التّفسير الحديث - ج ٤

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٤

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٥

(الكافرون) وشرحناه شرحا وافيا في سياقها.

ولقد روى البخاري والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة في سياق جملة (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) حديثا جاء فيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السّماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنّه سلسلة على صفوان فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربّكم؟ قالوا للذي قال الحقّ وهو العليّ الكبير فيسمعها مسترقو السّمع فيلقيها إلى من تحته ثمّ يلقيها الآخر إلى من تحته حتّى يلقيها على لسان السّاحر أو الكاهن فربّما أدركه الشّهاب قبل أن يلقيها وربّما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعت من السّماء» (١).

ونحن في حيرة من هذا الحديث لأن مضمون الآية وسياقها وروح الآيات بصورة عامة تلهم أنها في صدد تحدي المشركين وشركائهم وحكاية مشهد من مشاهد البعث الأخروي أو نفي الشفاعة عند الله إلّا لمن أذن له. وليس لها صلة قريبة أو بعيدة باستماع الشياطين لكلام السماء وأوامر الله حين يقضي قضاءه في شؤون خلقه في الحياة الدنيا.

على أن الطبري والبغوي وابن كثير الذين أوردوا هذا الحديث وحديثا آخر من بابه رووا تأويلات أخرى للجملة القرآنية عن بعض علماء التابعين مثل مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير تفيد أن ما تضمنته الجملة هو ما يكون من أمر المشركين يوم القيامة أو حين ينزل فيهم الموت حيث يسألهم الملائكة سؤال التبكيت عن ما قال الله فيقروا أنه الحق حين لا ينفعهم الإقرار. وهذا التأويل متسق مع روح الجملة القرآنية أكثر كما هو المتبادر ويدل على أن هؤلاء العلماء لم يأخذوا الحديث على أنه تفسير للجملة.

وقد رأينا الزمخشري والخازن والطبرسي والنسفي والنيسابوري يؤولون

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٩١ ـ ١٩٢.

٢٨١

الجملة كذلك على أنها حكاية محاورة بين الكفار والملائكة يوم القيامة أو عند الموت.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)) [٢٩ ـ ٣٠]

والآيتان استمرار في حكاية مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار ومعطوفتان على ما سبقهما. وقد تكررت حكاية سؤال الكفار الوارد في الآية الأولى مما يدل على أن الكفار كانوا كلما تكرر وعيدهم بالبعث والعذاب الأخرويين بادروا إلى هذا السؤال الذي ينطوي فيه تحد واستهانة واستهتار ، وقد احتوت الآية جوابا رزينا فيه توكيد وقوة وإنذار معا. وهو ما تكرر مثله أيضا.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)) [٣١ ـ ٣٣]

(١) الذي بين يديه : كناية عن كتب الله السابقة للقرآن.

(٢) أندادا : شركاء معادلين.

(٣) أسرّوا الندامة : قال بعض المفسرين : إن (أسروا) من الأضداد ومعناها هنا (أظهروا الندامة) ، وقال بعضهم : إن كلا من الفريقين أخفى ندمه الذي شعر به

٢٨٢

عن الآخر خوف الخزي والفضيحة على نحو ما يجري بين الناس في الدنيا ، ويمكن أن تكون بمعنى شعروا في داخل صدورهم بالندامة.

بدأت الآيات بحكاية قول للكفار ، وهو توكيدهم القاطع بعدم تصديقهم وإيمانهم بالقرآن ولا بما جاء قبل القرآن من الكتب السماوية. وأعقبت حكاية قولهم بسرد ما سوف يكون من أمرهم في الآخرة حينما يقفون أمام الله ويرون يقين ما أوعدوا به من حساب وعذاب وأغلال في الأعناق حيث يستشعرون الندامة على ما كان منهم ، وحيث تقع محاورة بين المستضعفين والمتكبرين أو التابعين من العامة والمتبوعين من الزعماء فيقول الأولون للآخرين لو لا أنتم لكنا آمنا وصدقنا ويردّ الآخرون منكرين منعهم عن الهدى وملقين تبعة ضلالهم عليهم ومقررين أنهم كانوا مجرمين ضالين بطبيعتهم ويردّ التابعون مرة أخرى على الزعماء مذكّرين بما كان منهم من تحريض وتآمر واجتماعات في الليل والنهار وحثّ على التمسك بالشركاء والكفر بالله ورسوله. وقد انتهت الآيات بسؤال إنكاري فيه معنى التنديد والتقرير بأنهم إنما يجزون بما كانوا يعملون.

ولم نطلع على رواية خاصة في سبب نزول هذه الآيات ، والمتبادر أنها متصلة بموقف المناظرة والجدل الذي ما فتئت الآيات السابقة تشير إليه ثم بموقف إصرار الكفار على عنادهم وجحودهم وبمثابة ردّ تنديدي وإرهابي عليهم أولا. وفيها إشارة إلى الدور الذي كان يلعبه الزعماء في الصدّ والتعطيل والتحريض ضدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوته ، وما كان لهم من أثر فعال في بقاء الأكثرية الكبرى في صف الكفر والجحود في العهد المكي من السيرة النبوية ثانيا. وفيها أمارة ما على ما أثارته الدعوة المحمدية من حركة في أوساط مكة وأفكار أهلها على اختلاف فئاتهم ثالثا.

ويلحظ أن الآية الأولى قد حكت قول الكفار بأنهم لن يؤمنوا في حين أن من الثابت اليقيني أن كثيرا من الذين حكي عنهم هذا القول قد آمنوا وحسن إيمانهم قبل الهجرة وبعدها حيث يسوغ القول إن هذا من باب تسجيل واقع الكفار حين

٢٨٣

نزول الآيات وإنه ليس على التأبيد إلا بالنسبة للذين ظلوا وماتوا كفارا على ما شرحناه في سياق سورة البروج.

تعليق على المحاورة

بين الضعفاء والمستكبرين

والمحاورة التي حكت الآيات أنها ستقع بين الضعفاء والمستكبرين يوم القيامة جديرة بالتعليق. ولقد تكرر هذا في مواضع أخرى مثل آيات سورة غافر هذه : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٨) وآية سورة إبراهيم هذه : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) (٢١).

والإيمان بما أخبر به القرآن من المشاهد الأخروية واجب ، مع ملاحظة أنه لا بدّ لذكره بالأسلوب الذي جاء به من حكمته ، والحكمة الملموحة في هذا المشهد هي قصد إثارة الخوف والرهبة في نفوس الكفار وبخاصة التابعين الذين هم السواد الأعظم وفصلهم عن الزعماء.

وتدل الآيات التي نحن في صددها بخاصة على شدة جهد الزعماء ونشاطهم في التأثير على السواد الأعظم وحملهم على الإعراض والتصامم عن الدعوة النبوية. ولعل هذا نظير حكمة التنزيل فيما أنذرته للزعماء بالعذاب المضاعف في آيات عديدة منها آية النحل هذه : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨).

تعليق على جملة

(لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)

ولقد قال بعض المفسرين : إن جملة (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) مصروفة إلى

٢٨٤

يوم القيامة (١) وقال آخرون : إنها مصروفة إلى الكتب السماوية السابقة للقرآن (٢). وهذا هو الأصح بقرينة ذكر القرآن قبل الجملة.

ولم نر مع ذلك أحدا من الذين صرفوا الجملة إلى الكتب السماوية علل صدورها عن الكفار في مقامها ويتبادر لنا تعليل لذلك وهو كون الكتب السماوية وأهلها كانوا موضوع استشهاد في آيات قرآنية عديدة سابقة على صحة نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة صلة القرآن بالوحي الرباني وإشادة بهم لإيمانهم بهما من جهة وكونهم من جهة ثانية مصدرا لمعارف العرب الدينية واعتقاد هؤلاء أن الكتب التي في أيديهم منزلة من عند الله على ما حكته آيات عديدة ورد بعضها في سور سابقة مثل آية سورة القصص هذه : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) إلخ [٤٨]. ومثل آيات سورة الأنعام هذه : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٥٥) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (١٥٦) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ ...) [١٥٥ ـ ١٥٧] فمن المحتمل أن يكون الحديث في هذا الصدد قد تجدد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين بعضهم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرهم بما كان منهم وما كان من الكتابيين. بل وفي الآية [٦] من آيات السورة ما يمكن أن يكون مناسبة جديدة لذلك حيث تذكر ما كان من تصديق أهل العلم بما يقوله القرآن ويعد به. ولكنهم ظلوا مكابرين معاندين وقالوا ما حكته عنهم الآية الأولى غيظا واستكبارا. وقد حكت عنهم ذلك آيات سورة فاطر : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ...) [٤٢ ـ ٤٣]. وفي كل هذا صورة لقوة ما كان عليه الزعماء الكفار من عناد ولجاج ومكابرة أمام الدعوة النبوية.

__________________

(١) انظر تفسير الطبرسي.

(٢) انظر تفسير الزمخشري والطبري والخازن.

٢٨٥

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)) [٣٤ ـ ٣٩]

(١) مترفوها : كناية عن الزعماء والأغنياء وذوي الجاه.

(٢) ويقدر : هنا بمعنى يقبض أو يقتر.

(٣) زلفى : على وزن قربى وبمعناها.

(٤) جزاء الضعف : الجزاء المضاعف والقصد من الكلمة في الآية الزيادة.

(٥) الغرفات : البيوت العالية والعليات.

(٦) ويبسط : هنا بمعنى يوسع ويمد.

في الآيات تقرير رباني عن عادة الزعماء ذوي النعمة والترف في الأمم من الوقوف موقف الجحود والعناد من رسل الله ، وحكاية لما يقولونه حيث كانوا يقولون : إننا الأكثر أموالا وأولادا ، وإننا سنكون من أجل ذلك في نجوة من العذاب. وأمر رباني للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرد عليهم بأن الله هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويضيقه على من يشاء ، وبأن أموالهم وأولادهم التي يزهون ويعتدون بها لن تفيدهم شيئا عند الله ولن تقربهم إليه ، وبأن الذين يؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة في الحياة الدنيا هم وحدهم الذين ينالون جزاء أعمالهم مضاعفا ويكونون آمنين في غرفات الجنة. أما الذين يقفون من دعوة الله موقف المنكر المعطل المعجز والمكابر العنيد فلن ينجو من عذاب الله وهم محضرون إليه وواقعون فيه.

٢٨٦

وأمر آخر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوكيد القول الأول بأن ربه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاء وأنه هو الذي يخلف على المنفقين ما أنفقوه وهو خير الرازقين.

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي رزين قال : «كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى السّاحل وبقي الآخر فلمّا بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل فكتب إليه إنّه لم يتبعه أحد من قريش إنّما اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال : دلّني عليه وكان يقرأ الكتب فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إلى ما تدعو؟ قال : أدعو إلى كذا وكذا ، قال : أشهد أنك رسول الله ، قال : وما علمك بكذا؟ قال : إنّه لم يبعث نبيّ إلّا اتّبعه أراذل الناس ومساكينهم فنزلت الآية : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤)) فأرسل إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ الله عزوجل قد أنزل تصديق ما قلت». وهذه الرواية لم ترد في مساند الصحاح وهي غريبة فليس صحيحا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتبعه في بدء أمره أحد من قريش ولم يتبعه إلا أراذل الناس ومساكينهم فقط. والثابت اليقيني أن خديجة وأبا بكر وعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير بن العوام وفاطمة بنت الخطاب زوجة سعيد رضي الله عنهم كانوا من الذين آمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بعثته في برهة قصيرة (١). وهم من بيوتات قريش ثم تبعهم في السنين الثلاث الأولى عشرات الرجال والنساء من مختلف بيوتات قريش من بني أمية وبني هاشم وبني مخزوم وبني عبد الدار وبني التيم وبني عدي وبني جمح وبني سهم وبني عامر رضي الله عنهم بحيث يكفي هذا الواقع اليقيني لتفي الرواية كسبب لنزول الآية أو تصديقا لما روي من قول الرجل إنه لا يتبع الأنبياء إلّا أراذل الناس ومساكينهم.

__________________

(١) اقرأ أسماء المهاجرين الأولين في ابن هشام ، ج ١ ص ٣٢١ وما بعدها.

٢٨٧

وإذا كانت الآية تذكر مواقف المترفين من رسل الله فليس ضروريا أن يكون كل ابن بيت ونعمة مندرجا في صفهم بطبيعة الحال. والآية بعد غير منقطعة عن السياق السابق كما أنها والآيات التي بعدها سياق واحد بحيث يصح القول إنها جاءت من جهة معقبة على الآيات السابقة. ومن جهة منددة منذرة لطبقة المترفين المنحرفين الذين يقودهم الترف والانحراف إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجحود ثم لمثل هذه الطبقة من مترفي مكة الذين كانوا هم الواقفين من النبي مثل هذا الموقف. ومن جهة مسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذنة أن هذا الموقف من هذه الطبقة ليس بدعا وخاصا به.

تعليق على جملة

(نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥))

ويبدو أن الزعماء كانوا يوازنون في معرض التبجح بينهم وبين النبي وأتباعه في الأموال والبنين. ويجرون في هذا على ما اعتادوه من كون أصحاب الأموال والأولاد يكونون أكثر قوة وأضمن نصرا فاقتضت الحكمة الرد عليهم بالرد القوي الذي جاء في الآيات وبتكرار التوكيد بأن سعة الرزق لن تغني عن أصحابها شيئا عند الله. وأنها ليست اختصاصا لهم من الله مستمرا ، فالله هو الذي يداول الرزق بين الناس بسطا وضيقا وفقا للنواميس التي أودعها في خلقه وكونه. وليس لذلك أثر في منازلهم عند الله التي إنما تكون حسب أعمالهم. وفي هذا المستلهم من فحوى الآيات وروحها وما فيه من تلقين مستمر المدى يضاف إلى ما فيها من تلقين بتقبيح الترف الذي يقود أصحابه إلى الوقوف من رسل الله والدعوة إليه موقف الجاحد المعطل والتنديد بهم والتحذير منهم.

أحاديث واردة في سياق الآية

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)

ولقد أورد البغوي حديثا عن أبي هريرة رواه بطرقه في سياق الآية الأخيرة من

٢٨٨

هذه الآيات جاء فيه : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا». وحديثا ثانيا عن أبي هريرة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الله تعالى : أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وأورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن حذيفة قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذر الإنفاق ثم تلا هذه الآية : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)). حيث ينطوي في هذه الأحاديث صور من التطبيق والاستلهام النبوي للتقريرات القرآنية وحث للمسلمين على الإنفاق والإيمان بوعد الله تعالى بالإخلاف على المنفقين.

ولقد مرت آيات كثيرة في الحث على إطعام المساكين ، وفي السور الآتية وبخاصة المدنية آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء والمساكين ومنها ما جاء ذلك في سياق التشريعات المالية في الدولة الإسلامية. وهناك أحاديث كثيرة أخرى في ذلك حيث يبدو أن هذا الأمر قد شغل حيزا كبيرا في الدعوة الإسلامية لما له من خطورة بعيدة المدى في حياة المجتمع الإسلامي الذي وضع القرآن والحديث له أقوى الأسس ليكون المجتمع الفاضل المتعاون المتكافل الذي يجد فيه المحتاج والفقير ما يسد فيه عوزه وحاجته ويتيح له الحياة الكريمة. وأكثر الآيات والأحاديث بل جلها قد نزلت وصدرت في العهد المدني لأن هذا العهد قد فتح المجال لقيام المجتمع الإسلامي في ظل الدولة الإسلامية تحت راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد رأينا أن نؤجل إيراد الأحاديث الأخرى واستيفاء التعليق على هذا الأمر إلى مناسبات الآيات المدينة والاكتفاء هنا بما تقدم.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا

٢٨٩

يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢)) [٤٠ ـ ٤٢]

(١) الذين ظلموا : أي الذين ظلموا أنفسهم وأضروها بشركهم وانحرافهم.

في هذه الآيات حكاية لمواجهة يجريها الله بين الكفار المشركين والملائكة ونتيجتها حيث يجمع الله بين الفريقين. ثم يسأل الملائكة عما إذا كان المشركون يعبدونهم فعلا فيجيبون منزهين الله تعالى عن الشركاء قائلين إنه هو وليهم من دونهم وإن المشركين إنما كانوا يعبدون الجن وإن أكثرهم كانوا مؤمنين بهم. وحينئذ يقول الله عزوجل للمشركين إن أحدا منكم لا يملك للآخر ضرا ولا نفعا فذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها.

والمتبادر أن الآيات استمرار لما احتوته الآيات السابقة من الرد على الكفار وتسفيههم وإنذارهم ووصف ما يكون من أمرهم في الآخرة وفيها صورة أخرى لما يكون فيها ، وقد استهدفت بالإضافة إلى ذلك تقرير ضلال المشركين وإفكهم وتكذيبهم في عقائدهم في صدد الملائكة وتقرير كونهم إنما يعبدون الجن لا الملائكة وهم الذين يوسوسون لهم ويضلونهم. لأن الملائكة مخلصون لله عارفون لحدودهم ودائبون على تنزيهه وتقديسه. وهذا ينطوي في الوقت نفسه على هدف إفحام الكفار وحملهم على الارعواء والتدبر كما هو ظاهر. وهذه هي المرة الثانية التي تحكى فيها هذه الحكاية حيث حكيت في سورة الفرقان التي مر تفسيرها وحيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت تكرار ذلك بسبيل التحذير والتنديد والإفحام لأن عقيدة المشركين في الملائكة كانت واسعة النطاق.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ

٢٩٠

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥)) [٤٣ ـ ٤٥]

(١) نكير : أي نكيري بمعنى قصاصي وعقابي وعاقبة إنكاري وغضبي.

في الآيات حكاية لأقوال الكفار حينما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلو عليهم آيات القرآن الواضحة وحججه البالغة حيث كانوا يقولون للناس إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس إلّا رجلا يريد أن يصرفكم عما كان يعبد آباؤكم ، وإن القرآن ليس إلّا كذبا مفترى على الله ، وإن يوم الحساب الحق الذي كانوا ينذرون به ليس إلّا من قبيل السحر والتخييل ولا حقيقة له. وتقرير ينطوي على التبكيت بأن الكفار يقولون هذا في حين أن الله لم ينزل إليهم قبل القرآن كتبا ولم يرسل إليهم قبل النبي رسلا حتى يكون كلامهم مستندا إلى علم وتجربة. وتذكير بالأمم السابقة لهم والتي كذبت رسلها مثلهم وما كان من تدمير الله لها في حين أن الكفار العرب لم يبلغوا في القوة والعظمة معشار ما بلغته.

ولم نطلع على رواية خاصة بمناسبة هذه الآيات ، والسياق غير منقطع بينها وبين سابقاتها كما هو المتبادر من حيث تتابع الكلام عن الكفار ومواقفهم. فهي استمرار له ، وفحواها يدل على أن الكلام المحكي عن الكفار صادر عن الزعماء وموجه إلى عامة الناس على سبيل الصد والتعطيل والحض على الجحود وعدم التصديق. وأسلوبه ينطوي على صورة لما كان هؤلاء الزعماء عليه من عناد ، وما كانوا يبذلونه من جهد في ذلك السبيل.

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ

٢٩١

بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)) [٤٦ ـ ٥٠]

(١) أعظكم بواحدة : أنصحكم أو أطلب منكم شيئا واحدا أو مسألة واحدة.

(٢) أن تقوموا لله : أن تتفكروا بتجرد مخلصين لله.

(٣) مثنى وفرادى : اثنين اثنين أو واحدا واحدا.

(٤) ما يبدىء الباطل وما يعيد : معنى الجملة الحرفي أن الباطل لا يخلق أصلا ولا يعيد ثانية ، ومعناها ليس للباطل أصل ولا دوام ولا بقاء.

في الآيات أوامر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١ ـ بمخاطبة الكفار وطلب شيء واحد منهم وهو : أن يخلصوا النية لله ويتجردوا عن الهوى والعناد ، ثم يتفكروا كل واحد لنفسه أو كل اثنين لحدتهما معا فيما يدعوهم إليه حيث يتأكدون أن صاحبهم أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس مجنونا وأنه إنما هو نذير من الله بعذاب شديد إذا لم ينيبوا إليه ويسيروا في طريق الهدى.

٢ ـ بالتوكيد لهم بأنه لا يطلب على إنذاره أجرا ، فأجره ونفعه لهم وحدهم وأن أجره هو على الله الشهيد على كل شيء والعالم بكل شيء.

٣ ـ وبالهتاف بأن الله هو الذي يقرر الحق ويؤيده وهو العليم بما هو خفي من نوايا الناس وضمائرهم ، وبأن الحق قد جاء واضحا جليا كاسحا للباطل الذي لا أصل له ولا بقاء ولا قرار أمام الحق.

٤ ـ وبالإعلان بأنه إذا كان ضالا فضلاله عائد إليه ، وإن كان مهتديا فإنما ذلك بوحي ربّه السميع لكل شيء والقريب من كل شيء.

ولم نطلع على رواية عن سبب نزول هذه الآيات وهي غير منقطعة عن السياق واستمرار له فيما هو المتبادر. وقد جاءت بمثابة إنهاء لموقف المناظرة والجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكفار أو لما هو في مقامهما. وقد تكرر مثل هذه الخواتم

٢٩٢

لمثل هذه المواقف ولذلك يمكن أن تعد أسلوبا من الأساليب النظمية القرآنية البديعة.

وقد جاء أسلوب الآيات هنا قويا أخاذا رائعا من شأنه أن ينفذ إلى الأعماق. وقد خوطب به العقل والقلب معا. وفي الهتاف بالحق وقوته وضلال الباطل ومحقه بنوع خاص روعة لا تزال قائمة ما قام الجدل بين الحق والباطل ، وتوطيد قرآني مستمر المدى والتلقين للحق ودعوة قرآنية مستمرة المدى ضد الباطل.

وأسلوب النفي لطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجرا في هذه المرة جاء أقوى من المرات السابقة حيث أمر بأن يهتف في الناس أن كل ما يرجوه من نفع من رسالته هو لهم ، وأن أجره إنما هو على الله وحده.

ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الآية الأخيرة لا تعني الشك في حقيقة الواقع من أمر الدعوة النبوية ، وإنما جاءت بأسلوبها على سبيل المساجلة كما هو الأمر في آيات سابقة من هذه السورة نبهنا عليه ، وكما تكرر غير مرة فيما مرّ من السور أيضا.

تعليق على جملة

(إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى)

وفيما احتوته الآية الأولى حكمة اجتماعية عامة وصورة من صور ما كان عليه موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكفار وموقفهم منه أيضا ، فالاجتماعات العامة يختلط فيها الحابل والنابل ، وتسود فيها الأهواء وتضعف فيها قوة المنطق ، ولا يؤدي الجدال فيها إلى نتيجة حاسمة ومرضية.

والزعماء الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل بدافع الاستكبار والمكر السيء على ما ذكرته آيات سورة فاطر [٤٢ ـ ٤٣] التي أوردناها قبل وغيرها كانوا يتوخون التشويش والتهويش على الناس. ولعلهم كانوا يعقدون الاجتماعات العامة للحث على التمسك بعقائد الآباء وللتحريض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد أشارت الآية [٣٣] من

٢٩٣

هذه السورة إلى شيء من ذلك. ولذلك طلب القرآن من الناس أن يتفكروا في أمر الدعوة النبوية وهم منفردون بإخلاص وتجرد وأن يترووا ويحكموا العقل ولا يؤخذوا بالتهويش والتشويش والعصبية والهوى ، وحينئذ تبان لهم الحقيقة ساطعة ناصعة.

والخطاب في الآية وإن كان موجها للناس عامة فلا يبعد أن يكون قد قصد فيه بنوع خاص ذلك الفريق المعتدل الذي كان يعترف في نفسه بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان خجله أو وجاهته أو مصلحته الخاصة أو مركزه في قومه وعشيرته أو سنّة تمنعه من الإسلام ، وفي سورة القصص التي مرّ تفسيرها آيات تشير إلى بعض هؤلاء على ما نبهنا إليه في سياق تفسيرها. وقد وردت روايات عديدة تذكر ذلك أيضا وقد أوردنا بعضها في سياق تفسير بعض السور السابقة مثل القلم والمدثر والإسراء والقصص والأنعام وغيرها.

وكل ما انطوى في الآية من هذا مستمر التلقين في صدد مواقف التهويش والتشويش التي يقفها ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة من دعوة الإصلاح والحق كما هو المتبادر.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)) [٥١ ـ ٥٤]

(١) فزعوا : خافوا واندهشوا.

(٢) فلا فوت : لن يفوت منهم أحد أو يقال لهم ذلك.

(٣) التناوش : التناول أو التمسك.

(٤) ويقذفون بالغيب : كناية عن الاندفاع وراء الظنون والتخمينات ، وحكاية

٢٩٤

لما كانوا يفعلونه ويرمون به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) حيل بينهم : بمعنى منعوا وحجبوا.

(٦) أشياعهم : بمعنى أمثالهم.

في الآيات إشارة إلى ما سوف يكون من حال الكفار حينما يحل فيهم وعد الله وقد بدأت بأسلوب فيه معنى التنبيه والإنذار ووجّه الخطاب فيه إلى السامع أو إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فحينما يحل وعد الله وعذابه سترى حال الكفار عجيبا وموقفهم رهيبا. حيث يعتريهم الفزع وتستولي عليهم الدهشة لأنهم يرون أنفسهم قد أخذوا بكل سرعة ومن أقرب مكان وآمنه في ظنهم. ودون أن يفوت أو يفلت منهم أحد. وحيث يهتفون بالإيمان ولكن هذا لا يكون مجديا لأن الأمر قد بعد عنهم وفرصة تناوله والانتفاع به قد ضاعت عليهم. فقد كفروا به من قبل وذهبوا في التخمين والظنون والرجم بالغيب في سياق التكذيب والجحود أبعد المذاهب. وسيحال بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم الكافرين المكذبين من الأمم السابقة لهم ، وحينئذ يرون حقيقة ما كانوا يشكون فيه شكهم الشديد المريب الذي لا يستندون فيه إلى عقل وحق وعلم.

وقد جاءت الآيات خاتمة للسورة ، وهي في ذات الوقت استمرار للآيات السابقة لها بسبيل إنهاء موقف الجدل والمكابرة أو حكايته ، وهي قوية نافذة ، وقد استهدفت فيما استهدفته على ما يتبادر إثارة الخوف والندم في السامعين من المشركين وحملهم على الارعواء قبل فوات الفرصة.

ولقد أورد المفسرون تأويلا معزوا لبعض علماء التابعين لجملة (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١)) بأنها تعني أخذهم بعذاب دنيوي أو خسف أو انكسار في حرب أو في يوم بدر ، وروح الآيات تلهم بقوة أنها بسبيل وصف مشهد الكفار يوم القيامة وتبكيتهم وإنذارهم.

ولقد أورد الطبري حديثا عن ربعي بن حراش قال : «سمعت حذيفة بن

٢٩٥

اليمان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكر فتنة تكون بين أهل المشرق والمغرب. قال : فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السّفيانيّ من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق فيبعث جيشين جيشا إلى المشرق وجيشا إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ويبقرون بها أكثر من مائة امرأة ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ثم يخرجون متوجّهين إلى الشام فتخرج راية هذا من الكوفة فتلحق ذلك الجيش منها على الفئتين فيقتلونهم لا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السّبي والغنائم ويخلي جيشه التالي بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبريل فيقول يا جبرائيل اذهب فأبدهم فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم فذلك قوله في سورة سبأ : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) [٥١] الآية ، ولا ينفلت منهم إلّا رجلان أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة فلذلك جاء القول وعند جهينة الخبر اليقين». وعقب الطبري على هذا برواية تفيد الشك في رواية الحديث عن سفيان الثوري الذي ذكر في سلسلة الرواة. والحديث متهافت ومحل شك بدون ريب وفيه صورة من صور التطبيق على الأحداث والأهواء والفتن التي كانت في الصدر الإسلامي وزمن الأمويين وبعدهم مما يقع المرء على كثير منه على هامش الآيات القرآنية. ولقد أورد الطبري بعد إيراده الحديث والرواية المشككة فيه أقوالا معزوة إلى عطاء ومجاهد وقتادة تفيد أن الجملة القرآنية هي في صدد مشهد المشركين يوم القيامة أو جهة خروجهم من قبورهم وهو ما تلهم روح الآيات على ما نبهنا عليه آنفا.

٢٩٦

سورة الزّمر

في السورة دعوة إلى الله وحده وتنويه بقدرته وعظمة مشاهد الكون ، وحكاية لبعض عقائد المشركين وأقوالهم وحملة عليهم ومقايسات بين المؤمنين والكافرين ، وتنويه بالقرآن وأثره في النفوس الطيبة ، وتصوير رائع للبعث والقضاء بين الناس. وقد تخلل آيات السورة أمثال ومواعظ ومبادئ عامة ، وتلهم بعض آياتها أن فيها إذنا للمؤمنين بالهجرة.

والمقايسات التي فيها جاءت بأسلوب نظمي خاص يجعله خصوصية من خصوصيات السورة ، وفصولها مترابطة تسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة.

وقد روى المصحف الذي اعتمدنا عليه أن الآيات [٥٢ ـ ٥٤] مدنية ، وانسجامها في السياق موضوعا وسبكا يسوغ الشك في ذلك.

ولقد روى الترمذي عن عائشة «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل» حيث ينطوي في الحديث عناية نبوية خاصة بهاتين السورتين لا بد لهما من حكمة قد يكون منها ما احتوتاه من مواعظ وحكم وتنويه بالقرآن. وفي الحديث دلالة على أن هذه السورة كانت تامة الترتيب معروفة الاسم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧.

٢٩٧

فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)) [١ ـ ٤]

(١) الدين : هنا بمعنى الخضوع والاتجاه والعبادة.

(٢) لا يهدي : هنا بمعنى لا يوفق ولا يسعد ، على ما تلهمه روح الآية.

بدأت السورة بتقرير كون الكتاب أي القرآن هو تنزيل من الله العزيز الذي عظمت قدرته وعز جانبه ، الحكيم الذي جميع أفعاله حكمة وصواب. ثم وجه الخطاب في الآيات التالية للمطلع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن الله قد أنزل إليه الكتاب بالحق وأمره بعبادة الله وحده والإخلاص له في الخضوع والاتجاه لأن ذلك إنما يجب له وحده. وأشير بعد ذلك إلى المشركين إشارة تنطوي على التقريع لأنهم اتخذوا من دون الله أولياء يشركونهم معه في الخضوع والاتجاه زاعمين أنهم إنما يفعلون ذلك ليكونوا أسباب قربى وحظوة لهم عند الله. ثم قرر بأسلوب إنذاري بأن الله سوف يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون ومرتكسون ويجزيهم على ما يزعمون بما يستحقون وأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد كل كاذب كافر. وانتهت الآيات بحجة جدلية من قبيل المساجلة وهي أن الله لو أراد أن يتخذ ولدا لاصطفى أحسن ما يخلق ، ثم أكدت تنزهه عن ذلك فهو الواحد القهار الغني عن الولد والمحيط بكل شيء والذي يعنو لحكمه كل شيء.

ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآيات ، ويلوح من حكاية اعتذار المشركين عن شركهم وزعمهم أنهم إنما يعبدون الشركاء ليكونوا لهم سبب قربى إلى الله أن الآيات نزلت بسبيل التعقيب على مشهد مناظرة وجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم أو بسبيل تسجيله والتنديد بهم من أجله.

والآية الأخيرة توضح مفهوم الأولياء الذين ورد ذكرهم في ما قبلها وتوضح

٢٩٨

مفهوم عقيدة المشركين فيهم. وبذلك تتضح الحجة الجدلية التي احتوتها من قبيل المساجلة كما قلنا ونعني عقيدة العرب بكون الملائكة بنات الله وكونهم يعبدونهم ليكونوا شفعاء لهم عنده. وفي أسلوب الآيات التنديدي في هذه العقيدة توكيد جديد بأن أي اتجاه إلى غير الله بأي معنى وصفة ـ حتى ولو بقصد التوسل والتقرب إليه ـ يعتبر شركا لا يرضى عنه الله قط مما تكرر كثيرا ومما هو مبدأ أساسي محكم من مبادئ القرآن والإسلام.

تعليق على جملة

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣))

وتأويلنا لجملة (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣)) مستمد من وصف الكاذب الكافر المتحقق في أصحابه لأن هذا الوصف يعني فيما يعنيه أيضا فساد الخلق وسوء النية وعدم الرغبة في الحق والهدى وأن ذلك هو الدافع للمتصفين به إلى المواقف الباغية التي يقفونها.

ويتبادر لنا إلى هذا معنيان أو مقصدان آخران في الجملة وأمثالها مثل (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين والكافرين والمجرمين والمفسدين). أولهما مستلهم من سياق الآيات التي ترد فيها وهو مقصد التنديد والتبكيت والإنذار وحمل أصحاب الصفات المذكورة على الارعواء والتوبة عن مواقفهم. وثانيهما أنها قاصرة على من يبقى متصفا به ، وأنها لا تعني مع ذلك أنه من المحتم على الموصوفين به أن يبقوا في الضلال والفسق والفساد والظلم والإجرام والكفر والكذب محرومين من توفيق الله وعنايته وهدايته. فما دام أن الله تعالى قد جعل فيهم قابلية للتدبر والتفكر والاختيار فإن احتمال عودتهم عن مواقفهم إلى الحق والصواب ونيلهم لرضاء الله وتوفيقه يظل قائما. ويدعم هذا الآيات الكثيرة التي نزلت للتوبة وفتح الباب تجاه الكافرين المجرمين المنافقين الظالمين الكاذبين لينيبوا إلى الله ، على ما شرحناه في سياق سورة البروج وأوردناه من الآيات الكثيرة في صدده. ولقد وقع ذلك فعلا فإن معظم الذين كانت هذه النعوت تعنيهم قد تابوا وأنابوا إلى الله وآمنوا بالقرآن

٢٩٩

والرسالة المحمدية وغدوا موضعا لعناية الله تعالى وأهلا لرضائه وحملوا مشعل الهداية الإسلامية إلى مشارق الأرض ومغاربها. واستحقوا وصف الله عزوجل : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة / ١٠٠].

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)) [٥ ـ ٧]

(١) يكوّر : بمعنى يلفّ بعضه على بعض أو يدخل بعضه على بعض.

(٢) أنزل لكم : هنا بمعنى أوجد لكم أو سخر لكم.

(٣) ثمانية أزواج : ذكر وأنثى من كل من الضأن والماعز والإبل والبقر وقد عبر عن ذلك بنفس التعبير في آيات سورة الأنعام [١٤٣ ـ ١٤٤].

(٤) أنى تصرفون : أين تذهب أفكاركم وتنصرف عقولكم.

جاءت هذه الآيات معقبة على ما سبقها وبسبيل توكيد استحقاق الله وحده للخضوع والعبادة ، وقد استعمل فيها ضمير المخاطب الجمع كأنما هي موجهة للسامعين وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى بيان آخر.

وهي قوية رائعة في أسلوبها ولفتها النظر إلى مشاهد عظمة الله ونواميس

٣٠٠