التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

البخاري والترمذي عن ابن عباس وهو من أقارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس في التأويلات الأخرى ما في رتبة ذلك ولا قريب منه. وقد ذكر في سياق الحديث الذي أخرجه الطبراني أن بعض رواته ضعفاء ، ولقد قال الطبري بعد أن أورد جميع الأقوال : «إن أولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال لا أسألكم إلا أن تودوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم وإن دخول حرف (في) مما يؤيد ذلك إذ لو كان قصد الآية مودة قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دخل هذا الحرف ولكانت الجملة «إلا مودة القربى» لا «المودة في القربى». ولقد قال ابن كثير بعد أن أورد كثيرا من الأقوال والروايات التي أوردناها والأحاديث التي وردت في وجوب مودة واحترام ذوي قربى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والحق هو تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس». يعني التفسير الذي رواه البخاري والترمذي ولا ننكر الوصاة بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم ذرية طاهرة من أشرف بيت وجدّ على الأرض فخرا وحسبا ونسبا ، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الواضحة الجليلة (١) ، وجمهور المفسرين في جانب هذا التفسير (٢) أيضا.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٤)) [٢٤]

في الآية تساؤل استنكاري عما إذا كان الكفار يقولون إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتري على الله الكذب وردّ مفحم على ذلك بأن الله قادر لو كان قولهم صحيحا على أن يختم على قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطمس على بصيرته ويمحو الباطل المفترى عليه ويحق الحق. فهو العليم بما في الصدور المحيط بكل شيء القادر على كل شيء.

والآية غير منقطعة عن السياق وإن كانت تحكي زعما للكفار وترد عليه.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير.

(٢) انظر تفسير الزمخشري والخازن والبيضاوي والبغوي والقاسمي أيضا.

٤٦١

واتصالها ملموح بصورة خاصة بالآية [٢١] وما قبلها حيث حكت تلك الآيات أقوال المشركين ومواقفهم وحيث احتوت هذه حكاية قول آخر من أقوالهم.

ولقد ذكرنا في سياق تفسير الآية السابقة أن هذه الآية مما روى مدنيتها معها ، وشكنا في رواية الآية السابقة ينسحب على رواية هذه الآية بطبيعة الحال. ويلحظ أن أسلوب هذه الآية ومضمونها مما تكرر في آيات مكية وأن الصورة التي انطوت فيها هي من صور العهد المكي على الأعم الأغلب.

وفي إعلان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أوحى إليه به في الآية يتجلى فيه بصورة رائعة إخلاص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعمق شعوره بصدق صلته بالوحي الرباني واستشعاره هيبة الله عزوجل وانتفاء أي احتمال لنسبة شيء ما إليه لم يكن قد أوحى إليه به ، ومن شأن ذلك أن يفحم كل مكابر متعنت.

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (٢٦)) [٢٥ ـ ٢٦]

في الآيات تقرير بأن الله تعالى يقبل توبة التائبين إليه ويعفو عن السيئات ويعلم جميع ما يفعله الناس فيستجيب للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ويمنحهم عطفه ويزيدهم من فضله أما الذين كفروا فليس لهم عنده إلا شديد العذاب.

وكلمة (وَهُوَ) التي تبدأ بها الآيتان تدل على اتصالهما بما قبلهما كما هو المتبادر. ولا سيما أن الآيات السابقة قد ذكر الله تعالى فيها وجاءت هذه الآيات بعدها فاكتفت بالعطف عليه والإشارة إلى الله عزوجل بلفظ (هو). ومن المحتمل أن يكون استهدف في الآيتين إعلان كون باب الله مفتوحا للناس الذين يدعوهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبشرهم مما ذكر في الآيات السابقة وبذلك يبدو الاتصال واضحا.

٤٦٢

والمتبادر أن جملة (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) مرتبطة بالجملة التي قبلها ونتيجة لها ومتضمنة تقرير عفو الله عن سيئات الذين يتوبون إليه ويرجعون عن تصرفاتهم وأعمالهم الآثمة. وفيها تشجيع رباني على التوبة مما تكرر في مواضع كثيرة في القرآن وعلقنا على ما فيه من مبدأ قرآني عظيم في سياق سورة البروج.

ولقد ساق المفسرون (١) في سياق هذه الجملة بعض أحاديث نبوية فيها تشجيع كبير على التوبة منها حديث رواه أبو هريرة رضي الله عنه جاء فيه : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

ومنها حديث رواه الأغر بن بشار المزني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيّها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».

ومنها حديث رواه عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتدّ الحرّ والعطش أو ما شاء الله قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ فإذا راحلته عنده عليها طعامه وشرابه».

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (٢٧) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (٢٨) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (٣٠)

__________________

(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

٤٦٣

وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٣١)) [٢٧ ـ ٣١]

في الآيات :

١ ـ تنبيه على خلق من أخلاق الناس بصورة عامة وهو ميلهم إلى تجاوز الحد والظلم والبطر إذا ما بسط الله لهم الرزق ووسع عليهم أسبابه.

٢ ـ وتقرير بأن حكمته اقتضت من أجل ذلك أن تكون أرزاقهم بأقدار معينة وفقا لما يعرفه من أحوالهم وأخلاقهم فهو الخبير البصير بعباده.

٣ ـ وتنبيه على أن الله عزوجل هو الذي ينزل المطر بعد ما يكون الناس قد يئسوا وانقطعت آمالهم فتنتشر مشاهد رحمته في الأرض. فهو وليّهم الذي يبرّ بهم ويرعاهم ويتولى شؤونهم وهو المستحق وحده للحمد.

٤ ـ وتنبيه على بعض مشاهد عظمة الله وقدرته في غير إنزال الغيث ، فهو الذي خلق السموات والأرض وأوجد فيها أنواع الدواب والحيوان وهو قادر بطبيعة الحال على جمعهم حينما يشاء لأنه هو الذي خلقهم في البدء.

٥ ـ وتنبيه بأسلوب التفاتي إلى المخاطبين السامعين على أن ما يصيبهم من مصائب إنما هو نتيجة لما تكسبه أيديهم ، ومع ذلك فإنهم لا يصابون إلّا بقليل مما يستحقون لأن الله يعاملهم بالعفو والتجاوز عن الكثير.

٦ ـ وتنبيه بأسلوب الإنذار للمخاطبين السامعين أيضا على أنهم ليسوا معجزي الله وليسوا ناجين منه فلا ينبغي لهم أن يغتروا ، فهو محيط بهم قادر عليهم وليس لهم من دونه من ولي ولا نصير يحميهم ويمنع عنهم غضبه وبطشه.

وبين هذه الآيات والآيتين السابقتين شيء من التماثل الأسلوبي والموضوعي ، مما يسوغ القول إنها متصلة بهما واستمرار لهما. وقد احتوت تقريرات قوية موجهة إلى العقول والقلوب. ومستمدة من مشاهدات الناس في الآفاق وفي أنفسهم ، وهادفة إلى توكيد استحقاق الله تعالى وحده للعبادة والخضوع والشكر وسخف المشركين في اتخاذ الشركاء والأولياء من دونه. ولقد كان المشركون يعترفون

٤٦٤

بصفات الله تعالى وأفعاله المذكورة في الآيات ، وهذا مما يزيد في قوة الآيات ومداها كما هو المتبادر.

تعليق على آية

(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) إلخ

ويلوح لنا أن الآية [٣٠] وهي تنبه إلى أن ما يصيب الناس من مصائب هو من كسب أيديهم قد قصدت تقرير ما هو متسق مع الواقع والحق والعقل وهو أن ما يصيب الناس في أغلب الأحيان من مصائب وبلاء وشرور وأضرار وأخطار إنما هو نتيجة لتصرفاتهم وأعمالهم ، فليس لهم أن يوجهوا لومهم على ذلك إلى غيرهم. ومن واجبهم أن يترووا في أعمالهم وتصرفاتهم ليتقوا تلك الأضرار والأخطار.

ومع ما قلناه أنه المتبادر اللائح من الآية [٣٠] فهناك أحاديث نبوية يرويها المفسرون في سياقها ، منها حديث رواه البغوي بطرقه عن الحسن قال : «لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفس محمّد بيده ما من خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلّا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر». وحديث رواه البغوي بطرقه أيضا عن أبي سخيلة قال : «قال علي بن أبي طالب : ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله عزوجل حدّثنا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير». قال وسأفسرها لك يا علي. «ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عزوجل أكرم من أن يثني عليه العقوبة في الآخرة. وما عفا الله عنه في الدنيا فالله أحلم من أن يعود بعد عفوه». ولسنا نرى في الحديثين نقضا لما تبادر لنا بل فيهما تدعيم له وإن كان فيهما بالإضافة إلى ذلك تبشير وتطمين للمسلمين يجعلانهم يتقبلون ما يقع عليهم بالرضاء والإذعان ، وفي هذا ما فيه من تلقين جليل. ولقد أورد ابن كثير في سياقه أحاديث فيها تدعيم لهذا التلقين الإضافي. منها حديث رواه الإمام أحمد عن عائشة قالت : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفّرها». وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن معاوية بن

٤٦٥

أبي سفيان قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما من شيء يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفّر الله تعالى عنه من سيئاته».

تعليق على آية

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)

ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [٢٧] وهي أولى هذه الآيات مدنية. وروى المفسر الخازن رواية مؤيدة لذلك عن خباب بن الأرت رضي الله عنه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن هذه الآية نزلت فينا وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع فتمنيناها فأنزل الله الآية». والذي نلحظه أن الآية منسجمة في الآيات الأخرى سبكا وموضوعا انسجاما تاما. وأن آيات لا خلاف في مكيتها قد احتوت شيئا مما احتوته مرت أمثلة منها في السور السابقة وبخاصة في سورة سبأ. ولا تظهر حكمة لوضعها في السياق المكي الذي وضعت فيه لو كانت مدنية وهذا فضلا عن أن مضمونها لا ينطبق تماما على فحوى الرواية وبناء على ذلك كله فنحن نتوقف في رواية مدنيتها.

وهذا لا يمنع من أن يكون بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أظهروا عجبهم مما في أيدي يهود المدينة من ثروات فتلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية مذكرا بحكمة الله ومشيئته ونواميسه في بسط الرزق وقبضه ، فظن بعضهم أنها نزلت حديثا.

وقد يكون نزول الآية في مكة متصلا بسبب مثل ذلك حيث يكون الكفار قد تبجحوا بثروتهم وغناهم وقد حكت آيات عديدة عنهم ذلك ، أو يكون بعض المسلمين قد تساءلوا عن حكمة ذلك فجاءت لترد على أولئك أو تطمئن هؤلاء وظلت تساق في هذا المعرض ، وفي الآية [٣٦] الآتية بعد قليل قرينة ما على ذلك على ما سوف نشرحه بعد.

ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية حينما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها ، فقال قائل : هل يأتي الخير بالشرّ يا نبي الله؟ فردّد السؤال ثم نزل عليه الوحي فلما فصل عنه قال : إن الخير لا يأتي إلّا

٤٦٦

بالخير ثلاثا ولكنه والله ما كان ربيع قط إلّا أحبط أو ألمّ (هذا مثل عربي يراد به مخالطة المواد الضارة في نبات الربيع مع المواد النافعة) فإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في سبيل الله التي افترض وارتضى فذلك عبد أريد به خير وعزم له على خير. وإما عبد أعطاه الله مالا فوضعه في شهواته ولذاته وعدل عن حق الله عليه فذلك عبد أريد به شرّ وعزم له على شرّ.

ولقد ساق المفسر البغوي في سياق تفسير الآية حديثا قدسيا رواه أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل جاء فيه : «يقول الله عزوجل : من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة وإنّي لأغضب لأوليائي كما يغضب الليث الحرد ، وما تقرب إليّ عبدي المؤمن بمثل أداء ما افترضت عليه وما يزال عبدي المؤمن يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه ، وإن من عبادي لمن يسألني الباب من العبادة فأكفه عنه أن لا يدخله عجب فيفسده ذلك وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا بالفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلّا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك ، إني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير» (١).

وفي الحديث تطمين بأسلوب آخر لما قصدته الآية من تطمين على ما شرحناه قبل.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي للآية ، والحديث رواه البغوي سماعا عن راو عن راو حتى يصل إلى أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن جبريل عن الله عزوجل. ونقله عنه الخازن وغيره من المفسرين.

٤٦٧

تعليق على الآية

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما

مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (٢٩))

ولقد قال واحد من الذين يحبون أن يستدلوا بالآيات على ما في الكون من أسرار وعوالم مغيبة إن في هذه الآية دليلا على أن الكواكب مأهولة بالأحياء. وأن القرآن بذلك يتطابق مع ما صار معلوما عند العلماء في هذه الأيام. والآية لا تثبت ذلك ولا تنفيه ، وهذا أمر ما يزال قيد الظن والتخمين وقد يثبت وقد لا يثبت. والآية لم تنزل بسبيل ذلك ، وإنما كانت تتلى على أناس يرون ما في الأرض والسماء من مختلف الأحياء الدابة على الأرض والطائرة في السماء لتنبههم إلى ما في ما يشاهدونه من مظاهر قدرة الله وعظمته وكونه هو الأحق بالعبادة والاتجاه وحده. ولقد نبهنا على هذا في مناسبات سابقة مماثلة وقلنا إن في محاولة استنباط المعارف والأسرار والمغيبات الكونية من الآيات تكلفا لا طائل من ورائه وإخراجا للقرآن عن قدسيته وهدفه وتعريضا له للجدل والتكذيب بدون وجه ومبرر. وأن الواجب على المسلمين أن يقفوا من هذه الآية وأمثالها عند ما يقف عنده القرآن دون تزيد ولا تكلف مع ملاحظة الهدف الذي ترمي إليه والذي تخاطب في صدده السامعين خطابا متصلا بما يشاهدونه ويحسونه ويمارسونه.

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦)) [٣٢ ـ ٣٦]

(١) الجواري : جمع جارية وهي هنا كناية عن سفن البحر.

(٢) الأعلام : كناية عن ارتفاعها فوق سطح البحر كأنها جبال.

٤٦٨

(٣) رواكد : جمع راكدة أي واقفة عن السير.

(٤) يوبقهن : يحطمهن.

في الآيات :

١ ـ تنبيه على ما في سير السفن في البحر من آيات قدرة الله ونواميسه.

فالسفن البارزة على ظهر البحر كالجبال تجري وفقا لنواميس الكون التي قدرها الله ومنها أن تتحرك الريح فتجري السفن أو تسكن فتقف راكدة. وأن تكون عاصفة شديدة فتحطمها عقوبة على ما كسبت أيدي الذين فيها ، ومع ذلك فالله قادر على إنقاذهم من ذلك متجاوزا بذلك عن كثير من سيئاتهم وهفواتهم وفي كل هذا آيات ربانية جديرة بالتمعن لإثبات قدرة الله وإحاطته لا يقدرها قدرها إلّا الصبار الشكور الثابت على إيمانه الصابر على ما يصيبه الشاكر لله على فضله. ومن شأنها أن تجعل المكابرين في آيات الله يتيقنون أن قدرة الله محيطة بهم على كل حال وأنهم ليس لهم منها مفر ولا مفلت.

٢ ـ وتنبيه موجه للسامعين بصيغة الجمع المخاطب على أن ما أوتوه في الدنيا من وسائل الرزق وأسباب الحياة ليس إلّا متاعا قصير الأمد لن يلبث أن يزول وأن ما عند الله هو خير وأبقى للذين يؤمنون به ويتوكلون عليه.

والآيات مثل سابقاتها واستمرار لها في قصد بيان مشاهد الله تعالى ونواميس كونه وإنذار المكابرين والحث على الإيمان بالله والاتكال عليه وتنويه بالمؤمنين الصابرين الشاكرين. وما فيها هو كذلك مستمد من مشاهد الناس وممارساتهم كسابقاتها كما هو المتبادر ، والتنبيه الذي نبهنا إليه قبل ينحسب عليها بطبيعة الحال.

والمرجح أن ضمير الجمع المخاطب عائد إلى الكفار وأن الآية بسبيل الرد على ما كانوا يتبجحون به من تمتعهم بأسباب الحياة وسعة الرزق أكثر من المسلمين حيث نددت باغترارهم وتبجحهم وأنذرتهم بأن ما هم فيه ليس إلّا متاعا قصير الأمد وطمأنت المؤمنين بأن ما لهم عند الله هو خير وأبقى. وينطوي في هذا

٤٦٩

صور من صور ما كان بين المسلمين والكفار وقرينة على صحة ما أوردناه في سياق تفسير الآية [٢٧] وشكنا في رواية مدنيتها.

ويلحظ هنا أيضا أن الآية [٣٤] انطوت على توكيد المعنى الذي انطوى في الآية [٣٠] حيث يبدو كذلك أن حكمة التنزيل اقتضت التنبيه في آيتين متتاليتين على أن الذين يقترفون الآثام والأخطاء يلقون نتائج أعمالهم.

ونكرر هنا في مناسبة الفقرة الأولى من الآية [٣٦] ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة مماثلة من أنها لا تنطوي على دعوة المسلمين إلى نفض أيديهم من الدنيا وإنما هي بسبيل التنبيه على عدم الاستغراق فيها استغراقا ينسي المرء واجباته نحو الله والناس وبسبيل الحث على الأعمال الصالحة التي تقرب إلى الله وكونها هي التي تكون ثمراتها دائمة عند الله إذا كان أصحابها من المؤمنين المتوكلين على الله.

وفي الآية الأولى كما يتبادر لنا دليل على ما فتئنا ننبه عليه من كون مشاهد الكون والحياة في القرآن جاءت بأسلوب متسق مع ما كان سامعوه الأولون يعرفونه ويشاهدونه ويمارسونه. فالذي يظل راكدا على ظهر البحر حينما يمسك الله الريح هو السفن الشراعية ، وهي التي قصد بها في جملة (الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢)) ولم يكن تسيير السفن بالبحار وغيره قد عرف فنبهت الآية إلى ما يعرفه الناس بسبيل التنويه بآيات الله وقدرته. وطبيعي أن آيات الله وقدرته متمثلة في كل ما يكتشف ويعرف من نواميسه ومن الجملة تسيير السفن بالبحار وغيره.

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ

٤٧٠

يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)) [٣٧ ـ ٤٣]

(١) شورى : مصدر بمعنى التشاور والمشاورة وهي تبادل الرأي والتفاوض فيه.

(٢) ينتصرون : من الانتصار بمعنى مقابلة العدوان بمثله ودفعه.

(٣) الظالمين : هنا بمعنى المعتدين.

(٤) ما عليهم من سبيل : ليس من محل للومهم ومؤاخذتهم.

الآيات الثلاث الأولى معطوفة على الآية السابقة مباشرة لها في صدد وصف المؤمنين الذين أعد الله لهم عنده هو خير وأبقى :

١ ـ فهم الذين يبتعدون عن كبائر الإثم والفواحش وإذا ما أثار غضبهم أمر ما لم يندفعوا بالغضب بل يعمدون إلى الغفران والتسامح.

٢ ـ وهم الذين استجابوا إلى دعوة الله وأخلصوا دينهم له وتساموا عما عداه وأقاموا الصلاة له وحده وجعلوا اعتمادهم عليه وحده. ولا يقطعون في أمر من أمورهم إلّا بعد التشاور فيما بينهم للوصول إلى أحسن الوجوه والحلول.

٣ ـ وهم الذين ينفقون مما رزقهم الله في شتى وجوه البرّ ويأبون أن يساموا خسفا وضيما فإذا ما بغى عليهم باغ سارعوا متضامنين إلى التناصر ودفع البغي والعدوان.

والآيات الأربع الأخيرة احتوت تعليقا توجيهيا على ما جاء في الآيات الثلاث :

١ ـ فإذا كان من حق المبغى عليه أن يدفع عنه البغي ويقابله فينبغي أن يكون ذلك في حدود المماثلة دون تجاوز ولا إسراف ، فجزاء السيئة سيئة مثلها. ومع ذلك فإذا عفى وأصلح فذلك خير له وأجره على الله.

٤٧١

٢ ـ والله لا يحب الظالمين الذين يبدأون الناس بالعدوان أو يسرفون في المقابلة بحيث يكون في إسرافهم جور وجنف.

٣ ـ وليس من سبيل ولا لوم على الذين يدفعون الظلم عنهم إذا ما بغي عليهم وإنما ذلك على الذين يبدأون الناس بالظلم والعدوان ويبغون ويفسدون في الأرض بغير حق فهؤلاء جديرون بكل لوم ومستحقون للعذاب الأليم.

٤ ـ ومع ذلك فإن التحلي بالصبر والمغفرة والإغضاء خلق عظيم ومزية كبرى على كل حال.

ويستفاد من سياق بعض المفسرين (١) أن هذه الآيات أو بعضها نزل في الأنصار والثناء على أخلاقهم ، ومن سياق بعض آخر (٢) أنها أو أن بعضها نزل حينما أخذ المسلمون يجاهدون بعد الهجرة لينتقموا من كفار مكة. وهذا يقتضي أن تكون الآيات مدنية مع أننا لم نقع على رواية تذكر ذلك. والآيات بعد متصلة بما قبلها وما بعدها اتصالا وثيقا من جهة والطابع والأسلوب المكيّان غالبان عليها من جهة أخرى. ولعلها استهدفت توجيه بعض المسلمين الذين كانوا يودون مقابلة الكفار في مكة على أذاهم بالمثل ولا يرون الرضوخ أو الصبر على هذا الأذى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، مما احتوت آيات مكية أخرى الإشارة إليه صراحة أو ضمنا. مثل آية سورة الأعراف : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)) ، وآية سورة الجاثية : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [١٤] وآية سورة النحل : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)) ولا يبعد أن تكون هذه الآيات قد سيقت في معرض الأحداث الهامة في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو عقب وفاته وفي زمن الخلفاء الراشدين فالتبس الأمر على الرواة.

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.

(٢) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير.

٤٧٢

تعليق على آيات

(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ ...)

إلخ

وعلى كل حال فإن أسلوب الآيات يساعد على القول إنها من جهة وصف لما كان عليه الرعيل الأول من المؤمنين الذين استجابوا لدعوة الإسلام وأيدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد المكي من إخلاص وتضامن وتشاور وإباء وتسامح وأخلاق كريمة ، وتوجب من جهة أخرى على كل مسلم أن يكون على هذه الأخلاق ، أو تقرر بأن هذه الأخلاق هي من خصائص المسلم المخلص أو من نتائج الإسلام والإخلاص فيه. وهي جليلة خالدة على مرّ الدهر جديرة بالإجلال والإعظام ، ومن شأن المجتمع المتصف بها والسائر عليها أن يتمتع بالطمأنينة والكرامة والقوة والعزة ورفعة الشأن والصلاح في كل مكان ومجال. وهي متمشية مع طبيعة البشر وأسس العدل والحق من جهة ، وموجهة للمسلمين أفرادهم وجماعاتهم إلى خير المثل والمكارم الأخلاقية. وحرية بأن تعدّ من روائع المجموعات القرآنية.

وتعبير (كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) قد ورد في الآية [٣٤] من سورة النجم التي مرّ تفسيرها. وقد شرحنا مداه وأوردنا طائفة من الأحاديث النبوية الواردة فيه في سياق تفسيرها فنكتفي بهذا التنبيه.

وجملتا (إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)) و (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) جديرتان بالتنويه بصورة خاصة. فالأولى تعني أنهم يتضامنون في الدفاع ويقفون في وجه العدوان وقفة شديدة ولا يقرون الضيم والخسف فيهم. والثانية تعني أنه ليس بينهم مستبد طاغية وأنهم جميعا متساوون لا يفتئت أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد. ينظرون في أمورهم العامة نظرا مشتركا ويحلون مشكلاتهم بما يتفقون عليه بعد التشاور فيما بينهم ، وهذا من أرقى صور ما نسميه اليوم بالديموقراطية.

وقد يبدو لأول وهلة شيء من التناقض في تقريرات الآيات وتوجيهاتها. غير

٤٧٣

أن هذا الوهم يزول إذا ما أمعن فيها حيث يظهر أن في الآيات ما هو مظهر من مظاهر أخلاق المسلمين حين نزولها وما ينبغي أن يكون خطة لهم بعضهم تجاه بعض. وإن فيها ما ينبغي أن يكون خطة تجاه أعدائهم. فجملة : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧)) عائدة للمعنى الأول وللمعنى الثاني معا. وجملة : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣)) عائدة للمعنى الثاني. وجملة : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩)) وجملة : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ) ... إلخ عائدتان للمعنى الثالث.

وهناك أحاديث نبوية عديدة في فضيلة كظم الغيظ والغضب وتحمل الأذى والعفو فيها تلقين متساوق مع التلقين الذي احتوته الآيات في هذا الصدد. منها حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» (٢). وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعلّي أعيه. قال : لا تغضب. فردّد ذلك مرارا ، كل ذلك يقول لا تغضب» (٣). وحديث رواه الشيخان عن أبي موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى ، إنهم يجعلون له ندا ويجعلون له ولدا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم» (٤). وحديث رواه الترمذي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» (٥). وحديث رواه الخمسة عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أعطي أحد عطاء خيرا

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) التاج ج ٥ ص ٤٤ ـ ٤٧.

(٥) التاج ج ٥ ص ٤٤ ـ ٤٧.

٤٧٤

وأوسع من الصّبر» (١). وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» (٢). وحديث رواه الطبري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا» (٣). وحديث أخرجه أبو يعلى عن أنس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من كفّ غضبه كفّ الله عنه عذابه» (٤). وحديث أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما تجرّع عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» (٥).

والمتبادر من فحوى الأحاديث وأسماء رواتها من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها صدرت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد المدني في المناسبات التي اقتضتها للتعليم والتأديب ، وأن الآيات التي نحن في صددها قد احتوت مبادئ عامة ، وهذا من سمات القرآن المكي على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة والله تعالى أعلم.

وننبه على أن في سورة آل عمران آية تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمشاورة المسلمين ، والمتبادر أن هذا متصل بالدرجة الأولى بسياسة الحكم والسلطان في حين أن جملة (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) الواردة في هذه الآيات عامة تشمل هذه السياسة وتشمل سائر حالات ومواقف المسلمين فيما بينهم. ونكتفي هنا بما ذكرناه في صدد ذلك على أن نشرح أمر الشورى المتصل بسياسة الحكم والسلطان في سياق آية سورة آل عمران.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤٤ ـ ٤٧.

(٢) التاج ج ٥ ص ٤٤ ـ ٤٧.

(٣) التاج ج ٥ ص ٤٤ ـ ٤٧.

(٤) تفسير الآية [١٣٤] من سورة آل عمران.

(٥) تفسير الآية نفسها في تفسير ابن كثير ، وننبه على أن الأحاديث التي نقلناها عن تفسيري الطبري وابن كثير لم ترد نصا في كتب الأحاديث الصحيحة ، وهذا لا يمنع صحتها وهي من باب ما ورد في هذه الكتب ونقلناه عنها.

٤٧٥

وجملة : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) جديرة كذلك بالتنويه ، وقد حثت على خلقين من مكارم الأخلاق. ولقد تكرر ذلك كثيرا في سور مكية ومدنية أخرى. ففي صدد الحث على العفو آيات سورة البقرة هذه : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ...) [١٠٩] وهذه : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى ...) [٢٣٧] وآية سورة آل عمران هذه : (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)) ، وآية سورة النساء هذه : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)) ، وآية سورة النور هذه : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)) ، وآية سورة التغابن هذه : (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)). وفي صدد الحث على الإصلاح آيات سورة البقرة هذه : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)) ، وهذه : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)) ، وآيات سورة النساء هذه : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)) ، وهذه : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ...) [١٢٨] وهذه : (وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩)) ، وآيات سورة الأنعام هذه : (فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨)) ، وهذه : (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤)) ، وآية سورة الأعراف هذه : (فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥)) وآية سورة الأنفال هذه : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ...) [١] ، وآيات سورة الحجرات هذه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ

٤٧٦

فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)). حيث يبدو من ذلك ما أعارته حكمة التنزيل من اهتمام لترسيخ هذين الخلقين في نفوس المؤمنين لأنهما من شأنهما أن يوطدا المحبة والمودة والأخوة والتسامح والتعاون ويمنعا المشاكسات والمهاترات والأحقاد بينهم.

وهناك أحاديث نبوية عديدة في صدد ذلك منها في صدد الإصلاح حديث يندد بالذين يلجون في الخصومة والمشاكسة رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أبغض الرجال إلى الله الألدّ الخصيم» (١). وحديث يبرر استعمال أي أسلوب في سبيل الصلح رواه أبو داود والبخاري عن أم كلثوم بنت عقبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس بالكاذب من أصلح بين الناس فقال خيرا أو نمى خيرا» (٢). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة» (٣). وزاد الترمذي هذه الجملة في روايته : «لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدّين» (٤).

وهناك حديث مهم في بابه فيه تلقين أن الصلح يجب أن لا يحرّم حلالا ولا يحلّ حراما وقد رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما ، والمسلمون على شروطهم إلّا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما» (٥).

أما في صدد العفو فمن ذلك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة قال : «إن رجلا قال : يا رسول الله إنّ لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إليّ وأحلم عنهم ويجهلون عليّ. فقال : لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) التاج ج ٣ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٣) التاج ج ٣ ص ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) التاج ج ٢ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٥) التاج ج ٢ ص ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

٤٧٧

ذلك» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن ابن عمر قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت ، فأعاد الكلام فصمت ، فلما كان في الثالثة قال : في كلّ يوم سبعين مرة» (٢). وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلّا عزّا وما تواضع أحد لله إلّا رفعه الله» (٣).

هذا ، ولقد زعم بعض الأغيار أن فكرة الجهاد في الإسلام إنما وجدت في العهد المدني وأن مبادئ العفو والتسامح مع غير المسلمين إنما نزلت في العهد المكي ثم أهملت في العهد المدني. وهذا تجنّ وخطأ معا ، فالذي ينعم النظر في هذه الآيات يرى فيها نواة فكرة الجهاد على نفس الأسس التي قام عليها تشريع الجهاد في القرآن المدني على ما شرحناه في سياق تفسير سورة (الكافرون) وهي قتال المعتدي ودفع البغي وتأمين حرية الدعوة الإسلامية وعدم الإسراف في المقابلة بالمثل. كما أن الذي ينعم النظر في كثير من الآيات المدنية يجد أن الباب ظل كما هو الحال في القرآن المكي مفتوحا دائما للتائبين والمنيبين والمنتهين عن مواقفهم الجحودية العنيدة المؤذية ، وأن القرآن المدني حثّ في كثير من آياته على العفو والتسامح والغفران والوفاء بالوعود والعهود والعدل والبرّ مع غير المسلمين الموادين والمسالمين (٤).

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٩ و ١١ و ٤٦. (الملّ : الرماد الحار).

(٢) التاج ج ٥ ص ٩ و ١١ و ٤٦. (الملّ : الرماد الحار).

(٣) التاج ج ٥ ص ٩ و ١١ و ٤٦. (الملّ : الرماد الحار).

(٤) انظر مثلا آيات سورة البقرة [١٠٨] والنساء [٢٦ و ٩٠ و ٩٤ و ١٤٥ و ١٤٦] والمائدة [٢ و ٨ و ٢٣ و ٣٢ ـ ٣٣ و ٤٢] والأنفال [١٨ و ٣٨ ـ ٣٩ و ٦١ ـ ٧٢] والتوبة [٤ و ٧] والممتحنة [٨ ـ ٩].

٤٧٨

يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦)) [٤٤ ـ ٤٦]

(١) الظالمين : يمكن أن تكون الكلمة تعني الكفار المشركين كما يمكن أن تعني البغاة المعتدين. والمعنى الأول هو الأكثر ورودا في هذا المقام مع انطوائه على معنى العدوان والبغي في الكفر والشرك.

(٢) مردّ : هنا بمعنى رجعة أو عودة إلى الدنيا.

في الآيات تنبيهات تضمنت إنذارات قوية للظالمين ، فالذين يستحقون غضب الله وخذلانه بسبب ظلمهم وجحودهم لن يكون لهم نصير ولا ولي بعده ، ولسوف يندمون على ما بدا منهم حينما يرون عذاب الله ويتساءلون تساؤل المضطرب المتحسر الفزع عما إذا لم يكن من سبيل للعودة إلى الدنيا لتلافي ما كان منهم. ولسوف يرون حينما يعرضون على النار وقد انهدت قواهم وتزلزلت أعصابهم من الفزع يرسلون نظرات الرعب والذل من تحت أحداقهم كما يفعل الذليل الجبان حينما يواجه الشدائد والأخطار وحينئذ يتيقن المؤمنون ويقولون إن الخاسرين الحقيقيين هم الذين يخسرون يوم القيامة أنفسهم وأهليهم حيث يكونون في عذاب دائم لا نهاية له ولا مخلص منه. ولن يكون لهم أولياء ينصرونهم وهذا هو مصير من يستحق غضب الله وخذلانه حيث لا يكون له منفذ ينفذ منه أو طريق يصل منه إلى الأمن والسلامة.

وواضح أن الآيات قد جاءت تعقيبا على الآيات السابقة لها وفي معرض المقابلة والمفاضلة بين حالتي المؤمنين والكفار ومصير كل منهم. والاتصال بينها وبين ما سبقها قائم والحالة هذه. والصورة قوية مفزعة حقا. وقد استهدفت كما هو المتبادر فيما استهدفته إثارة الرعب في قلوب الكفار الآثمين وإثارة الطمأنينة في قلوب المؤمنين ، ونعت الذين يضلهم الله بالظالمين والخاسرين وتقرير كونهم فقدوا النصير والولي قرائن مؤيدة لشرحنا العبارة

٤٧٩

وتوجيهها ، وللتعليقات التي علقناها على ما يماثلها من عبارات سابقة كما هو المتبادر.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)) [٤٧ ـ ٤٨]

(١) مردّ : هنا بمعنى لا راد له ولا دافع.

(٢) نكير : هنا بمعنى نصير ، وأصل معناها الذي ينكر ما يحدث من الأمور ويعترض عليها.

في الآية الأولى وجه الخطاب للسامعين بصيغة الجمع المخاطب فهتفت بهم حاثة على الاستجابة إلى دعوة الله والارعواء عما هم فيه من انحراف عن طريق الحق قبل أن يأتي اليوم الذي لا راد له ولا مفلت من الله فيه والذي لن يكون لأحد فيه ملجأ ولا نصير من دون الله. وفي الثانية وجه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة الانتقال والالتفات فنبهته إلى أن الله تعالى لم يجعله رقيبا على الناس ومسؤولا عنهم وضامنا لاستجابتهم إذا هم ظلوا على ضلالهم وإعراضهم عن الدعوة ؛ وأنه ليس عليه إلا الإنذار والبلاغ. واحتوت الآية بعد ذلك تعقيبا تقريعيا للإنسان أو للجنس الإنساني بصورة عامة ، فهو إذا منحه الله نعمة بطر وفرح واغترّ ونسي الله تعالى ، وإذا أصابته سيئة بسبب آثامه وأخطائه يئس وكفر.

والآيتان جاءتا على ما هو المتبادر معقبتين على الآيات السابقة لها ، والاتصال بين السياق قائم والحالة هذه.

والآية الأولى وإن كانت موجهة للسامعين إطلاقا فإن روح الآية الثانية

٤٨٠