التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

يجرانه من حسرة وندم. وهذا فضلا عن أن القول إن الله يغفر جميع الذنوب والآثام دون توبة وندم وتلاف للذنوب بصالح العمل والإصلاح هو إفراط لا يتسق مع آيات القرآن التي لا تكاد تحصى كثرة في صدد الإنذار والتبشير والوعد والوعيد وتقبيح القبيح وتحسين الحسن وتوفية الناس جزاء أعمالهم كلا بحسب عمله. وما ورد من الأحاديث النبوية يحمل فيما نعتقد في حالة صحتها ولا ننفي ذلك على قصد الترغيب في التوبة والحث عليها وعلى تقرير كون الله تعالى يغفر للنادم والتائب المستغفر وبهذا يتم التساوق ويزول التناقض.

على أن الآيات تتضمن تلقينا بليغا مستمر المدى يتسق مع مبدأ التوبة القرآني الذي شرحناه في سياق تفسير سورة الفرقان وهو عدم إيئاس أي كائن دون تلافي أخطائه والرجوع عن آثامه المتنوعة من كفر ومما دون الكفر ، وإصلاح نفسه دينيا ودنيويا وإبقاء باب العفو مفتوحا لمن حسنت فيهم النيات واستيقظت الضمائر إذا ما ترووا وندموا وأنابوا إلى الله واتبعوا أحسن ما أنزل منه وهم في متسع من الوقت وفسحة من العمر والعافية.

ونقطة أخرى جديرة بالتسجيل عن الآيات ، من حيث إنها تنطوي على تقرير محكم حاسم يضاف إلى التقريرات المحكمة الحاسمة الكثيرة بأهلية الإنسان للكسب والاختيار بين الهدى والضلال وبمسؤوليته عن كسبه واختياره. والآية [٥٧] بخاصة قوية جديرة بالتنويه في هذا الباب حيث تندد بالذي يقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين. وقد ردت عليه الآية التي تلتها فقررت أن الله قد أراه طريق الهدى بآياته التي أنزلها على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنه كذّب واستكبر وكان من الكافرين فاستحق عذاب الله.

تعليق على جملة

(وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)

وقد يوهم تعبير (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أن فيما نزل ما هو حسن وما هو أحسن. ولسنا نرى محلا للتوهم ونرى أن التعبير أسلوبي. هذا

٣٤١

فضلا عن إمكان صرف تعبير (أَحْسَنَ) إلى الهدى والخير والحث عليهما بالنسبة لما حذر منه القرآن من الشر والضلال والآثام. فالله قد بيّن طريق الخير وحقيقة الخير وأنواعه ودعا إليه ، وبيّن طريق الشر وحقيقة الشر وأنواعه وحذر منه. وأحسن ما أنزل هو الأول ، والناس مدعوون إلى اتباعه دون الثاني. وجميع المأمورات الإيمانية والأخلاقية تدخل في شمول الأول كما هو المتبادر.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)) [٦٠ ـ ٦٣]

(١) مفازتهم : بمعنى فوزهم أي بما فازوا به من رضاء الله بسبب تقواهم.

(٢) مقاليد : هنا بمعنى أمور وشؤون وحكم. ويؤول المؤولون من التابعين كلمة مقاليد بمفاتح خزائن السموات والأرض أيضا.

الآيات معقبة على ما قبلها تعقيب توضيح وتقرير كما هو المتبادر حيث احتوت بيان مصير الكافرين الذين كذبوا على الله بالشرك حيث تسوّد وجوههم وتكون جهنم مثواهم ، وبيان مصير المؤمنين بالمقابلة جريا على الأسلوب القرآني حيث ينجيهم الله لأنهم فازوا برضائه بسبب تقواهم. فالله خالق كل شيء وهو شهيد على كل شيء وعالم بكل شيء. وفي يده مقاليد السموات والأرض. فمن يكفر بهذه الحقائق فهم الخاسرون حتما.

والمتبادر أنها استهدفت فيما استهدفته تدعيم الإنذار والتحذير والتخويف للذين يهملون اغتنام الفرصة وهم في فسحة من العمر والوقت والتنويه والتطمين لمن آمن واتقى ، مع التنبيه على واجب الإيمان بما احتوته من مشهد أخروي.

٣٤٢

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)) [٦٤ ـ ٦٦]

في الآيات أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوجيه سؤال استنكاري فيه معنى التقريع للكفار عما إذا كانوا يريدونه أن يعبد غير الله كما يفعلون بجهلهم في حين أن الله قد أوحى إليه وإلى الأنبياء من قبله أن الذي يشرك بالله يحبط عمله ويكون خاسرا ، وأن عليه أن يعبد الله وحده ويكون له شاكرا.

وفي توجيه الخطاب في الآية الأولى للكافرين عود على بدء في صدد محاججتهم والتنديد بهم ، وربط بين هذه الآيات وما قبلها سياقا وموضوعا ، وقرينة على أن الآيات السابقة لها متصلة أيضا بموقف الجدل والحجاج بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار وبسبيل دعوة الكفار إلى الله وحده.

ولقد قال المفسرون (١) في سياق تفسير الآية الأولى : إنها جواب لطلب الكفار من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعبد آلهتهم ليعبدوا إلهه. وروى ابن كثير عن ابن عباس أن ذلك سبب نزول الآية. ونحن نرجح أن الآية متصلة بالسياق السابق واللاحق ولم تنزل منفصلة لسبب جديد. وهذه ثالث مرة يتكرر فيها مثل هذا الأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في السورة ، ولقد نبهنا إلى ذلك في مناسبة سابقة منها وعلّلناه بما تبادر لنا ونرجو أنه الصواب فنكتفي بذلك.

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ

__________________

(١) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن وابن كثير والزمخشري.

٣٤٣

بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)) [٦٧ ـ ٧٠]

(١) الشهداء : الجمهور على أن الشهداء هنا هم الملائكة الذين يحصون على الناس أعمالهم ويكتبونها.

في الآيات إشارة تعنيفية إلى الكفار المشركين على عدم إدراكهم حق الإدراك وتقديرهم حق التقدير مدى عظمة الله وقدرته وشأنه واستحقاقه وحده للخضوع والعبادة وتنزهه وتعاليه عن الشركاء. واستطراد إلى ذكر ما يكون يوم القيامة من دلائل عظمته وقدرته وشمول تصرفه حيث تكون الأرض في قبضته والسموات مطويات بيمينه. وحيث ينفخ في الصور للمرة الأولى فيخرّ من في السموات والأرض إلا من شاء الله مصعوقا. ثم ينفخ فيه للمرة الثانية فيقومون جميعا مندهشين ينتظرون مصائرهم. وحيث يتجلى الله حينئذ على الأرض فتمتلىء إشراقا بنوره. وينعقد مجلس القضاء ويؤتى بكتب أعمال الناس وبالنبيين والشهداء ويقضى بين الناس بالحق دونما إجحاف وظلم وتوفّى كل نفس ما عملت والله أعلم بما يفعلون.

تعليقات على الآية

(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ)

والآيات الثلاث التي بعدها

ولقد روى الترمذي عن ابن عباس قال : «مرّ يهوديّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا يهوديّ حدّثنا ، فقال : كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السموات على ذه والأرض على ذه والماء على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ وأشار الراوي محمد بن الصلت بخنصره أولا ثم تابع حتى بلغ الإبهام فأنزل الله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ

٣٤٤

بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)) (١). ومقتضى الرواية أن تكون الآية مدينة وأن تكون نزلت لحدتها. ولم يرو أحد مدنية الآية ، وارتباطها بما بعدها قوي. وهي بعد معطوفة على ما قبلها. وضمير الفاعل في (وَما قَدَرُوا اللهَ) هو عائد على المعطوف عليه وهم الكفار موضوع الكلام في الآية السابقة.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات عن عبد الله بن مسعود قال : «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ، فقال : يا محمّد إنّا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع والأرض على إصبع والشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع فيقول : أنا الملك. فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثمّ قرأ : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ولعل التباسا ما وقع في الرواية حيث يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تلا هذه الآية حين ما سأل اليهودي فظن الراوي أنها نزلت في مناسبة السؤال.

وكل ما تقدم يسوّغ التوقف في الرواية كسبب لنزول الآية في المدينة والقول إن الآيات وحدة تامة ومعطوفة على ما قبلها ومتصلة به. وأنها استهدفت كما قلنا في شرحها فيما استهدفته التنويه بعظم قدرة الله تعالى ومطلق تصرفه في خلقه ثم توكيد البعث الأخروي ومحاسبة الناس على أعمالهم وجزائهم بما يستحقون عليها.

ولقد روى البغوي في سياق الآية حديثا عن عبد الله بن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يطوي الله السموات يوم القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبّارون ، أين المتكبّرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهنّ بشماله ثم يقول : أنا الملك أين الجبّارون أين المتكبّرون». ولقد روى ابن كثير هذا الحديث من إخراج الإمام أحمد بصيغة أخرى فيها مماثلة وفيها زيادات قال : «قرأ رسول

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩٩ ـ ٢٠٠.

٣٤٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم على المنبر : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ورسول الله يقول هكذا بيده يحرّكها. يقبل بها ويدبر ، يمجّد الربّ نفسه أنا الجبّار ، أنا المتكبّر ، أنا العزيز ، أنا الكريم فيرجف المنبر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى قلنا ليخرّنّ به».

والحديث لم يرد بهذا النص أو ذاك في كتب الصحاح ولكن ورد شيء منه فيها حيث روى الشيخان حديثا جاء فيه : «يقبض الله الأرض ويطوي السموات بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين الملوك» (١). وفي هذه الأحاديث صورة من تعليقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هذه الآية للتنويه بعظمة الله بما هو إلهام من عند الله عزوجل.

والنفخ في الصور في الآيات رافقه صعق واستثناء ، ومع أن القرآن استعمل الصعق بمعنى الإغماء كما جاء في آية سورة الأعراف هذه : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ) فإن الجمهور على أنها هنا بمعنى الموت الصاعق. وفي جملة : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)) ما قد يدعم هذا الرأي.

ولقد كرر المفسرون هنا ما قالوه في سياق آيات سورة النمل [٨٧ ـ ٩٠] في جملة (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) حيث قالوا إن المستثنين هم الشهداء أو كبار الملائكة. ثم يقضي الله على هؤلاء بالموت فلا يبقى إلّا الله عزوجل. ونص الاستثناء صريح بأن هناك فريقا قد يشاء الله تعالى أن يستثنى من الصعق. وهذا ما يجعل ما يقولونه موضوع توقف في نطاق النص القرآني. وليس هناك حديث صحيح في ذلك فنرى الوقوف عند ما اقتضته حكمة التنزيل التي قد يلمح أن منها قصد بيان ما يكون عليه وقت البعث والحشر من رهبة وهول.

ولقد اختلفت الأقوال في مدى تعبيري قبضته ويمينه. وقد ألمحنا بهذا الموضوع في تعليق عقدناه في آخر تفسير سورة القصص فنكتفي بهذا التنبيه.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٠٠.

٣٤٦

ويلحظ ما بين المشهد الذي احتوته الآية [٦٩] وما اعتاده الناس في الدنيا من مجالس القضاء لإحقاق الحق والعدل. حيث يتسق هذا مع حكمة التنزيل التي نوهنا بها في تعليقاتنا على الحياة الأخروية بوصف مشاهد هذه الحياة بأوصاف مألوفة للناس على سبيل التقريب والتمثيل والتأثير مع التنبيه على واجب الإيمان بحقيقة المشهد المذكور في الآية.

وقد يكون في الآيتين [٦٩ و ٧٠] تعليم رباني للناس وبخاصة للحكام بوجوب حرصهم على إظهار الحق والعدل بالبينات بقطع النظر عن ما يمكن أن يكون لهم علم بحقيقة وواقع القضايا المعروضة عليهم ، مما عبر عنه بالقاعدة المشهورة (الحاكم لا يحكم بعلمه).

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)) [٧١ ـ ٧٥]

(١) زمرا : جمع زمرة ، والكلمة هنا كناية عن الأفواج أو الجماعات بعضها وراء بعض.

الآيات استمرار للسياق ، وتتمة لما سبقها من مشاهد المحاسبة والقضاء. وعبارتها واضحة.

٣٤٧

والصورة التي احتوتها الآيات رائعة من شأنها أن تثير في المؤمنين المتقين شعور السكينة والغبطة وفي الكفار شعور الخوف والرهبة. وهذا مما استهدفته كما هو المتبادر مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي المغيب المذكور فيها.

وقد جاءت خاتمة لفصول الجدل والحجاج وحكاية مواقف الكفار كما جاءت خاتمة للسورة بطابع ختامي رائع شأن كثير من السور وبخاصة المكية.

وما احتوته الآيات من استقبال خزنة الجنة والنار للمؤمنين والكفار وكون الملائكة حافين بالعرش يسبحون بحمد ربهم بعد القضاء بين الناس هو متصل بأمر الملائكة المغيب الواجب الإيمان به مع الإيمان بأن لا بد من أن يكون لوروده بالصيغة التي ورد بها حكمة ربانية ، ويتبادر لنا أن ما كان في أذهان السامعين من صورة فخمة عن الملائكة وأن قصد تصوير عظمة الله تعالى وروعة سلطانه من هذه الحكمة والله أعلم.

ويلحظ أن المشاهد المذكورة في الآيات من سوق أهل الجنة وأهل النار وقيام خزنة على الجنة وعلى النار ووجود أبواب للجنة والنار مشابهة لما في الحياة الدنيا مما هو متساوق مع الحكمة المتوخاة من اتساق كثير من أوصاف المشاهد الأخروية مع مألوفات الدنيا للتأثير والتمثيل مع واجب الإيمان بحقيقتها المغيبة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية التي تذكر سوق المتقين إلى الجنة أحاديث نبوية عديدة في وصف الجنة ومشاهد منازل المتقين فيها أوردنا بعضها في مناسبات سابقة (١) وعلقنا عليها بما يغني عن الإعادة.

ولقد أورد هذا المفسر أيضا في سياق الآيات أحاديث عديدة عن أبواب الجنة. منها حديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب ، فمن كان

__________________

(١) انظر تعليقنا على الجنات الأخروية في سورة القلم وتفسير الآية [٨٥] من سورة مريم.

٣٤٨

من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الرّيان. فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي فهل يدعى منها كلّها أحد يا رسول الله؟ قال : نعم وأرجو أن تكون منهم» (١). وحديث رواه مسلم عن عمر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما منكم من أحد يتوضّأ فيبلغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا عبده ورسوله إلّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيّها شاء». وحديث روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه : «يقول الله تعالى يا محمّد أدخل من لا حساب عليه من أمّتك من الباب الأيمن وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر. والذي نفس محمّد بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكّة وهجر وفي رواية مكة وبصرى». وحديث روي عن سهل بن سعد قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمّى الرّيان لا يدخله إلّا الصائمون». وواضح من روح الأحاديث أنها تنطوي على البشرى للمؤمنين وإثارة الغبطة في قلوبهم مع الرغبة في الاستكثار من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى والمؤدية إلى الجنة الموعودة مما هو متساوق مع الهدف القرآني العام.

ولقد ذكر في الآية [٤٤] من سورة الحجر أن لجهنم سبعة أبواب. فاكتفى المفسرون بالإشارة إلى ذلك في سياق الآيات. ولقد أوردنا ما روي في صدد أبواب جهنم السبعة وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار.

__________________

(١) ذكر ابن كثير أن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم أيضا.

٣٤٩

سورة غافر

في هذه السورة حملة شديدة على الكفار وحكاية لمواقفهم الجدلية والساخرة. وإنذار لهم بالخزي في الدنيا والآخرة. ولفت نظر إلى مشاهد قدرة الله تعالى ونواميسه وأفضاله وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنويه بالمؤمنين واختصاصهم باستغفار الملائكة وشفاعتهم دون المشركين. وإشارة تذكيرية إلى ما كان من مواقف الكفار الأولين من رسل الله وعاقبتهم وندمهم وحسرتهم وعدم انتفاعهم بالإيمان بعد فوات الفرصة. وفيها فصل قصصي عن موسى وفرعون ومؤمن آل فرعون بسبيل التذكير والعظة.

وقد سميت السورة باسم (المؤمن) أيضا اقتباسا من ذكر مؤمن آل فرعون ، وهي أولى سلسلة السور المعروفة بالحواميم. وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن الحواميم ديباج القرآن (١). وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : لكلّ شيء لباب ولباب القرآن الحواميم (٢). ولقد كثر في هذه السور ذكر القرآن على سبيل التنويه والتعظيم وفي معرض لجاج الكفار فيه وفي طرق وحيه ولعل ما روي متصل بذلك.

وفصول هذه السورة مترابطة مما يسوغ القول أنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة ، ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيتين [٥٦ ـ ٥٧] مدنيتان والرواية تتحمل الشك والتوقف.

__________________

(١) انظر تفسير هذه السورة في تفسير الطبرسي والخازن.

(٢) المصدر نفسه.

٣٥٠

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)) [١ ـ ٦]

(١) ذي الطّول : ذي القدرة والفضل على الغير.

(٢) لا يغررك : لا يخدعنك ذلك ولا يجعلك تيأس.

(٣) تقلبهم في البلاد : كناية عما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد في الدنيا والبلاد.

(٤) الأحزاب : كناية عن الأمم التي تحزبت ضد رسلها.

(٥) همت : حاولت أو قصدت.

(٦) ليدحضوا : ليبطلوا ويوهنوا ويزيلوا ويتغلبوا.

بدأت السورة بحرفي الحاء والميم اللذين تعددت الأقوال في تخريجهما فقيل إنهما من أسماء الله أو إنهما يرمزان إلى اسمي الله الرحمن الرحيم أو إنهما قسم أقسم الله به أو إنهما بمعنى القضاء من حمّ أو إنهما حروف مفردة كسائر الحروف المفردة الأخرى للتنبيه والاسترعاء ، وهو ما نرجحه كما رجحناه بالنسبة للمطالع المماثلة. وعبارة الآيات واضحة. وقد احتوت تنويها بالقرآن وتقريرا لما اتصف به الله تعالى ـ الذي أنزله ـ من صفات العزة والعلم والغفران للتائبين والشدة على المكابرين الذين هم وحدهم الذين يجادلون في آيات الله. وتحذيرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الانخداع بما أصابوه من قوة ونجاح وطول يد وتطمينا له. فقد كذبت قبلهم أمم أخرى عديدة من لدن قوم نوح وما بعدهم وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق

٣٥١

وطمسه وحاولوا أن يبطشوا برسلهم فأخذهم الله أخذا قويا ما تزال آثاره قائمة وأخباره دائرة يراها الناس ويسمعونها ، ولقد حقت كلمته بالإضافة إلى أخذه الشديد في الدنيا بأن الكافرين هم أصحاب النار في الآخرة.

والآيات كما هو المتبادر مقدمة قوية نافذة في صدد إنذار الكفار العرب في الدنيا والآخرة وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتثبيته.

ويلفت النظر إلى ما بين هذه المقدمة وبين آيات السورة السابقة الأخيرة من تساوق تأكيدي في صدد غفران الذنوب وقبول التوبة وتقرير كون كلمة العذاب إنما حقت على الكافرين المكابرين على الله المكذبين بآياته مما يمكن أن يكون قرينة ما على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد سورة الزمر.

تعليق على جملة

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)

وجملة : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية الرابعة تضمنت تقرير كون الذين يجادلون في آيات الله وينكرونها هم الذين تعمدوا العناد وبيتوا الكفر والمكابرة فقط. حيث انطوى في ذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى ، وانطوى فيه تبعا لذلك تحميل الكافرين مسؤولية موقفهم الذي يقفونه عن عمد وباطل. وقد انطوى في هذا وذاك في الوقت نفسه تسلية وتطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعنيف قارع للكفار ، وكل هذا مما استهدفته الآيات. وفي السور السابقة آيات وعبارات انطوى فيها ذلك ، مما يصح أن يعد من المبادئ القرآنية المحكمة.

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ

٣٥٢

وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)) [٧ ـ ٩]

(١) قهم السيئات : من الوقاية. ومضمون الآية يسوغ تأويلها بالدعاء لله بأن يغفر للمؤمنين ما بدر منهم في الحياة من سيئات وهفوات. أو بالدعاء بأن يحميهم من الوقوع في السيئات في الحياة.

في الآيات إشارة ضمنية إلى الملائكة وإيمانهم بالله وتقديسهم له ، واستغفارهم للمؤمنين والدعاء لهم ، بأسلوب قوي رائع وعبارة واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوه بالمؤمنين المنيبين إلى الله المتبعين سبيله والملتفين حول رسوله ، ولتبثّ فيهم الطمأنينة والغبطة والبشرى بما ينتظرهم من قرة العين وعظيم الفوز في الآخرة ، وما بسبيل ذلك من استغفار الملائكة لهم والدعاء إلى الله من أجلهم مقابلة لذكر مصير الكفار وما احتوته الآيات السابقة من التنديد بهم وإنذارهم.

تعليق على

ما جاء عن الملائكة في هذه الآيات

ومع التنبيه إلى أن ما ذكر عن الملائكة في هذه الآيات متصل من حيث ذاتية الأمر بسرّ الملائكة المغيب الذي يجب الإيمان به ، على ما شرحناه في سياق سورة المدثر ، فإن مما يتبادر والله أعلم أن ذكرهم بالصيغة الرائعة التي ذكروا بها قد قصد به الإشارة إلى أن أكثر الملائكة قربا إلى الله وهم حملة العرش ومن حوله هم أكثر المخلوقات خضوعا له واعترافا بعظمته أولا ، وإلى أن شفاعتهم واستغفارهم إنما هما للمؤمنين المتقين ثانيا. وفي هذا وذاك أسلوب من الرد القوي على المشركين العرب فيما يعتقدونه من كون الملائكة بنات الله وإشراكهم معه في العبادة على أمل

٣٥٣

شفاعتهم لهم عند الله. وفيهما كذلك أسلوب من التنويه القوي بالمؤمنين المستجيبين إلى دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولقد ذكرنا في سياق تفسير سورة البروج أن تعبير عرش الله أولى أن يصرف إلى قصد تصوير عظمة الله ، وأنه تعبير تمثيلي لأن الناس في الدنيا اعتادوا أن يروا عروش الملوك وأن يقيسوا عظمتهم بعظمة ملكهم وعروشهم وأن يروا هذه العروش رمزا لملكهم وسلطانهم وقوتهم بل وأن يعبروا عن ذلك بها. ويتبادر لنا والله أعلم أنه يحسن أن يفسّر قصد ذكر حمل الملائكة العرش والتفافهم حوله على ضوء ذلك.

ولقد أورد بعض المفسرين في سياق هذه الآيات بيانات حول ماهية الملائكة وخلقهم وكيفية حملهم العرش ومواقفهم حوله فيها كثير من الإغراب. من ذلك ما رواه البغوي عن جابر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام». عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : «إنّ ما بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية خفقان الطير المسرع ثلاثين ألف عام والعرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق الله والأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة». وعن وهب بن منبه أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ من الملائكة صفّ خلف صفّ يطوفون بالعرش يقبل هؤلاء ويقبل هؤلاء. فإذا استقبل بعضهم بعضا هلّل هؤلاء وكبّر هؤلاء ومن ورائهم سبعون ألف صفّ قيام أيديهم إلى أعناقهم قد وضعوها على عواتقهم فإذا سمعوا تكبير أولئك وتهليلهم رفعوا أصواتهم فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلّك أنت الله لا إله غيرك أنت الأكبر ، الخلق كلّهم راجون ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صفّ من الملائكة قد وضعوا اليمنى على اليسرى ليس منهم أحد إلّا وهو يسبّح بتحميد لا يسبّحه الآخر. ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام وما بين شحمة أذنه إلى عاتقه أربعمائة عام ، واحتجب الله من الملائكة الذين حول العرش بسبعين حجابا من نور وسبعين حجابا من ظلمة وسبعين حجابا من درّ أبيض وسبعين حجابا من

٣٥٤

ياقوت أصفر وسبعين حجابا من زبرجد أخضر وسبعين حجابا من ثلج وسبعين حجابا من ماء وسبعين حجابا من برد وما لا يعلمه إلّا الله تعالى. ولكلّ واحد من حملة العرش ومن حوله أربعة وجوه وجه ثور ووجه أسد ووجه نسر ووجه إنسان. ولكلّ واحد منهم أربعة أجنحة جناحان على وجهه مخافة أن ينظر إلى العرش فيصعق وجناحان يهفو بهما كما يهفو الطائر بجناحيه إذا حرّكهما ليس لهم كلام إلّا التسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد. ومن ذلك ما رواه الخازن عن ابن عباس أنّ ما بين أحد أحد الملائكة الذين يحملون العرش إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وأقدامهم في تخوم الأرضين والأرضون والسموات إلى حجزهم وقيل إنّ أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم وهم أشدّ خوفا من أهل السماء السابعة وأهل السماء السابعة أشدّ خوفا من التي تليها والتي تليها أشدّ خوفا من التي تليها وحملة العرش هم أشرف الملائكة وأفضلهم لقربهم من الله عزوجل وهم على صورة الأوعال». وعن ابن وهب أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّه يحمل عرش الله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية من الملائكة أقدامهم في الأرض السابعة ومناكبهم خارجة من السموات عليها العرش. وأنّ الله لما خلقهم سألهم أتدرون لم خلقتكم؟ قالوا : خلقتنا ربّنا لما تشاء ، قال : تحملون العرش. ثمّ قال : سلوني من القوة ما شئتم أجعلها فيكم. فقال واحد منهم : قد كان عرش ربّنا على الماء فاجعل فيّ قوة الماء. قال : قد جعلت. وقال آخر : اجعل فيّ قوة السّموات. قال : قد جعلت. وقال آخر : اجعل فيّ قوّة الأرض ، قال : قد جعلت. وقال آخر : اجعل فيّ قوّة الرياح. قال : قد جعلت ثمّ قال : احملوا فوضعوا العرش على كواهلهم فلم يزولوا قال : فجاء علم آخر إنّما كان علمهم الذي سألوه القوة فقال لهم : قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فقالوا ، فجعل الله فيهم من الحول والقوة ما لم يبلغه علمهم فحملوا».

وفي تفسير البغوي زيادة في وصف الملائكة قال : إنها من حديث نبوي دون أن يذكر راويا أو سندا وفي الزيادة : «أنّ الملائكة على صورة الأوعال بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء». وفي رواية من حديث آخر بدون راو ولا سند

٣٥٥

«أنّ لكلّ منهم وجه رجل ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر». وفي تفسير ابن كثير حديث عن جابر قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أذن لي أن أحدّثكم عن ملك من حملة العرش بعد ما بين شحمة أذنه وعنقه مخفق الطير سبعمائة عام».

وفي تفسير الطبري في سياق تفسير آية الأحقاف هذه : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧)) قول منسوب إلى ابن عباس أن الثمانية هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلّا الله ، وهذه غير موثقة الإسناد وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عن العباس رضي الله عنه قال : «كنت جالسا في البطحاء في عصابة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم إذ مرّت عليهم سحابة فنظروا إليها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تدرون ما اسم هذه؟ قالوا : نعم هذا السّحاب. فقال : والمزن قالوا : والمزن قال : والعنان قالوا : والعنان ثم قال : هل تدرون كم بعد ما بين السماء والأرض؟ فقالوا : لا قال : إن بعد ما بينهما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة والسماء التي فوقها كذلك حتى عدّهنّ سبع سموات ثم قال : فوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما من السماء إلى السماء وفوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهنّ وركبهنّ ما بين سماء إلى سماء فوق ظهورهنّ العرش بين أسفله وأعلاه ما بين سماء إلى سماء والله فوق ذلك» (١).

ومهما يكن من أمر فإن من واجب المسلم أن يؤمن بما جاء في القرآن والحديث النبوي الصحيح وبقدرة الله على كل شيء مع تنزيهه عن الجسمانية والمماثلة لأي شيء من خلقه ومع الإيمان بأن ما ورد في القرآن والحديث الصحيح على الوجه الذي ورد به لا بد من أن يكون لحكمة سامية ، منها ما ذكرناه في بداية هذا التعليق ، والله تعالى أعلم.

تعليق على جملة

(وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)

إن المعنى في هذه الجملة تكرر في آيات أخرى ، وجاء تقريرا مباشرا من الله

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٤٤.

٣٥٦

عزوجل مثل آية الرعد هذه : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣)) وآية سورة الطور هذه : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١)). ويتبادر لنا بالإضافة إلى الحقيقة الإيمانية المغيبة التي يجب الإيمان بها أنه قد هدف بذلك أولا إلى تطمين المؤمنين الصالحين بمصير من يمتّ إليهم برحم قريب بمصير يجمعهم معهم في مصير سعيد واحد تساوقا مع الظاهرة الانسانية المعروفة أي شغف الناس بذوي رحمهم القريبين ، وهذا متساوق مع نظم القرآن وحكمة الله في كون مشاهد الحياة الأخروية مماثلة لمألوفات الدنيا على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة.

وثانيا : إلى التنبيه على أن ذلك رهن بصلاح ذوي رحم المؤمنين الصالحين ، وأنه ليس من شأن نسبتهم إليهم وحسب أن تجعل لهم سبيلا إلى ذلك المصير السعيد المماثل لمصير ذويهم الصالحين إذا لم يكونوا مؤمنين صالحين مثلهم. وفي هذا ما فيه من تلقين جليل شامل ومستمر المدى.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)) [١٠ ـ ١٢]

(١) المقت : الغضب الشديد.

في الآيات بيان لما سوف يكون من أمر الكفار يوم القيامة حيث يصرخ فيهم صرخة التبكيت والتقريع ويقال لهم : إن مقت الله وغضبه عليكم أشد من مقتكم أي نقمتكم على أنفسكم بسبب امتناعكم عن الاستجابة إلى دعوة الله ومقابلتها

٣٥٧

بالمكابرة والجحود. وحيث ترتفع أصواتهم بالندم قائلين : ربنا إنك أمتنا مرتين وأحييتنا مرتين وقد أدركنا الآن خطأنا واعترفنا بذنوبنا فهل لنا من سبيل نخرج به من ورطتنا. فيقال لهم : إن ما أنتم فيه الآن هو حق وعدل لأنكم كنتم حينما يدعى الله وحده تستكبرون وتجحدون وحينما يشرك به تؤمنون. فالملك اليوم لله وقد حكم عليكم بما استحققتموه حكمه العادل وهو العلي عن كل شريك الكبير الذي لا يدانيه شيء.

وواضح أن في الآيات عودا على بدء في صدد ذكر ما أعد للكفار يوم القيامة ، وهي متصلة بالسياق. وقد استهدفت فيما استهدفته إنذار الكفار وإثارة الرعب والندم في نفوسهم ، مع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي أخبرت به.

تعليق على جملة

(أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ)

ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم جملة (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) ورووا عن ابن مسعود وغيره من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتابعيهم أحاديث في سياقها وفي سياق آية سورة البقرة [٢٨] التي جاء فيها : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)) (١) وأوجه ما فيها أنهم فسروا هذه الجملة بآية البقرة وفسروا الموت الأول في آية البقرة بحالة الإنسان قبل الحياة. والحياة الأولى بحياة الإنسان في حالة الجنين فالولادة. والموت الثاني بموت الأجل ، والحياة الثانية بحياة البعث الأخروي.

على أن روح الآيات تلهم أن مجيء القول على لسان حال الكفار قد قصد به حكاية ما سوف يصدر منهم من اعتراف بقدرة الله على الإماتة والإحياء ، والإحياء

__________________

(١) انظر تفسير هذه الآية وتفسير آية البقرة المذكورة في كتب تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي مثلا.

٣٥٨

والإماتة المرة بعد المرة في سياق استشعارهم بالندم والتماسهم الوسيلة للخروج من ورطتهم في رجعة ثانية إلى الدنيا هي في قدرته مما تضمنت آيات أخرى حكايته عن لسانهم منها الآية [٥٨] من السورة السابقة التي تقول : (أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وآية سورة فاطر هذه : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧)).

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)) [١٣ ـ ١٧]

(١) رزقا : هنا بمعنى الماء على اعتبار ما يكون من أثر المطر في تيسير الرزق.

(٢) الروح : هنا كناية عن الوحي الرباني.

(٣) يوم التلاق : يوم الاجتماع وهو كناية عن يوم القيامة.

الآيات كما هو المتبادر استمرار وتعقيب للآيات السابقة في إنذار الكفار والتنويه بالمؤمنين وبيان أهوال يوم القيامة ومهمة الرسول في تنبيه الناس وإنذارهم. وقد احتوت تنويها بمشاهد قدرة الله وعظمته ونعمته بسبيل التدليل على قدرته على تحقيق وعده ووعيده. وأسلوبها قوي رائع ، وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

٣٥٩

تعليق على جملة

(وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣))

وجملة (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (١٣)) في الآية الأولى من هذه الآيات تضمنت تقرير كون الذين يرغبون في الحق والإنابة إلى الله هم وحدهم الذين يفهمون آياته ويشعرون بعظمة كونه ويؤمنون به حينما يدعون ويذكرون وهي مقابل جملة (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية الرابعة من السورة ؛ حيث انطوى فيها كذلك معنى محكم يصح أن يزال على ضوئه إشكال ما يرد مطلقا في آيات أخرى.

تعليق على آية

(فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤))

وفي الآية [١٤] تكرار للأوامر الربانية التي تكررت في السورة السابقة بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له مع زيادة ذات مغزى وهي حث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين على ذلك ولو أغاظ الكفار وكرهوه. حيث قد يفيد هذا أن الأوامر الربانية الأولى قد أغاظت الكفار وجعلتهم ييأسون من تراجع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن موقفه تجاه شركهم وتقاليدهم. وحيث قد يكون قرينة أخرى على صحة ترتيب نزول هذه السورة بعد السورة السابقة.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول دبر كلّ صلاة حين يسلّم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير لا حول ولا قوة إلّا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلّا إيّاه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلّا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وكان يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يهلّل بهذه الكلمات دبر كلّ صلاة. حيث ينطوي في الحديث صورة من صور التعليم النبوي المستلهم من الآيات القرآنية بسبيل إعلان الإخلاص له وحده.

٣٦٠