التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

مع نوح من الطوفان هم زوجته وأبناؤه سام وحام ويافث ونسوتهم وأن هؤلاء الأبناء الثلاثة صاروا أجدادا لأمم كثيرة نمت وانتشرت في آسيا وإفريقية ، ومقتضى ذلك أن يكون ظهر منهم أنبياء وأنزلت عليهم كتب ، والله تعالى أعلم.

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١)) [٧٩ ـ ٨١]

في الآيات عودة إلى خطاب المشركين ولفت نظرهم إلى بعض أفضال الله عليهم منطوية على التنديد بجحودهم ومكابرتهم.

فالله سبحانه هو الذي خلق لهم الأنعام وسخرها ليركبوا بعضها ويأكلوا بعضها وفي الجملة لينتفعوا بها في شتى وجوه النفع وقضاء الحاجات. وهو الذي سخر لهم كذلك الفلك في البحر لتحملهم أيضا بالإضافة إلى الأنعام ويقضوا بذلك حاجاتهم ومنافعهم. وفي كل ذلك آيات ربانية أقوى من أن تنكر وأسطع من أن تجحد.

وصلة الآيات بالسياق ظاهرة كما هو المتبادر.

وفي أسلوب الآيات ومضمونها دلالة على ما قلناه من أن القرآن يخاطب الناس في صدد آيات الله ومشاهد كونه ونواميس خلقه بما يتسق مع واقع مدركاتهم ومشاهداتهم وممارساتهم استهدافا لإثارة ضمائرهم وتنبيههم إلى ما يتحقق لهم من أفضال الله ومنافع ما أوجده في كونه.

ولقد تكرر في القرآن تذكر السامعين بنعمة الأنعام وتذليلها وما فيها من منافع كثيرة لهم مما مرّ منه أمثلة حيث يدل هذا على ما كان لها عند السامعين من خير فاقتضت حكمة التنزيل مواصلة تذكيرهم بذلك.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ

٤٠١

مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)) [٨٢ ـ ٨٥]

(١) بأسنا : عذابنا وشدتنا وبلاءنا عليهم.

احتوت الآيات تساؤلا استنكاريا عما إذا كان كفار العرب لم يسيروا في الأرض ويشاهدوا آثار عذاب الله في أمثالهم من الأمم السابقة. ثم أخذت تذكر حالة هذه الأمم : فقد كانوا أكثر منهم عددا وأشد قوة وأوسع آثارا وتمكنا في الأرض فلم يغن ذلك عنهم شيئا. ولقد اغتروا بما كانوا عليه من كثرة وغنى ومعارف فلما جاءتهم رسل الله بآياته وبيناته كذبوهم فحاق بهم شرّ موقفهم وحلّ عليهم غضب الله. ولقد اضطربوا حينما رأوا بلاء الله يحلّ فيهم فأظهروا الندم وأعلنوا إيمانهم بالله وحده ونبذوا ما كانوا يشركونهم معه من الشركاء ، ولكن هذا لم يكن لينفعهم لأنه جاء بعد فوات الفرصة ، وقد حلّ فيهم الخزي والخسران. وهذه سنة الله التي قد جرى عليها في عباده.

وواضح أن الآيات متصلة بالسياق وما جاء بسبيله من تعقيب على موقف المشركين الجدلي والحجاجي. وقد استهدفت تذكير المشركين وحملهم على الارعواء والاعتبار بما كان من أمر أمثالهم الذين كانوا أقوى وأغنى منهم. وأسلوبها قوي نافذ ، وقد جاءت في ذات الوقت خاتمة للسورة وربطت بين أولها وآخرها حيث احتوت أوائل السورة آية مماثلة للآية الأولى منها.

وفي الآية الأخيرة تلقين مستمر المدى ، فالتراجع عن مواقف البغي والانحراف والجريمة ، والإنابة إلى الله إنما يمكن أن ينفع قبل فوات الوقت إلى

٤٠٢

قبل وقوع العذاب أو الموت. وقد تكرر تقرير هذا في سور مكية ومدنية عديدة وبعضها في سور سبق تفسيرها. وقد نبهنا على ذلك في تعليقنا على التوبة في سورة البروج. وفي تكرار ذلك حكمة سامية وهي مواصلة الإهابة بالضالين والمنحرفين إلى الارعواء ، والرجوع إلى الله والاستقامة واتباع طريق الحق والهدى في فسحة من العمر والعافية.

٤٠٣

سورة فصّلت

في السورة تنويه بالقرآن وإحكامه ولغته وحكاية لما كان من مواقف الكفار الحجاجية وشدة إنكارهم وإعراضهم وتحدّيهم للقرآن وردود عليهم وإنذارهم وتذكير لهم بما كان من أمثالهم. وفيها صور لما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة من خزي وحسرة. وفيها لفت نظر إلى مشاهد قدرة الله وعظمته في الكون واستحقاقه للعبادة والخضوع وحده ، وتنويه بالمؤمنين ومصائرهم وبشرى لهم وحثّ على مكارم الأخلاق والتزامها وتطمين بنصر الله وتأييده وإرغام الجاحدين في الدنيا قبل الآخرة.

وفصول السورة مترابطة تلهم أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، وتسمى السورة باسم السجدة أيضا اقتباسا مما ورد فيها كما هو شأن الاسم الأول الموضوع عنوانا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)) [١ ـ ٨]

.

٤٠٤

بدأت السورة بحرفي الحاء والميم كسابقتها وما قلناه في حرفي سابقتها نقوله هنا. وقد أعقبهما تنويه بكتاب الله تعالى وتقرير بكونه منزلا من الرحمن الرحيم مفصل الآيات واضح البيان والغايات بلسان عربي لقوم يستطيعون أن يفهموه ويدركوا ما احتواه ليكون لهم بشيرا ونذيرا. ثم أعقب ذلك تنديد بالكفار الذين أعرضوا عنه ولم يستمعوا له وكانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن قلوبنا محجوبة فلا يتسرب إليها شيء مما تدعونا إليه ، وإن في آذانهم صمما يجعلهم لا يسمعون ما يتلوه عليهم وإن بيننا وبينك سدا لا ينفذ إلينا منه شيء من أقوالك ونذرك ، وإنهم ثابتون مصرون على ما هم عليه فليفعل ما يشاء. وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم فيها بقوله لهم إنه بشر مثلهم يوحى إليه أن إله الناس جميعا واحد ، وإن كل ما عليه أن يدعوهم إليه وإلى السير في طريقه المستقيم والاستغفار عما بدا منهم من ذنوب وأخطاء ، وأن ينذر المشركين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يؤتون زكاة أموالهم بالويل وأن يبشر المؤمنين الذين يعلمون الصالحات بأجر الله الدائم.

والآيات كما هو المتبادر بسبيل حكاية موقف جدلي حجاجي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ، وبدء السورة بمثابة مقدمة لحكاية هذا الموقف مما جرى عليه النظم القرآني.

ووصف سامعي القرآن بوصف (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣)) ينطوي على صورة لما كان عليه المخاطبون العرب أو زعماؤهم ونبهاؤهم على الأقل من الفهم والإدراك. وينطوي على الأقل على تقرير كونهم يفهمون اللغة القرآنية ومعاني الآيات القرآنية. ولذلك جاءت الآيات التالية للآية الثانية التي احتوت هذه الجملة تعلل موقفهم بكونه موقف المكابر العنيد المتصامم عن قصد وتصميم.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة وتوضيحا لمدى جملة (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)) حديثا عن عبد الله بن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثمّ مرض قيل للملك الموكل به اكتب له مثل عمله إذا كان طليقا حتى أطلقه أو أكفته إليّ». حيث ينطوي في الحديث

٤٠٥

توضيح لمدى الجملة وتبشير وتطمين مستمران للمؤمنين المخلصين متساوقان مع ما انطوى فيها.

ووصف المشركين بوصفي (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧)) جدير بالتنويه حيث يمكن أن يكون بقصد وصفهم بأظهر سببين جعلاهم يقفون موقف الجحود من الرسالة النبوية. ولقد شغل هذان السببان حيزا كبيرا في القرآن وبخاصة المكي منه مما مرت منه أمثلة كثيرة حيث يؤيد هذا ما قلناه من أنهما أظهر سببين فاقتضت حكمة التنزيل وصف المشركين بهما هنا.

ولقد روى بعض المفسرين (١) في سياق تفسير هذه الآيات رواية ينطوي فيها صورة لما كان من تأثير القرآن على بعض زعماء قريش حينما كانت تتيح لهم الفرص سماعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على انفراد حيث روي أن زعماء قريش كلفوا أحدهم عتبة بن ربيعة ليأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينصحه بالكفّ عما هو فيه ويعرض عليه باسمهم ما يرضاه من مطالب الدنيا فجاء إليه وقال له فيما قال : إنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا لعلك تقبل منها بعضها. فقال له : قل أسمع. فقال : إن كنت تريد مالا جمعنا لك أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد شرفا سودناك حتى لا نقطع دونك أمرا ، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا ـ جنيا ـ طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك. فلما انتهى قال له : استمع مني ثم أخذ يقرأ هذه السورة حتى بلغ موضع السجدة منها فسجد ، فسجد معه عتبة ثم انصرف إلى قومه متغير الوجه فسألوه فقال لهم : إني سمعت كلاما حلوا نافذا ما هو بقول شاعر ولا سجع كاهن ولا نفث ساحر ثم اقترح عليهم أن يخلوا بينه وبين العرب فإن تصبه العرب فقد كفوه بغيرهم وإن يظهر عليهم فملكه ملكهم وعزه عزهم وكانوا أسعد الناس به. فقالوا له : سحرك والله

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير ابن كثير والبغوي.

٤٠٦

بلسانه ثم ظلوا مصرّين على عنادهم وجحودهم.

(قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)) [٩ ـ ١٢]

(١) قدر فيها أقواتها : جعل فيها كل ما هي في حاجة إليه وكل ما يكون أهلها في حاجة إليه من وسائل الحياة.

(٢) سواء للسائلين : قرئت سواء بالنصب وبالجر على ما قاله المفسرون الذين قالوا إنها على الجر صفة لأربعة أيام لتفيد أن الأيام الأربعة هي مدة خلق جميع ما في الأرض وعلى النصب تكون تمييزا بمعنى أربعة أيام كاملة مستوية. وقالوا في تأويل (لِلسَّائِلِينَ) إما أنها بمعنى : هذا هو مقدار المدة لمن أراد أن يسأل عنها وإما أنها بمعنى إن الله قد أوجد في الأرض كل شيء ليستوفي كل سائل فيها ما هو في حاجة إليه.

(٣) وأوحى في كل سماء أمرها : وضع ورتب أمر كل سماء من السموات.

في الآيات :

أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع عما إذا كان يصح منهم أن يكفروا بالله ويجعلوا له شركاء معادلين في حين أنه هو وحده رب العالمين جميعا وأنه خلق الأرض في يومين ، وأوجد فيها ما تحتاج إليه هي وأهلها في يومين آخرين ، وأنه هو الذي خلق السموات السبع ورتب أمر كل سماء بما يقتضيه في يومين آخرين ، وزين السماء الدنيا بمصابيح وشهب لحفظها. وكانت السماء دخانا فأمرها وأمر الأرض بالخضوع له طوعا أو كرها فلم يكن لهما إلا الإذعان

٤٠٧

والخضوع والطاعة. وكل هذا تقدير العزيز العليم القادر على كل شيء والعليم بكل شيء.

والآيات كما هو المتبادر استمرار في التقريع والإنذار والجدل الذي ابتدأ في الآيات السابقة لها.

وهي قوية الأسلوب والمضمون بسبيل ذلك ، ولقد كان المشركون الذين توجه إليهم الآيات يعترفون بأن الله تعالى هو خالق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما على ما حكته آيات عديدة عنهم مرّ بعض أمثلة منها في السور السابقة.

ومنها هذه الآية في سورة الزخرف : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩)) فجاءت الحجة فيها مفحمة لهم.

تعليق على

خلق السموات والأرض الوارد في السورة

ولقد علقنا بما رأينا فيه الكفاية على مواضيع خلق السموات والأرض في ستة أيام وعدد السموات السبع وتزيين سماء الدنيا بالمصابيح والكواكب والشهب الحافظة لها في سياق سور عديدة سابقة مثل (ص) و (ق) و (الأعراف) و (الجن) و (الحجر) فلا نرى حاجة إلى تعليق آخر إلا أن نقول إن أسلوب الآيات هنا أيضا مع واجب الإيمان بما جاء فيها من كيفيات الخلق والإبداع وواجب إيكال كنه ذلك وحكمته إلى الله عزوجل واضح الدلالة على أن البيان الذي احتوته إنما قصد به استرعاء الأذهان إلى بالغ قدرة الله وعظمته في مشاهد الكون وأرضه وسمائه ووسائله ونواميسه الماثلة لعيون الناس والمالئة أفكارهم حيرة وروعة ليكون من ذلك وسيلة إقناع وإفحام باستحقاق الله عزوجل وحده للعبادة وسخف اتخاذ شركاء له وضلال من كفر برسالة رسوله وكتابه الذي أنزله عليه. ولعل تكرار ورود هذه المواضيع في القرآن مرات عديدة بأساليب متنوعة مما يؤيد ذلك. والأولى والحالة هذه هو الوقوف من هذا الأمر عند هذا القصد الذي هو القصد القرآني فيما نعتقد وعدم التزيد فيما لا طائل من ورائه في هذا الباب من وجهة نظر التفسير

٤٠٨

القرآني ومحاولة استنباط النظريات الفنية أو تطبيقها وإخراج القرآن من نطاق قدسيته وقصد هدايته وتعريضه للنقاش مع ملاحظة أن قدرة الله عزوجل لا تحد بأيام ووقت وكيفية وأنه إذا قضى أمرا فيكون كما قضاه بمجرد اقتران إرادته وقضائه وأن ما ورد من البيانات قد يكون بسبيل التقريب والتمثيل. والله أعلم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)) [١٣ ـ ١٨]

(١) صاعقة : هنا هي على الأرجح صفة لعذاب الله الصاعق.

(٢) صرصرا : شديد البرد أو شديد الهبوب والصوت.

(٣) نحسات : مشؤومات.

(٤) فهديناهم : بينا لهم وأرشدناهم ودللناهم على طريق الهدى.

(٥) الهون : الهوان والخزي.

في الآيات :

أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار الكفار إذا لم يرعووا ويعترفوا بحق الله وحده في العبادة ولم تقنعهم دلائل عظمة الله في كونه وفي أنفسهم بعذاب مثل العذاب الرباني الذي حلّ في قومي عاد وثمود. فقد جاءتهم رسل الله ودعوهم إلى عبادته وحده فأجابوا على سبيل التحدي والإنكار أن لو شاء الله لأرسل رسلا من الملائكة لا من البشر

٤٠٩

وأعلنوا كفرهم بالرسل. وكان من أمر عاد أن اغتروا بما هم عليه من قوة واستكبروا في الأرض وتساءلوا متبجحين عمّن هو أشد منهم قوة دون أن يفكروا بأن الله الذي خلقهم هو بطبيعة الحال أشد منهم قوة. فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قاصمة في أيام متوالية كانت عليهم شؤما ونحسا إذ ذاقوا فيها الخزي والبلاء في الدنيا جزاء جحودهم ، وسيكون عذابهم في الآخرة أشد وأقوى ولن يكون لهم عاصم ولا نصير من الله. وكان من أمر ثمود أن أعرضوا هم الآخرون عن طريق الهدى التي دلهم الله عليها وفضلوا الضلال على الهدى والعمى على النور والباطل على الحق فسلط الله عليهم عذابا صاعقا مهينا بما كسبوا ، وقد نجى الله من عاد وثمود أولئك الذين آمنوا به واتقوه بصالح الأعمال.

والآيات كسابقاتها استمرار في التقريع والإنذار وبسبيل حكاية مواقف مكابرة المشركين الكفار ، ويلحظ فيها تماثل بين ما كان يقوله عاد وثمود لرسلهم وبين ما قاله العرب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أقوال وما تحدوه من تحد ومن جملة استنزال الملائكة وما أظهروه من كبر واعتداد بالمال والنفس والقوة وما كان من استحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة على ما حكته عنهم آيات عديدة في هذه السورة والسور السابقة. وهذا التماثل يزيد في قوة الإنذار والتقريع والتنديد من جهة وينطوي فيه حكمة القصص القرآنية بالأسلوب الذي وردت به من جهة أخرى كما هو المتبادر. وفي بعض الآيات القرآنية ما يفيد أن المشركين كانوا يعرفون بلاد ثمود وعاد حيث كانوا يرحلون إليها أو يمرون بها في رحلاتهم التجارية الصيفية والشتوية وأنهم رأوا آثار تدمير الله فيها كما ترى في آية سورة العنكبوت هذه : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)). فاستحكمت فيهم حجة الآيات وقوة إنذارها وتقريعها من هذه الناحية أيضا.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ

٤١٠

سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [١٩ ـ ٢٣]

(١) يوزعون : يجمعون إلى بعضهم ويحبس أولهم إلى آخرهم حتى يوقفوا أمام الله جميعا.

(٢) أرداكم : أوقعكم وأسقطكم.

وجاءت هذه الآيات معقبة على الآيات السابقة لبيان ما سوف يكون من أمر الكفار في الآخرة وقد أنذروا وذكروا ووعظوا بما حلّ فيمن قبلهم من أمثالهم فأعرضوا ولم يرعووا.

ففي يوم القيامة يحشر أعداء الله الكفار ويساقون إلى النار. وحينما يوقفون ـ قبل سوقهم إلى النار ـ أمام الله للحساب ينطق الله آذانهم وعيونهم وجلودهم فتشهد عليهم بما اقترفوه من آثام. ولسوف يعاتبون جوارحهم على شهادتها فترد عليهم بأن الله الذي أنطق كل شيء هو الذي أنطقها بالحق. وقد عقبت الآيات على جواب الجوارح بتوكيد قدرة الله على ذلك وقد خلق الناس أول مرة وإليه يرجعون.

ووجه الخطاب ـ بعد حكاية المشهد والتعقيب عليه ـ إلى الكفار وفيه تأنيب وتقريع وتقرير لحقيقة الأمر في جرأتهم على الكفر والإثم فهم لم يكونوا يبالون أن تشهد عليهم جوارحهم ولم يكونوا يرون ضرورة التستر في آثامهم لأنهم كانوا لا يخطر ببالهم في الحقيقة أن الله يراقبهم ويحصي عليهم أعمالهم وكانوا يظنون أن الله لا يعلم كثيرا مما كانوا يعملون ، وهذا الظن الخاطئ هو الذي أسقطهم في شرّ أعمالهم وجعلهم خاسرين.

والآيات متصلة بسابقاتها كما هو واضح ، وأسلوبها قوي نافذ من شأنه أن

٤١١

يثير الرعب والخوف والارعواء في النفوس وهو مما استهدفته كما هو المتبادر.

ولقد روى الشيخان والترمذي في سياق الآية [٢٢] عن عبد الله حديثا جاء فيه : «اجتمع عند البيت قرشيّان وثقفيّ أو ثقفيان وقرشيّ كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا. وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه ليسمع إذا أخفينا فأنزل الله عزوجل : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) الآية» (١).

ومقتضى الرواية أن تكون الآية نزلت لحدتها مع أن التمعن في الآيات يظهر أنها وحدة تامة منسجمة وأن هذه الآية والتي بعدها تعقيب إفحامي لأعداء الله على ما حكي عنهم من معاتبتهم لجوارحهم وأن جميع الآيات متصلة بسابقاتها كما قلنا آنفا.

ولقد روى الطبري بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن أنس بن مالك قال : «ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم حتى بدت نواجذه ثم قال : ألا تسألوني ممّ ضحكت؟ قالوا : ممّ ضحكت يا رسول الله؟ قال : عجبت من مجادلة العبد ربّه يوم القيامة يقول يا ربّ أليس وعدتني أن لا تظلمني قال : فإنّ ذلك لك. قال : فإنّي لا أقبل عليّ شاهدا إلّا من نفسي ، قال : أو ليس كفى بي شهيدا وبالملائكة الكرام الكاتبين فيختم على فيه وتتكلم أركانه بما كان يعمل فيقول لهنّ بعدا لكنّ وسحقا عنكنّ كنت أجادل». ولقد أوردنا هذا الحديث بصيغة مقاربة نقلا عن ابن كثير في سياق الآية [٦٥] من سورة يس وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

تعليق على التباين في المشاهد الأخروية

ولقد يرد على الذهن سؤال أو حيرة بسبب التباين والتغاير في الصور الأخروية ومشاهدها ووسائلها. فليس هناك محل لذلك لأنه ليس هناك ما يمنع أن

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠٢ وروى هذه الرواية الطبري والبغوي بطرقهما أيضا.

٤١٢

يكون ذلك بقصد استكمال وصف صور الحياة الأخروية وبيان ما اقتضته حكمة الله من تنوعها. وهذا لا يقلل من اعتبار أن ذلك هادف في الوقت نفسه إلى إثارة الرعب والخوف والغبطة والطمأنينة فيمن يستمع للقرآن من الجاحدين والمؤمنين بأساليب تقريبية لما ألفوه من أسباب ووسائل ، وأن تعدد وتنوع المواقف وأصحابها من مقتضيات ذلك. والله أعلم.

(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)) [٢٤ ـ ٢٥]

(١) يستعتبوا : يطلبون العفو ويبدون الأعذار.

(٢) فما هم من المعتبين : لا يقبل اعترافهم واعتذارهم.

(٣) قيّضنا : بعثنا وهيأنا.

جاءت الآيتان نتيجة لسابقاتهما في صدد الإنذار واستمرارا فيه ، فقررت أولاهما أن النار ستكون مثوى الكفار المشركين سواء تجلدوا وصبروا أم جزعوا وشكوا. ولن يكون لهم عنها مفرّ حتى لو ندموا واعترفوا بخطئهم واعتذروا عنه لأن الفرصة قد فاتتهم. واحتوت الثانية تعليلا لما صاروا إليه من المصير السيء. فقد استمعوا إلى وسوسة الشياطين وقرناء السوء الذين امتحنهم الله بهم فزينوا لهم ما هم فيه وحسنوا لهم الإثم والكفر فحقّ عليهم هذا المصير كما حقّ على أمثالهم من قبلهم من الجن والإنس وكانوا خاسرين في النهاية.

تعليق على جملة

(وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ)

وقد أولنا جملة (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) بما أولناها به لأن هذا هو

٤١٣

المتسق مع فحوى وروح الآيات التي وردت في معرض التنديد بالكفار وتقرير استحقاقهم للعذاب وخسرانهم نتيجة استماعهم لوسوسة أولئك القرناء. وقد أراد الله بامتحانهم إظهار المتقي من الآثم والطيب من الخبيث منهم ليحقّ على كل منهم ما يحقّ من عقاب وثواب حسب ذلك.

على أن في سورة الزخرف آيات بينها وبين هذه الآية تماثل مع زيادة تساعد على تأويل آخر يزول به كل وهم قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة من العبارة والعبارات المماثلة في آيات أخرى أيضا وهي : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨)). حيث ينطوي فيها تقرير كون الشيطان ووسوسته إنما يؤثران بإذن الله على من يتعامى عن نور الهدى وينصرف عن ذكر الله ولا يرغب فيه وبمعنى آخر على من فسدت طويته وخبثت نيته وانحرف عن الحق متعمدا وهذا متسق مع المبدأ القرآني المحكم الذي تكرر في قصة إبليس المتكررة : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) سورة [ص / ٨٣] و (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) سورة [الإسراء / ٦٥].

وما قلناه في سياق آيات سابقة استدلالا من إسلام أكثر سامعي القرآن من المشركين العرب من أنها تسجيل لواقع أمرهم وأن فحواها يظل محكما بالنسبة لمن أصر على الكفر ومات عليه نقوله هنا في مناسبة هذه الآيات. وهذا ما جعلنا نقول إنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب في قلوب الكفار حتى يرتدعوا ويرعووا ، وقد تحقق الهدف بمقياس واسع في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦)) [٢٦]

(١) الغوا فيه : شوشوا عليه بلغو الكلام.

٤١٤

في الآية حكاية لبعض أقوال ومواقف الكفار إزاء القرآن حيث كانوا يتواصلون فيما بينهم على التشويش على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما يتلو القرآن أو معارضته باللغو والتجريح والتهويش ذهابا منهم إلى أن هذا مما يضمن لهم الغلبة والفوز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإحباط دعوته وإزالة أثر القرآن في نفوس سامعية منهم.

ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول الآية ، وهي معطوفة على ما قبلها بحيث يسوغ القول إنها نزلت لتحكي صورة أخرى من مواقف المشركين وعنادهم وأنها استمرار للسياق ومتصلة به.

ولقد نبهنا في المناسبات السابقة إلى ما كان من كثرة جدل المشركين في القرآن وطلبهم أحيانا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي بقرآن آخر أو يبدله ويكفّ عن تسفيه أحلامهم وسبّ آلهتهم فيه على ما حكته آيات عديدة مرّت أمثلة منها في السور السابقة. وكان القرآن يردّ عليهم ثم يستمر في إنذارهم والتنديد بهم وبشركائهم. ولقد كانت بلاغته وروحانيته وهداه تنفذ إلى أعماق بعضهم وتحمل ذوي القلوب الصافية وخاصة من الشباب على الدخول في الإسلام على ما حكته الروايات الكثيرة ونوهت به الآيات العديدة. فالظاهر أن كبار المناوئين من المشركين يئسوا من تراجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة واشتد خوفهم من استمرار نفوذ القرآن إلى الناس من جهة أخرى فكان منهم هذا التواصي الذي حكته الآية والذي ينطوي فيه صورة من صور السيرة النبوية ، ولقد روى الطبري عن مجاهد أن الكفار كانوا يوصون بعضهم بالتشويش على القرآن بالمكاء والصفير. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم كانوا يتواصون بالتشويش عليه ومعارضته بالرجز والشعر والتخليط واللغو والعبارة القرآنية تتحمل كل ذلك.

(فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا

٤١٥

رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)) [٢٧ ـ ٢٩]

جاءت هذه الآيات معقبة على الآية السابقة التي حكت موقف الكفار من القرآن متوعدة إياهم بأشد العذاب والخلود في النار جزاء كفرهم وجحودهم.

وفي الآية الأخيرة حكاية لطلبهم حينما يرون تحقيق وعيد الله فيهم بأن يمكنهم الله من الذين أضلوهم من الجن والإنس حتى يجعلوهم تحت أقدامهم في النار انتقاما منهم لأنهم كانوا سبب المصير الرهيب الذي صاروا إليه.

والمتبادر أن الآية الأخيرة بالإضافة إلى ما انطوى فيها من حقيقة العذاب الأخروي الإيمانية هي بسبيل وصف شعور الندم والحسرة الذي سينتاب الكفار وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الرعب فيهم وحملهم على الارعواء بل وإثارة نقمة جمهورهم على زعمائهم الذين يمنعونهم من الإسلام لأن الكلام المحكي في الآية هو بلسان الجمهور أكثر منه بلسان الزعماء.

ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم أن المقصود من (الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) إبليس من الجن وقابيل قاتل أخيه هابيل ولدي آدم من الإنس لأنهما أصل الضلال والجريمة. ويتبادر لنا أن العبارة القرآنية أشمل من ذلك وأنها تتناول كل فعل موسوس وقرين شرّ وسوء من إنس وجنّ. والزعماء يأتون في الطليعة بالإضافة إلى كونها صورة عن حكاية الحسرة والندم اللذين يشعر بهما ويعبر عنهما الكفار تحقيقا للهدف الذي نوهنا به آنفا. والله أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ

٤١٦

غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)) [٣٠ ـ ٣٣]

(١) توعدون : تطلبون أو تتمنون.

(٢) نزلا : ما يكون من حقّ الضيف النزيل على الناس من ضيافة وقرى وإكرام.

تعليق على آية

(إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا)

وما بعدها

جاءت هذه الآيات لمقابلة ما جاء عن موقف الكافرين ومصيرهم الأخروي جريا على الأسلوب القرآني : وقد احتوت بشرى عظيمة للمؤمنين السابقين إلى الاستجابة للدعوة وتنويها بهم من جهة وانطوى فيها وصف محبب لما كان لهؤلاء من إخلاص وتمسك واستقامة والتفاف حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة أخرى في مجال المقايسة بينهم وبين الجاحدين كالذين قالوا ربنا الله وآمنوا به ثم استقاموا على طريق هداه ولم ينحرفوا حيث تتنزل عليهم الملائكة حينما ينتهي أجلهم فيهدئون من روعهم وينفون عنهم شعور الخوف والحزن ويبشرونهم بالجنة التي وعدوا بها قائلين لهم نحن أولياؤكم ونصراؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة التي لكم فيها كل ما تشتهي أنفسكم وتتمناه ؛ تكريما لكم من الله الغفور الرحيم الذي يعامل عباده الصالحين بالغفران الشامل والرحمة الواسعة. وقد جاءت الآية الأخيرة بمثابة تعليق بأسلوب التساؤل الذي يتضمن التقرير الإيجابي بأنه ليس من أحد أفضل وأحسن ممن دعا إلى الله وأسلم النفس إليه وعمل الأعمال الصالحة.

ومما يحسن لفت النظر إليه مقايسة أخرى تتضمنها الآيات بالإضافة إلى الآيات السابقة فالمؤمنون المستقيمون على الإيمان والعمل الصالح تتوفاهم الملائكة وتبشرهم وهم أولياؤهم في حين أن أولياء الكفار هم قرناء السوء من الجن والإنس يضلونهم ويورطونهم. والمقايسة مألوفة في النظم القرآني وقد مرّت

٤١٧

أمثلة عديدة منها وتستهدف التنديد والتقريع للكفار والتنويه والتطمين للمؤمنين. وما في أذهان العرب من صور عن الملائكة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته يجعلها أقوى تأثيرا كما هو المتبادر ، فالملائكة الذين كان المشركون يشركونهم مع الله ويتخذونهم شفعاءهم لديه إنما هم أولياء المؤمنين المستقيمين وحسب.

والآيات وإن كانت كما قلنا تتضمن التنويه بالمؤمنين الأولين فإن إطلاق الكلام فيها يجعلها مستمدا لإلهام مستمر قوي التلقين في كل ظرف ومكان سواء في الاستقامة على دين الحق والإخلاص له أم في التنويه بفضل من يدعو إلى الله ويسلم النفس إليه ويعمل الصالحات ويستشعر بأنه يكون بذلك قائما بأفضل الواجبات ومتمسكا بأفضل الأخلاق والصفات. وخلق الاستقامة على الحق والصدق والواجب والمعروف وعدم الروغان والحيدان عن ذلك من أعظم الأخلاق وأفضلها. ولذلك تكرر الأمر بها في القرآن بمتنوع الأساليب وقد مرت أمثلة من ذلك في السور السابقة.

ولقد روى بعض المفسرين (١) عن عائشة وابن عمر رضي الله عنهما أن الآية الأخيرة عنت المؤذنين أو نزلت فيهم ، وأوردوا في سياق ذلك (٢) بعض الأحاديث النبوية في فضل المؤذنين وأجرهم عند الله. وهذا غريب في هذا المقام لأن فحوى الآية أوسع وأشمل من ذلك بل هي من أوسع وأشمل ما يكون في بابها من حيث التنويه بالمؤمن الصالح في عمله المسلم نفسه لله الداعي غيره إلى مثل ذلك. ولأن الأذان إنما بدأ أو شرع في العهد المدني ولا خلاف على مكية هذه الآية.

ومن العجيب أن الطبري وهو من الذين رووا ذلك روى عن الحسن وقتادة من علماء التابعين أنها بصدد كل من صدق قوله عمله ومولجه مخرجه وسرّه علانيته وشاهده مغيبه وهو خيرة الله وولي الله وأحب الخلق إلى الله كما روي عن السدي أنها عنت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وليس من ريب في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول وأعظم من تنطبق

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والخازن.

(٢) المصدر نفسه.

٤١٨

عليه الآية ، ولكنها مع ذلك أوسع وأشمل كما قلنا وعلى ما هو المتبادر من نصها وروحها.

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)) [٣٤ ـ ٣٦]

(١) ولي حميم : نصير صديق شديد الولاء والإشفاق.

(٢) وما يلقّاها : بمعنى وما يتصف بها وما يكون عليها وما ينالها.

في الآية الأولى : تقرير بأفضلية الحسنة على السيئة وعدم إمكان التسوية بينهما ، وأمر للسامع بمقابلة السيئة بالحسنة وإشارة إلى أن مثل هذه المقابلة من شأنها أن تقلب العداوة إلى صداقة وولاء شديدين.

وفي الآية الثانية تنويه بهذه المقابلة وفاعلها وإشارة إلى أن ذلك لا يكون إلّا من الذين تجملوا بالصبر وضبط النفس وكانوا على حظ عظيم من كرم الخلق.

وفي الآية الثالثة تنبيه موجه للسامع بأن الشيطان إذا حاول أن يوسوس له بسوء ليحول بينه وبين فعل الخير أو يدفعه إلى الشر ويثير فيه الغضب والنزق فليسارع إلى الاستعاذة منه بالله السميع العليم.

تعليق على آية

(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)

وما بعدها

والآيات الثلاث منسجمة مع بعضها أولا ، ومتصلة بسابقتها اتصال سياق وموضوع ثانيا ، فليس من أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا في

٤١٩

مجال المقايسة والمفاضلة كما أنه لا يمكن التسوية بين الحسنة والسيئة ، ومن حسن خلق المسلم الذي قال ربي الله ثم استقام أن يتخلق بكل خلق كريم.

والمتبادر أن كلمتي الحسنة والسيئة تتناولان الأفعال والأقوال معا ، وصيغة الأمر في الآيات يمكن أن تكون موجهة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويمكن أن تكون موجهة للسامع وبخاصة للسامع المسلم ، ونحن نرجح هذا لأنه متسق مع روح الآيات. على أنها إذا كانت موجهة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن الخطاب يشمل أيضا كل مسلم كما هو المتبادر.

وفي الآيات تعليم قرآني جليل مستمر الإلهام والمدى ، فمقابلة السيئة بالسيئة يورث العداء والأحقاد بعكس مقابلة السيئة بالحسنة التي تقلب العدو صديقا وتدل على نبل النفس وكرم الخلق. وقد يندفع المرء أحيانا إلى مقابلة السيئة بالسيئة ففي هذا الموقف يجب على المسلم أن ينتبه إلى أن هذا إنما يكون من نزعات الشيطان ووساوسه وألا يندفع فيه وأن يجنح إلى الأفضل الذي يليق بإسلامه وهو الصبر ودفع السيئة بالحسنة.

ولقد مرّ في سورة الأعراف آيتان مماثلتان لهذه الآيات بعض الشيء في العبارة والهدف وهما : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)) حيث يبدو من ذلك اهتمام القرآن العظيم لبثّ روح الخير والتسامح وضبط النفس والبعد عن النزق والغضب ومقابلة السوء بمثله في نفس المسلم.

بل إن القرآن لم يكتف بهذا حيث احتوى آيات أوجبت على المسلم أن تكون صلاته ومعاملاته مع جميع الفئات من أقارب وأجانب وأغنياء وفقراء وعبيد على أساس الإحسان وحثته على ألا يكتفي بما يجب عليه من العدل وتقوى الله بل يتجاوزهما إلى ما هو خير منهما وهو الإحسان كما ترى في هذه الآيات :

١ ـ (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ

٤٢٠