التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

الله تعالى مرجع كل شيء وهو الحكم العدل بين الناس فيما اختلفوا فيه وهو ربّه الذي عليه يتوكل وإليه ينيب ويستند ، وينطوي في البيان معنى الوثوق واليقين بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو على حق في الخلاف القائم بينه وبين المشركين كما هو المتبادر.

وجاءت الآيتان الأخريان للبرهنة على استحقاق الله وحده الولاء والاعتماد والإنابة والربوبية الشاملة جريا على الأسلوب القرآني : فهو الذي خلق السموات والأرض ، وجعل للناس أزواجا من أنفسهم لينموا ويكثروا ، وخلق لهم من الأنعام أزواجا كذلك. وهو الذي لا يماثله شيء في عظمته وقدرته وصفاته وكنهه السميع لكل شيء البصير بكل شيء الذي في يده تصريف السموات والأرض وبسط الرزق وقبضه وفقا لمقتضيات علمه وحكمته لأنه عليم بكل شيء.

والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة ومؤكدة لها. والآية الثانية كما قلنا موجهة مباشرة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المخاطبين وفي مثل هذه الحالة يفرض محذوف بعد كلمة (من شيء) وهو (قل) فيتسق حينئذ الفصل القرآني. وهذا مما جرى عليه الأسلوب القرآني وقد مرّ منه أمثلة عديدة.

وجملة (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) موجهة إلى مخاطبين حاضرين. وتحتمل أن يكون التوجيه فيها مطلقا وتحتمل أن يكون خاصا لفريق في موقف من المواقف. وروح الفصل والآيات السابقة معا التي تستعمل ضمير الغائب بالنسبة للكفار تجعلنا نرجح الإطلاق في التوجيه.

تعليق على جملة

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)

وجملة (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ـ وإن جاءت في مقامها لتنفي أي احتمال للتماثل بين الله تعالى في قدرته وعظمته وشمول تصرفه وحكمته وكمال صفاته وبين أي كان ممن يتخذهم المشركون شركاء له في الدعاء والعبادة وفي معرض

٤٤١

التنديد بالمشركين ـ فإنها من حيث هي حاسمة في صدد الذات الإلهية وسرها ، ويصح أن تكون ضابطا عاما تجب ملاحظته في كل ما ذكر في القرآن من صفات الله الذاتية والفعلية ومن كل ما نسب إليه سبحانه من أعضاء وحركات وحواس كاليد والعين والوجه والمجيء والنزول والعروج والاستواء والرؤية والسمع والبصر والكلام والروح والغضب والفرح والكيد والمكر إلخ واعتبار كل مماثلة يمكن أن يتصورها الإنسان بين الله سبحانه في أي شيء وبين أي شيء آخر ممتنعة ومنتفية.

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)) [١٣]

(١) شرع : بيّن أو فرض أو سن أو خط.

في الآية :

١ ـ تقرير بأن ما شرعه الله من الدين للناس الذين يوجه إليهم القرآن على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما شرعه ووصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام. وقد وصاهم أن يثبتوا عليه دون خلاف ولا فرقة.

٢ ـ وإشارة إلى ما كان من استعظام المشركين لما يدعوهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليه من وحدة الله مع أن ذلك هو ما دعا إليه الأنبياء من قبله.

٣ ـ وتقرير بأن الله إنما يختار ويقرب إليه من يشاء ويهدي إليه أولئك الذين ينيبون إليه ويرغبون في هداه.

والآية متصلة بالسياق الذي يندد بالمشركين لاتخاذهم أولياء من دون الله. وجملة (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (١٣)) من الجمل التي يصح أن تكون مفسرة ومقيدة للجمل التي تأتي مطلقة في آيات أخرى كما

٤٤٢

هو واضح. وكمناسبة قريبة فإن فيها تدعيما لما شرحناه في صدد الآية الثامنة من السورة.

تعليق على آية

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)

والآية في حدّ ذاتها احتوت تنويها بوحدة المنبع والمبادئ في الأديان التي جاء بها رسل الله. وتوكيدا بوجوب الثبات على ذلك وعدم الانقسام والتفرق فيه. ثم تقريرا بأن الرسالة المحمدية تنبع من نفس المنبع ، وتقوم على نفس المبادئ ، وتتقيد بالواجب الذي أمر الله بالثبات عليه وعدم الانقسام والتفرق فيه.

وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك إقناع العرب بأن الرسالة المحمدية ليست بدعة جديدة وإنما هي نفس الدعوة التي دعا إليها الأنبياء السابقون وهذا يلهم أن العرب كانوا يعرفون ويعترفون بأن الله تعالى أرسل قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنبياء. وهو ما حكته عنهم آيات عديدة منها آية سورة الأنبياء هذه : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)) ومنها آية سورة القصص هذه : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [٤٨] ومنها آية سورة الأنعام هذه : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [١٥٧] وهذا ما يجعل حجة الآية دامغة لهم. ويلحظ أن الآية اقتصرت على ذكر أربعة أنبياء. ومن المتبادر أن الذين ذكروا هم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن.

ولقد ذكر الطبري في سياق تفسير الآية [٧] من سورة الأحزاب التي فيها ذكر الأنبياء الأربعة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل هذه الآية وهي : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ...) عزوا إلى قتادة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٤٣

كان يقول : «كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث». وأورد هذا البغوي وابن كثير في سياق آية الأحزاب كذلك. وهذا يذكر أن الحديث من مرويات ابن أبي حاتم أحد أئمة الحديث وأنه رواه مسلسلا إلى قتادة عن الحسن عن أبي هريرة بهذا النص : «روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) الآية ، أنه قال : «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم» وعقب ابن كثير على الحديث بقوله : إن أحد رواته سعيد بن بشير فيه ضعف وإن آخرين رووه عن قتادة مرسلا أو موقوفا والله أعلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق آية الأحزاب حديثا آخر رواه أبو بكر البزار مسلسلا إلى أبي هريرة أنه قال : «خيار ولد آدم خمسة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وخيرهم محمد» وعقب ابن كثير على هذا الحديث بقوله إنه موقوف وإن في أحد رواته حمزة الزيات ضعفا.

والأحاديث لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة وفيها من العلل ما يسوغ التوقف فيها كما هو ظاهر.

ونكرر ما قلناه إن اختصاص الأنبياء الأربعة بالذكر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو بسبب كونهم الأكثر شهرة وتداولا وعمومية عند سامعي القرآن. فقد كانوا ينتسبون إلى إبراهيم عليه‌السلام وينسبون إليه تقاليدهم الدينية ويزعمون أنهم على ملّته. وموسى وعيسى هما أصل الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين كانت لهم بهما وبأتباعهما صلات وثيقة متنوعة. وكانوا متأثرين بهما إلى حد كبير. وكانتا في نظرهم هي الديانات السماوية الكتابية ، ونوح هو أبو البشر بعد الطوفان حيث تفرعت الأجناس من أولاده سام وحام ويافث على ما ورد في سفر التكوين الذي كان اليهود والنصارى يتداولونه ويعتبرونه من أسفارهم الهامة والذي كان العرب يعرفون كثيرا مما جاء فيه من أخبار وقصص عن طريقهم.

ولقد روى المفسرون (١) أقوالا عديدة معزوة إلى علماء التابعين في المقصود

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

٤٤٤

من (الدين) الذي شرعه الله ووصى به الأنبياء السابقين ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. منها أنه تحليل الحلال وتحريم الحرام. ومنها أنه تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، ومنها أنه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة. والمتبادر أن الجملة تشمل كل ذلك أو بكلمة ثانية تشمل المبادئ المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية في رسالات أنبياء الله تعالى. ولعلها مما هدفت تقرير كون ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بدعا بل إنه متسق مع ما وصى الله تعالى به الأنبياء من قبله عامتهم وخاصتهم لا سيما الذين يعرفون أنهم أصل الشرائع الممارسة والله أعلم.

(وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١٤)) [١٤]

تضمنت الآية :

١ ـ إشارة تنديدية إلى اختلاف الذين جاءهم أنبياء الله بالدين الذي شرعه الله للناس.

٢ ـ وتقريرا بأن ذلك إنما كان منهم بغيا وشذوذا عن الحق وعن أمر الله الذي أكّد بوجوب عدم التفرق في الدين.

٣ ـ وتقريرا بأن الله كان جديرا بالقضاء بينهم في الدنيا فيؤيد الحق وأهله ويزهق الباطل وأصحابه لو لا أن حكمته اقتضت تأجيل ذلك إلى أجل معين عنده.

٤ ـ وتقريرا بأن الذين ورثوا كتب الله التي أنزلها على أنبيائه السابقين قد وقعوا منها في شكوك شديدة أدت إلى ما هم فيه من خلاف وفرقة وبلبلة.

والآية متصلة بسابقتها كما هو واضح ، ومن المحتمل أن يكون ما فيها من تعليل للخلاف القائم بين الناس في دين الله الذي جاء به أنبياؤه الأولون

٤٤٥

جوابا على احتجاج وجاهي احتج به المشركون ، كما أن من المحتمل أن يكون ذلك توضيحا لأسباب واقع الأمر من الفرقة والخلاف بين الذين يتبعون الأديان التي أتى بها أنبياء الله السابقون ، وقد تسوغ الآية التالية لهذه الآية ترجيح الاحتمال الثاني.

تعليق على جملة

(وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ)

ولقد تضمنت الآية تقرير كون الخلاف والانقسام والنزاع بين أهل الأديان السماوية ليس ناشئا من طبيعة دين الله الذي شرعه للناس على لسان رسله وأنبيائه والذي أمر الله بالثبات عليه. وإنما هو نتيجة لما كان من بغي وأهواء ومآرب وسوء تأويل وشذوذ بين الذين ورثوا كتب الله عن أنبيائهم ، لأن الدين الذي شرعه الله والذي هو ـ على ما هو المستمد من القرآن وجوهر الكتب السماوية ـ وحدة الله وربوبيته الشاملة وعدم إشراك أي شيء به والتزام الفضائل والمكارم الأخلاقية الشخصية والاجتماعية ونبذ الآثام والفواحش والمنكرات لا يتحمل انقساما ولا خلافا ولا نزاعا في أي ظرف ومكان. وقد تكرر تقرير ذلك والنعي على أهل الكتاب والتنديد بهم بسببه في مواضع كثيرة من السور المكية والمدنية. وفي هذا ما فيه من خطورة وتلقين جليل مستمر المدى.

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٥)) [١٥]

(١) لا حجة بيننا وبينكم : ليس بيننا وبينكم مجال للمحاججة والخصومة.

في الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤٤٦

١ ـ بأن يدعو إلى ما أمر به ويثبت عليه بعد أن بيّن الله له في الآية السابقة أن الخلاف والنزاع والشك الذي وقع فيه أهل الأديان والكتب المنزلة ليس من طبيعة دين الله الذي شرعه على لسان أنبيائه الأولين ولا يتبع أهواءهم وميولهم.

٢ ـ وبأن يعلن أنه مؤمن بما أنزل الله من كتب ومأمور بأن ينصف الناس ويعدل بينهم فيكتفي ببيان الحق وتبليغ وحي الله والقول لهم بعد ذلك أنتم وشأنكم وليس بيني وبينكم مجال للخصومة والتنازع ، ولكم أعمالكم وأنتم مسؤولون عنها ولنا أعمالنا ونحن مسؤولون عنها ومرد الجميع إلى الله وهو يحكم بيننا بالعدل ويقضي بالحق.

تعليق على آية

(فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ

وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ)

والآية استمرار في السياق كما هو واضح ، ومن المحتمل أن ينصرف ضمير الجمع المخاطب فيها إلى الذين ورثوا الكتاب وتفرقوا في دين الله كما أن من المحتمل أن ينصرف إلى المشركين. ومع أن معظم المفسرين (١) صرفوه إلى المشركين فإن روح العبارة ومقامها يلهمان أن صرفه إلى الذين ورثوا الكتاب هو الأولى.

وعلى كل حال فإن فيها تثبيتا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين وتوكيدا عليهم بالاستقامة على ما هم عليه من حق وهدى وعدم متابعة الأهواء والنزعات التي أدت إلى انحراف الأمم السابقة عن كتب الله ودينه الذي شرعه. وإعلانا للعقيدة الإسلامية في صدد ربوبية الله الشاملة للجميع ، وفي صدد الكتب السماوية وأصحابها حيث تقرر وحدة الله وربوبيته الشاملة للجميع ، وتؤمن بما أنزل الله من كتاب وتأمر

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري والطبرسي.

٤٤٧

بالعدل والإنصاف مع الذين لا يدينون بالإسلام وبتركهم وشأنهم إذا ما التزموا نفس الموقف إزاء المسلمين وتفوض أمر الجميع إلى الله عزوجل ليؤيد من كان على الحق وثبت فيه ، ويخزي ويعاقب من انحرف عنه. وفي هذا ما فيه من اتساق مع المبادئ القرآنية المحكمة والتلقين الجليل المستمر المدى.

وفي أمر الله للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول إنه أمر بإعلان إيمانه بكل ما أنزل من كتاب وبأن ربه وربهم واحد بعد أن قررت الآيات السابقة لهذه الآية وحدة المنبع والمنهج بينهم هدف عظيم المدى وهو فتح باب اللقاء والتفاهم على مصراعيه بين أهل القرآن وأهل الكتب السابقة ليتكون منهم جبهة واحدة متحدة في توحيد الله والدعوة إليه وإلى المبادئ السامية الأخلاقية والاجتماعية التي احتوتها كتب الله والتزامها تحت راية الإسلام التي هي راية أهل الكتاب وأنبيائهم معا تبعا لوصفهم بالإسلام والمسلمين في آيات كثيرة مكية ومدنية منها آيات سورة البقرة هذه : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)) ، وكذا : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ...) [١٢٨] ، وآية سورة آل عمران هذه : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)) وآية سورة المائدة هذه : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)) ، وآية سورة يونس هذه : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)) وآية سورة القصص هذه : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣)) وآية سورة الحج هذه : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ...) (١) [٧٨].

ولقد ظلت أوامر القرآن بعد هذه الآية تترى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان ما أمر

__________________

(١) هناك آيات كثيرة أخرى من هذا الباب مكية ومدنية.

٤٤٨

بإعلانه في هذه الآية. ومنها آيات واسعة شاملة مثل آية سورة البقرة هذه : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)) (١) تحصيلا لذلك الهدف العظيم.

ولقد تحقق هذا الهدف بمقياس واسع بما كان من إيمان معظم النصارى وفريق من أهل العلم من اليهود في الحجاز في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبي والقرآن وانضووا إلى الراية الإسلامية على ما قررته آيات عديدة مكية ومدنية أوردناها في مناسبات سابقة (٢). كما آمن بها معظم الكتابيين من مسيحيين وموسويين في بلاد الشام والعراق ومصر وشمال افريقية وجنوب أسبانية نتيجة لما ظهر لهم من أعلام نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق القرآن وحملة رايته وإذا كان بقي منهم من لم يؤمن بهما فمرد ذلك إلى أسباب أخرى قررتها آيات قرآنية عديدة أوردناها في مناسبات سابقة أيضا (٣). وما يزال هذا الهدف قائما إلى الآن وإلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله الحق في آية سورة الفتح هذه : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨)).

هذا ، والمتبادر أن الآية وهي تقرر العقيدة الإسلامية بالإيمان بما أنزل الله من كتاب إنما عنت كتب الله التي لا تحريف فيها. هذا في حين أن ما هو متداول اليوم من أسفار العهدين القديم والجديد لا يمكن أن يتصف بصفة كتاب الله وفيها دلالات حاسمة على أنها من تأليف كتّاب متعددين في ظروف مختلفة. وفيها ما

__________________

(١) هناك آيات أخرى من بابها أيضا.

(٢) اقرأ آيات سور : آل عمران [١١٢ ـ ١١٣ و ١٩٩] والنساء [١٦٢] والمائدة [٨٣ ـ ٨٤] والأنعام [١١٤] والرعد [٣٦] والإسراء [١٠٧ ـ ١٠٨] والقصص [٥١ ـ ٥٣] والعنكبوت [٤٦] والأحقاف [١٠].

(٣) اقرأ آيات سور : البقرة [٤٠ ـ ١٤٨] وآل عمران [٦٩ ـ ١٢٠] والنساء [٤٤ ـ ٥٥] والمائدة [١٢ ـ ١٩ و ٥٩ ـ ٦٦] والتوبة [٢٩ ـ ٣٤].

٤٤٩

هو منسوب إلى الله ورسله مع تنافيه مع المبادئ القرآنية المحكمة الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية مثل ربوبية الله الشاملة ووحدته المطلقة المنزهة عن كل شائبة ومبادئ الحق والعدل والرحمة والإنسانية والمساواة وحظر الربا والظلم والبغي والعدوان والمنكرات والآثام إلخ على ما شرحناه في سياق سورة الأعراف. ولقد أكد القرآن وقوع تحريف وإخفاء ونسيان في كتب الله المنزلة كما جاء في آيات سورة البقرة هذه : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)) ، وهذه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)) ، وسورة آل عمران هذه : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)) ، وسورة المائدة هذه : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ

٤٥٠

رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)).

والمتبادر من هذا أن العقيدة الإسلامية تظل مقيدة بالنص القرآني المطلق (آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ) وعدم الاعتراف بنسبة أي شيء إلى الله ورسله إذا كان يتنافى مع المبادئ والمثل العليا المحكمة الإيمانية والأخلاقية. ولقد جاء في سورة المائدة هذه الآية : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ...) [٤٨] بحيث يسوغ القول إن الله عزوجل قد جعل القرآن ـ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ـ للمسلم مقياسا يقيس عليه ما ينسب إلى الله مما في المتداول من الكتب الدينية فما اتسق فيه من المبادئ والمثل المحكمة مع مثلها في القرآن جاز أن يكون من عند الله وحسب والله تعالى أعلم.

وقد ركزنا الكلام على الكتب التي في أيدي النصارى واليهود لأنهم الذين يعنيهم القرآن بالدرجة الأولى بتعبير أهل الكتاب والذين كان بينهم وبين العرب قبل الإسلام ثم بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اتصال مباشر على ما ذكرناه في التعليق على أهل الكتاب في سورة المدثر. وقد نبهنا في هذا التعليق على أن تعبير أهل الكتاب أوسع من أن يقتصر على اليهود والنصارى وأنه لا مانع من أن يشمل كل ملة تدعي أن في يدها كتابا منسوبا إلى الله وموحى به إلى أحد رجالها العظماء القدماء وعليه سمة من سمات كتب الله المعروفة ومن ذلك الكتب المنسوبة إلى عظماء رجال من الهند والصين وغيرهما وفيها شرائع ووصايا وتعاليم وعقائد ولو كان ما فيها أو بعض ما فيها مخالفا للقرآن لأن هذا شأن الكتب التي يتداولها اليهود والنصارى اليوم فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ

٤٥١

وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (١٦)) [١٦]

(١) داحضة : ساقطة أو باطلة.

تقرر الآية بأن حجة الذين يجادلون في وحدة الله وصفاته واستحقاقه للعبادة والولاء وحده وما في دعوة رسوله من حقّ وصدق قد سقطت وبطلت بعد أن ظهر الحق واستجاب إلى الدعوة أصحاب الرغبة الصادقة في الحق البريئون من العناد والمكابرة وعلى الذين يحاجون ويكابرون بعد ذلك غضب الله وعذابه الشديد.

تعليق على آية

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ)

والآية جاءت معقبة على الآية السابقة لها مباشرة في الدرجة الأولى وعلى الفصل القرآني جميعه بصورة عامة. وقد انطوى فيها ردّ على المشركين الذين رجحنا أنهم هم الذين كانوا يتحججون بما عليه أهل الكتاب من انقسام وخلاف ، ومعنى الاستعلاء عليهم والإفحام لهم في الآية قوي.

والمتبادر أن الآية قد عنت استجابة من استجاب إلى دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل الكتاب بالإضافة إلى من استجاب إليها من العرب. وهذا مما يقوي في الآية ذلك المعنى ، ومما يقويه بقوة وروعة وشمول أن الذين استجابوا إلى الدعوة في العهد المكي كانوا يمثلون البشرية جميعا تقريبا تمثيلا تاما على اختلاف الطبقات والألوان والأقطار والأجناس والأديان والنحل حيث كان فيهم الغني والفقير والشريف والمسكين والزعيم والصعلوك والشباب والشيوخ والنساء والرجال والصبيان والفتيات والأحرار والأرقاء والتاجر والصانع والزارع والراعي والحضري والبدوي والقرشي وغير القرشي والشامي والمصري والعراقي واليمني والفارسي والرومي والحبشي والسوداني والمشرك والصابئي والحنيفي والوثني والكوكبي والمجوسي واليهودي والنصراني. فكان في الجماعة الإسلامية الأولى التي تكونت تحت زعامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نموذج رائع للمجتمع الإنساني الذي استهدفت الرسالة المحمدية إقامته

٤٥٢

من جميع الأجناس والألوان والطبقات يدينون لربّ واحد شامل الربوبية ، متصف بجميع صفات الكمال منزه عن الشوائب في نطاق الأخوة والمساواة والحرية والعدل والإحسان والبر والتعاون والتضامن والتوادّ والمحبة والسلام والتسامح. لا يطغى فيه ولا يتعالي قوي على ضعيف ولا غني على فقير ولا زعيم على صعلوك ، يؤخذ من غنيهم لفقيرهم ويرحم قويهم ضعيفهم ، ويعين قادرهم عاجزهم ويؤيد أعلاهم أدناهم. ويجيز أدناهم على أعلاهم ويتساوى نساؤهم مع رجالهم في الحقوق والواجبات والتكاليف والنتائج الدنيوية والأخروية يتفانون في الله ورضوانه ويجاهدون في سبيله ويحملون راية دعوته ويدعون إليها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلّا من ظلم وبغى. لا يستبد أحد منهم في رأي ، وأمرهم شورى بينهم. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر يجتنبون الفواحش ما ظهر منها وما بطن ويتقون الله في السر والعلن ويقومون بواجبهم نحو الله والناس لا يبغون ولا يعتدون على أحد ولا يرضخون لظلم ولا بغي ، لا يضيقون بمن يريد أن يحتفظ بدينه إذا هو وادّهم وسالمهم بل يبرونه ويعطونه حقه ويحكمون له إذا تقاضى عندهم بالحق وتكون له حريته الدينية والمدنية والقضائية يطيعون ولاة أمورهم الذين يجب أن يكونوا منهم فيما لا معصية فيه. ويأخذون حظهم من الدنيا كسبا وسعيا ومتاعا. ويستمتعون بزينة الله التي أخرجها لعباده والطيبات من الرزق من دون إسراف وينتفعون بكل ما في الكون من نواميس ومنافع مما احتواه القرآن في مختلف فصوله المكية والمدنية واحتوته السنة النبوية الثابتة القولية والفعلية.

وهذا التمثيل للبشرية في الإسلام ظل مستمرا بعد الهجرة مع اتساع نطاقه ثم ظل مستمرا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع اتساع نطاقه كذلك إلى الآن وسيظل إلى ما شاء الله حتى يتحقق وعد الله ويظهر الإسلام على الدين كلّه مما يزيد معنى العبارة القرآنية قوة بعد قوة.

(اللهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا

٤٥٣

إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (١٨)) [١٧ ـ ١٨]

(١) الميزان : هنا كناية عن العدل أو العقل الذي يزن المرء به الحق والباطل ، أو القدرة على الموازنة بين الحق والباطل وكل هذا ما أورده المفسرون في تأويل الكلمة ، وبعضهم روى أنه الميزان العادي ولكن هذا لا يتوافق مع روح العبارة القرآنية.

احتوت الآيتان توكيدا بأن الله هو الذي أوحى بالكتاب لرسوله وهو حقّ لا يتحمل مراء ، ووهب الناس قوة الموازنة بين الحق والباطل ليستطيعوا تمييز الحق واتباعه ، وعين لهم موعدا بعد الموت يبعثهم فيه ليحاسبوا فيه على أعمالهم. وتنبيها على أن هذا الموعد أقرب مما يظنه السامع ، وبيانا بأن الذين يستعجلون هذا الموعد هم الذين لا يؤمنون به في حين أن المؤمنين يعرفون أنه حق لا ريب فيه ويحسبون حسابه في تهيب وإشفاق ، وتقريعا للكفار بتقرير كونهم في مماراتهم وشكّهم في الآخرة موغلين في الضلال والباطل.

والآيتان متصلتان بما سبقهما ؛ فقد جاء في الآية السابقة لهما أن الله يجمع بين الناس وأن المصير إليه فجاءت الآيتان لتوكيد ذلك.

والاستعجال الذي ذكر في الآية الثانية كان يقع من الكفار على سبيل التحدي وفي معرض الإنكار والجحود والاستخفاف مما تكررت حكايته عنهم ومرت أمثلة عديدة منه حيث يبدو أنهم لا يفتأون يكررونه تحديا واستخفافا.

(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (١٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (٢٠)) [١٩ ـ ٢٠]

(١) الحرث : هنا بمعنى الثواب أو الحظ أو النفع.

٤٥٤

في الآية الأولى تنبيه إلى لطف الله بعباده ورزقه لمن يشاء دون مانع ولا حائل ، وتنويه بصفتي القوة والعزة اللتين يتصف بهما.

وفي الثانية تنبيه إلى أن الذين يبتغون الآخرة بإيمانهم وعملهم الصالح يزيد الله حظهم فيها وأن الذين يكتفون بحظ الدنيا ولا يحسبون حساب الآخرة قد ينالون منها ما يبتغون ثم لا يكون لهم في الآخرة حظ ولا نصيب.

والآيتان متصلتان بما سبقهما حيث ذكر في الآيات السابقة الساعة أو يوم القيامة أو الآخرة فجاءت الآيتان في صدد ذلك أيضا.

والظاهر أن الكفار كانوا يتبجحون بما أوتوا من رزق وقوة ويرون في هذا دليلا على حظوتهم عند الله. فأريد بالآيتين الردّ عليهم وتقرير حقيقة الأمر في أحوال الناس الدنيوية وكونها مظهرا من مظاهر ناموس الله في ملكوته. وبيان كون ما يتيسر للناس في الدنيا من حظ لا يغني عنهم شيئا إذا لم يبتغوا وجه الله ويحسبوا حساب الآخرة بالإيمان والعمل الصالح.

وتبجح الكفار بقوتهم وما أوتوه من سعة عيش وكثرة أموال وأولاد قد تكرر ، وفي آية من سورة سبأ حكى عنهم اعتقادهم أن ذلك سوف يقيهم من العذاب على ما مرّ شرحه في تفسير السورة المذكورة. وقد ردت آيات من السورة عليهم برد قوي مماثل في روحه للرد الوارد في هذه الآيات أو المنطوي فيها الذي شرحناه في التعقيب الذي أوردناه آنفا.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢١) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٢٢)) [٢١ ـ ٢٢]

في الآية الأولى تساؤل استنكاري عما إذا كان للمشركين شركاء شرعوا لهم

٤٥٥

دينا لم يشرعه الله ولم يأذن به. وإنذار للظالمين المنحرفين عن حدود الله المتمردين على عبادته وحده بالعذاب الأليم على ما بدا منهم من الجرأة والزعم ، وتعليل لتأخر هذا العذاب بالحكمة الربانية التي اقتضت تأجيل الفصل بين الناس إلى يوم القيامة.

وفي الآية الثانية صورة لما سوف يكون من أمر الظالمين في ذلك اليوم حيث يستولي عليهم الخوف من نتائج تمردهم وسوء أعمالهم التي هي واقعة عليهم حتما في حين يكون الذين آمنوا بالله وحده وقدموا صالح الأعمال منعمين في روضات الجنات يتمتعون بما يشاءون واحتوت الفقرة الأخيرة تنويها بهذا المصير السعيد الذي هو فضل عظيم للمؤمنين على الظالمين.

والآيتان استمرار للسياق والموضوع كما هو المتبادر ، ولقد كان المشركون يزعمون أن ما هم عليه متصل بما شرعه الله وأن الله راض عنهم مما حكته آيات عديدة عنهم مرت أمثلة منها في السور السابقة. والظاهر أنهم كرروا ذلك في ظروف نزول هذه السورة وما ورد فيها من الإشارة إلى ما شرعه الله للناس على لسان أنبيائه فاحتوت الآيات تنديدا وردّا وإنذارا واستطرادا إلى ذكر المؤمنين الصالحين ومصيرهم بالمقابلة ، جريا على الأسلوب القرآني.

(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (٢٣)) [٢٣]

في الآية تنبيه على أن ما ذكر في الآية السابقة من المصير السعيد هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للمخاطبين إني لا أسألكم أجرا إلّا المودة في القربى ، وتقرير بأن الذي يفعل الحسنة يزاد له فيها ويضاعف أجره لأن الله غفور شكور يعامل عباده الصالحين بالمغفرة والتقدير.

وكلمة (ذلِكَ) تبدو بمثابة الرابطة بين هذه الآية وما سبقها كما هو المتبادر.

٤٥٦

وفي الآية أمر مؤكد للأوامر السابقة للنبي بإعلان قومه بأنه لا يطلب منهم على مهمته نفعا ولا أجرا إلا المودة في القربى. وفيها حث على الاستجابة إلى الله وترغيب في عمل الصالحات وتبشير بصفات الله الغفور الشكور وتقرير لقابلية الناس على الاختيار وجزاؤهم على اختيارهم أيضا.

ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية احتوت توكيدا للمعنى الذي انطوى في الفقرة الأخيرة من الآية [٢٠] السابقة بأسلوب آخر حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت مواصلة تطمين الذين يفعلون الأفعال الحسنة التي ترضي الله تعالى بمضاعفة ثوابهم في آيات متتالية. وفي هذا ما فيه من حثّ على العمل الصالح وقد تكرر كثيرا ومرت منه أمثلة عديدة.

تعليق على جملة

(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)

ولقد تعددت الأقوال والروايات في معنى (الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية والآيتين اللتين بعدها مدنيات. وروى الطبرسي في مجمع البيان نقلا عن تفسير أبي حمزة الثمالي عن ابن عباس أن الأنصار جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أن استحكم الإسلام في المدينة فقالوا له : إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها في غير حرج ولا محظور عليك فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال : تودون قرابتي من بعدي فخرجوا من عنده مسلمين فقال المنافقون : إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد أن يذلنا لقرابته من بعده فأنزل الله الآية : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ...) فتلاها عليهم فبكوا واشتد عليهم فأنزل الله الآية التي بعدها : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) فأرسل في أثرهم فبشرهم ، وقد أخرج الطبراني حديثا عن ابن عباس مقاربا لما جاء في هذه الرواية (١).

__________________

(١) انظر مجمع الزوائد ج ٧ ص ١٠٢ ـ ١٠٣.

٤٥٧

هذا من جهة رواية مدنية الآية والآيتين اللتين بعدها ، وسبب نزولها ، وهناك روايات وأقوال عديدة في تأويل الآية بصورة عامة استقصاها الطبري والطبرسي أكثر من غيرهما فمما رواه الطبري أن ابن عباس سئل عن الآية فقال ابن جبير : القربى فيها هي قربى آل محمد. فقال ابن عباس : «عجلت إنّ النبيّ لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فنزلت الآية تذكر ذلك وتقول لقريش (إلا أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم) وقد روى البخاري والترمذي هذه الرواية في كتابيهما أيضا (١). ومما رواه الطبري عن ابن عباس قوله : «كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة في جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال : يا قوم إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم وذلك قول الآية : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ومما رواه الطبري أيضا عن ابن عباس في الآية قوله : «قال محمد لقريش : لا أسألكم من أموالكم شيئا ولكنّي أسألكم أن لا تؤذوني لقرابة ما بيني وبينكم فإنّكم قومي وأحقّ من أطاعني وأجابني» ومثل هذه الأقوال ومن بابها أقوال مروية في الآية عن عكرمة وحصين بن مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وعطاء بن دينار وابن وهب.

وإلى جانب هذه الأقوال التي يرويها الطبري يروي أيضا روايات مناقضة لها حيث يروي أن رجلا من أهل الشام قال لعلي بن الحسين لما جيء به إلى دمشق بعد مقتل أبيه : الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم وقطع قرن الفتنة. فقال له : أقرأت القرآن؟ قال : نعم ، قال : أما قرأت (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)؟ قال : نعم وإنّكم لأنتم هم؟ قال : نعم. وحيث يروى أيضا أنّ سعيد بن جبير قال : إن كلمة (الْقُرْبى) في الآية تعني قربى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن عمرو بن شعيب أوّلها بمثل ذلك. وقد روى الطبري إلى جانب هذه الروايات وتلك عن الحسن أن القربى في الآية بمعنى القربى إلى الله. وعن قتادة أن الجملة في الآية بمعنى التودد والتقرب إلى الله بالطاعة.

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٤٥٨

ومما رواه الطبرسي في تفسيره (مجمع البيان) عن الحسن والجبائي وأبي مسلم أن معنى الآية : «لا أسألكم أجرا إلا التواد والتحابب وما يقرب إلى الله من العمل الصالح» أو «التقرب إلى الله والتودد إليه بالطاعة». كما روى عن ابن عباس أنها تعني : «لا أسألكم إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم وتحفظوني لها». وعن قتادة ومجاهد : «أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم». وعن سعيد بن جبير وعمرو بن شعيب وأبي جعفر وأبي عبد الله : «أن تودوا قرابتي وعترتي وتحفظوني فيهم». وعن الحسن : «إنّا أهل البيت الذين افترض الله مودّتهم على كلّ مسلم فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)». وعن ابن عباس : «لما نزلت الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم؟ فقال : هم عليّ وفاطمة وولدهما» (١).

وتعليقا على ما تقدم نقول : أما من ناحية مدنية الآية فالملحوظ أنها متصلة أوثق اتصال بالآية السابقة لها نظما وموضوعا. وهذا ما يلحظ أيضا بالنسبة للآيتين التاليتين لها اللتين ذكرت الروايات أنهما مدنيتان مثلها ، ويلحظ أن رواية نزولها في المدينة معزوة إلى ابن عباس الذي رويت روايات عديدة عنه في تأويل الآية تأويلا يصرفها عن قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها حديث صحّ عند البخاري والترمذي وليس يخفى ما في رواية نزولها في المدينة من غرابة بل وتهافت وقصد تلفيق وتطبيق.

ولعل قصد صرف الآية إلى أقارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو صلة بها لأن ذلك يكون ممتنعا البتة في حالة مكية الآية حيث كان أكثر أقارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العهد المكي ومنهم أعمامه أبو طالب وأبو لهب والعباس كفارا ، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها قد تزوجت ، ولم يكن الحسن والحسين قد ولدا بعد. ولذلك فنحن نشك في رواية مدنية الآية والآيتين التاليتين لها. وأما من ناحية صرف الآية إلى أقارب

__________________

(١) علق ابن كثير على هذه الرواية بقوله : إسناد ضعيف فيه مبهم لا يعرف عن شيخ شيعي مخترق وهو حسين الأشقر ولا يقبل خبره في هذا المحل والآية مكية ولم يكن لفاطمة إذ ذاك أولاد.

٤٥٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو فاطمة وعلي وولدهما فمع أن البرّ بالصالحين المتقين من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومودتهم واحترامهم واجب مسلّم به بقطع النظر عما إذا كان هناك نصّ قرآني أو حديث نبوي (١) فإن حمل العبارة على ذلك في معرض أجر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مهمته ودعوته لا يتسق قط مع علوّ شأن النبوة ومصدرها الرباني ولا مع الآيات العديدة التي تضمنت أوامر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول للناس إنه لا يسألهم على مهمته أجرا ولا خرجا وليس له أي غاية شخصية دنيوية مما مرّ منه أمثلة عديدة. ولذلك نرى التأويلات الأخرى التي وردت في صدد الزيادة الاستثنائية التي نشأ عنها ذلك المفهوم هي الأولى والأصوب من حيث إنها قصدت أن تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلان قومه أنه لا يسألهم على رسالته أجرا ولا يقصد نفعا خاصا وكل ما يطلبه أو يرجوه هو هدايتهم أو مودته أو عدم أذيته أو عدم الصد عن دعوته وأن هذا هو ما توجبه القرابة التي بينه وبينهم ، ولا سيما أن من هذه التأويلات ما صح عند

__________________

(١) ومن الواجب أن نذكر أن هناك أحاديث عديدة في وجوب محبة واحترام أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعترته منها ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة. وهذا يجعل ذلك الواجب أمرا دينيا وإيمانيا ملزما. ومن ذلك حديث رواه مسلم والترمذي عن زيد بن أرقم قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خمّا بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ثم قال : أما بعد ، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه ثم قال وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي». فقال الحصين ـ راوي الحديث عن زيد ـ لزيد : «ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. قال : ومن هم يا زيد؟ قال : هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس». التاج ج ٣ ص ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

وهناك صيغ عديدة أخرى لهذا الحديث من طرق أخرى ، وهذه الصيغة أوسعها إسهابا وأوثقها سندا ، وروى الترمذي عن ابن عباس قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحبّوا الله تعالى لما يغذوكم من نعمه وأحبّوني بحبّ الله وأحبّوا أهل بيتي بحبّي». تفسير الآية لابن كثير. وهناك أحاديث أخرى منها ما هو في صدد أفراد معينين من آل البيت. وفيها الجيد السند وفيها الضعيف فاكتفينا بما أوردناه الوارد في جميع أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامة والقوي الإسناد.

٤٦٠