التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

ملكوته وخلق الناس والأنعام وأفضاله على خلقه ، بسبيل البرهنة على استحقاقه وحده للعبادة وضلال الذين يشركون غيره معه فيها.

تعليق على جملة

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)

وما بعدها

وقد قرر جمهور المفسرين (١) أن جملة (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) تعني الإشارة إلى أصل خلق بني آدم حيث خلق الله آدم من تراب ثم نفخ فيه من روحه ثم خلق زوجته حواء من ضلع من أضلاعه. وهذا ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين.

وقد يكون القصد من الجملة الإشارة العامة إلى النوع الإنساني الذي خلقه من زوجين من جنس واحد فكأنما هما نفس واحدة ، وقد يكون ضمير الجمع المخاطب من القرائن على هذا القصد في هذا المقام.

وقد قرر جمهور المفسرين كذلك (١) أن جملة (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) تعني الصور التي تتطور بها الأجنة في بطون الأمهات وأن جملة (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) تعني ظلمة صلب الرجل حيث تكون النطفة أولا ثم ظلمة رحم المرأة حيث تنمو النطفة ثم ظلمة المشيمة التي تلف الجنين في الرحم.

وقرروا كذلك (١) أن جملة : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [٦] في معنى خلق لكم زوجين من كل نوع من الأنعام الأربعة وهي الضأن والمعز والإبل والبقر على ما جاء بصراحة في آيات سورة الأنعام [١٤٣ ـ ١٤٤] التي مرّ تفسيرها.

ولقد علقنا على ما جاء في الآيتين الأولى والثانية في سياق آيات مماثلة في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في كتب تفسير الطبري والخازن والزمخشري والطبرسي وابن كثير والبغوي.

٣٠١

سورتي الأعراف ويس بما يغني عن التكرار (١). ونكتفي بالقول هنا بمناسبة ما ورد في الآية الثانية من الإشارات إلى كيفيات الخلق أن في أسلوب الآيات ومضمونها ما يدل على أن القصد منها كما هو في أمثالها الكثيرة على ما نبهنا إليه في مناسبات سابقة هو التنبيه إلى مشاهد عظمة الله وقدرته ونعمه على الناس بأسلوب يتسق مع أفهام الناس على اختلاف فئاتهم وبما هو ماثل أمام أعينهم وفي أنفسهم وما يتمتعون به من وسائل الحياة وليس تقرير نواميس كونية وخلقية من وجهة فنية وأن الواجب عدم تجاوز هذا النطاق في هذه الآيات لأن ذلك ليس من المقاصد القرآنية.

تعليق على جملة

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى

لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ)

والآية الأخيرة من الآيات الحاسمة في تقرير كون كفر الكافرين وإيمان المؤمنين وما ينشأ عن ذلك من الهدى وعمل الصالحات والضلال والكفر واقتراف الآثام إنما هو من مكتسبات الإنسان وقابليته الاختيارية التي شاء الله أن يودعها فيه. وفي تقرير تنزيه الله عزوجل عن تحتيم الكفر والإثم على أحد تحتيما لا يجعل له مناصا منهما. فهو الغني عن الناس إن كفروا به ولا يرضى بذلك ولا يحبه لهم قط في حين أنه يرضيه منهم أن يعترفوا به ويشكروه ويحبه لهم.

ومع وضوح الآيات ومقاصدها في التنويه بالشكر والتنديد بالكفر فإن أصحاب المذاهب الكلامية (٢) تشادوا حولها فقال بعضهم : إن عدم الرضا وعدم الإرادة في معنى واحد وإن الكفر لا يمكن أن يقع بإرادة الله. ورد عليهم مخالفوهم فقالوا : إن هناك فرقا بين الرضا والإرادة ولا يقع في ملك الله إلّا ما أراد وإن كان

__________________

(١) آيات سورة الأعراف [٥٤ و ١٨٩] وسورة يس [٣٨ ـ ٤٠] و [٧١ ـ ٧٣].

(٢) انظر تفسير الآية في الكشاف للزمخشري وما عليه من تعليقات لابن المنير الإسكندري (الطبعة الأولى مطبعة مصطفى محمد) وانظر أيضا تفسيرها في تفسير الخازن.

٣٠٢

لا يرضى عن بعض ما يقع. ونحن نرى التشاد حول الآية تكلفا لا تقتضيه ولا تتحمله ولو كان مقصد كل فريق تقديس الله من وجهة نظره. ونرى الأولى أخذ الآية وأمثالها على مقصدها الواضح فيها وهو الحث على الإيمان والشكر والتنديد بالكفر والتحذير معه.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)) [٨]

(١) خوله : بمعنى منحه أو مكنه.

في الآية تنديد بخلق من أخلاق كثير من الناس ، فإذا أصاب أحدا ضرر أو أحدق به خطر لجأ إلى الله تعالى وحده واستغاث به فإذا ما استجاب له وكشف عنه ما ألمّ به وبدّله نعمة بعد سوء نسيه وجعل له أندادا وشركاء في الدعاء والعبادة متخليا عن موقفه الأول ضالا بذلك عن سبيل الله. وفي آخر الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقول لذلك الإنسان وأمثاله تمتع بكفرك قليلا في الدنيا فإنك من أصحاب النار جزاء ما أنت فيه من ضلال وتناقض.

ولقد قال البغوي في صدد نزول الآية : (قيل إنها نزلت في عتبة بن ربيعة. وقال مقاتل : نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ، وقيل هي عامة في كل كافر) ونحن نرجح القول الأخير استلهاما من روحها وعطفها على ما سبقها ونرى أنها متصلة بالآيات السابقة سياقا وموضوعا في صدد الجدل القائم بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين وأنها جاءت استطرادية لتندد بموقف التناقض الذي يقفه المشركون من الله عزوجل في حالتي الشدة والفرج. وهذا لا يمنع أن يكون حدث في ظروف نزولها موقف من بعض المشركين مماثل لما حكته الآية فكان مناسبة لما اقتضته حكمة التنزيل من التنديد بتناقض المشركين.

٣٠٣

وفي الآية توكيد لما احتوته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها من اعتراف المشركين في قرارة نفوسهم بالله وبأنه هو وحده كاشف الضرّ والسوء ومن عادتهم في اللجوء إليه وحده حينما يحدق بهم خطر أو يلم بهم ضرر. وفي ذلك توكيد حاسم آخر بأن الله لا يقبل من عباده إلّا أن يكون اتجاههم إليه وحده في كل ظرف وبأن غير ذلك هو شرك وكفر.

وفي الآية تلقين مستمر المدى في صدد من لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينساه وينحرف عن جادة الحق والتقوى في وقت الرخاء وما في ذلك من قبح وبشاعة وإثم عند الله.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)) [٩]

(١) قانت : خاضع أو خاشع أو طائع.

في الآية تساؤل عما إذا لم يكن الأفضل هو الخاضع لله وحده العابد له ، آناء الليل وأطراف النهار ، والذاكر له وقت الشدة والرخاء معا ، يحسب حساب الآخرة وأهوالها ، ويرجو من ربّه أن يشمله برحمته. وأمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتساؤل ثانية عما إذا كان يصح أن يسوّى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون أو أن يكون الفريقان في مقام واحد. وتقرير بأن أرباب العقول الراجحة السليمة هم فقط الذين يتذكرون ويدركون حقائق الأمور.

ولقد روى البغوي عن عطاء أن الآية نزلت في أبي بكر ، وعن الضحاك أنها نزلت في أبي بكر وعمر ، وعن ابن عمر أنها نزلت في عثمان ، وعن الكلبي أنها نزلت في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله عنهم جميعا (١). وليس ذلك واردا

__________________

(١) انظر أيضا تفسير الزمخشري والخازن حيث رويا بعض هذه الأسماء.

٣٠٤

في مساند الصحاح وأسلوب الآية عام مطلق وبينه وبين أسلوب الآية السابقة تناظر. فالموضوع في كلتيهما مطلق عام. وفي كلتيهما أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستنكار وإعلان الحقيقة الواجب إدراكها. وهذا ما يسوغ القول إن هذه الآية متصلة أولا بالآية السابقة وإن كلتيهما متصلتان بالسياق وقد جاءتا على سبيل الاستطراد والتنبيه. ولا نريد بما قلناه أن ننفي خبر استغراق بعض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأولين في التهجد بالليل بنوع خاص واشتهار ذلك بحيث جعلتهم حكمة التنزيل مناسبة للمفاضلة بينهم وبين أشخاص بطرين مستكبرين من الكفار.

والمتبادر أن التساؤل الأول على سبيل المقايسة بين المؤمن الصالح والكافر المشرك الذي أشارت إليه الآية السابقة والذي لا يذكر الله إلّا في وقت الشدة وينحرف عن سبيله وقت الرخاء. وأن التساؤل الثاني تعقيب على الأول وبسبيل التنويه بالفريق الصالح الذي هو وحده يدرك ويعلم والتنديد بالفريق المنحرف بسبب عدم فهمه وعلمه. وواضح أن الشطر الثاني من الآية ينطوي على التقرير الإيجابي بأفضلية المؤمن الصالح على المشرك المنحرف الضال بقطع النظر عن المركز الاجتماعي لكل منهما. واستنكار التسوية بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وفي هذا ـ وبخاصة في تقرير أفضلية المؤمن الصالح ـ تلقين جليل مستمر المدى.

تعليق على جملة

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)

ومع أنه قد يكون المقصود القريب من هذه الجملة المؤمنين والكافرين حيث أدرك الأولون وعلموا حقائق الأمور فاتبعوا طريق الهدى وعميت أبصار الآخرين عن ذلك فإن في إطلاق عبارتها مسوغا للقول إنها تتناول كل ما يصح أن يكون موضوع مقايسة بين أمرين أو بين رجلين أو بين جماعتين أحدهما يدعم رأيه أو موقفه بالحجة الواضحة ويستند فيه إلى علم وتفكير والثاني مهوش مضلل لا يعي الحقيقة ولا يدرك موضع الحق ولا يستند في موقفه إلى علم وبينة. ولهذا فإن

٣٠٥

التعبير قد أصبح مثلا من الأمثلة القرآنية يتمثل به في كثير من المناسبات لما انطوى فيه من حكمة وصواب وحق.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا ورد في مسند الإمام عبد بن حميد عن أنس : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل على رجل وهو في الموت فقال له : كيف تجدك؟ فقال : أرجو وأخاف. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلّا أعطاه الله عزوجل الذي يرجو وأمّنه الذي يخافه». وقد ذكر ابن كثير أن الترمذي والنسائي وابن ماجه قد رووا هذا الحديث أيضا وينطوي في الحديث تطبيق نبوي للتلقين القرآني في المناسبات على سبيل الوعظ والتنبيه.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)) [١٠ ـ ١٥]

في الآيات أوامر ربانية للنبي عليه‌السلام وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

وهي كما يتبادر لنا غير منفصلة عن السياق السابق وقد احتوت تقريرات حاسمة كأنها تقريرات ختامية للموقف الذي ظل فيه الكفار مصرين معاندين وتعقيبا عليه. وقد هتف فيها بالمؤمنين بما هتف تثبيتا لقلوبهم وتطمينا لروعهم وحثا لهم على الصبر والتمسك بأهداب التقوى والإيمان والعمل الصالح. وتبشيرا لهم بالعاقبة الحسنى في الدنيا والآخرة. واحتوت الآية الأخيرة تنديدا وإنذارا وتعنيفا لاذعا للمشركين متناسبا مع الموقف وباثا في الوقت نفسه الوثوق والاستعلاء في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتباعه. فليعبدوا ما شاءوا من دون الله فهم الخاسرون يوم القيامة ومن يكن خاسرا يوم القيامة فهو الخاسر لكل شيء.

٣٠٦

تعليق على

تكرر أمر الله في السورة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

بعبادة الله وحده مخلصا له الدين

والمتبادر أن أمر الله عزوجل للنبي عليه‌السلام بإعلان ما أمر بإعلانه هو لأجل قطع أي أمل لدى المشركين في تساهله معهم في صدد آلهتهم وشركائهم وتراجعه عما كان المشركون يبذلون جهدهم في سبيل تحقيقه على ما حكته آيات في سور أخرى سبق تفسيرها مثل سورتي القلم والإسراء.

ويلحظ أن مثل هذا الأمر ورد في مطلع السورة ، وقد تكرر هذا الثالث مرة في موضع آخر في أواخر السورة أيضا حيث يمكن أن يدل على أن المشركين قد جددوا جهودهم واقتراحاتهم في ظروف نزول السورة.

تعليق على إلهام جملة

(وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ)

بالهجرة إلى الحبشة

والآية الأولى تلهم بالإضافة إلى ما قلناه أنها تحتوي إذنا ربانيا أو حثا ربانيا للمضطهدين من المؤمنين على الهجرة من مكة وتبشيرا لمن يهاجر بأنه سوف يجد في أرض الله سعة وبأن الله سييسر له ما تقر به عينه ويؤتيه أجر صبره وافيا بغير تقتير ولا حساب على ما يناله من أذى وجهد وفراق.

وهذا ما يستفاد من تأويلات الصدر الأول التي رواها المفسرون حيث رووا عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما أن فيها أمرا للمسلمين بالهجرة من مكة. ولقد قال البغوي دون عزو إلى أحد : إنها نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال الخازن دون عزو إلى أحد : قيل إنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين هاجروا إلى الحبشة ، ونرجح أن هذا القول من وحي الهجرة التي كانت في أواخر الهجرة الخامسة على ما يستفاد من روايات السيرة وبعبارة أخرى بعد هذه الآيات التي

٣٠٧

يخمن نزولها في مثل هذا الوقت ، إذا ما لوحظ المقدار الذي نزل من القرآن قبلها.

والروايات تذكر (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأنه لا يقدر على منعهم. قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإنّ فيها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم ، فخرجت أولى قافلة منهم مؤلفة من عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت النبي وأبي حذيفة بن عتبة وزوجته سهلة بنت سهيل والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وزوجته ليلى وأبو سبرة بن أبي رهم وسهيل بن بيضاء رضي الله عنهم. والأسماء تدل على أن المهاجرين كلهم أو جلهم من بيوتات قريش حيث يزيل هذا ما يقع في الوهم أنهم من الفئات الضعيفة أو الفقيرة. وكل ما كان من أمر هو أن آباءهم وذويهم نقموا عليهم إسلامهم واضطهدوهم وحاولوا أن يفتنوهم عن دينهم فأمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإذن الله بالهجرة. والروايات تذكر أنه بلغ المهاجرين خبر إسلام قريش فعادوا إلى مكة بعد أشهر فظهر لهم خطأ ما بلغهم فعاد أكثرهم ثانية إلى الحبشة وهاجر معهم عدد كبير آخر حيث بلغ عدد قافلتهم هذه المرة ٨٣ رجلا و ١٧ امرأة جلهم من قريش.

ولقد حقق الله وعده للمهاجرين ، وظهر صدق قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم حيث وجدوا الحماية والعناية من ملك الحبشة فأقاموا فيها آمنين مطمئنين إلى السنة السادسة بعد الهجرة أي إلى أن انعقد صلح الحديبية بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقريش. فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أتى بهم إلى المدينة معززين مكرمين وهكذا ضرب الرعيل الأول من المسلمين أروع الأمثلة في التمسك بدين الله وتحمل مشاق الهجرة ومخاطرها ومفارقة الوطن والحرمان في سبيله.

__________________

(١) انظر سيرة ابن هشام ج ١ ص ٣٢١ وما بعدها.

٣٠٨

التلقين المنطوي في الآية

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ..) إلخ

وبالإضافة إلى ما احتوته هذه الآية من حث المسلمين الأولين على الهجرة إلى أرض الله الواسعة فإنها بأسلوبها العام تتضمن هتافا دائما بما احتوته إلى عباد الله المخلصين. وتتضمن تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم الخنوع للظلم والكفر وبغي أهلهما والهجرة من أرضهما إلى أرض الله الواسعة التي يجد المؤمن فيها الأمن والحرية والطمأنينة ، ووعدا ربانيا دائما للمتقين المحسنين الصابرين بالعاقبة الحسنة في الدنيا قبل الآخرة. ولقد تكرر هذا الهتاف والوعد في آيات أخرى منها آية سورة النحل هذه : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)) وآية سورة النساء هذه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٠)).

ولقد اجتمع في الآية ثلاثة أخلاق من أكثر ما حث عليها القرآن ووعد المتخلقين بها بأحسن العواقب في الدنيا والآخرة وهي التقوى والإحسان والصبر وبذلك تكون من الآيات المفردة في ذلك.

(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠)) [١٦ ـ ٢٠]

(١) ظلل : جمع ظلة وهي ما يخيم فوق الرأس ويحيط فوق الشيء.

٣٠٩

وهي هنا بمعنى إحاطة النار بهم من فوقهم ومن تحتهم.

(٢) الطاغوت : الراجح أنها صيغة مبالغة من الطغيان على وزن جبروت وملكوت. واستعملت في القرآن في معان متعددة متقاربة حيث استعملت في معنى الأصنام وفي معنى الشرك وفي معنى الشيطان وإبليس وفي معنى الشخص الشديد الكفر والبغي. والجامع في هذه المعاني شدة الطغيان والبغي والشر وأسبابها.

(٣) غرف : جمع غرفة. وأصل معناها العلية أو المسكن العالي ، والقصد هنا بيان أن أصحاب الجنة يسكنون القصور العالية المشرفة.

في الآيات :

١ ـ بيان لمصير الخاسرين الذين ذكروا في الآية السابقة لها ، فالنار ستحيط بهم من فوقهم ومن تحتهم.

٢ ـ ولفت نظر عباد الله الصالحين إلى ما في هذا المصير من هون.

٣ ـ وتقرير كون الله إنما يوحي بذلك ليحذرهم منه ويدعوهم إلى اتقائه بالإيمان وصالح الأعمال.

٤ ـ وثناء وتنويه بالذين يجتنبون عبادة الأصنام ويخلصون في الاتجاه إلى الله وحده. فلهؤلاء البشرى وعلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبشر عباد الله الذين يتروون فيما يسمعون ثم يتبعون أحسن ما فيه وهو دعوة الخير والهدى. فهم الذين يكون الله قد هداهم وهم ذوو العقول السليمة.

٥ ـ وتساؤل في معنى المقايسة بين من استحق العذاب بالكفر وبين المؤمنين المتقين. فإن مصير الأولين النار في حين أن الآخرين يحلون في الغرف العالية التي تجري من تحتها الأنهار.

٦ ـ وتقرير بكون هذا هو وعد الله الحق وأن الله لن يخلف الوعد.

٧ ـ وسؤال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما إذا كان مستطيعا إنقاذ من في النار كأنما أريد بهذا السؤال تقرير كون الكافرين الذين استحقوا النار قد بيتوا الجحود والعناد فهم بمثابة

٣١٠

من ألقى نفسه في النار ، وإفهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التطمين والتسلية أنه ليس من مهمته إرغام هؤلاء على الإيمان ولا هو بمستطيع ذلك.

ويلفت النظر إلى الآية [١٨] وما في شطرها الأول بخاصة من قوة التنويه والتلقين والمدى. فذو العقل السليم واللب الطيب هو الذي يتروى في كل ما يسمعه ثم يتبع ما يكون فيه من الصواب والهدى دون أن يؤثر فيه غرض وهوى. ولذلك فإنه يصح أن يكون من تلقينات القرآن العامة المدى والاستمرار في صدد من يتروى فيما يسمع ويتبع الصواب منه وفي وجوب ذلك.

ولقد روي (١) أن الآية [١٧] نزلت في إسلام عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد الذي تمّ على يد أبي بكر ، كما روي أنها نزلت في زيد بن عمرو وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي رضي الله عنهم جميعا ، ويلحظ أن الآية منسجمة مع السياق قبلها وبعدها انسجاما تاما وأن معظم الذين ذكرت الرواية أسماءهم أسلموا منذ عهد مبكر ، ومنهم من أسلم في العهد المدني مثل أبي ذر وسلمان في بعض الروايات. على أن هناك من قال إنها بقصد التنويه بالمؤمنين بصورة عامة (٢). وهو الأوجه لا سيما أنه لم يرو أحد أنها نزلت لحدتها وإنما هي من سلسلة تامة متصلة السياق بما قبلها وما بعدها على ما هو المتبادر.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق الآية الأخيرة حديثا عن أبي سعيد الخدري قال : «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ أهل الجنّة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغهم غيرهم؟ قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين». وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن علي قال : «قال رسول الله : إنّ في الجنة غرفا يرى بطونها من ظهورها

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

٣١١

وظهورها من بطونها. فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله؟ قال : لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلّى بالليل والناس نيام». وصيغة أخرى لهذا الحديث رواها الإمام أحمد أيضا عن أبي مالك الأشعري قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدّها الله لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصّيام وصلّى والناس نيام». حيث ينطوي في الأحاديث صورة مما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلق به على الآيات القرآنية على سبيل التبشير والتشويق والتوضيح. (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)) [٢١]

(١) يهيج : يتم جفافه.

(٢) حطاما : فتاتا أو محطما مهشما.

المتبادر أن الآية غير منفصلة عن سابقاتها وأنها جاءت بمثابة استطراد وتعقيب عليها لتنبيه الناس إلى ما يقع تحت مشاهدتهم من نزول المطر من السماء وتسربه إلى باطن الأرض ثم خروجه منها ينابيع وانسياحه على سطحها وما ينبت به من زرع مختلف الألوان ثم يتم نضجه وجفافه ثم يصفر ثم يصبح حطاما. وفي كل هذا ذكرى لذوي العقول والإذعان. وقد قال بعض المفسرين : إن فيها تنبيها على أنه لا بد أن يكون للكون صانع مدبر ، ودليلا على قدرة الله على بعث الناس وإعادتهم ثانية. وقال بعضهم : إن فيها تمثيلا لمظاهر الحياة للتحذير من الاغترار بها فكل ما يبدو فيها بهيجا عاقبته إلى الجفاف والدمار.

وكلا القولين وجيه ، مع التنبيه إلى أن ما في القول الثاني من قصد التحذير من الاغترار بالدنيا لا يعني الدعوة إلى نفض اليد منها. فذلك ما نفاه القرآن في

٣١٢

مواضع عديدة بل واستنكره في آية سورة الأعراف هذه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)) وإنما يعني التحذير من الاستغراق فيها استغراقا مسرفا ينسي المرء واجبه نحو الله والناس والمصير الأخروي الذي سوف يلقى فيه جزاء ما قدم بين يديه من خير وشر.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)) [٢٢]

تساءلت الآية تساؤلا إنكاريا عمن هو الأفضل ، أليس هو الذي شرح الله صدره فاهتدى وهو على نور من ربّه؟ ثم أنذرت ذوي القلوب القاسية التي لا تخشع ولا تلين عند ذكر الله وقررت أنهم في ضلال مبين.

وقد انطوى في الآية كما هو المتبادر جواب إيجابي بأفضلية الأولين كما احتوت تنويها بهم وتقريعا للكافرين وذوي القلوب القاسية.

والآية كما يبدو جاءت معقبة على الآية السابقة في صدد استخراج العبرة التي انطوت فيها والتي دعي أولو الألباب إلى تدبرها فإذا كان الناس متنوعين في مشاربهم وميولهم فالأفضلية بطبيعة الحال هي للصالحين المهتدين بهدى الله ونوره.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عبد الله بن مسعود قال : «تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية فقلنا يا رسول الله كيف انشراح صدره؟ قال : إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح ، قلنا : يا رسول الله وما علامة ذلك ، قال : الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور. والتأهّب للموت قبل نزول الموت». حيث ينطوي في الحديث صورة من ما كان يقع بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من محاورات في صدد الآيات القرآنية ومداها وما كان من انتهاز الرسول صلوات الله عليه الفرصة لوعظ أصحابه وتهذيبهم وحفزهم على صالح الأعمال.

٣١٣

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)) [٢٣]

(١) متشابها : الراجح أن الكلمة هنا بمعنى حسن التساوق والانسجام في نظم القرآن ومحتوياته وأنها غير ما تعنيه جملة (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) في آية سورة آل عمران هذه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ...).

(٢) مثاني : جمع مثنى ، وهي إما أن تكون من التثنية بمعنى التكرار والترديد مرة بعد مرة ، وإما من الثناء. وكلاهما مما يتحمله مفهوم الآية. فالمعنى الأول يعني ما جاء الأسلوب القرآني به من تكرار الوعظ والقصص والأمثال وترديدها. والمعنى الثاني يعني ما احتواه القرآن من صفات الله وأسمائه ومشاهد قدرته وتقرير استحقاقه للثناء والحمد.

في الآية تنويه بالقرآن الكريم وأثره ، فالله قد أنزل على رسوله أحسن الكلام. وقد جاء في حسن التساوق والانسجام والمواعظ الروحانية وتنوع أساليب الإنذار والتبشير والقصص وصفات الله وأسمائه الحسنى ومشاهد قدرته وعظمته ما من شأنه أن يثير في الذين يؤمنون بالله ويخافونه شعور الرهبة والهيبة والخشوع فتقشعر جلودهم لذكر الله ثم لا تلبث أن تستشعر بالسكينة والطمأنينة. وهذا من أثر هداية الله التي يوفق الله إليها من يشاء من عباده ، أما من لم يوفقه إليها فلن ينتفع بذلك.

ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا له : لو حدثتنا فنزلت الآية. ومقتضى الرواية التي لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة أن الله أنزل الآية ردا عليهم. والرواية في المعنى المتبادر منها محل توقف من دون ريب لأن أصحاب رسول الله الأولين رضوان الله عليهم أجل من أن يظنوا أن

٣١٤

حديث رسول الله يضارع حديث الله أو يغني عنه. والشطر الثاني من الآية يدعم ذلك ويفسر مدى شطرها الأول حيث يسوغ القول إنها في صدد التنويه بالمؤمنين الأولين الذين اهتدوا وتأثروا بالقرآن ومواعظه وتساوقه وانسجامه وروحانيته أقوى التأثر. والآية بعد فيما هو المتبادر متصلة بسابقتها ومعقبة عليها. فقد احتوت السابقة تنويها بمن شرح الله صدره للإسلام وتنديدا بقساة القلوب عند ذكر الله فجاءت هذه الآية تبين ما هو ذكر الله وما هو أثره في القلوب الصافية السليمة.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية عن عروة بن الزبير قال : «قلت لجدتي أسماء بنت أبي بكر كيف كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعلون إذا قرىء عليهم القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله عزوجل تدمع أعينهم وتقشعرّ جلودهم». حيث ينطوي في الحديث توكيد تطبيقي لأثر القرآن في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأولين رضي الله عنهم.

ومعجزة الآية في المؤمنين مستمرة المدى في كل ظرف ومكان ، فلن يسمع القرآن مؤمن يخاف الله ولا يكابر في آياته إلّا استشعر بروحانيته وخشع قلبه له. ويستوي في هذا العربي الذي يفهم لغة القرآن والأعجمي إذا سمع ترجمة معانيه ترجمة صادقة.

هذا ، وليس من محل للاستشكال في الآية بسبب الإطلاق في عبارة : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)) فإن الإشكال يزول بآيات عديدة أخرى قرنت فيها هداية الله وإضلاله بأسبابها ونص فيها على أن الله إنما يضل الفاسقين والظالمين أي الذين فسدت أخلاقهم وساءت نياتهم ، وإنما يهدي إليه من أناب أي من رغب في الحق والهدى على ما نبهنا إليه في مناسبات عديدة سابقة.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآية حديثا عن عباس بن عبد المطلب قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها». وحديثا آخر جاء فيه : «إذا اقشعر

٣١٥

جلد العبد من خشية الله حرمه الله على النار». حيث ينطوي في الحديثين حثّ وترغيب للمسلمين في صدد مدى هذه الآية.

هذا ، ولقد علقنا على موضوع ذكر الله وأثره وأوردنا ما ورد في ذلك من آثار فنكتفي هنا بهذا التنبيه بمناسبة ما احتوته الآيات من أثر ذكر الله في المؤمنين المخلصين.

(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)) [٢٤ ـ ٢٦]

في الآيات :

١ ـ تساؤل في معنى المقايسة بين الذي لا يجد ما يتقي به عذاب الله يوم القيامة إلا وجهه لأنه لم يقدم عملا صالحا يتقي به ، وبين من يقدم هذا العمل الذي يتقي به من النار.

٢ ـ وحكاية تتضمن معنى الإنذار والتبكيت لما سوف يقال للظالمين الذين جنوا على نفوسهم بالكفر والانحراف عن طريق الحق والخير حينما يذوقون طعم ذلك العذاب حيث يقال لهم ذوقوا اليوم جزاء ما اجترحتم من الآثام.

٣ ـ وتذكير للكفار بالأمم السابقة التي كذبت رسلها مثلهم فحلّ فيها عذاب الله من حيث لا تشعر ولا تحسب وأذاقها الخزي في الحياة الدنيا.

٤ ـ وتقرير ينطوي على الإنذار بأن عذاب الآخرة الذي ينتظرهم سيكون أكبر وأشدّ لو فكروا وعلموا.

والآيات كما هو المتبادر متصلة بسابقاتها كذلك اتصال سياق وأسلوب وموضوع وقد جاءت في معرض التوكيد والبيان.

ومما يلفت النظر إليه تكرر التساؤل في معرض المقايسة في آيات السورة مما

٣١٦

يسوغ القول إنها في صدد حكاية مواقف جدل ومناظرة أو ما هو بسبيل ذلك. ولعلها في ذات الوقت ردود على بعض كفار غلوا في الزهو والاعتداد بالنفس والمال والقوة ، وفي الاستخفاف بالمؤمنين وضعفهم وفقرهم. فردت الآيات في معرض المناظرة والجدل ردودا متتابعة استهدفت بيان الفضل الحقيقي والتفوق الحقيقي في تقوى الله والمصير السعيد الذي سيصير إليه المؤمنون ، والعذاب الأكبر الذي سيكون من نصيب الكافرين.

وفي مضامين الآيات يمكن أن يرى المتمعن قرائن على هذا أولا ، كما أن مثل هذا الزهو والتبجح والاستخفاف مما حكته آيات قرآنية عديدة ثانيا.

(وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)) [٢٧ ـ ٢٩]

(١) متشاكسون : متنازعون.

(٢) سلما : بمعنى خالصا بدون منازع.

في هذه الآيات :

١ ـ تنويه بما احتواه القرآن من الأمثال المتنوعة التي ضربها الله تعالى للناس فيه بقصد حملهم على التدبر والتذكر.

٢ ـ وإشارة إلى أن القرآن الذي احتوى هذه الأمثال هو قرآن عربي لا عوج فيه ولا إغراب ولا تعقيد ، وقد جعله الله كذلك حتى يفهمه السامعون بسهولة وتبعث فيهم أمثاله شعور تقوى الله.

٣ ـ ومثل مستأنف من جملة هذه الأمثال على سبيل المقايسة : فحالة المشركين والموحدين مثل حالة مملوكين أحدهما يملكه شركاء عديدون متنازعون

٣١٧

عليه كل واحد منهم يجذبه إليه ، وآخر لمالك واحد خالصا له لا ينازعه فيه أحد. فكما أن حالة هذين المملوكين ليست متساوية وكما أن المنطق يؤدي إلى تفضيل حالة المملوك لصاحب واحد ، كذلك حالة المشرك والموحد لا يمكن أن تكون متساوية لأن المشرك مقسم بين معبودات عديدة هو بينها بين جذب ودفع في حيرة من أمره لا يدري أيها أنفع وأيها يجب أن يخلص له الاتجاه أكثر من غيره في حين أن الموحد قد نجا من هذه الحيرة حيث عرف له ربا واحدا فأسلم نفسه إليه وجعل اعتماده عليه وحده. والمنطق يؤدي إلى تفضيل حالة الموحد على المشرك.

وانتهت الآيات بتقرير استحقاق الله وحده للحمد بعبارة أريد بها عدم تجويز العقل والمنطق أن يسوى بين الله والشركاء وتقريع المشركين على ما يبدو منهم من حمق وعدم إدراك وعلم لما في شركهم من سخف وضلال.

الآيات كما هو المتبادر تعقيب على سابقاتها واستمرار لها في السياق. والمثل الذي احتوته الآيات مقتطع من حياة العرب الذين كانوا أول من وجه القرآن إليهم ، حيث كان المملوك الواحد يقع أحيانا في ملك عدة شركاء وارثين فيكون في صدده مشادات ومشاحنات فيما بينهم. ومع ذلك فإنه مما يصح أن يكون عاما أيضا لأنه قائم على منطق صحيح يتسق مع كل ظرف وحال.

تعليق على جملة

(قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ)

واستطراد إلى ما روي من معاني حديث نزول القرآن

على سبعة أحرف ومداه وإلى كتابة القرآن

والمتبادر أن الآية الثانية ليست في صدد تقرير كون لغة القرآن هي اللغة العربية لأن هذا تحصيل الحاصل ، وإنما هي في صدد تقرير كون لغته العربية سليمة مأنوسة لا إغراب فيها ولا تعقيد ليستطيع السامعون على مختلف طبقاتهم أن يفهموه ويفهموا ما فيه من مواعظ وأمثال. وفي هذا ردّ قرآني على من قال : إن لغة القرآن كانت فوق مستوى مدارك العرب وأفهامهم وتوكيد بأن لغته هي اللغة التي

٣١٨

كان يفهمها السامعون أو معظمهم على اختلاف فئاتهم ومنازلهم.

ولقد أشرنا إشارة عرضية إلى حدوث نزول القرآن على سبعة أحرف في سياق تعليقنا على التوراة والإنجيل في سورة الأعراف. وقد رأينا أن نستوفي الكلام عن ذلك ونستطرد إلى قراءات القرآن في الوقت نفسه في مناسبة هذه الجملة. فنقول إن هناك أحاديث وردت في الكتب الخمسة عن نزول القرآن على سبعة أحرف منها حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن أبيّ بن كعب جاء فيه : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم أتاه الثانية فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الثالثة فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال : أسأل الله معافاته ومغفرته وإنّ أمتي لا تطيق ذلك. ثم جاءه الرابعة فقال : إنّ الله يأمرك أن تقرأ أمتك على سبعة أحرف فأيّما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا» (١). ولفظ الترمذي : «يا جبريل إنّي بعثت إلى أمة أمّيين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قطّ ، قال : يا محمّد إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف» (٢). وحديث رواه مسلم عن أبيّ قال : «كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثمّ دخل رجل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضيا الصلاة دخلنا جميعا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل هذا فقرأ سوى قراءة صاحبه فأمرهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأا فحسّن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عزوجل فرقا ، فقال لي : يا أبيّ أرسل إليّ أن اقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه أن هوّن على أمتي فردّ إليّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف فلك

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٧.

(٢) المصدر نفسه.

٣١٩

بكلّ ردة رددتكها مسألة تسألنيها فقلت اللهمّ اغفر لأمتي اللهمّ اغفر لأمتي وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتى إبراهيم» (١). وحديث رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أقرأني جبريل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدوني حتى انتهى إلى سبعة أحرف» (٢). وحديث رواه الأربعة أن عمر بن الخطاب قال : «سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأها وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنيها ، فكدت أن أعجل عليه ثمّ أمهلته حتى انصرف ، ثم لبّبته بردائه فجئت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت يا رسول الله إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرسله ، ثمّ قال : اقرأ يا هشام ، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هكذا أنزلت. ثمّ قال لي : اقرأ فقرأت فقال : هكذا أنزلت إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه» (٣).

ولقد تعددت تخريجات علماء القرآن للأحرف السبعة حتى بلغت اثنين وعشرين تخريجا منها الغريب الذي لا علاقة له بقراءة النص القرآني (٤). وأوجهها وأرجحها عندنا هو أن المراد به سبعة أوجه للقراءة ، أو سبعة أوجه يقع فيها تغاير في فتح ورفع وكسر وتقديم وتأخير وتخفيف وتشديد وإدغام. وروح الأحاديث تدعم ذلك فيما هو المتبادر ، ويتسق مع روح الآية التي نحن في صددها ، ومن الجدير بالتنبيه أن الاختلاف بين القراءات الصحيحة التي يعدها بعضهم سبعا وبعضهم عشرا (٥) يدور على الأغلب على :

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٦ و ٢٧ و ٢٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٦ و ٢٧.

(٤) الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٤٨ وبعدها.

(٥) القراءات السبع تنسب إلى سبعة أئمة من القراء هم : نافع بن أبي رويم في المدينة ، وعبد الله بن كثير في مكة ، وأبو عمرو بن العلاء في البصرة ، وعبد الله بن عامر في الشام ، وعاصم بن أبي النجود ، وحمزة بن حبيب الزيات ، وعلي الكسائي في الكوفة. وهناك من يلحق بهم أبا جعفر بن يزيد في المدينة ، ويعقوب الحضرمي في البصرة ، وخلف البزاز في

٣٢٠