التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) [النساء / ٣٦].

٢ ـ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة / ٩٣].

٣ ـ (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل / ٩٠].

وقد توهم جملة (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥)) أنها بسبيل بيان صعوبة الأمر. وعلى احتمال ذلك فإنها قصدت إلى التنويه بالفعل وفاعله وتعظيم شأنهما أيضا بل نحن نظنّ أن هذا القصد هو الأكثر ورودا إن شاء الله.

وليس من محلّ لتوهم التناقض بين هذا التلقين المنطوي في الآيات وبين ما جاء في آيات مكية ومدنية عديدة على ما سوف يأتي بعد من تسويغ مقابلة العدوان بمثله وانتصار المسلم من بغي ينزل به وبإخوانه. فهذا التلقين كما يتبادر لنا هو في صدد السلوك الشخصي بين الناس وبين المسلمين. ويمكن أن يصرف إلى ما يكون فيه بغي وعدوان شديدا النكاية والأذى. كما أن التنوع في التلقين يمكن أن يصرف إلى ما هو طبيعي من تنوع ظروف البشر أفرادهم وجماعاتهم ليسير الناس فيما يواجههم من هذه الظروف سيرا منسجما مع روح القرآن عامة. وهي العفو عند المقدرة حينما لا يكون سببا في ازدياد الشر والبغي. ويؤدي إلى الهدوء والسكينة والرضا ومقابلة البغي بمثله حينما لا يكون بدّ من ذلك. والنظام العام هو عدم بدء المسلم غيره بالسوء والبغي وأن يكون هذا منه مقابلة ودفاعا. وفي سورة الشورى التي تلي هذه السورة فصل احتوى تلقينا في صدد هذه المواقف المتنوعة يصح أن يكون فيه قرينة على صواب ما نقرره إن شاء الله ، على ما سوف يأتي شرحه بعد هذه السورة.

٤٢١

ولقد رويت أحاديث عديدة صحيحة في موضوع معاملة الناس بالحلم والصبر وحسن الخلق ، منها حديث رواه الثلاثة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (١). وحديث رواه أبو داود والترمذي عن سهل بن معاذ عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من أيّ الحور العين شاء» (٢). وحديث رواه البخاري والترمذي وأحمد عن أبي هريرة قال : «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : علّمني شيئا ولا تكثر عليّ لعليّ أعيه. قال : لا تغضب فردّد ذلك مرارا كلّ ذلك يقول لا تغضب» (٣). وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء» (٤). وحديث رواه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم عن عائشة قالت : «سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم» (٥). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال : تقوى الله وحسن الخلق. وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال : الفم والفرج» (٦). وحديث رواه الترمذي عن أبي ذرّ قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» (٧). وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خياركم أحاسنكم أخلاقا» (٨). حيث ينطوي في هذه الأحاديث تلقين نبوي جليل متساوق مع التلقين القرآني مثل كل شأن.

تعليق على رواية عجيبة

في صدد نزول الآية [٣٥]

ولقد روى البغوي عن مقاتل أن الآية [٣٥] نزلت في أبي سفيان بن حرب

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٢) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) التاج ج ٥ ص ٤٣ ـ ٤٤.

(٤) المصدر نفسه ٥٧ ـ ٥٨.

(٥) المصدر نفسه ٥٧ ـ ٥٨.

(٦) المصدر نفسه ٥٧ ـ ٥٨.

(٧) المصدر نفسه ٥٧ ـ ٥٨.

(٨) المصدر نفسه ٥٧ ـ ٥٨.

٤٢٢

لأنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أسلم وصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة. وهذه الرواية من أعجب الأمثلة على الأخذ بالروايات دون تمعن في النص والملابسة. فزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنت أبي سفيان وقع بعد الهجرة بست سنوات ولم يكن لأبيها يد فيه حيث كانت في الحبشة مترملة عن عبد الله بن جحش الذي هاجرت معه في الهجرة الأولى. وقد خطبها النبي وعقد له عليها وهي في الحبشة وقدمت إليه رأسا منها. وإسلام أبيها كان في ظرف فتح مكة بعد سنتين ولم يرو أحد بعد أن الآية مدنية ، وعبارة الآية المنسجمة مع ما قبلها وما بعدها لا يمكن أن تتسق مع الرواية قط.

هذا ، ولقد احتوت سورة الأعراف آية مماثلة للآية [٣٦] من الآيات التي نحن في صددها. وعلقنا على مداها بما يغني عن التكرار.

(وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨)) [٣٧ ـ ٣٨]

المتبادر أن جملة (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) تعني الملائكة الذين ذكرت تسبيحهم الدائم والتفافهم حول الله وعرشه آيات كثيرة ومنها ما جاء في السورتين السابقتين لهذه السورة وهو ما قاله جمهور المفسرين مباشرة أو رواية.

وعبارة الآيتين واضحة ، والخطاب فيهما موجه إلى المشركين ، وفي الثانية تأنيب وتسفيه لهم بأسلوب حكيم ، فإذا كانوا حقا يعترفون بالله ويعبدونه فلا يصح أن يسجدوا للشمس والقمر كما يفعلون بل عليهم أن يسجدوا له وحده. أما إذا استكبروا فلن يضيره استكبارهم فإن أعظم المخلوقات خطورة في أذهانهم وهم الملائكة دائبون على تقديسه ، والحجة مفحمة لهم لأنهم يعترفون بالله ويعبدونه أيضا.

وليس هناك رواية خاصة في سبب نزول الآيات ، والأرجح أنها جاءت بمثابة

٤٢٣

تعقيب واستطراد بعد الآية السابقة لها ، فقد انتهت الآية بوصف الله سبحانه بالسميع العليم فاستطردت هذه إلى ذكر بعض آياته وتأنيب الذين لا يحصرون العبادة والسجود فيه ويشركون الشمس والقمر معه فيهما.

تعليق على عبادة الشمس والقمر عند العرب

وتأليه الشمس والقمر وعبادتهما مما كان سائدا في الأزمنة القديمة في بلاد اليمن من جزيرة العرب ثم في بلاد العراق والشام ومصر المجاورة لجزيرة العرب والتي جاء معظم سكانها القدماء من هذه الجزيرة. وقد عرف من الروايات المتعددة أن العرب في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته كانوا يتسمون باسم عبد شمس ومن ذلك جدّ بني أمية.

ولا بد من أن يكون ذلك متصلا بعقيدة من عقائدهم ، وقد ذكرت بعض الروايات أن قبيلة كنانة كانت تعبد القمر وأن قبيلة تميم كانت تعبد الشمس. وأن هذه القبيلة صنعت تمثالا للشمس ووضعته في بيت خاص (١) ، حيث يفيد هذا أن عبادة الشمس والقمر كانت ممارسة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند بعض القبائل العربية. وصيغة الآيات تفيد ذلك حتما لأنها تنهى عنه وإن كانت لا تسوغ الجزم بما إذا كان الخطاب موجها إلى فريق من عباد الشمس والقمر وجاها أم خطابا عاما لعبادهما من المشركين وإن كنا نرجح الاحتمال الأول مع التوجيه العام في الوقت نفسه جريا على الأسلوب القرآني.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)) [٣٩]

(١) خاشعة : لعلها بمعنى جافة أو جامدة ، وفسّر بعض المفسرين الكلمة

__________________

(١) تاريخ العرب قبل الإسلام جواد علي ج ٥ ص ١١٢ ـ ١١٣.

٤٢٤

بأنها لا نبات ولا زرع فيها.

(٢) اهتزت : لعلها هنا بمعنى تشققت أو تحركت.

(٣) ربت : نمت وزادت.

الآية استمرار في السياق ومعطوفة على ما سبقها كما هو ظاهر. وقد تضمنت التنبيه إلى مشهد آخر من مشاهد قدرة الله في الأرض التي تكون يابسة خامدة لا نبات ولا حياة فيها فإذا هي إذا ما أنزل الله عليها الماء اهتزت وانتعشت وأخذت تتكشف عن أنواع النبات وتعج بمظاهر الحياة. ثم استطردت الآية إلى التنبيه إلى قدرة الله على إحياء الموتى استدلالا من ذلك. فالذي أحيا الأرض بعد موتها على هذا الوجه الذي يشاهده الناس جميعا قادر على إحياء الموتى بعد موتهم أيضا وهو قادر على كل شيء في كل حال.

وقد تكرر هذا المثل في القرآن على اعتبار أنه مثل مشاهد في كل آن ومكان لا ينكر ولا يدحض.

(إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠)) [٤٠]

(١) يلحدون : أصل الإلحاد الانحراف عن الشيء أو عن الحق ولعلها هنا بمعنى الجحود والمكابرة.

من المحتمل أن تكون هذه الآية تعقيبية على الآيات السابقة ، كما أن من المحتمل أن تكون مقدمة للآيات التالية. وعلى الاحتمال الأول يكون تأويلها إن آيات الله في كونه ماثلة للعيان كافية للإقناع والبرهنة على ربوبيته واستحقاقه وحده للعبادة ولا ينكرها إلّا المكابرون الذين يتعامون عن الحق عمدا. وهؤلاء لا يخفون على الله ، ومصير الناس سيكون حسب مواقفهم وأعمالهم. ولا يمكن أن يكون الذي مصيره النار خيرا من الذي يأتي يوم القيامة آمنا مطمئنا ، فليعمل الكافرون

٤٢٥

المكابرون ما يشاءون فمصيرهم إلى الله وهو عليم بصير بما يعملون ومجزيهم عليه بما يستحقون.

وعلى الاحتمال الثاني يكون الإلحاد الوارد فيها أي المكابرة والانحراف والجحود بالنسبة للقرآن الذي ذكر في الآيات التالية ، وما جاء في الآية من مقايسة وإنذار يبقى واردا بالنسبة للاحتمالين.

والفقرة الأخيرة بسبيل الإنذار. وهي أيضا من العبارات القرآنية الحاسمة في الدلالة على تقرير قابلية الإنسان واختياره وإرادته وكسبه.

والصلة بين الآية والسياق السابق لا تنقطع في حالة صحة الاحتمال الثاني ، فالسياق السابق ذكر بعض آيات الله ومشاهد عظمته وربوبيته والقرآن هو الذي يقص ذلك ، فالمناسبة تظل قائمة كما هو المتبادر.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥)) [٤١ ـ ٤٥]

(١) الذكر : هنا كناية عن القرآن.

(٢) عزيز : قد تكون الكلمة بمعنى كريم معزز وقد تكون بمعنى منيع لا يرام ولا يستطيع أحد أن ينفذ إليه بتحريف أو باطل أو زيادة أو نقص والمعنى الثاني أكثر توافقا مع الآية الثانية.

٤٢٦

(٣) ينادون من مكان بعيد : كناية عن عدم استماعهم لأن المرء لا يسمع صوت من يدعوه إذا كان الداعي بعيدا جدا عنه.

(٤) إنهم لفي شك منه مريب : بمعنى أن الذين يشكون فيه هم في ريب مما يشكون أي غير مستيقنين ومتثبتين في شكهم.

على احتمال أن تكون الآية السابقة مقدمة لهذه الآيات تكون هذه الآيات استمرارا للسياق. فالذين يتعامون عن الحق عمدا ويلحدون في آيات الله هم الذين كذبوا بالقرآن لما جاءهم. وعلى احتمال أن تكون الآية السابقة تعقيبا على ما قبلها تكون هذه الآيات فصلا جديدا متصلا في الوقت نفسه بالسياق السابق أيضا حيث حكي فيه صورة من صور إلحاد الملحدين في آيات الله التي منها القرآن.

وعلى كل حال ففي الآيات صورة من صور الجدل الذي كان يدور حول القرآن بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار المكابرين :

١ ـ فالذين كابروا في آيات الله الماثلة في الكون هم الذين كابروا أيضا في القرآن لما جاءهم وحاولوا التشويش عليه وهو الكتاب المنيع العلي المعتد الذي لا يرام والذي لا يأتيه الباطل والتحريف من أي جهة لأنه تنزيل من الله الحكيم الذي يفعل ما يفعل على غاية من الصواب والإحكام ويستوجب على كل ما يفعل الحمد والثناء. وما يقوله الكفار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قاله أمثالهم للرسل من قبله ، وإن الله لرقيب عليهم وهو ذو العقاب الأليم كما هو ذو المغفرة الواسعة لمن يستحقها.

٢ ـ ولو أنزل الله القرآن بلسان غير عربي لاعترض الكفار أيضا وتساءلوا عن عدم تفصيل آياته بلسان يفهمونه فكيف يكون قرآنا عربيا وأعجميا في آن واحد.

٣ ـ وعلى النبي أن يعلن ـ ردا على ما يقولونه ـ أن القرآن هو هدى وشفاء للذين آمنوا وصدقوا وحسنت نياتهم وصفت طواياهم ورغبوا في الحق في حين أن الكافرين لن ينتفعوا به لأن في آذانهم صمما وفي عيونهم ظلمة أو كأنهم ينادون من مكان بعيد فلا إمكان لإسماعهم النداء.

٤ ـ ولقد كان هذا شأن الناس تجاه الكتاب الذي آتاه الله موسى عليه‌السلام ،

٤٢٧

فقد اختلفوا فيه بين مصدق ومكذب.

٥ ـ والله قادر على أن يقضي بين الناس قضاء عاجلا فيمحق الكافرين المكذبين وينجي المصدقين المؤمنين ، ولكن حكمته اقتضت تأجيل هذا القضاء إلى يوم القيامة الذي هو آت لا ريب فيه.

والفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة تحتمل أن تكون في صدد القرآن أو في صدد يوم القيامة أو في صدد كتاب موسى ، وفيها تقرير بأنهم غير متثبتين فيما يشكون وهم في ريب منه.

والوصف الذي وصف به الذين لا يؤمنون بالقرآن في الآية [٤٤] هو بقصد وصف شدة عنادهم ومكابرتهم ، وقد تكرر في المناسبات المماثلة بهذا القصد ومرّ من ذلك أمثلة في السورة السابقة. ولقد قال بعض المفسرين : إن جملة (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) بمعنى أنه لو أنزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل قرآن أعجمي على رسول عربي؟ ومع أن هذا لا يخلو من وجاهة فإن ما أوردناه في الشرح هو الذي تبادر لنا أنه الصواب. والله أعلم.

تعليق على جملة

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ)

والآية [٤٤] تلهم أن الكفار كانوا يتساءلون عن سبب عدم وحدة اللغة بين القرآن والكتب السماوية الأولى ما دامت كلها من عند الله. وكانوا يعرفون أن الكتب السابقة بلغة غير عربية ومن المحتمل أن يكون هذا التساؤل إذا صح استلهامنا إن شاء الله قد وقع منهم في معرض التحدي والطعن والتكذيب. فردت الآيات ردا فيه تسفيه قوي مفحم للمكابرة التي دفعتهم إلى هذا التساؤل. ومن المحتمل أن يكون هذا قد وقع في مواجهة جدلية فنزلت الآيات بسبيل حكاية ما وقع الرد عليه. كما أن من المحتمل أن يكون هذا مما كانوا يتقولونه في مختلف

٤٢٨

المواقف على سبيل التحدي والمكابرة وهو ما نرجحه بدليل آيات وردت في سورة الشعراء التي سبق تفسيرها ، فيها شيء ما مما في هذه الآية وهي : (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)) وقبل هذه الآيات جاءت الآيات [١٩٣ ـ ١٩٥] ، تقرر أن الله أنزل القرآن بلسان عربي مبين ، كأنما احتوت تعليلا لإنزاله باللسان العربي دون اللسان الأعجمي.

وفي سورة إبراهيم التي نزلت بعد هذه السورة بمدة ما آية جاء فيها (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) حيث يمكن أن يكون قد بدأ اعتراض آخر مماثل منهم فاقتضت حكمة التنزيل أنزل هذه الآية محتوية على توكيد آخر لهذا التعليل ، وحيث يمكن أن فيها تدعيم لما استلهمناه من الآية التي نحن في صددها.

ولقد قال بعض المفسرين إن الجملة بمعنى أنه لو نزل القرآن أعجمي اللغة لاعترضوا أيضا وقالوا كيف ينزل.

تعليق على جملة

(لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)

والتقرير الذي احتوته جملة (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) هو في صدد كون القرآن في محكماته وأحكامه وأهدافه ومبادئه وتلقيناته متساوق كل التساوق كله حق ليس فيه أي تناقض ولا اختلاف فضلا عن أنه مبرأ من كل باطل أو شبهة باطل. وكل من أنعم النظر في فصوله بأناة وتدبر ومقارنة ومقابلة وربط بعض فصوله ببعض وتفسير بعض فصوله ببعض وكان منصفا بعيدا عن الهوى والمكابرة يظهر على هذه المعجزة العظمى التي تقررها هذه الجملة. وفي سورة النساء هذه الآية : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (٨٢)) حيث ينطوي فيها توكيد تقريري آخر فيه معنى التحدي مع الوثوق بصحة التقرير.

وقد يكون في الفصول المتشابهة والوسائلية من قصص ومشاهد كونية وأخروية وغيبية شيء من التنوع والتباين أو ما لا يدركه عقل الإنسان ولكن ذلك لا يمكن أن ينطبق عليه وصف باطل قط. وإنما جاء بالأسلوب الذي اقتضته حكمة التنزيل لتحقيق

٤٢٩

غاية التدعيم والتأييد لرسالة الله من إنذار وتبشير واسترعاء بما هو ماثل في الأذهان أو على سبيل التقريب والتمثيل على ما نبهنا إليه في المناسبات العديدة السابقة.

وقوة العبارة التأكيدية جديرة بالتنويه من حيث انطواؤها على توكيد كون القرآن تنزيلا من الله وكون ما ينزل الله لا يمكن أن يتسرب إليه باطل أو شبهة من باطل ، وينطوي في العبارة إلى هذا بثّ شعور قوي في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوثوق والاستعلاء على الكفار كما يتبادر لنا وقد يكون هذا من أهداف العبارة القرآنية والله أعلم.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)) [٤٦ ـ ٤٨]

(١) أكمامها : براعمها.

(٢) آذناك : بمعنى اعترفنا لك وأعلناك.

(٣) ما منا من شهيد : ما منا أحد يشهد أن لك شريكا.

(٤) ضل عنهم : غاب عنهم.

(٥) ظنوا : هنا بمعنى أيقنوا والكلمة من الأضداد.

(٦) محيص : مفر أو ملجأ.

المتبادر أن هذه الآيات جاءت معقبة على الفصل السابق لتقرر :

أولا : مسؤولية كل امرئ عن عمله صالحا كان أو سيئا وجزاؤه عند الله عليه حسب ذلك دون ظلم ولا إجحاف لأن الله لا يمكن أن يظلم عبيده.

ثانيا : ولتعلن أن مرد علم الساعة أي موعد يوم القيامة إلى الله الذي عنده كل شيء كان أو سيكون حتى لا تخرج ثمرة من برعمها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلّا بعلمه.

٤٣٠

ثالثا : ولتحكي ما سوف يكون من أمر المشركين يوم القيامة حيث يسألهم الله عن شركائه الذين أشركوهم معه فلا يجدون مناصا من الاعتراف بحقيقة الأمر والتراجع عما كانوا يقولون به وتنزيه الله عن الشركاء وقد غاب عنهم شركاؤهم الذين كانوا يدعونهم وتيقنوا أن لا محيد لهم ولا مخلص من عقاب الله وعذابه.

والآيات في مجموعها في معرض إنذار المشركين والتنديد بهم. وقد استهدفت فيما استهدفته إثارة الندم والارعواء فيهم إذ يسمعون ما سوف يكون من أمرهم وخذلان شركائهم لهم يوم القيامة.

والآية الأولى من الآيات الحاسمة في صراحتها وقطيعتها بأن المرء إنما يعمل ما يعمل من أعمال صالحة وسيئة ـ ومن ذلك الإيمان والكفر ـ باختياره وإرادته وأنه يتحمل من أجل ذلك تبعة عمله وأن الثواب والعقاب إنما يكونا وفق هذا الاختيار ونتيجة له.

وجملة (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)) على لسان الله عزوجل تأتي هنا مرة أخرى وقد جاءت في الآية [٢٩] من سورة (ق) التي سبق تفسيرها. وقد علقنا على مداها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذا التنبيه.

(لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)) [٤٩ ـ ٥١]

(١) دعاء : بمعنى طلب أو رغبة.

ذكر الكفار في الآيات وإنذارهم يجعلان الصلة قائمة بينها وبين السياق.

٤٣١

ويسوغان القول إنها جاءت استطرادية لتصف أخلاق الكفار الذين كانت تتألف منهم أكثرية الناس في البيئة التي تنزل فيها : فالإنسان من هذه الأكثرية لا يسأم من طلب الخير والاستمتاع به فإذا مسّه شرّ وقع في اليأس واستولى عليه القنوط ، وإذا كشف الله ضرّه وبدله بنعمة ورحمة فإنه يجحد فضل الله ويعتبر ما أصابه من ذلك طبيعيا وحقا ولا يلبث أن يستغرق في الدنيا ويطمئن إليها وينسى الله والآخرة وما فيها من خير للصالحين ، وعذاب للجاحدين ، ويجحد أن يكون ما ينذر به بعد الموت من خير وحسنى ، وهكذا يكون ديدنه ، فإذا أنعم الله عليه انصرف عنه وجحده وإذا مسّه شرّ هلع وملأ الدنيا دعاء وشكوى ، والله محص على الكافرين الجاحدين ما فعلوه ومخبرهم به ومذيقهم بسببه أشدّ العذاب.

والآيات قوية نافذة في تقريرها وتنديدها. وهي وإن كانت بسبيل وصف أخلاق أكثرية الناس الذين يسمعون القرآن الجاحدين لله ونعمه فإنها تمثل حالة من المجتمعات الإنسانية بصورة عامة في كل ظرف فيما يبدو من أفرادهم من تقصير في حق الله وجحود لفضله ونسيانه في أوقات الرخاء واستغراقهم في الدنيا وشهواتها ومطالبها دون تفكير في الواجبات والعواقب ، وهذا يجعلها مستمد إلهام وفيض دائم للمسلم يذكره بواجبه نحو الله والناس دون ما بطر ولا جحود ولا إسراف ولا استغراق ولا قنوط.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)) [٥٢ ـ ٥٤]

(١) شقاق بعيد : هنا بمعنى شدة الخلاف والمشاققة والمعارضة.

الأمر بمخاطبة الكفار يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة أيضا.

٤٣٢

وقد احتوت الآية الأولى أمرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه سؤال إنكاري وتقريعي للكفار عما تكون حالتهم إذا كان ما يسمعونه هو من عند الله حقا ثم كفروا به وعما إذا كان هناك من هو أشد ضلالا وأبعد في السخف والباطل ممن يقف موقف المعارضة والمشاققة بدون علم وبينة ، وقد انطوى في صيغة الآية وروحها تقرير ضلالهم وسخفهم وموقفهم الباطل.

واحتوت الآية الثانية إنذارا لهم بأن الله سيريهم آياته في أنفسهم وفي الآفاق حتى يجعلهم يتيقنون بأن ما جاءهم هو الحق ، وتدليلا على قدرة الله على ذلك بأنه شهيد على كل شيء.

واحتوت الآية الثالثة تقريعا بأسلوب التنبيه والتعجب للكفار على شدة شكهم في لقاء الله والوقوف بين يديه وتذكيرا بأسلوب التنبيه بأن الله يحيط بكل شيء مما فيه برهان على قدرته عليهم وأنهم لن يفلتوا منه ولن يعجزوه.

وقد جاءت الآيات خاتمة قوية لموقف الجدل والإنذار وخاتمة قوية للسورة معا مما جرى عليه الأسلوب القرآني ومرت أمثلة عديدة له. وقد استهدفت فيما استهدفته تثبيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطمينه من جهة وإثارة الندم والخوف والارعواء في نفوس المشركين من جهة أخرى.

وقد تعددت تأويلات المفسرين لجملة (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) حيث قالوا إنها عنت آيات الله ودلائل وحدانيته وربوبيته في مختلف مشاهد الكون ونواميسه وفي تركيب أجسامهم أنفسهم كما قالوا إنها عنت ما تحقق من وعد الله ووعيده بما كان من هلاك طواغيت الكفر منهم في بدر وغيرها وفتح مكة واعتراف جمهور العرب بأن الإسلام هو دين الحق ودخولهم فيه ثم انتصار الإسلام وانتشاره في آفاق الدنيا.

وكلا القولين وجيه ووارد ، والقول الثاني متسق مع البشائر والتطمينات القرآنية العديدة التي مرّ بعض أمثلة منها.

٤٣٣

وبعض الباحثين الحديثين يسوقون هذه الجملة في ظروف ما يقع من اكتشافات كونية كدليل على إعجاز القرآن في إخباره بذلك قبل اكتشافها بعشرات القرون. ونحن نرى في هذا شيئا من التكلف الذي لا ضرورة له ولا طائل منه بسبيل إثبات وجود الله وقدرته وعظمته ببديع نواميس كونه الماثلة للعيان في كل زمان. والخطاب يعدّ للسامعين مباشرة الجاحدين للرسالة على سبيل التنديد والوعيد. ولذلك نرى الأولى أن تبقى الجملة في نطاق أحد الوجهين اللذين قال المفسرون إنها عنتهما.

٤٣٤

سورة الشورى

في السورة حملة على المشركين وإفحام لهم في سياق مواقف ومشاهد حجاجية وجدلية. وتقرير لوحدة المنبع والمبادئ بين الدعوة المحمدية ودعوة الأنبياء السابقين وتعليل اختلاف أهل الكتاب وعزوه إلى البغي والهوى ونفي كونه من أصل طبيعة الدعوة الربانية وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعوته وموقفه. وتنويه بأخلاق المؤمنين وتوجيههم إلى خير سبل الحق والعدل والكرامة والقوة وتنويه بمصيرهم ومصير الكافرين ولفت نظر إلى بعض مشاهد قدرة الله وعظمته وشمول حكمه ومشيئته ، وبيان لطرق اتصال الله بأنبيائه.

وخاتمة السورة متصلة بمطلعها كما أن فصولها مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [٢٣ ـ ٢٥] مدنيات ، وسياقها وأسلوبها يسوغان الشك في ذلك.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) عسق (٢) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٤) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٦)) [١ ـ ٦]

(١) يتفطرن : يتشققن.

٤٣٥

(٢) من فوقهن : قيل إن الضمير راجع إلى السموات ، ومعنى الجملة على ذلك أن كل سماء تتفطر من فوق التي تليها. وقيل إنه راجع إلى الأرض. ومعنى الجملة على ذلك أن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض وأكثر المفسرين على أن الجملة على سبيل الاستفظاع من اتخاذ المشركين أولياء من دون الله الذي ذكر في الآية السادسة. وقد جاء في سورة مريم آيات من هذا القبيل فيها بيان أوضح : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١)).

٣ ـ حفيظ عليهم : مراقب لهم ومحيط بهم ومحص لأعمالهم.

ابتدأت السورة بخمسة حروف متقطعة ، وقد رسمت في آيتين خلافا لمثيلاتها التي جاءت بأكثر من حرفين مثل (كهيعص) و (المص) و (المر) وقد روى البغوي أن سبب ذلك هو الاختلاف في تلاوة الحروف هنا دون السور الأخرى. وقد روى هذا المفسر أن (حم) مبتدأ و (عسق) خبر. وروى الطبري أن ابن عباس كان يقرأ هذه الحروف بدون (ع) أي (حم سق) ويقول إن السين عمر كل فرقة كائنة ، والقاف كل جماعة كائنة. ومما روي في معاني الحروف أنها ترمز إلى صفات الله تعالى وقسمه بها حيث تضمنت قسما ربانيا بحلمه ومجده وعلمه وسنائه وقدرته (١). كذلك مما روي من معانيها أنها ترمز إلى كلمات (حرب) يعز فيها الذليل ويذل العزيز من قريش و (ملك) يتحول من قوم إلى قوم و (عدو) لقريش يقصدهم و (سبي) يكون فيهم و (قدرة) الله النافذة في خلقه (٢). ونحن نتحفظ إزاء هذه الأقوال التخمينية ونرجح أنها للتنبيه والاسترعاء ، كما رجحنا ذلك بالنسبة للحروف المتقطعة الأخرى.

وقد أعقب الحروف توكيد وجّه الخطاب فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله العزيز الحكيم الذي له ما في السموات وما في الأرض العلي العظيم هو الذي يوحي إليه

__________________

(١) تفسير البغوي.

(٢) المصدر نفسه.

٤٣٦

كما كان يوحي إلى النبيين من قبله. وأنه مراقب حفيظ على الذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وليس هو مسؤولا ولا وكيلا عنهم ، وأن السموات تكاد تتشقق من فوق الأرض من فظاعة ذلك لو لا أن الملائكة يسبحون بحمد ربهم ويطلبون المغفرة لأهل الأرض ولو لا أن الله سبحانه وتعالى قد اتصف بالغفران والرحمة مع علوّ شأنه وبالغ عظمته وقوته.

وأسلوب الآيات قوي نافذ ، وهي تمهيد لما يأتي بعدها.

رواية عجيبة عن سرّ (حم عسق)

ولقد روى الطبري حديثا في تفسير المقطعين وصفه المفسر ابن كثير وهو من أئمة المحدثين بأنه غريب عجيب منكر نورده كمثال لما كان يساق على هامش الآيات القرآنية نتيجة لما وقع من نزاع وخلاف سياسي بين الأمويين والهاشميين وبين العباسيين والعلويين. والحديث معزو إلى حذيفة بن اليمان وقد جاء فيه : أن رجلا جاء إلى ابن عباس فسأله عن تفسير المقطعين فأعرض عنه مرة ثم مرة فقال حذيفة له : أنا أنبئك به إنهما نزلا في رجل من أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقال له عبد الله أو عبد الإله ينزل على نهر من أنهار المشرق تبنى عليه مدينتان ، يشق النهر بينهما شقا فإذا أذن الله في زوال ملكهم وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها وتصبح صاحبتها متعجبة كيف أفلتت ، فما هو إلّا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم ثم يخسف الله بها وبهم جميعا ، فلذلك قوله (حم (١) عسق (٢)) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء ، حم عين يعني عدلا منه ، سين يعني سيكون ، وقاف يعني واقع بهاتين المدينتين!.

(وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٨)) [٧ ـ ٨]

٤٣٧

(١) أم القرى : كناية عن مكة.

(٢) يوم الجمع : كناية عن يوم القيامة.

الآيتان معقبتان على الآيات السابقة ، ومتممتان لما احتوته الآية السادسة بخاصة ، التي وجه فيها الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث احتوت أولاهما تنبيها له أيضا بأن الله إنما أوحى إليه بالقرآن بلسان عربي لينذر أهل مكة وما حولها ويدعوهم إليه وينذرهم بيوم القيامة الذي لا ريب في مجيئه والذي سوف يكون الناس فيه فريقين فريقا في الجنة وفريقا في النار.

وهذه هي مهمته وهو غير وكيل على أحد ولا مسؤول عن أحد كما ذكرت الآية التي قبلها. وقد احتوت الآية الثانية تنبيها آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن الله قادر لو شاء على جعل الناس أمة واحدة ولكن حكمته اقتضت أن يكون منهم الصالحون المستجيبون الذين يهتدون بهديه ويدخلهم في رحمته وينالون برّه ، والظالمون المنحرفون الفاسدون الذين لن يكون لهم ولي ولا نصير.

والآيتان مع الآية السادسة التي قبلها هي بسبيل بيان مهمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإنذارية والتبشيرية من جهة وتسليته عن موقف الجحود الذي يقفه الكفار المشركون من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي كلمة (وَالظَّالِمُونَ) في الآية الثانية من الآيتين دليل على أن المقصود من (الذين يشاء الله تعالى أن يدخلهم في رحمته) هم الفريق الذي تحلى بحسن النية ورغب في الحق والهدى وابتعد عن الظلم والهوى. بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآية بسبيل بيان حكمة الله تعالى في جعل الناس ذوي إرادة واختبار. فالراغبون في الحق والهدى وذوو النيات الحسنة يختارون الهدى فيدخلون في رحمة الله وينالون رضاءه. والمنحرفون عن الحق ذوو النيات الخبيثة يختارون الضلال فيستحقون غضب الله ومقته ولا يمكن أن يكون لهم ولي يحميهم ولا ناصر ينصرهم. وفي آية سورة الأعراف : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ

٤٣٨

فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)) ضابط محكم في صدد من يدخلهم برحمته.

وفي الآية الأولى من الآيتين عود على بدء في صدد عروبة القرآن التي حكت بعض آيات السورة السابقة ما كان من المشركين من جدل فيها. فالله قد جعل القرآن عربيا حتى يفهمه أهل مكة ومن حولهم ، واعتراضهم على هذا لا محل له. فالله كما أوحى إلى الأنبياء من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسان أقوامهم أوحى الله إليه بلسان قومه.

وقد توهم الآية الأولى ـ لأول وهلة ـ اقتصار الدعوة على أهل مكة وما حولها وعلى العرب الذين أنزل القرآن بلسانهم. ولما كان شمول الدعوة قد تقرر في آيات كثيرة تقريرا حاسما مما مرت منه أمثلة عديدة فالعبارة هنا تحمل على ما كان من ظرف خاص بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة وبين أهل مكة وما حولها من العرب من جهة أخرى على ما ذكرناه في مناسبات سابقة مماثلة.

تعليق على حديث مروي في صدد الفقرة

(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧))

ولقد روى البغوي بطرقه في صدد جملة (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (٧)) حديثا عن عبد الله بن عمرو قال : «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم قابضا على كفّيه ومعه كتابان فقال : أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا : لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنّة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة. ثمّ قال للذي في يساره : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقرّوا نطفا في الأصلاب وقبل أن يستقرّوا نطفا في الأرحام. إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة.

٤٣٩

قال عبد الله بن عمرو : ففيم العمل إذا يا رسول الله؟ فقال : اعملوا وسدّدوا وقاربوا فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أيّ عمل. وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أيّ عمل ثم قال فريق في الجنة فضل من الله وفريق في السعير عدل من الله» (١). والحديث على الأرجح مدني والآية مكية وإذا صح فإن المتبادر منه أولا : أن عبارة (كتابان) في يمينه ويساره هي بسبيل التمثيل وليست بسبيل كتابين حقيقيين فيهما جميع أسماء بني البشر في جميع أدوار الدنيا. وثانيا : إنه بسبيل التنبيه على سبق علم الله الأزلي بأهل الجنة وأهل النار وليس في نصه ولا روحه ما ينتقض ما تبادر لنا من الآية الثانية.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٩) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (١٠) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١١) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٢)) [٩ ـ ١٢]

(١) يذرؤكم : يكثركم وينميكم أو يخلقكم ويظهركم.

في الآية الأولى تساؤل استنكاري عن اتخاذ المشركين أولياء من دون الله ، ورد تقريري بأن الله هو وحده الجدير بالولاء لأنه هو الذي يحيي الموتى وهو القدير على كل شيء.

وفي الآية الثانية بيان صادر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم موجه إلى الناس أو على الأرجح إلى الكفار بقصد إشهاد الله وتحكيمه فيما بينه وبينهم من خلاف ، فإلى

__________________

(١) والبغوي بالإضافة إلى روايته هذا الحديث بطرقه يعزو روايته إلى الإمام أحمد أيضا. وقد أورده ابن كثير عزوا إلى هذا الإمام.

٤٤٠