين في آيات سورة الأنعام [١٤٩ ـ ١٥٠] التي سبق تفسيرها والتي احتوت زيادة هامة في بابها من حيث تقريرها أن الله لو شاء لجعل جميع الناس مهتدين ولكنه ترك ذلك لاختيارهم حيث يدل هذا على أن المشركين كانوا يكررون إيراد هذه الحجة ويرون فيها تبريرا لعقائدهم وردا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يتلوه عليهم من آيات فيها تسفيه وتنديد لهم.

ولقد حمل بعض المفسرين (٢) ما حكته الآية الأولى من قول المشركين على محمل الاستهزاء والتعجيز وآيات الأنعام المشار إليها آنفا تؤيد كون ذلك صادرا عنهم في معرض التبرير. وقد وردت آيات تتضمن تقرير كون المشركين يعتقدون

__________________

(١) انظر تفسير الكشاف والتعليق عليه لابن المنير طبعة مصطفى محمد ج ٣ ص ٤١٤.

(٢) انظر تفسير النسفي.

٤٩٧

أنهم على حق في عقائدهم ، منها ما حكته آية سورة الأعراف هذه : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨)) ونحن نرجح أن قولهم هنا من هذا الباب. وهذا ما يستفاد من شرح معظم المفسرين أيضا (١). ولعل في الآية التالية لها قرينة قوية على ذلك حيث تساءلت تساؤل المنكر عما إذا كان لديهم كتاب من الله يستندون إليه ويستمسكون به.

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)) [٢٣ ـ ٢٥]

(١) مترفوها : زعماؤها ووجهاؤها الذين استغرقوا في الترف وأبطرتهم النعمة والوصف هنا في مقام الذم والتنديد.

جاءت الآيات معطوفة على ما قبلها ومعقبة عليه :

١ ـ فلم يكن الله يرسل نذيرا قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أمة أو مدينة إلا قال له مترفوها إنا وجدنا آباءنا على طريقة ونحن مقتدون بهم.

٢ ـ ولقد كان أنبياؤهم يسألونهم منددين عما إذا كانوا يصرون على طريقة آبائهم حتى ولو أتوهم بما هو أهدى وأصلح منها فيجيبونهم بأنهم كافرون بما أتوا به على كل حال.

٣ ـ ومن أجل ذلك فقد انتقم الله منهم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والكشاف وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

٤٩٨

وانتهت الآيات بأمر السامع بالنظر كيف كانت عاقبتهم وبالاتعاظ والاعتبار بها.

تعليق على آية

(وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا

قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ)

وما بعدها

وفي الآيات تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما يلقاه من قومه هو ما كان يلقاه الأنبياء من قبله. وإنذار للكفار بعاقبة مثل عاقبة أمثالهم الأولين ، والأمر بالنظر إلى عاقبة السابقين يتضمن كون آثار انتقام الله مما يشاهد ويرى من قبل السامعين كما هو المتبادر مما فيه تدعيم للإنذار وإلزام للكفار. واستعمال كلمة (مُتْرَفُوها) قد يدل على أن المتصدين للصدّ والحجاج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الزعماء وأصحاب الوجاهة والقوة من المشركين ، وهو ما أكدته آيات كثيرة أخرى مرّت أمثلة عديدة منها.

وفي الآيات توكيد للتلقين الذي نبهنا إليه قبل قليل بعدم جواز التمسك الأعمى بتقاليد الآباء دون ما سند وبيّنة ومصلحة وحقّ. وفي الآية الثانية بخاصة دعم قوي له بما احتوته من التنديد المفحم بالتعصب لتقاليد الآباء حتى في حال الدعوة إلى ما هو الأهدى والأصلح والأحق ، وفي هذا تلقين مستمر المدى بوجوب الأخذ دائما بما هو الأهدى والأصلح والأحق بقطع النظر عن مصدره وبقطع النظر عن جدته وقدمه.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)) [٢٦ ـ ٢٨]

(١) عقبه : كناية عن ذريته.

٤٩٩

وهذه الآيات تعقيب ثان على أقوال الكفار في صورة تذكير بإبراهيم عليه‌السلام ، فقد قال لأبيه وقومه : إني نابذ ما تعبدون من أصنام وبريء منها ولائذ بالذي خلقني وحده فهو الذي يهديني إلى طريق الحق القويم. وقد جعل إبراهيم هذا الأمر وصية دائمة لأنساله من بعده حتى يسيروا عليه ويتذكر من يضلّ منهم فيعود عن ضلاله إليه.

والآيات قد تلهم أنه أريد بها تذكير العرب السامعين بطريقة ووصية من يعرفون ويعترفون بأنه أبوهم الأكبر على سبيل التنديد والإفحام. فإذا كانوا يريدون التمسك بتقاليد الآباء فهذا هو تقليد أبيهم الأكبر وعليهم أن يعودوا عن ضلالهم إليه. وقد شرحنا ما كان يتداوله العرب العدنانيون من تقليد بنوتهم لإبراهيم عليه‌السلام في سورة الأعلى فلا نرى حاجة إلى الإعادة.

(بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)) [٢٩ ـ ٣٢]

(١) متعت : هنا بمعنى يسرت لهم الأسباب والوسائل.

(٢) القريتين : كناية عن مدينتي مكة والطائف.

(٣) سخريا : من التسخير والسخرة بمعنى الاستخدام لقضاء المصالح.

احتوت الآيات صورة أخرى من صور الجدل واللجاج بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزعماء الكفار :

١ ـ فالله قد أنعم على السامعين وآبائهم من قبل ويسّر لهم وسائل الحياة

٥٠٠