التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩) وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)) [١٨ ـ ٢٠]

(١) الآزفة : القريبة أو التي تسوق الناس وتزفهم بالسرعة. وهي كناية عن الساعة أو يوم القيامة.

(٢) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين : الكظم بمعنى الكتم والإمساك. ومعنى الجملة إذ القلوب ترتفع من شدة الاضطراب إلى الحناجر فتكتم حلوق أصحابها وأنفاسهم فلا تستطيع خروجا ولا تستطيع العودة إلى أماكنها. وهي بسبيل تصوير حالة الهلع الشديد التي تعتري الكفار.

(٣) حميم : صديق مشفق.

(٤) خائنة الأعين : ما ينطوي في نظرات الأعين من مقاصد يريد أصحابها إخفاءها فتخونهم هذه النظرات.

وهذه الآيات احتوت كذلك إنذارا وتنديدا بأسلوب آخر. فهي تأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار الكفار بيوم القيامة القريب الذي يزف الناس فيه زفا ويساقون سوقا وبما سوف تكون حالتهم فيه من الهلع والرعب بحيث يشتد اضطرابهم حتى ترتفع قلوبهم إلى حناجرهم وتكاد أن تسد عليهم مجرى النفس ولا يجد الظالمون صديقا مشفقا ولا شفيعا مستجابا مطاعا. وقد أشارت إلى سعة إحاطة الله بأعمال الناس ونواياهم فهو يعلم كل حركة من حركاتهم خفيها وظاهرها حتى ما يدق على المشاهدين مما تنطوي عليه لحظات العيون وتخفيه الصدور من النوايا المريبة. فهو السميع لكل شيء النافذ بصره إلى كل شيء. وهو الذي سيقضي بين الناس بالحق وفق أعمالهم ، أما الشركاء الذين يدعوهم المشركون مع الله فليس لهم أي قدرة على شيء أو القضاء في أي شيء أو النفوذ إلى أي شيء.

٣٦١

وواضح أن هذه الآيات هي أيضا استمرار للآيات السابقة وأنها استهدفت فيما استهدفته إثارة الخوف والرعب واليأس في قلوب المشركين وحملهم على الارعواء.

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)) [٢١ ـ ٢٢]

تساءلت الآيات تساؤل المنكر المندد المذكر عما إذا كان الكفار لم يسيروا في الأرض ولم يروا من الآثار ما كان عاقبة الذين من قبلهم حيث أخذهم الله بذنوبهم أخذا قويا مدمرا ما تزال آثاره قائمة مشاهدة ولم يكن لهم منه نصير ولا واق وقد كانوا أشد منهم قوة وتمكنا وآثارا في الأرض ، وذلك بسبب كفرهم حينما كانت تأتيهم رسل الله بالبينات وتدعوهم إليه. ولقد أخذهم الله وهو قوي شديد العقاب قادر على أخذ أمثالهم أيضا.

والآيات كما هو المتبادر متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وتذكير وإنذار واستطراد وروحها ومضمونها يلهمان أن العرب كانوا يشاهدون آثار الأمم السابقة المدمرة ويتداولون فيما بينهم أنها دمرت ببلاء رباني مما تكرر تقريره في آيات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في السور السابقة وهذا ما يقوي الآيات في إنذارها وتنديدها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)

٣٦٢

وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧) وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى

٣٦٣

اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)) [٢٣ ـ ٤٤]

(١) سلطان مبين : حجة واضحة مستعلية.

(٢) استحيوا نساءهم : أبقوا نساءهم أحياء دون الذكور.

(٣) ظاهرين في الأرض : غالبين وظافرين في الأرض.

(٤) دأب : عادة أو عمل.

(٥) يوم التناد : كناية عن يوم القيامة حيث يتنادى الناس للاستغاثة أو بالويل والثبور.

(٦) ما لكم من الله من عاصم : ليس لكم من يحميكم ويمنعكم من الله.

(٧) كبر مقتا عند الله : ما أكبر ما يستوجبه من المقت والغضب عند الله.

(٨) الصرح : البناء الظاهر المرتفع.

(٩) أسباب السموات : طريق السموات أو أبوابها.

(١٠) تباب : هلاك وخسران وضياع.

(١١) لا جرم : هنا بمعنى لا ريب من قبيل التوكيد.

جاء هذا الفصل معقبا على الآيات السابقة التي ندد فيها بالكافرين المشركين وأنذروا وبخاصة على الآيتين السابقتين مباشرة اللتين ذكّروا فيهما بآثار الأمم السابقة المدمرة بالبلاء الرباني قصاصا منها على تكذيبها رسل الله وكفرها بدعوتهم مما جرى عليه النظم القرآني في إيراد القصص على ما نبهنا إليه في المناسبات السابقة وقد احتوى تفصيل ما كان من موقف فرعون وقومه من موسى ورسالته وعبارته واضحة.

٣٦٤

تعليق على قصة موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون

وما فيها من تماثل مع صور السيرة النبوية والتقريرات القرآنية

المباشرة في صددها وما في ذلك من عبر وتلقين

والجديد في القصة جمع قارون إلى فرعون وهامان وكون موسى أرسل إليه أيضا. وحكاية موقف الرجل المؤمن من آل فرعون وخطابه إلى فرعون وقومه ، وقول فرعون ذروني أقتل موسى.

أمّا ما عدا ذلك فهو متسق إجمالا مع ما جاء في السور السابقة خلال قصص موسى وفرعون مما علقنا عليه بما تبادر لنا أنه الصواب إن شاء الله فنكتفي بذلك بالنسبة لما اتسق بين ما جاء في هذه السورة والسور السابقة.

ولقد ذكر قارون في سورة القصص وأنه كان من قوم موسى فبغى عليهم ، ولم يذكر فيها أنه كان في زمن موسى ولم ينف ذلك أيضا. وفي تعليقنا على قصة قارون في السورة المذكورة رجحنا أن قصة قارون وهويته مما كان واردا في بعض أسفار اليهود المتداولة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يتسق مع ما ورد عنها إجمالا في القرآن ، وأن سامعي القرآن من العرب أو بعضهم كان يعرف ذلك عن طريق اليهود. وهذا يشمل فيما هو المتبادر وما ذكر عنه في هذه السورة ولم يذكر في سورة القصص.

ولقد ذكر في سورة القصص أن رجلا حذر موسى وحثه على الخروج ، ورجحنا في سياق تفسير ذلك أنه مما كان متداولا بين اليهود وواردا في بعض أسفارهم التي كانت في أيديهم في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا ما يصح أن يقال بالنسبة للرجل المؤمن من آل فرعون وموقفه. وهذا يقال أيضا في صدد قول فرعون (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى) الذي ليس واردا في الأسفار المتداولة اليوم.

وفي كتب التفسير روايات معزوة إلى تابعين وتابعي تابعين فيها بعض البيانات عن مؤمن آل فرعون واسمه وهويته ووقت إيمانه مما يمكن أن يدل على

٣٦٥

تداول قصته في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته ويؤيد ما رجحناه (١). ومن ذلك أنه ابن عم لفرعون وأن اسمه جبريل أو حزبيل أو حبيب وأنه هو الذي حذر موسى ونصحه بالخروج على ما جاء في سورة القصص وأنه خرج مع موسى حينما خرج ببني إسرائيل من مصر.

وأسلوب آيات القصة ومضمونها يؤكدان أن هدفها هو إنذار الكفار العرب وتخويفهم وتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بأن ما يلقونه هو ما كان يلقاه الرسل والمؤمنون السابقون الذين أيدهم الله ونصرهم وأهلك أعداءهم.

ولقد ذكرت الروايات بعض مواقف لبعض المؤمنين استنكروا ما كان يبدو من بغاة قريش من عدوان وطغيان ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهم من كان هذا سببا لإيمانه وإعلانه مناصرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل حمزة عمه الذي ثار غضبه على أبي جهل حينما علم بموقف شديد بذيء له مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث ضربه فشجه ، ثم أعلن إسلامه أمام ملأ من قريش في فناء مكة. ولقد وجد أبو بكر يوما بعض بغاة قريش محدقين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحدهم يشد رداءه على عنقه فأخذ يصرخ باكيا : «أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» حتى تعرض هو نفسه للأذى والشر. ولقد ذكرت الروايات فيما ذكرت أن بعض زعماء قريش المعتدلين كانوا ينصحون قومهم بترك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشأنه فإن نجح كان في جناحه عزهم وقوتهم. ومنهم من كان يبدي دهشته من بلاغة القرآن وروحانيته وينكر أن يكون شعر شاعر وسجع كاهن وتخييل ساحر. ففي قصة الرجل المؤمن مماثلة لبعض هذه الصور (٢) وتذكير بمواقف مماثلة في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري وابن كثير والطبرسي وغيرهم.

(٢) انظر الجزء الأول والثاني من سيرة ابن هشام والجزء السادس من كتابنا (تاريخ الجنس العربي) ففيها هذه الصور وصور عديدة مماثلة أخرى. وموقف أبي بكر رضي الله عنه ذكر في حديث أخرجه البخاري جاء فيه : «سئل عبد الله بن عمرو عن أشدّ ما صنعه المشركون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلّي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبيّنات

٣٦٦

سياق قصة رسول من رسل الله السابقين.

وفي آيات القصة حكاية لأقوال عديدة من أقوال مؤمن آل فرعون مشابهة لجمل قرآنية عديدة وجهت مباشرة إلى كفار العرب ؛ منها إنذار مؤمن آل فرعون لقومه بمصير الأمم السابقة المكذبة مثل قوم نوح وعاد وثمود ، ومنها تنبيه المؤمن قومه إلى أن الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار وأن من عمل سيئة فلا يجزى إلّا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب. ففي كل هذا يظهر هدف العظة والزجر والدعوة والتأسي والتسلية والتثبيت والتنديد في آيات القصة قويا بارزا كما ينطوي فيه تلقينات مستمرة المدى. وهذا بالإضافة إلى ما في موقف هذا المؤمن الجريء المندد بفرعون وقومه والداعي إلى الله والمنذر بعذابه للمصرّين على الكفر رغم كونه وحيدا من تلقين في إيجاب المواقف المماثلة على المؤمنين المخلصين دون خوف ورهبة من الظالمين. ولقد روى أصحاب السنن حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر» (١). حيث يتساوق التلقين النبوي مع ما استلهمناه من التلقين القرآني.

ولقد جاء في آيات هذه السورة والسورة السابقة لها فضلا عما قبلهما أوامر قرآنية مباشرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له ورفض دعوة المشركين إلى مشاركتهم في عبادتهم وتقاليدهم ، وبين هذا وبين ما جاء في القصة من كلام الرجل المؤمن لقومه [الآيات / ٤١ ـ ٤٤] تماثل.

ولقد جاءت في آيات هذه القصة مقاطع فيها تعليقات وتنبيهات وعظية بليغة جريا على الأسلوب القرآني البديع ، منها ما هو تعليقات وتنبيهات مباشرة ، ومنها ما جاء على لسان مؤمن آل فرعون ، فالله لا يسعد ولا يوفق البغاة

__________________

من ربّكم. التاج ج ٤ ص ٢٠٣ وانظر روايات أخرى لهذا الموقف في تفسير ابن كثير والبغوي لهذه الآيات.

(١) التاج ج ٥ ص ٢٠٣.

٣٦٧

الكذابين [الآية ٢٨]. والله لا يريد ظلما لعباده ولذلك جرى على سنة إرسال رسله لإنذارهم ودعوتهم [الآيات ٢٩ ـ ٣٠] والله إنما يضل البغاة المرتابين الذين يجادلون في آيات الله بالباطل والذين استوجبوا مقت الله وإنما يطبع على قلوب المتكبرين الجبارين [الآيات ٣٣ ـ ٣٤].

وإنه من عجيب أمرهم أنه بينما يدعوهم إلى النجاة يدعونه إلى النار ويريدون أن يكفر بالله ويشرك به غيره الذي لا يملك من الأمر شيئا ، وإن مرد الناس جميعهم إلى الله وأن المفسرين في الانحراف هم وحدهم أصحاب النار [٤١ ـ ٤٣] ولسوف يذكرون ما يقوله لهم في يوم ما ويندمون على مواقفهم وأنه يفوض أمره إلى الله البصير بأمور عباده [٤٤].

وبين هذه التعليقات ما جاء في كثير من التقريرات القرآنية المباشرة التي مرّت أمثلة منها في السور السابقة تماثل كذلك. وواضح أن هذا التماثل مما يبرز قصد القصة الوعظي والتذكيري والتمثيلي.

استطراد إلى مذهب التقية بصورة

عامة وعند الشيعيين بصورة خاصة

وتعليق عليه

إن مفسري الشيعة وفقهاءهم يقفون عند جملة (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) فيسوقونها كدليل من جملة الأدلة على مذهب التقية الذي يعتنقونه. وقد روى المفسر الطبرسي في سياقها قولا لأبي عبد الله أحد الأئمة جاء فيه : «إنما هذا الرجل كان يكتم إيمانه تقية من القتل ، وإن التقية من ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له ، والتقية ترس الله في الأرض».

والمتبادر أن في اتخاذ الشيعة هذه الآية سندا لمذهب التقية تجوزا ، فهي من سياق فيه حكاية قصة من قصص رسالة موسى عليه‌السلام وليست تشريعا للمسلمين ، وفي السياق إلى هذا حكاية الموقف الجريء الذي نوهنا به والذي يتناقض مع فكرة التقية والمداراة.

٣٦٨

ويستند الشيعة إلى آية سورة آل عمران هذه أيضا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨)) والآية إنما تجيز التقية إزاء الكفار وحسب في حين أن الشيعة يتوسعون في مذهبهم ويسوغونه في كل حالة وموقف وإزاء الكفار والمسلمين على السواء ويعتبرونه أساسا مهما من أسس الدين أو المذهب كما تفيده الرواية المروية عن أبي عبد الله التي أوردناها آنفا ، ويسوقون مع هذه الرواية أحاديث نبوية أخرى لتأييد مذهبهم التوسعي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة. من ذلك حديث يرويه العياشي أحد محدثيهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «لا دين لمن لا تقيّة له» (١). وهذه الجملة وردت في القول المنسوب لأبي عبد الله ومنها حديث رواه الديلمي جاء فيه : «إنّ الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض وفي رواية بعثت بالمداراة» (١). ومنها حديث رواه ابن عدي وابن عساكر جاء فيه : «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه». ويسوقون مع هذه الأحاديث رواية طريفة يرويها المفسر العسكري جاء فيها : «إن الباقر وهو إمامهم الرابع نظر إلى بعض شيعته وقد دخل خلف بعض المنافقين إلى الصلاة ـ والمقصود إنّه صلى مؤتما بإمام سني غير شيعي ـ وأحسّ الشيعي أن الباقر عرف ذلك منه فقصده وقال له : أعتذر إليك يا ابن رسول الله عن صلاتي خلف فلان فإنها تقية. ولو لا ذلك لصليت وحدي. فقال له الباقر : يا أخي إنما كنت تحتاج أن تعتذر لو تركت. يا عبد الله المؤمن ما زالت ملائكة السموات السبع والأرضين السبع تصلي عليك وتلعن إمامك ذاك. وإنّ الله تعالى أمر أن تحسب صلاتك خلفه بسبعمائة صلاة لو صليتها وحدك فعليك بالتقية» (٢).

__________________

(١) مختصر ترجمة التحفة الإثني عشرية ص ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٢) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٩٦ ـ ٩٧ عزوا إلى المفسر الشيعي العسكري.

٣٦٩

وبقطع النظر عن صحة هذه الأحاديث وعدمها فقد يصح أن يقال إن مذهب التقية أو المداراة وجيه وحق في حالة مواجهة الخطر والضرر المؤكدين اللذين لا يمكن اتقاؤهما بغير ذلك وسواء أكان هذا إزاء الكفار أم إزاء شرار المسلمين وبغاتهم والقادرين على الكيد والضرر والأذى منهم مما قد يلهمه تلقين آية سورة النحل هذه : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ...) وآية سورة البقرة هذه : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «إنّ الله وضع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» (١). وحديث رواه الأربعة عن عائشة قالت : «استأذن رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بئس ابن العشيرة أو أخو العشيرة ثم أذن له فألان له القول فلمّا خرج قلت : يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول ، فقال : يا عائشة ، إنّ من شرّ الناس من يتركه الناس اتقاء فحشه» (٢). غير أن التوسع في هذا المذهب وتشميله لأيّة حالة وموقف إطلاقا هو من مميزات المذهب الشيعي الذي لا نراه معقولا إلّا في حالة الخطر والضرر الأكيدين والله أعلم.

هذا ، وهناك أقوال وحدود أخرى للمؤولين والمفسرين وردت في سياق آية سورة آل عمران [٣٨] سنوردها ونعلّق عليها عند تفسير هذه الآية.

تعليق على ذكر عاد وثمود ورسالة يوسف

عليه‌السلام في الآيات

وفي الآية [٣١] ذكر لعاد وثمود مع قوم نوح ، وقصتا عاد وثمود لم تردا في الأسفار اليهودية المتداولة. وهما ، على ما قلنا قبل ، عربيتا الموطن أي كانتا في

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٢٩.

(٢) التاج ج ٥ ص ٢٥.

٣٧٠

جزيرة العرب. وقد يورد هذا سؤالا عما إذا كان يصح أن تورد قصتهما على لسان مؤمن آل فرعون. ولسنا نرى محلا لهذا النقد فليس ما يمنع أن يكون خبر عاد وثمود مما كان معروفا في ظروف رسالة موسى عليه‌السلام. وأن يكون ذلك واردا في قراطيس يتداولها اليهود في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته. وفي الأسفار المتداولة اليوم اسم سبأ وددان وبلاد العرب وملوك العرب متكرر الورود.

وفي الآية [٣٤] خطاب لفرعون وقومه يتضمن خبر كون يوسف عليه‌السلام مرسلا من الله لفرعون وقومه في وقت وجوده في مصر. وفي الإصحاح الواحد والأربعين من سفر التكوين المتداول الذي يحكي قصة حلم فرعون مصر وتفسير يوسف له ذكر أن يوسف قال : إنه يفسر الأحلام بأمر الله. وإن فرعون قال له : «بعد ما عرفك الله هذا كله فليس فيهم حكيم مثلك. أنت تكون على بيتي وإلى كلمتك ينقاد كل شعبي ولا أكون أعظم منك إلّا بالعرش» وفي هذا ينطوي مصداق ما جاء في الآية وبالتالي كون ما جاء فيها مما كان معروفا متداولا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته.

(فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)) [٤٥ ـ ٥٠]

(١) وما دعاء الكافرين إلّا في ضلال : بمعنى أن دعاءهم عبث لا جدوى من ورائه ولا استجابة له.

٣٧١

في الآيات تعقيب على الفصل القصصي كما هو الظاهر ، واحتوت تقرير وقاية الله للمؤمن وحكاية ما سوف يكون من أمر فرعون وقومه بعد الموت ويوم القيامة وما سوف يذوقونه من شديد العذاب ومحاورة التابعين والمتبوعين وإلقاء هؤلاء التبعة على أولئك وندم الجميع وحسرتهم ويأسهم من النجاة وأنيب خزنة النار لهم حينما طلبوا منهم دعاء الله بالتخفيف عنهم.

وأسلوبها قوي نافذ ، والهدف الذي استهدفه الفصل القصصي وهو الزجر والعبرة والتذكير والموعظة والإنذار والتنديد قد انطوى في هذا التعقيب أيضا ، ويلفت النظر إلى المحاورة المحكمية بين الضعفاء والمستكبرين ، حيث ورد مثلها على لسان المستضعفين والمستكبرين العرب أيضا في سورة سبأ السابقة لهذه السورة ، وحيث ينطوي في هذا التماثل قصد الإنذار والزجر للسامعين أيضا كما هو المتبادر.

تعليق على جملة

(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) [٤٦]

واستطراد إلى الأحاديث عن عذاب القبر

ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا تأويلات صحابية وتابعية وأحاديث نبوية في صددها. من ذلك ما رواه الطبري عن البلخي قال : «سمعت الأوزاعي وسأله رجل قال : رحمك الله رأينا طيورا تخرج من البحر تأخذ ناحية الغرب بيضا فوجا فوجا لا يعلم عددها إلا الله فإذا كان العشيّ رجع مثلها سودا قال : وفطنتم إلى ذلك قالوا : نعم قال : تلك الطيور في حواصلها أرواح آل فرعون يعرضون على النار غدوّا وعشيّا فترجع إلى وكورها وقد احترقت رياشها وصارت سودا فتنبت عليها من الليل رياش بيض وتتناثر السود ثم تغدو يعرضون على النار غدوّا وعشيا ثم ترجع إلى وكورها فذلك دأبها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة قال الله : أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب قالوا : وكانوا يقولون إنهم ستمائة ألف». والحديث لم يرد في كتب الصحاح وهو على غرابته يقتضي أن يكون آل فرعون

٣٧٢

فقط هم الذين يعرضون على النار!. وقد روى الطبري إلى هذا عن قتادة أنها تعني أن منازلهم من النار تعرض عليهم غدوا وعشيا توبيخا ونقمة وصغارا لهم. وعن مجاهد أنهم يعرضون على النار غدوّا وعشيا ـ ما كانت الدنيا ـ وهذا يعني أن هذا العرض قبل يوم القيامة. ثم قال الطبري ما مفاده : أن الأولى أخذ الجملة على ظاهرها والوقوف عند ذلك. فالله قال : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) فنقول ذلك وحسب. ومن ذلك ما رواه البغوي عن قتادة ومقاتل والسدي والكلبي أن روح كلّ كافر تعرض على النار بكرة وعشيا ما دامت الدنيا. ومن ذلك قول ابن كثير أنهم ـ يعني العلماء والمفسرين قبله ـ استدلّوا بهذه الآية على عذاب القبر الذي ورد خبره في أحاديث صحيحة وأورد حديثا رواه الإمام أحمد عن عائشة جاء فيه : «كانت تخدمنا يهودية فلا نصنع لها شيئا من المعروف إلا قالت : وقاك الله عذاب القبر فدخل عليّ رسول الله فقلت يا رسول الله هل للقبر عذاب قبل يوم القيامة؟ قال : لا من زعم ذلك قالت : هذه اليهودية لا أصنع معها شيئا من المعروف إلّا قالت وقاك الله عذاب القبر قال : كذبت يهودية وهم على الله أكذب لا عذاب دون يوم القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن يمكث فخرج ذات نصف النهار مشتملا بثوبة محمرّة عيناه وهو ينادي بأعلى صوته : «القبر كقطع الليل المظلم ، أيّها الناس لو تعلمون ما أعلم بكيتم كثيرا وضحكتم قليلا. أيّها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر فإنّ عذاب القبر حقّ». وننبه على أن ابن كثير أورد أيضا صيغة مختصرة لهذا الحديث رواها البخاري جاء فيها : «إنّ يهودية دخلت على عائشة فقالت : نعوذ بالله من عذاب القبر فسألت عائشة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عذاب القبر فقال : نعم عذاب القبر حقّ. ثم قالت : فما رأيت رسول الله بعد صلى صلاة إلّا تعوّذ من عذاب القبر». ومع ذلك فإن ابن كثير لاحظ أن الآية مكية وأن هذه الأحاديث مدنية واستشكل في صواب الاستدلال بالآية على عذاب القبر ثم قال : إن الآية دلت على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا وليس فيها دلالة على اتصال تألمها بأجسادها في القبور إذ قد يكون ذلك مختصا بالروح فأما حصول ذلك للجسد في البرزخ ـ أي بعد الموت وقبل القيامة ـ وتألمه بسببه فلم

٣٧٣

يدل عليه إلّا السنة في الأحاديث.

ومهما يكن من أمر فإن صيغة الجملة في ذاتها تفيد أن العرض هو بعد الموت وقبل يوم القيامة أو فيما يسمونه البرزخ. وأن من الواجب الإيمان بما ذكرته الجملة وبقدرة الله على ذلك. ومع ما في تأويل قتادة ومقاتل والسدي والكلبي من وجاهة فإن فيما التزمه الطبري من الوقوف عند الجملة بدون تخمين الصواب ما دام ليس هناك أثر نبوي صحيح يفسرها. وهذا لا يمنع القول إن الجملة قد استهدفت أيضا إثارة الرعب في الكفار من مثل هذا المصير الرهيب.

وما دام عذاب القبر قد ذكر في سياق هذه الجملة فنرى أن نستطرد هنا إليه فنقول إن هناك أحاديث نبوية عديدة في ذلك في ذلك بالإضافة إلى الحديثين اللذين أوردهما ابن كثير ونقلناهما آنفا عنه. فمن ذلك حديث يرويه البغوي في سياق هذه الجملة عن عبد الله بن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشيّ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فيقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة». ومن ذلك حديث رواه الخمسة عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا وضع في قبره وتولّى عنه أصحابه وإنّه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل ـ أي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدا من الجنة فيراهما جميعا ، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول لا أدري ، كنت أقول ما يقول الناس فيقال لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» (١). وحديث رواه الشيخان والنسائي عن أسماء قالت : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : ما من شيء لم أكن أريته إلّا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار. فأوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال يقال : ما عملك بهذا الرجل فأما المؤمن أو الموقن ، فيقول هو محمّد

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٣٣٨.

٣٧٤

رسول الله جاءنا بالبيّنات والهدى فأحببناه واتبعناه هو محمّد ثلاثا فيقال : نم صالحا قد علمنا إن كنت لموقنا به. وأما المنافق أو المرتاب فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته» (١). وحديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال : «مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قبرين فقال : إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير ثم قال : بلى أمّا أحدهما فكان يسعى بالنّميمة وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله ، وفي رواية لا يستبرىء من بوله ثمّ أخذ عودا رطبا فكسره باثنين ثم غرز كلّ واحد منهما على قبر ثمّ قال : لعلّه يخفّف عنهما ما لم ييبسا» (٢). وحديث رواه الشيخان والنسائي جاء فيه : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال» (٣). وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنّا نعلم أنك تقول هذا ثمّ يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له : نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك. وإن كان منافقا قال : سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذّبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك» (٤). وهناك أحاديث عديدة أخرى في صيغ متقاربة. وهناك حديث طويل عن البراء أورد في سياق تفسير الآية [٢٧] من سورة إبراهيم سنورده في سياقها فنكتفي هنا بما أوردناه (٥).

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٣٣٨ ـ ٣٤٠.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) النص منقول عن ابن كثير للآية ٢٧ من سورة إبراهيم.

(٥) انظر تفسير آية إبراهيم المذكورة في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٣٧٥

وتعليقا على الموضوع نقول إنه ما دام قد ورد فيه أحاديث صحيحة فمن واجب المسلم أن يؤمن به كواجبه بالإيمان بأخبار الغيب المتنوعة التي تثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لم يدركها العقل العادي ويقف عند ذلك كما هو الشأن فيما جاء من ذلك في القرآن مع الإيمان بأن ذلك في نطاق قدرة الله وبأنه لا بدّ لذكر ذلك من حكمة. وقد يتبادر أن من هذه الحكمة في هذا الموضوع هو تطمين المؤمن وتثبيته وتشويقه والحثّ على الإيمان والإخلاص وتخويف الكافر والمنافق وتقبيح الكفر والنفاق.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)) [٥١ ـ ٥٥]

(١) يوم يقوم الأشهاد : الأشهاد جمع شاهد ، والجملة كناية عن يوم القيامة.

(٢) الظالمين : المنحرفين المجرمين.

في الآيات توكيد بأن الله سينصر رسله والذين آمنوا معهم في الحياة الدنيا أولا ثم في الآخرة حيث لا ينفع الظالمين المجرمين ما سوف يقدمونه من أعذار وتدمغهم شهادة الشهود وتحقّ عليهم لعنة الله وخزيه وينزلون أسوأ المنازل. وإشارة إلى ما كان من هدى الله وفضله على موسى وبني إسرائيل ليكون في ذلك هدى وذكرى لأولي العقول السليمة. وقد انطوى في هذه الإشارة على ما هو المتبادر قصد التدليل على نصر الله وفضله لرسله والمؤمنين في الحياة الدنيا.

وقد التفتت الآية الأخيرة في خطابها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمرته بالصبر وطمأنته

٣٧٦

بتحقيق وعد الله الحق بالنصر والتأييد ، وأمرته بالثبات في موقفه متكلا على الله مستغفرا لذنبه مسبحا بحمد ربه صبحا ومساء.

تعليق على جملة

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا)

والآيات استمرار للتعقيب على الفصل القصصي كما هو واضح. وقد استهدفت تطمين النبي والمؤمنين وتثبيتهم وبعث الأمل والوثوق في نفوسهم إزاء ما يلقونه من عنت الكفار وبغيهم. ولقد سبق تطمين قوي مثل هذا التطمين في سورة الصافات التي نزلت قبل قليل من هذه السورة حيث يمكن القول إن ظروف السيرة في مكة كانت تقتضي مواصلة ذلك. وإنه كان من عوامل ما كان يبدو من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه الأولين من قوة وثبات وجرأة ويقين واستغراق في الله ودينه ودعوته. ونكرر هنا ما قلناه قبل من أن الله تعالى قد حقق وعده للنبي والمؤمنين فعلا فنصرهم الله وصارت كلمته هي العليا وتحققت بذلك المعجزة القرآنية.

ومع خصوصية هذا التطمين وصلته بسيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنّ في إطلاق العبارة القرآنية تلقينا جليلا مستمر المدى يستمد منه كل مؤمن يدعو إلى الله ودينه ومبادئه السامية ويناضل في سبيلها اليقين والقوة والجرأة ويجعله يستبشر بنصر الله وتأييده إذا ما كانت دعوته ونضاله بصدق وإخلاص.

تعليق على جملة

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)

هذه الجملة في الآية [٥٥] هي أولى المرات التي يؤمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها بالاستغفار لذنبه ، وهناك آيات من بابها في سور أخرى.

ولقد تعددت تخريجات المفسرين لهذه الجملة (١) منها أنه خوطب بذلك

__________________

(١) انظر تفسير هذه الآيات وتفسير آيات سورة النساء [١٠٥ ـ ١٠٧] وآية سورة محمد [١٩] في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٧٧

لتستن أمته بسنته. ومنها أنها بمعنى استغفر لذنوب أهل بيتك ومنها أن اشتغاله بأمر الناس كان يشغله عن التفرغ لعبادة الله فكان هذا عنده تقصيرا أو ذنبا من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولقد أورد المفسرون حديثا جاء فيه : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في كلّ يوم مائة مرة» (١). وفسروا الغين بالغيم الرقيق الذي يغشى السماء وفسروه بالنسبة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفترات والغفلات فكان يعتبر ذلك ذنبا نحو الله تعالى ويستغفره منه. وهذا أوجه التخريجات. ولقد خطر ببالنا تخريج آخر نرجو أن يكون صوابا. وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أحيانا يأمر بشيء أو ينهى عن شيء أو يفعل شيئا اجتهادا منه بغير وحي ويكون ذلك أحيانا غير الأولى في علم الله ويعاتب عليه في القرآن مما مرّ منه بعض الأمثلة فكان يستغفر الله تعالى ويؤمر بالاستغفار لنفسه من مثل ذلك. ومن هذا الباب آيات سورة النساء هذه : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (١٠٧)) وليس هذا ولا ما ورد في التخريج السابق من الغين ذنبا فيه تقصير في حق الله تعالى أو انحراف عن أوامره مما يجب الاعتقاد بعصمته منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وبالإضافة إلى الحديث السابق أورد المفسرون أحاديث عديدة في صدد استغفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه فيها حديث عن أبي هريرة جاء فيه : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة. وفي رواية أكثر من سبعين مرة» (٢). وحديث عن ابن عمر قال : «إن كنا لنعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد مائة مرة قوله ربّ اغفر لي وتب عليّ إنك أنت التوّاب الرحيم» (٣). وحديث جاء فيه : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في آخر الصلاة : اللهمّ اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به

__________________

(١) روى هذا الحديث مسلم وأبو داود. انظر التاج ج ٥ ص ١٣٥.

(٢) روى هذا الحديث بالصيغة الأولى فقط البخاري. انظر التاج ج ٥ ص ١٣٥.

(٣) روى هذا أبو داود والترمذي انظر التاج ج ٥ ص ١٣٥.

٣٧٨

مني أنت إلهي لا إله إلّا أنت» (١). وحديث جاء فيه : «يا أيّها الناس توبوا إلى ربّكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (٢). وحديث جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : اللهمّ اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهمّ اغفر لي هزلي وجدّي وخطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي». حيث ينطوي في كل هذا صورة رائعة لعمق شعور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم مسؤوليته نحو الله عزوجل وعظم خوفه من أن يكون قد أتى في حالة من حالاته ما لا ينبغي أن يصدر عنه.

هذا ، وجملة (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣)) يجب أن تؤخذ على أنها في صدد ما خلفه موسى عليه‌السلام في بني إسرائيل أو سلمه إليهم من المدونات التي فيها شرائع الله وتبليغاته والتي ذكرنا خبرها في سياق تفسير سورة الأعراف استنادا إلى آيات القرآن من ناحية ، وبعض نصوص ما هو متداول في الأيدي اليوم من أسفار من ناحية أخرى وحسب ، وليست في صدد تقرير اقتصار إرث كتاب الله عليهم لأن المسلمين قد أورثوا كتاب الله تعالى بدورهم. ولا في صدد كون ذلك شاملا جميع ما في أيديهم من أسفار لأنها مكتوبة بأقلام بشرية في أزمنة مختلفة فيها الغثّ والسمين والمناقضات والمبالغات وما تنزّه الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه من أوامر وتبليغات وإن كان يجوز أن يكون فيها بعض ما بلّغه الله لموسى وغيره من أنبيائه وبلّغوه بدورهم لبني إسرائيل ، والله تعالى أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)) [٥٦]

في الآية تنديد بالذين يجادلون في آيات الله ويكابرون فيها بغير برهان وعلم ، وتقرير لواقع أمرهم من حيث إنهم يكونون مندفعين في ذلك بسائق الكبر والغرور.

__________________

(١) النص من تفسير ابن كثير لسورة محمد وقد وصف المفسر الحديث بالصحيح.

(٢) النص أيضا من تفسير ابن كثير سورة محمد وقد وصف بالصحيح كذلك.

٣٧٩

وتطمين وتثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تأمره بالاعتصام بالله والاستعاذة به فهو السميع الذي يسمع كل شيء والبصير الذي يرى كل شيء ، وليكون على ثقة من أنهم لن يصلوا إلى ما يرمون إليه من تعطيل آيات الله ودحضها.

تعليق على موضوع المسيح الدجال

ونزول عيسى عليه‌السلام

في آخر الزمان

وقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية ، وروى بعض المفسرين أنها نزلت في اليهود ومكابرتهم وقولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن المسيح الدجال هو صاحبهم وإنه سوف يظهر ويملك الدنيا وتعم دعوته ويعيد لليهود سابق سلطانهم وملكهم. وقال المفسرون الذين رووا ذلك : إن الله أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستعاذة من فتنته (١).

ويلحظ أن آية قريبة في الصيغة إلى هذه الآية قد وردت في الفصل القصصي السابق [الآية / ٣٤] في صدد التنديد بالكافرين المتكبرين مما يسوغ القول إن هذه الآية أيضا مكية وفي صدد الكافرين وفيها عود على بدء بالتنديد بهم وتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته من ناحيتهم. ويلحظ أيضا أن الآية السابقة لهذه الآية مباشرة قد وجه الخطاب فيها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بالصبر والاعتماد على الله وتسبيحه عشيا وبكورا ، وأن الفقرة الأخيرة قد احتوت شيئا مثل ذلك من حيث توجيه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره بالاستعاذة بالله ، فهذا التماثل أيضا مما يقوي ترجيح مكية الآية وصلتها بالسياق سبكا وموضوعا.

ولقد كانت رواية مدنية الآية وقول اليهود إن المسيح الدجال هو صاحبهم وسيلة للمفسرين لذكر الدجال وظهوره وصفته ونزول عيسى بعده وقتله له (١) ولإيراد أحاديث نبوية عديدة في ذلك مختلفة الرتب والنصوص ، مما دعانا إلى

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير الخازن والبغوي. ومن العجيب أن المفسر الطبري لم يذكر شيئا من ذلك في سياق هذه الآية.

٣٨٠